تقوم مراكز الأبحاث الرائدة في العالم ببناء منشآت ليزرية فائقة الطاقة، وهناك عدد من مشاريع الليزر الطموحة قيد التصميم. لكن السؤال الذي يطرح نفسه ما هو سبب حاجة البشرية لمثل هذه الأجهزة العملاقة؟ وما هو الجديد الذي سنعرفه عن بنية العالم المادي المحيط بنا، عندما تصبح التجارب في مثل هذه المنشآت الليزرية حقيقة؟
منذ إنشاء المصادر الأولى للإشعاع المتسق في منتصف خمسينات القرن الماضي من قبل العلماء باسوف وبروخوروف في الاتحاد السوفيتي وتشارلز تاونز في الولايات المتحدة، أدرك المجتمع العلمي على الفور أهميتها لعلوم الفيزياء الأساسية والتكنولوجيا.
لقد كانت الأجيال الأولى من الأجهزة الليزرية قادرة على خلق حقول كهرومغناطيسية بقوة لم يكن من الممكن الحصول عليها من قبل في ظل ظروف المختبرات الثابتة. بطبيعة الحال فإن الإشعاع الكهرومغناطيسي يماثل أو يحدث على نطاق واسع في بعض الظواهر الطبيعية، بشكل أساسي الظواهر الفضائية. لكن كان من الاستحالة بمكان استخدامها في مجال التجارب المخبرية. ولهذا اعتبر علماء الفيزياء في البداية أن الأجهزة الليزرية، التي كانت في البداية بسيطة جداً ومتواضعة من حيث الاستطاعة، هي أداة جديدة وواعدة في مجال الأبحاث.
وفي الفترة ما بين ستينات وسبعينات القرن الماضي عرضت المراكز البحثية العديد من المشاريع الخاصة باستخدام أجهزة الليزر في العلوم الأساسية، وأشهرها جهاز الاندماج النووي الليزري وولادة المادة المضادة من الفراغ عن طريق الحقل الليزري الكبير. ومع ذلك فإن كلا الجهازين كانا يتطلبان قوة هائلة من حزمة الأشعة الليزرية، والتي بدت غير قابلة للتحقيق تماماً في تلك السنوات.
منذ ذلك الحين باتت عملية تطور تكنولوجيا الليزر تسير باستمرار تجاه زيادة قوة النبضات الليزرية وتحسين جودة الشعاع الليزري. إن مواصفات أجهزة الليزر، بما في ذلك تكاليفها وحجمها من حيث قيمة الواط الذي يتم الحصول عليه من الطاقة المشعة، تطورت بشكل كبير، حيث تحولت أجهزة الليزر من مجرد معدات فريدة من نوعها إلى وحدات صناعية رخيصة نسبياً.
استخدمت هذه الأجهزة في مجال الجراحة الليزرية والتشخيص واللحام بالليزر وقطع المواد وفي مجال تحديد المقاييس وفي الكيمياء الليزرية، وحتى في بعض التطبيقات العسكرية، وهذا يعني أن مجال الاستخدام كبير جداً.
بالإضافة إلى ذلك أصبحت أشعة الليزر واحدة من العناصر الأساسية لأي مختبر تقريباً.
في باطن الأرض والفضاء
تستخدم أشعة الليزر اليوم من أجل إجراء قياسات فائقة الدقة لتحديد المسافات المجهرية والفواصل الزمنية. وفي عام 2015 سمحت هذه التطبيقات ومكنت التعاون بين LIGO VIRGO في حل مهمة معقدة التي كانت تواجه علم الفيزياء الأساسي في إطار "التقاط" موجات الجاذبية. وبعد ذلك بعامين تم منح مؤلفي هذا الاكتشاف جائزة نوبل في مجال الفيزياء.
ويحدثنا البروفسور سيرغي بوبروجينكو من قسم الفيزياء النووية النظرية من الجامعة الوطنية للأبحاث النووية "ميفي" قائلاً: "إن مقاييس تداخل الليزر هي عناصر أساسية لجهاز LIGO والتي أجري فيها عملية قياس معقدة في الفضاء المتري الناجم عن تمرير موجات الجاذبية الناتجة عن اصطدام اثنين من الثقوب السوداء".
وفي هذا الإطار أشار أندريه كوزنيتسوف مدير معهد تكنولوجيا الليزر والبلازما من جامعي "ميفي قائلاً: "إن تطور علوم الليزر سوف تسمح في المستقبل بتصميم ساعة تتأخر فيها عقاربها بمقدار ميكرو ثانية واحدة من عمر الكون، وسوف تستجيب بدقة وبشكل واضح على تغيرات الجاذبية".
وأوضح المتحدث متسائلاً ماذا يعطينا هذا الاكتشاف؟ تبين أنه بعد أن نتعلم قياس الوقت بهذه الدقة سوف يكون بإمكاننا قياس التغيرات المحلية في مجال جاذبية الأرض، وهذا يسمح لنا بإيجاد حل لمشكلة البحث عن المصدر. إن حقل الجاذبية يعتمد على الكثافة، وبالتالي في حال تغيرت كثافة الصخور، على سبيل المثال في هذا المكان يوجد طبقات من النفط أو الخامات الثقيلة، فإن ذلك سوف يؤثر على حقل الجاذبية. وبالتالي فإنه بفضل الساعة يمكن أن نجد رواسب الثروات الباطنية كالنفط والغاز والمعادن الثمينة وعناصر الأرض النادرة، حتى أنه بإمكاننا إنشاء خارطة جاذبية جديدة والتي سوف تبحر من خلالها الغواصات.
الساعة الليزرية تخدم العلوم الأساسية، وهناك فرضية تقول بأنه مع توسع الكون تتغير الثوابت الأساسية مثل ثابت بلانك وكتلة وشحنة الالكترون. ومن أجل إثبات صحة الفرضية نحتاج إلى إما أجهزة قياسات زمنية طويلة الأمد أو فائقة الدقة، وبالتالي فإن الساعة الليزرية المستقرة يمكن أن تسمح بإجراء مثل هذه القياسات.
وهنا أشار أندريه كوزنتسوف قائلاً: "لقد حصل العلماء من جامعة "ميفي" هذا العام على نتيجة تمنح الأمل بأن مثل هذه التجارب الأساسية سوف يمكن إجراؤها في المستقبل المنظور. هذا العمل يمكن اعتباره عالي المستوى ونقوم به جنباً إلى جنب مع معهد ليبديف للفيزياء".
يتطلب معظم التجارب الخاصة بفيزياء الليزر طاقة عالية وكثافة في الإشعاع الليزري. أفضل وسيلة لضغط المواد غير المتفجرة هي الإشعاعات الليزرية باستطاعة تيرا واط (واحد تيرا واط يساوي 10 قوة 12 واط) وبيتا واط (واحد بيتا واحد يساوي 10 قوة 15 واط).
وأوضح سيرغي بوبروجينكو قائلاً: "هذه قيم كبيرة، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن قوة أكبر محطة كهرومائية في العالم تبلغ حوالي 0.05 تيرا واط. وبفضل هذه الحزم الإشعاعية في المختبرات يمكن الحصول على إمكانية إجراء دراسة المادة في ظل ظروف ودرجات حرارة عالية، والتي يمكن التوصل إلى هذه القيم فقط في باطن النجوم. هذا يبدو متناقضاً، ولكن الليزر وكذلك التلسكوب أصبح واحداً من الأدوات الرئيسية لدراسة الفضاء البعيد.
التسخين والاحتفاظ بدرجة الحرارة
إذا ما تم توفير ضغط كافي للمادة بفضل حزمة ليزرية فإن ذلك يسمح بتسخينها لدرجات حرارة تصل إلى مئات الملايين، والتي قد تتسبب في ظهور تفاعل حراري نووي يمكن السيطرة عليه.
وحدثنا الباحث أندريه كوزنيتسوف في هذا السياق قائلاً: "إن الحصول على طاقة اندماج نووي، هي مهمة تحاول البشرية تحقيقها منذ أكثر من 60 عاماً. البشرية في تاريخها الحديث تعلمت استخدم طاقة الاندماج النووي لصناعة القنابل، ولكن حتى الآن لم يتم استخدامها لأغراض سلمية وكذلك لأنه لا يمكن حل مشكلة الاحتفاظ والتخلص من الطاقة الهائلة، المنبعثة من التفاعل الناتج عن الاندماج النووي".
من أجل الحصول على اندماج حراري نووي يجب أن يكون هناك تقارب بين اثنين من النوى الخفيفة، من أجل الحصول على نواة واحدة أثقل بكثير. ومن أجل التغلب على حاجز كولوم (شحنات النوى الموجبة تتنافر) من الضروري إيصال الطاقة الحركية للنوى والتي تتناسب مع حرارة المادة أي أكثر من 100 مليون درجة مئوية (هذه الدرجات يمكن الحصول عليها في الكون فقط في باطن النجوم)- وهي مشكلة علمية تقنية كبيرة، وهذه المشكلة يحاول الباحثون حلها بطريقتين:
الأولى من خلال التسخين والاحتفاظ بالبلازما الساخنة مغناطيسياً في جهاز توكاماك. الطريقة الثانية تقتضي بأن الوحدة الليزرية مع طاقة تصل استطاعتها أكثر من ميغا جول يجب، خلال بضعة نانو ثواني، وضع طاقة في الوقود على أساس نظائر الهيدروجين (الديوتيريوم والتريتيوم) في حجم يبلغ بضعة ميل مترات مربع. وبالتالي يجب أن يتعرض الوقود لضغط وتسخين إلى درجة حرارة مطلوبة للاندماج الحراري النووي، على أن تحدث عملية الاحتراق الكامل بعد ذلك وطرح طاقة على شكل أشعة غاما وجزيئات ألف.
ونوه في هذا الصدد أندريه كوزنيتسوف قائلاً: "السؤال الذي يطرح نفسه ما هي الخصائص التي تميز مفاعلات الاندماج عن المفاعلات النووية؟ خلافاً لما هو عليه احتياطي اليورانيوم فإن الديوتيريوم يكفي البشرية لملايين السنين، وبالتالي يمكن القول بأننا نحصل على احتياطي لا نهاية له من الطاقة. من جهة أخرى فإن طاقة الاندماج الحراري تسمح بتصميم محركات جديدة وتحقق حلم البشرية في هبوط البشر ليس فقط على سطح المريخ وإنما في أجزاء أخرى من المجموعة الشمسية وخارجها".
عندما تتوقف قوانين الفيزياء عن العمل
تسرع أشعة الليزر من حركة الجزيئات المشحونة مثلها مثل المسرعات الخطية والمسرع الدوراني الزمني والسيكلوترونات. ومن أجل تحقيق هذا الهدف يجب الحصول ليس فقط على طاقة عالية في النبض، وإنما على الكثافة العالية أيضاً وهذا يعني أن النبض يجب أن يكون قصيراً بالحد الكاف ومركز.
من مزايا التسارع الليزري للجزيئات المشحونة، هي إمكانية تسريع الالكترونات والأيونات في وقت لاحق، وهي أقل بكثير من حيث الحجم والتكلفة من المسرعات الليزرية مقارنة مع المسرعات العادية وكذلك إمكانية تحقيق تسارع كبير للقيم والتأثير على البلازما الكثيفة.
وهنا أكد سيرغي بوبروجينكو قائلاً: "من المهم في صفة خاصة أن زيادة كثافة الإشعاع الليزري القصوى بقيمة 3-4 أضعاف يسمح بخلق ظروف فريدة من نوعها. الحديث يدور حول تشكل بلازما ذات كثافة عالية من الالكترونات والبيزوترون والفوتون وهذا الناتج يمكن أن يكون موجوداً خلال ولادة الكون. يكون الإشعاع الكهرومغناطيسي في هذه البلازما مرتبطاً ارتباطاً قوياً بالمادة بحيث تفقد قوانين الديناميكا الكهربائية العادية بما في ذلك قوانين الفيزياء الكمومية فعاليتها. حتى الآن مازالت خصائص هذا المكون غير مفهومة تماماً، وهذا مثال نادر تتعرض له قوانين الفيزياء الأساسية".
إن بناء المنشآت الليزرية التي توفر مثل هذه الكثافة العالية من الإشعاع هي مسألة قريبة المنال ولكن ليس في المستقبل المنظور ربما تظهر الكثافة الضرورية لتحضير بلازما الالكترون والبوزيترون والفوتون من الفراغ خلال 10-20 عاماً، ومع ذلك يجري العلماء أبحاثاً من أجل دراسة سلوك المادة والفراغ ضمن ظروف كثافة عالية جداً.
ويرى الباحثون بأن بعض العوامل المرتبطة بتأثير قوى الاحتكاك الإشعاعي (بما في ذلك الآلية الهندسية الجديدة لتسريع البروتونات التي تنبأ بها علماء الفيزياء النظرية من جامعي "ميفي" يمكن ملاحظتها في المستقبل القريب. ومن أجل تحقيق ذلك الأمر مجالات ليزرية بكثافة 1023-1024Вт/см2 مع الإشارة إلى أن قيمة هذه الكثافة غير متوفرة الآن، ولكن يمكن الحصول عليها من خلال الأجهزة الليزرية الجديدة، التي يتم تصميمها حالياً في التشيك وفرنسا والصين وغيرها من البلدان الأخرى، وسوف تتفوق من حيث الطاقة بضعف أو ضعفين عن الموجودة حالياً. ومن المتوقع أن يتم تشغيل هذه الأجهزة خلال بضعة سنوات.
الجدير بالذكر أن جامعة "ميفي" تتعاون بشكل كبير مع العديد من مختبرات الليزر، بما في ذلك مركز أبحاث ELI Beamlines في براغ، حيث يتم الآن تجميع أحد أجهزة الليزر الأقوى في العالم. يشار إلى أن بعض الخريجين والعاملين في معهد لابلاز يعملون في ELI Beamlines ويأتون إلى جامعة "ميفي"، بما في ذلك من أجل إجراء التجارب ذات الصلة.