أقرأ أيضاً
التاريخ: 23-3-2021
5529
التاريخ: 28-2-2021
5904
التاريخ: 11-2-2021
5107
التاريخ: 11-2-2021
8881
|
قال تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } [آل عمران : 23 - 25] .
لما قدم تعالى ذكر الحجاج ، بين أنهم إذا عضتهم الحجة فروا إلى الضجة ، وأعرضوا عن المحجة فقال : {أَلَمْ تَرَ} معناها : ينته علمك {إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا} أي : أعطوا نصيبا أي : حظا {مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ} .
اختلف فيه فقيل : معناه التوراة ، عن ابن عباس دعا إليها اليهود ، فأبوا لعلمهم بلزوم الحجة لهم لما فيه من الدلالات على نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وصدقه .
وإنما قال : {أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} لأنهم كانوا يعلمون بعض ما فيه . وقيل : معناه القرآن ، عن الحسن وقتادة . دعوا إلى القرآن لأن ما فيه موافق لما في التوراة ، من أصول الديانة ، وأركان الشريعة ، وفي الصفة التي تقدمت البشارة بها .
{لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} يحتمل ثلاثة أشياء أحدها : إن معناه ليحكم بينهم في نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، عن أبي مسلم وجماعة . والثاني : إن معناه ليحكم بينهم في أمر إبراهيم ، وأن دينه الاسلام والثالث : معناه ليحكم بينهم في أمر الرجم . فقد روي عن ابن عباس أن رجلا وامرأة من أهل خيبر زنيا ، وكانا ذوي شرف فيهم ، وكان في كتابهم الرجم ، فكرهوا رجمهما لشرفهما ، ورجوا أن يكون عند رسول الله رخصة في أمرهما ، فرفعوا أمرهما إلى رسول الله ، فحكم عليهما بالرجم ، فقال له النعمان بن أوفى ، وبحري بن عمرو : جرت عليهما يا محمد ، ليس عليهما الرجم فقال لهم رسول الله : بيني وبينكم التوراة . قالوا : قد أنصفتنا . قال : فمن أعلمكم بالتوراة ؟
قالوا : رجل أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا . فأرسلوا إليه فقدم المدينة ، وكان جبرائيل قد وصفه لرسول الله ، فقال له رسول الله : أنت ابن صوريا ؟ قال : نعم .
قال : أنت أعلم اليهود ؟ قال : كذلك يزعمون . قال : فدعا رسول الله بشئ من التوراة فيها الرجم مكتوب ، فقال له : إقرأ . فلما أتى على آية الرجم ، وضع كفه عليها وقرأ ما بعدها .
فقال ابن سلام : يا رسول الله ! قد جاوزها . وقام إلى ابن صوريا ، ورفع كفه عنها ، ثم قرأ على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى اليهود ، بأن المحصن والمحصنة إذا زنيا ، وقامت عليهما البينة رجما ، وإن كانت المرأة حبلى ، انتظر بها حتى تضع ما في بطنها . فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) باليهوديين فرجما . فغضب اليهود لذلك . فأنزل الله تعالى هذه الآية .
{ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ} أي : طائفة منهم ، عن الداعي {وَهُمْ مُعْرِضُونَ} عن اتباع الحق {ذَلِكَ} معناه : شأنهم ذلك ، فهو خبر مبتدأ محذوف . فالله تعالى بين العلة في إعراضهم عنه ، مع معرفتهم به ، والسبب الذي جرأهم على الجحد والإنكار . {بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ} أي : لن تصيبنا النار {إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} وفيه قولان أحدهما : إنها الأيام التي عبدوا فيها العجل ، وهي أربعون يوما ، عن الربيع وقتادة والحسن . إلا أن الحسن قال سبعة أيام والثاني : إنهم أرادوا أياما منقطعة ، عن الجبائي .
{وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ} أي : أطمعهم في غير مطمع {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي : افتراءهم وكذبهم . واختلفوا في الافتراء الذي غرهم على قولين أحدهما : قولهم {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} ، عن قتادة والآخر : قولهم {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} ، عن مجاهد . وهذا لا يدل على خلاف ما نذهب إليه من جواز العفو ، وإخراج المعاقبين من أهل الصلاة من النار ، لأنا نقول إن عقاب من ثبت دوام ثوابه بإيمانه ، لا يكون إلا منقطعا ، وإن لم يحط علما بقدر عقابه ، ولا نقول أيام عقابه بعدد أيام عصيانه ، كما قالوا . وبين القولين بون ظاهر .
__________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2 ، ص265-266 .
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وهُمْ مُعْرِضُونَ} .
قال المفسرون : المقصود من الذين أوتوا نصيبا من الكتاب هم اليهود ، وإنما قال هنا أوتوا نصيبا من الكتاب ، ولم يقل أوتوا الكتاب ، أو أهل الكتاب ، كما في الكثير من الآيات ، لأن اليهود الذين حاجوا النبي (صلى الله عليه واله) ، ودعاهم إلى التوراة لتحكم بينهم لم يحفظوا كل ما فيها ، وإنما حفظوا بعضا منها ، كما قال كثير من المفسرين ، أو حفظوا ألفاظ التوراة ، ولم يتدبروا معانيها ، كما قال الشيخ محمد عبده .
وكثيرون هم الذين يدعون الايمان بالكتب السماوية والقيم الانسانية ، ولا يعملون بها ، وإذا احتج عليهم بما يؤمنون توانوا أو تأولوا ، والأمثلة على ذلك لا تحصيها كثرة ، منها : ان الذين أثاروا الحروب وقتلوا الملايين يزعمون انهم من أنصار السلام .
ومنها : ان الدول التي اضطهدت الأحرار والملونين تدعي الايمان بالحق والعدالة .
ومنها : اليهود الذين دعاهم النبي (صلى الله عليه واله) إلى كتابهم وتوراتهم ، وقال لهم : هلموا إليها ، فإن فيها صفتي ، فاعرضوا وعاندوا . . فنزلت هذه الآية : {يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وهُمْ مُعْرِضُونَ} .
وقال جماعة من أهل التفسير : انها نزلت في يهودي زنى بيهودية ، واختلف اليهود في أمرهما إلى فريقين : فريق أراد الرجم ، وفريق أراد التخفيف ، ولما اشتد بينهم النزاع تحاكموا إلى النبي (صلى الله عليه واله) ، فحكم بالرجم ، فرفض الفريق الذي لا يتفق الرجم مع أهوائهم ، فدعاهم النبي (صلى الله عليه واله) إلى حكم التوراة التي نصت على الرجم فتولوا ، وهم معرضون .
ومهما يكن سبب النزول ، فان الآية جارية وشاملة لكل من أعلن شعارا ، ثم تجاهله ، وأعرض عنه عند العمل ، لأن العبرة بالأعمال ، لا بالسمات والشعائر ، قال الإمام علي (عليه السلام) : لن يفوز بالخير الا عامله ، ولا يجزى جزاء الشر الا فاعله .
{ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} . لقد سجل اللَّه على اليهود في كتابه العزيز ألوانا من القبائح والرذائل . . منها : قتلهم الأنبياء الذي ذكره في العديد من الآيات . ومنها عبادتهم العجل . ومنها : قولهم : لن يدخل الجنة الا من كان هودا . ومنها : انهم أبناء اللَّه وأحباؤه . ومنها : زعمهم بأن النار لن تمسهم الا قليلا .
ونقل صاحب تفسير المنار عن أستاذه الشيخ محمد عبده انه قال : « ليس في كتب اليهود التي بين أيديهم وعد بالآخرة ولا وعيد » . . ونقل عن اليهود عدم ايمانهم بالآخرة كثيرون من أهل التتبع والتثبت ، وهذا النقل يتنافى مع قول القرآن عنهم : لن تمسنا النار الا أياما معدودات ، وقولهم : لن يدخل الجنة الا من كان هودا . . وغير بعيد أن أسلاف اليهود كانوا مؤمنين بالآخرة ، ثم حرّف الخلف وحذف من كتبهم الدينية كل ما له صلة بالآخرة . . وفي تفسير المنار نقلا عن الشيخ عبده أيضا ان الباحثين الأوروبيين أثبتوا ان التوراة كتبت بعد موسى ( عليه السلام ) بمئات السنين .
وأغرب من كل ذلك ادعاء اليهود بأن اللَّه متحيز لهم ، وانه لهم وحدهم ، وانه خلق من عداهم من الناس لخدمتهم ومصلحتهم ، تماما كالحيوانات . . ومن أجل هذا يسمّون أنفسهم بشعب اللَّه المختار . .
وبصرف النظر عن استحالة هذا الزعم وبطلانه بحكم العقل فإنه رجم بالغيب ، وتحكّم على اللَّه ، حيث لا يعرف أمر من أمور الغيب الا بوحي من اللَّه تعالى ، وقد نطق الوحي بلعنهم وخزيهم وعذابهم ، وسيتجلى لهم هذا الخزي والعذاب في يوم لا حيلة لهم في دفعه . . والى هذا أشار سبحانه بقوله : {فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ ووُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وهُمْ لا يُظْلَمُونَ} . فلا ينقص من ثواب المطيع شيئا ، وقد يزداد ، ولكن لا يزاد أبدا على عقاب العاصي ، وقد ينقص العقاب ، بل قد يعفو اللَّه ويصفح .
واني على علم اليقين بأن من رجا اللَّه في دنياه هذه ، ولم يرج سواه ، متكلا عليه وحده في النوائب مهما تكن النتائج ، مؤمنا ان من عداه ليس بشيء الا أن يكون وسيلة وأداة ، انا على يقين ان هذا سيجد عند اللَّه ما يرضيه لا محالة برغم ما له من سيئات وهفوات .
___________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج2 ، ص34-35 .
قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ} إلى آخر الآية يومىء إلى تسجيل البغي على أهل الكتاب حسب ما نسبه الله تعالى إليهم وأنهم يبغون باتخاذ الخلاف وإيجاد اختلاف الكلمة في الدين فإنها إذا دعوا إلى حكم الكتاب كتاب الله بينهم لم يسلموا له و تولوا و أعرضوا عنه و ليس ذلك إلا باغترارهم بقولهم {لَنْ تَمَسَّنَا}"الخ" و بما افتروه على الله في دينهم .
والمراد بالذين {أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ} أهل الكتاب وإنما لم يقل : {أُوتُوا الْكِتَابَ} ، و قيل : {أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ} ليدل على أن الذي في أيديهم من الكتاب ليس إلا نصيبا منه دون جميعه لأن تحريفهم له وتغييرهم و تصرفهم في كتاب الله أذهب كثيرا من أجزائه كما يومىء إليه قوله في آخر الآية التالية : و غرهم في دينهم ما كانوا يفترون ، و كيف كان فالمراد - والله أعلم - أنهم يتولون عن حكم كتاب الله اعتزازا بما قالوا واغترارا بما وضعوه من عند أنفسهم و استغناء به عن الكتاب .
قوله تعالى : {ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ} "الخ" معناه واضح ، واغترارهم بفريتهم التي افترتها أنفسهم مع أن الإنسان لا ينخدع عن نفسه مع العلم بأنها خدعة باطلة إنما هو لكون المغرورين غير المفترين ، و على هذا فنسبة الافتراء الذي توسل إليها سابقوهم إلى هؤلاء المغرورين من اللاحقين لكونهم أمة واحدة يرضى بعضهم بفعال بعض .
وإما لأن الاغترار بغرور النفس و الغرور بالفرية الباطلة مع العلم بكونها فرية باطلة و ذكر المغرور أنه هو الذي افترى ما يغتر به من الفرية ليس من أهل الكتاب ومن اليهود خاصة ببعيد و قد حكى الله عنهم مثله بل ما هو أعجب من ذلك حيث قال تعالى : {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } [البقرة : 76 ، 77] .
على أن الإنسان يجري في أعماله وأفعاله على ما تحصل عنده من الأحوال أو الملكات النفسانية ، و الصور التي زينتها و نمقتها له نفسه دون الذي حصل له العلم به كما أن المعتاد باستعمال المضرات كالبنج والدخان وأكل التراب ونحوها يستعملها وهو يعلم أنها مضرة ، وأن استعمال المضر مما لا ينبغي إلا أن الهيئة الحاصلة في نفسه ملذة له جاذبة إياه إلى الاستعمال لا تدع له مجالا للتفكر و الاجتناب ، و نظائر ذلك كثيرة .
فهم لاستحكام الكبر والبغي وحب الشهوات في أنفسهم يجرون على طبق ما تدعوهم إليه فريتهم فكانت فريتهم هي الغارة لهم في دينهم ، وهم مع ذلك كرروا ذكر ما افتروه على الله سبحانه ولم يزالوا يكررونه و يلقنونه أنفسهم حتى أذعنوا به أي اطمأنوا وركنوا إليه بالتلقين الذي يؤثر أثر العلم كما بينه علماء النفس فصارت الفرية الباطلة بالتكرار والتلقين تغرهم في دينهم و تمنعهم عن التسليم لله و الخضوع للحق الذي أنزله في كتابه .
قوله تعالى : {فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} إلى آخر الآية ، مدخول كيف مقدر يدل عليه الكلام مثل يصنعون و نحوه ، وفي الآية إيعاد لهؤلاء الذين تولوا إذا دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم و هم معرضون غير أنه لما أريد بيان أنهم غير معجزين لله سبحانه أخذ في الكلام من حالهم يوم القيامة و هم مستسلمون يومئذ ما يضاهي حالهم في الدنيا عند الدعوة إلى حكم كتاب الله وهم غير مسلمين له مستكبرون عنه ، و لهذا أخذ بالمحاذاة بين الكلامين ، و عبر عن ما يجري عليهم يوم القيامة بمثل قوله : {إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} "الخ" دون أن يقال : إذا أحييناهم أو بعثناهم أو ما يماثل ذلك .
والمعنى - و الله أعلم - أنهم يتولون و يعرضون إذا دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم اغترارا بما افتروه في دينهم و استكبارا عن الحق فكيف يصنعون إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه و هو يوم القضاء الفصل ، و الحكم الحق و وفيت كل نفس ما كسبت والحكم حكم عدل و هم لا يظلمون ، و إذا كان كذلك كان الواجب عليهم أن لا يتولوا و يعرضوا مظهرين بذلك أنهم معجزون لله غالبون على أمره فإن القدرة كله لله و ما هي إلا أيام مهلة و فتنة .
____________________
1 . تفسير الميزان ، ج3 ، ص 109-110 .
هذه الآيات تصرّح ببعض تحريفات أهل الكتاب الذين كانوا يتوسّلون بالتبريرات والأسباب الواهية لتفادي إجراء حدود الله ، مع أنّ كتابهم كان صريحاً في بيان حكم الله بغير إبهام ، وقد دُعوا للخضوع للحكم الموجود في كتابهم {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} .
ولكن عصيانهم كان ظاهراً ومصحوباً بالإعراض والطغيان واتّخاذ موقف المعارض لأحكام الله : {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} .
يمكن الإستنتاج من {أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ} أنّ ما كان بين أيدي اليهود والنصارى من التوراة والإنجيل لم يكن كاملاً ، بل كان قسم منهما بين أيديهم ، بينما كان القسم الأعظم من هذين الكتابين السماويّين قد ضاع أو حُرِّف .
هذه الآية تؤيّدها آيات أُخرى في القرآن ، كما أنّ هناك شواهد ودلائل تاريخية تؤكّد ما ذهبنا إليه .
وفي الآية الثانية شرح سبب عصيانهم وتمردّهم ، وهو أنّهم كانوا يحملون فكرة خاطئة عن كونهم من عنصر ممتاز ، وهم اليوم أيضاً يحملون هذه الفكرة الباطلة الواضحة في كتاباتهم الدالّة على الاستعلاء العنصري .
كانوا يظنّون أنّ لهم علاقة خاصّة بالله سبحانه ، حتّى أنّهم سمّوا أنفسهم «أبناء الله» كما ينقل القرآن ذلك على لسان اليهود والنصارى في الآية 18 من سورة المائدة قولهم : {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} . وبناءاً على ذلك كانوا يرون لأنفسهم حصانة تجاه العقوبات الربّانية ، وكانوا ينسبون ذلك إلى الله نفسه . لذلك كانوا يعتقدون أنّهم لن يعاقَبوا على ذنوبهم يوم القيامة إلاَّ لأيّام معدودات : {قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ} .
ولعلّ القصد من «الأيام المعدودات» هي الأربعون يوماً التي عبدوا فيها العجل في غياب موسى (عليه السلام) ، وكان هذا ذنباً لم يكونوا هم أنفسهم قادرين على إنكاره .
أو لعلّها أيّام قليلة من أعمارهم إرتكبوا فيها ذنوباً كبيرة غير قابلة للإنكار ، ولم يستطيعوا حتّى على إخفائها .
هذه الإمتيازات الكاذبة المصطنعة ، التي أسبغوها على أنفسهم ونسبوها إلى الله ، صارت شيئاً فشيئاً جزءاً من معتقداتهم بحيث إنّهم اغترّوا بها وراحوا يخالفون أحكام الله ويخرقون قوانينه مجترئين عليها جرأةً لا مزيد عليها {وغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} .
وتدحض الآية الثالثة كلّ هذه الخيالات الباطلة وتقول : لاشكّ أنّ هؤلاء سوف يلاقون يوماً يجتمع فيه البشر أمام محكمة العدل الإلهي فيتسلّم كلّ فرد قائمة أعماله ، ويحصدون ناتج ما زرعوه ، ومهما يكن عقابهم فهم لا يُظلمون لأنّ ذلك هو حاصل أعمالهم {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} .
يتّضح من (ما كسبت) أنّ عقاب المرء وثوابه يوم القيامة وفوزه وخذلانه في العالم الآخر إنّما يرتبط بأعماله هو ، ولا يؤثّر فيه شيء آخر . هذه حقيقة أُشير إليها في كثير من الآيات الكريمة .
سؤالان :
1 ـ أيمكن للإنسان أن يختلق كذباً أو إفتراءاً وينسبه إلى الله ، ثمّ يتأثّر به هو ويعتوره الغرور إلى تلك الدرجة التي أشار إليها القرآن في الآيات السابقة بالنسبة لليهود ؟
ليس من العسير الردّ على هذا السؤال ، وذلك لأنّ قضية خداع النفس من القضايا التي يعترف بها علم النفس المعاصر . إنّ العقل الإنساني يسعى أحياناً إلى استغفال الضمير بأن يغيّر وجه الحقيقة في عين ضميره . كثيراً ما نشاهد أُناساً ملوّثين بالذنوب الكبيرة ، كالقتل والسرقة وأمثالها ، على الرغم من إدراكهم تماماً قبح تلك الأعمال يسعون لإظهار ضحاياهم بأنّهم كانوا يستحقّون ما أصابهم لكي يسبغوا هدوءاً كاذباً على ضمائرهم ، وكثيراً ما نرى المدمنين على المخدّرات يبرّرون فعالهم بأنّهم يستهدفون الفرار من مصائب الدنيا ومشاكلها .
ثمّ إنّ هذه الأكاذيب والإفتراءات عن تفوّقهم العنصري التي حاكتها الأجيال السابقة من أهل الكتاب وصلت بالتدريج إلى الأجيال التالية التي لم تكن تعرف الكثير عن هذا الموضوع ـ ولم تعن بالبحث عن الحقيقة ـ بصورة عقائد مسلّم بها .
2 ـ يمكن أن يقال إنّ الاعتقاد «بالعذاب لأيام معدودات» منتشر بيننا نحن المسلمين أيضاً ، لأنّنا نعتقد أنّ المسلمين لا يخلّدون في العذاب الإلهي ، إذ أنّ إيمانهم سوف ينجيهم أخيراً من العذاب .
ولكن ينبغي التوكيد هنا أنّنا لا يمكن أن نعتقد بأنّ المسلم المذنب والملوّث بأنواع الآثام يعذّب بضعة أيّام فقط ، بل أنّنا نعتقد أنّ عذاب هؤلاء يطول لسنوات وسنوات لا يعرف مداها إلاَّ الله ، إلاَّ أنّ عذابهم لا يكون أبدياً خالداً . وإذا وجد حقّاً بين المسلمين من يحسبون أنّهم بالاحتماء بالإسلام والإيمان والنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة الأطهار يجوز لهم أن يرتكبوا ما يشاؤون من الذنوب ، ثمّ لا يصيبهم من العقاب سوى بضعة أيّام من العذاب ، فإنّهم على خطأ كبير ويجهلون تعاليم الإسلام وروح تشريعاته .
ثمّ إنّنا لا نعترف بأيّ إمتياز خاصّ للمسلمين ، بل نعتقد أنّ كلّ أُمّة اتّبعت نبيّها في زمانها ثمّ أذنبت مشمولة بهذا القانون أيضاً ، بغضّ النظر عن عنصرها . أمّا اليهود فيخصّون أنفسهم بهذا الإمتياز دون غيرهم بزعم تفوّقهم العنصري . وقد ردّ عليهم القرآن زعمهم الكاذب هذا في الآية 18 من سورة المائدة : {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} .
____________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2 ، ص234-236 .
|
|
مخاطر عدم علاج ارتفاع ضغط الدم
|
|
|
|
|
اختراق جديد في علاج سرطان البروستات العدواني
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|