أقرأ أيضاً
التاريخ: 22-3-2021
3014
التاريخ: 15-3-2021
7580
التاريخ: 28-2-2021
5491
التاريخ: 22-3-2021
4798
|
قال تعالى : {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ } [آل عمران : 15 - 17] .
لما صغر تعالى الدنيا ، وزهد فيها في الآية الأولى ، عظم الآخرة وشرفها ، ورغب فيها في هذه الآية فقال : {قُلْ} يا محمد لأمتك {أَؤُنَبِّئُكُمْ} أخبركم {بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} بأنفع لكم مما سبق ذكره في الآية المتقدمة ، من شهوات الدنيا ولذاتها وزهراتها {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} ما حرم الله عليهم {عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أي : من تحت أشجارها الأنهار . وعلى القول الآخر أخبركم بخير مما سبق للذين اتقوا عند ربهم . ثم ابتدأ فقال جنات أي : ذلك الخير جنات تجري من تحت أبنيتها الأنهار . وبين الله بهذا أن أنهار الجنة جارية أبدا ، ليست كأنهار الدنيا التي يجري ماؤها تارة ، وينقطع أخرى {خَالِدِينَ فِيهَا} أي : مقيمين في تلك الجنات {وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} من الحيض والنفاس وجميع الأقذار والأدناس ، والطبائع الذميمة ، والأخلاق اللئيمة {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ} ووراء هذه الجنات رضوان من الله {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} أي : خبير بأفعالهم ، وأحوالهم .
{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}
ثم وصف المتقين الذين سبق ذكرهم في قوله {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} فقال :
{الَّذِينَ يَقُولُونَ} أي : المتقين القائلين {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا} أي : صدقنا الله ورسوله {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} أي : استرها علينا ، وتجاوزها عنا {وَقِنَا} أي : وادفع عنا {عَذَابَ النَّارِ} . ثم وصفهم بصفات أخر ، ومدحهم وأثنى عليهم فقال :
{الصَّابِرِينَ} أي : على فعل ما أمرهم الله به ، وترك ما نهاهم عنه . وإن شئت قلت الصابرين على الطاعة وعن المعصية {وَالصَّادِقِينَ} في إيمانهم وأقوالهم .
{وَالْقَانِتِينَ} قيل : المطيعين ، عن قتادة . وقيل : الدائمين على الطاعة والعبادة ، عن الزجاج . وقيل : القائمين بالواجبات ، عن القاضي {وَالْمُنْفِقِينَ} أموالهم في سبيل الخير . ويدخل فيه الزكاة المفروضة ، والتطوع بالإنفاق {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} المصلين وقت السحر ، عن قتادة ، ورواه الرضا عن أبيه (عليه السلام) عن أبي عبد الله (عليه السلام) . وقيل : السائلين المغفرة في وقت السحر ، عن أنس . وقيل : المصلين صلاة الصبح في جماعة ، عن زيد بن أسلم . وقيل : الذين ينتهي صلاتهم إلى وقت السحر ، ثم يستغفرونه ويدعون ، عن الحسن .
وروي عن أبي عبد الله أن من استغفر الله سبعين مرة في وقت السحر ، فهو من أهل هذه الآية . وروى أنس بن مالك عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال : " إن الله ، عز وجل ، يقول : إني لأهم بأهل الأرض عذابا ، فإذا نظرت إلى عمار بيوتي ، وإلى المتهجدين ، والى المتحابين في ، وإلى المستغفرين بالأسحار ، صرفته عنهم " .
__________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2 ، ص 254 - 255 .
أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ :
{قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ ورِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ واللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ} .
ذكر سبحانه أولا حب الناس للنساء والمال والبنين ، ثم نعت هذه الأشياء وما إليها بمتاع الحياة الدنيا ، والدنيا بما فيها إلى زوال ، ثم بيّن ان اللَّه عنده حسن المآب ، أي ان الإنسان بعد رجوعه إلى ربه يجد عنده خيرا من النساء والمال والبنين ، ومن الدنيا كلها ، ثم فصّل في هذه الآية ، وهي : قل أأنبئكم الخ ما أجمله في الآية السابقة ، وهو قوله : {واللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} .
{جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ ورِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ} . هذه الثلاثة هي خير من النساء والمال والبنين ، وهي حسن المآب : الأول منها جنات لا تزول كالحرث والخيل والانعام ، الثاني : أزواج مطهرة من الحيض والأحداث والأخباث ، ومن كل ما تنفر النفوس منه ، الثالث : رضوان اللَّه ، وهو أكبر وأعظم من الدنيا والآخرة مجتمعتين ، كل ذلك جعله اللَّه جزاء لمن خاف مقام ربه ، ونهى النفس عن الهوى .
{الصَّابِرِينَ والصَّادِقِينَ والْقانِتِينَ والْمُنْفِقِينَ والْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحارِ} الصابر هو الذي يكافح ويناضل متكلا على اللَّه ، ويرضى بنتيجة كفاحه مهما تكن ، والصادق هو الذي يؤثر الصدق ، حيث يضره على الكذب ، حيث ينفعه ، والقانت هو العابد المطيع ، والمنفق هو الذي ينفق أمواله على نفسه وعياله ، وفي سبيل اللَّه ، والسحر هو الوقت الذي قبل الفجر ، وهو خير الأوقات كلها للعبادة والدعاء ، كما جاء في الحديث ، لأنه أبعد عن شبهة الرياء ، ولأنه الوقت الذي يطيب فيه النوم ، ويشق القيام ، وأفضل الأعمال أشقها وأحمزها ، مع العلم بأن خدمة الإنسان أفضل من عامة الصلاة والصيام .
ثمرة الإيمان :
وهذه الأوصاف الخمسة ، أي الصبر والصدق والقنوت والإنفاق والاستغفار هي ثمرة لأصول الدين الثلاثة ، وأعني بها الإيمان باللَّه الواحد الأحد ، ونبوة محمد (صلى الله عليه واله ) وباليوم الآخر . ان هذه الأصول ليست مجرد شعار ديني يرفعه الإسلام ، ويكتفي به ، بل لها ثمرات وحقائق يجمعها الخلق الكريم ، والعمل النافع في الحياة ، قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال : 24] . ان كل أصل من أصول الإسلام ، وكل فرع من فروعه يقوم على هذا المبدأ ، مبدأ ربط الدين بالعمل من أجل الحياة :
{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر : 92 ، 93] . {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران : 142] .
وتواتر في الحديث ان أفضل أنواع العبادات والطاعات هو العمل لحياة أفضل ، وان أكبر الكبائر والمعاصي هو الفساد والعدوان على العباد ، قال الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله) : أقرب ما يكون العبد إلى ربه إذا أدخل على قلب أخيه مسرة . .
وقال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) : بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد ، وقال حفيده الإمام الباقر (عليه السلام) : ان للَّه عبادا ميامين يعيشون ويعيش الناس في أكنافهم ، وهم في عباده مثل القطر ، وان للَّه عبادا ملاعين يعيشون ولا يعيش الناس في أكنافهم ، وهم في عباده بمنزلة الجراد ، لا يقعون على شيء إلا أتوا عليه .
___________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج2 ، ص21-23 .
قوله تعالى : {قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ} إلى آخر الآية ، الآية مسوقة لبيان قوله : {واللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} وقد وضع فيها محل هذه الشهوات الفانية الباطلة أمور هي خير للإنسان لكونها باقية وحسنة حقيقة من غير بطلان ، وهي أمور مجانسة لهذه الشهوات في ما يريده الإنسان من خواصها وآثارها غير أنها خالية عن القبح والفساد غير صارفة للإنسان عن ما هو خير منها ، وهي الجنة ومطهرات الأزواج ورضوان الله تعالى .
وقد اختصت الأزواج بالذكر مع كون ذكر الجنة كالمشتمل عليها لكون الوقاع أعظم اللذائذ الجسمية عند الإنسان ، ولذلك أيضا قدم ذكر النساء في قوله : {مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ} "الخ" .
وأما الرضوان بكسر الراء وضمها فهو الرضا وهو أن يلائم الأمر الواقع نفس صاحبه من غير أن يمتنع منه ويدافعه ، ويقابله السخط .
وقد تكرر في القرآن ذكر رضى الله سبحانه ، وهو منه تعالى كما يتصور بالنسبة إلى فعل عباده في باب الطاعة كذلك يتصور بالنسبة إلى غير باب الطاعة كالأوصاف والأحوال وغير ذلك إلا أن جل الموارد التي ذكر فيها أو كلها من قبيل الرضا بالطاعة ، ولذلك ربما قوبل بينه وبين رضا العبد فرضاه عن عبده لطاعته ، ورضى العبد عنه لجزائه الحسن أو لحكمة كقوله تعالى : {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة : 8] ، وقوله تعالى : {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر : 27 ، 28] ، وقوله تعالى : {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة : 100] .
و ذكر الرضوان هاهنا أعني في عداد ما هو خير للناس من مشتهيات الحيوة الدنيا يدل على أنه نفسه من مشتهيات الإنسان أو يستلزم أمرا هو كذلك عنى بذكره في مقابل الجنات والأزواج في هذه الآية ، وكذا في مقابل الفضل والرحمة في قوله : {فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} [المائدة : 2] ، وقوله : {وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} [الحديد : 20] ، وقوله : {بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ} [التوبة : 21] .
ولعل الذي يكشف عن هذا الذي أبهمته هذه الآية هو التدبر في المعنى الذي ذكرناه وفي قوله تعالى : رضي الله عنهم الآية وقوله : راضية مرضية الآية حيث علق رضاه بأنفسهم ، والرضا عن أنفسهم غير الرضا عن أفعالهم فيعود المعنى إلى أنه لا يمنعهم عن نفسه فيما يسألونه فيئول إلى معنى قوله {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا} [ق : 35] ، ففي رضوان الله عن الإنسان المشية المطلقة للإنسان .
ومن هنا يظهر : أن الرضوان في هذه الآية قوبل به من الشهوات المذكورة في الآية السابقة أن الإنسان يحسب أنه لو اقتناها وخاصة القناطير المقنطرة من بينها أفادته إطلاق المشية وأعطته سعة القدرة فله ما يشاء ، وعنده ما يريد .
وقد اشتبه عليه الأمر فإنما يتم ذلك برضا الله الذي إليه أمر كل شيء .
قوله تعالى : {واللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ} .
لما تحصل من هذه الآية والتي قبلها : أن الله أعد للإنسان في كلتا الدارين الدنيا والآخرة نعما يتنعم بها ومآرب أخرى مما تلتذ به نفسه كالأزواج ، وما يؤكل ويشرب ، والملك ونحوها ، وهي متشابهة في الدارين غير أن ما في الدنيا مشترك بين الكافر والمؤمن مبذول لهما معا وما في الآخرة مختص بالمؤمن لا يشاركه فيها الكفار كان المقام مظنة سؤال الفرق في ذلك ، وبلفظ آخر سؤال وجه المصلحة في اختصاص المؤمن بنعم الآخرة أجاب عنه بقوله : {و الله بصير بالعباد} ، ومعناه : أن هذا الفرق الذي فرق الله به بين المؤمن والكافر ليس مبنيا على العبث والجزاف تعالى عن ذلك بل إن في الفريقين أمرا هو المستدعي لهذا الفرق والله بصير بهم يرى ما فيهم من الفرق وهو التقوى في المؤمن دون الكافر ، وقد وصف هذا التقوى وعرفه بما يلحق بهذه الآية من قوله : {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا} إلى آخر الآيتين وملخصه : أنهم يظهرون فاقتهم إلى ربهم وعدم استغنائهم عنه ، ويصدقون ذلك بالعمل الصالح ولكن الكافر يستغني عن ربه بشهوات الدنيا وينسى آخرته وعاقبة أمره .
ومن ألطف ما يستفاد من الآيتين أعني قوله تعالى : ذلك متاع الحيوة الدنيا والله عنده حسن المآب قل أ أنبئكم بخير من ذلكم إلى آخر الآية وما في معناهما من الآيات كقوله تعالى : {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف : 32] ، الجواب عن إشكال استوجهه كثير من الباحثين على ظواهر الآيات الواصفة لنعم الجنة .
أما الإشكال فهو أن المتأمل في أطوار وجود هذه الموجودات المشهودة في هذا العالم لا يشك في أن الأفعال الصادرة منها وأعمالها التي يعملها إنما هي متفرعة على القوى والأدوات التي جهز بها كل واحد منها ليدفع بها عن وجوده ويحفظ بها بقاءه كما يحققه البحث عن الغايات الوجودية وأن الوجود لا يستند إلى اتفاق أو جزاف أو عبث .
فهو ذا الإنسان مجهز في جميع بدنه بجهاز دقيق في غاية الدقة يتمشى به أمر تغذيه ، وإنما يتغذى لتهيئة بدل ما يتحلل من أجزائه وإنما يفعل ذلك ليمد وجوده للبقاء ، وأيضا هو مجهز بجهاز التناسل على ما فيه من الأدوات والقوى الفعالة والمترتبة ليحفظ بقاء نوعه والأمر في وجود النبات والحيوان نظير الأمر في تجهيز الإنسان .
ثم إن الخلقة احتالت في تسخيرها وخاصة في تسخير ذوات الشعور منها وهي الحيوان والإنسان بإبداع لذائذ في أفعالها وإيداعها في القوى لتتسابق إلى الأفعال لأجل هذه اللذائذ وهي لا تشعر أن الخلقة تريد منها غايتها وهي بقاء الوجود وتغرها بتطميعها باللذة التي تزينها لها فيحصل بذلك ما يريده الخلقة ، ويلتذ الفاعل بهذه الزينة التي تغرها ويلعب بها ، فلو لا ما في الغذاء والنكاح مثلا من اللذة لما قصدهما الإنسان مثلا لمجرد كونهما مقدمة للبقاء ، وبطل بذلك غرض الخلقة لكن الله سبحانه أودع فيه لذة الغذاء ولذة النكاح لا يستريح الإنسان في طريق النيل إليهما دون أن يتحمل كل تعب وعناء ويقاسي كل مصيبة وبلاء ، وهو في اقتناء هذه الشهوات مختال فخور بما ليس فيه إلا الغرور ، وأما الصنع والخلقة فينال بغيته ويبلغ أمنيته فإنه ما كان يريد بهذا التدبير إلا بقاء وجود الفرد وقد حصل بالتغذي ، وإلا بقاء وجود النوع وقد حصل بالنكاح والسفاد ولم يبق للإنسان مثلا فيما كان يريده إلا الخيال .
وإذا كان هذه اللذائذ الدنيوية مقصودة في الخلقة لأجل غرض محدود معجل فلا معنى لتحققها في ما لا تحقق هناك لذلك الغرض ، فلذة الأكل والشرب وجميع اللذائذ الراجعة إلى التغذي مقصودة في الطبيعة لأجل حفظ البدن عن آفة التحلل وفساد التركيب وهو الموت ، ولذة النكاح وجميع اللذائذ المرتبطة به وهي أمور جمة إنما تقصدها الخلقة لأجل حفظ النوع من الفناء والاضمحلال ، فلو فرض للإنسان وجود لا يلحقه موت ولا فناء وحيوة مأمونة من كل شر ومكروه فأي فائدة تترتب على وجود القوى البدنية التي تعمل لأجل تحصيل بقاء الشخص أو النوع؟ وأي ثمرة يثمرها تجهيزات البدن وأعضاؤه كالكلي والمثانة والطحال والكبد وغيرها وجميعها إنما أوجدت لأعمال تنفع في البقاء المعجل المحدود دون البقاء المخلد المؤبد؟ .
و أما الجواب فهو أن الله سبحانه إنما خلق ما خلق من لذائذ الدنيا والنعم التي تتعلق بها هذه اللذائذ زينة في الأرض ليقصدها الإنسان فينجذب إلى الحيوة ويتعلق بها كما قال : {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا} [الكهف : 7] ، وقال {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف : 46] ، وقال : {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء : 94] ، وقال - وهو أجمع للغرض - : {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه : 131] ، وقال أيضا : {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [القصص : 60] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وجميعها تبين أن هذه النعم الموجودة في الدنيا ، واللذائذ المتعلقة بها أمور مقصودة لأجل الحيوة وأمتعة يتمتع بها لأجل الحيوة هذه الحيوة المحدودة التي لا تتعدى أياما قلائل ، فلو لا الحيوة لما كانت هي مقصودة ولا مخلوقة ، وهذا هو حق الأمر! .
لكن يجب أن يعلم أن وجود الإنسان الباقي ليس إلا هذا الوجود الذي يمكث هاهنا برهة من الزمان بتحوله من طور إلى طور ، وليس ذلك إلا روحا كائنا من بدن وعلى بدن هو مجموع هذه الأجزاء المأخوذة من هذه العناصر والقوى الفعالة فيها ، ولو فرض ارتفاع هذه الأمور التي نعدها مقدمات مقصودة للبقاء لم يبق وجود ولا بقاء أعني أن فرض عدمها هو فرض عدم الإنسان رأسا لا فرض عدم استمرار وجود الإنسان فافهم ذلك .
فالإنسان في الحقيقة هو الذي ينشعب أفرادا ويأكل ويشرب وينكح ويتصرف في كل شيء بالأخذ والإعطاء ويحس ويتخيل ويعقل ويسر ويفرح ويبتهج وهكذا ، كل ذلك ملائم لذاته الذي هو كالمجموع منها وبعضها مقدمة لبعضها ، وهو السائر الدائر في مثل مسافة دورية .
فإذا نقله الله من دار الفناء إلى دار البقاء وكتب عليه الخلود والدوام إما بثواب دائم أو بعقاب دائم لم يكن ذلك بإبطال وجوده وإيجاد وجود باق بل بإثبات وجوده بعد ما كان متغيرا في معرض الزوال فهو لا محالة إما متنعم بنعم من سنخ نعم الدنيا لكنها باقية أو نقم ومصائب من سنخ نقم الدنيا ومصائبها .
وكل ذلك منكوح أو مأكول أو مشروب أو ملبوس أو مسكون أو قرين أو سرور أو نحو ذلك .
فالإنسان هو الإنسان وما يحتاج إليه ويستكمل به هو الذي كان يحتاج إليه ويستكمل به من مطالبه ومقاصده وإنما الفرق هو اختلاف الدارين بالبقاء وما يلحق به .
هذا هو الذي يظهر من كلامه سبحانه حيث يبين حقيقة البنية الإنسانية فيقول : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون : 12 - 16] ، انظر إلى موضع قوله : ولقد خلقنا ، والخلق هو الجمع والتركيب ، وإلى موضع قوله : {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ} ، الدال على تبديل نحو الخلق والإيجاد ، وإلى موضع قوله : ثم إنكم يوم القيامة ، والمخاطب به هو الذي أنشىء خلقا آخر .
ويقول أيضا : {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف : 25] فيفيد أن حيوة الإنسان حيوة أرضية مؤلفة من نعمها ومن نقمها .
وتقدم بعض الكلام في هذا المعنى في تفسير قوله تعالى : {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة : 213] .
وقد قال تعالى في هذه النعم الأرضية : {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران : 14] ثم قال : {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} [الرعد : 26] ، فجعل نفس الحيوة الدنيا متاعا في الآخرة يتمتع به ، وهذا من أبدع البيان ، وباب ينفتح به للمتدبر ألف باب ، وفيه تصديق قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون .
وبالجملة الحيوة الدنيا هي الوجود الدنيوي بما كسب من حسنة أو سيئة وهو الذي يتمتع به في الآخرة من حيث سعادته وشقائه أي ما يراه فوزا وفلاحا لنفسه وما يراه خيبة وخسرانا فيعطى سعادته بإعطاء لذائذه أو يحرم من نيلها وهما نعيم الجنة وعذاب النار .
وبعبارة أخرى واضحة ، للإنسان مثلا سعادة بحسب الطبيعة وشقاء بحسبها في بقائه شخصا ونوعا وهما منوطتان بفعله الطبيعي من الأكل والشرب والنكاح وقد زينت له بلذائذ مقدمية وهذا بحسب الطبيعة ثم إذا أخذ الإنسان في الاستكمال وأخذ في الفعالية بالشعور والإرادة صار نوعا كماله هو الذي يختاره شعوره وإرادته فما لا يشعر به ولا يشاؤه ليس كمالا لهذا الموجود الشاعر المريد وإن كان كمالا طبيعيا وكذا العكس كما نرى أنا لا نلتذ بما لا نشعر به وإن كان من سعادة الطبيعة كصحة البدن والمال والولد ، ونلتذ بما نشعر به من اللذائذ وإن لم يطابق الخارج كالمريض المعتقد للصحة ونظائر ذلك فهذه اللذائذ المقدمية تصير كمالا حقيقيا لهذا الإنسان وإن كانت كمالات مقدمية للطبيعة فإذا أبقى الله سبحانه هذا الإنسان بقاء مخلدا كانت سعادته هي التي يشاؤها من اللذائذ ، وشقاؤه هو الذي لا يشاؤه سواء كانت بحسب الطبيعة مقدمة أو لم يكن ، إذ من البديهي أن خير الشخص أو القوة الشاعرة المريدة هو فيما يعلم به ويشاؤه ، وشره فيما يعلم به ولا يريده .
فقد تحصل أن سعادة الإنسان أن ينال في الآخرة ما كان يريده من لذائذ الحيوة في الدنيا من الأكل والشرب والنكاح وما فوق ذلك وهو الجنة ، وشقاؤه أن لا ينال ذلك وهو النار .
قال تعالى : {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} [النحل : 31] .
قوله تعالى : {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} وصف للمتقين المدلول عليهم بقوله في الآية السابقة : للذين اتقوا ، فوصفهم أنهم يقولون ربنا وفيه إظهار للعبودية بذكره تعالى بالربوبية واسترحام منه تعالى فيما يسألونه بقولهم : {إِنَّنَا آمَنَّا} ، والجملة ليست في مقام الامتنان عليه تعالى فإن المن منه تعالى بالإيمان كما قال تعالى : {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات : 17] بل استنجاز لما وعد الله تعالى عباده أنه يغفر لمن آمن منهم ، قال تعالى : {وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [الأحقاف : 31] ، ولذلك فرعوا عليه قولهم : فاغفر لنا ذنوبنا ، بفاء التفريع .
و في تأكيد قولهم بأن دلالة على صدقهم وثباتهم في إيمانهم .
و المغفرة للذنوب لا يستلزم التخلص من العذاب بمعنى أن الوقاية من عذاب النار فضل من الله سبحانه بالنسبة إلى من آمن به وعبده من غير استحقاق من العبد يثبت له حقا على الله سبحانه أن يجيره من عذاب النار ، أو ينعمه بالجنة فإن الإيمان والإطاعة أيضا من نعمه ولا يملك غيره تعالى منه شيئا إلا ما جعله على نفسه من حق ، ومن الحق الذي جعل على نفسه لعباده أن يغفر لهم ويقيهم عذاب النار إن آمنوا به ، قال تعالى : {وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأحقاف : 31] .
و ربما استفيد من بعض الآيات أن الوقاية من عذاب النار هو المغفرة والجنة كقوله تعالى : {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [الصف : 10 - 12] ، فإن في الآيتين الأخيرتين تفصيل لما أجمل في الآية الأولى من قوله : هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ، وهذا معنى دقيق سنشرحه في مورد يناسبه إن وفقنا له .
قوله تعالى : {الصَّابِرِينَ والصَّادِقِينَ} إلى آخر الآية وصفهم بخمس خصال لا يشذ منها تقوى من متق ، فالصبر لسبقه على بقية الخصال وإطلاقه يشمل أقسام الصبر ، وهي ثلاث : صبر على الطاعة ، وصبر عن المعصية ، وصبر عند المصيبة .
والصدق وإن كان بحسب تحليل حقيقته هو مطابقة ظاهر الإنسان من قول وفعل لباطنه لكنه بهذا المعنى يشتمل جميع الفضائل الباقية كالصبر والقنوت وغيرهما وليس بمراد فالمراد به والله أعلم الصدق في القول فحسب .
و القنوت هو الخضوع لله سبحانه ويشمل العبادات وأقسام النسك والإنفاق هو بذل المال لمن يستحق البذل والاستغفار بالأسحار يستلزم قيام آخر الليل والاستغفار فيه ، والسنة تفسره بصلوة الليل والاستغفار في قنوت الوتر ، وقد ذكر الله أنه سبيل الإنسان إلى ربه كما في سورتي المزمل والدهر من قوله تعالى بعد ذكر قيام الليل والتهجد به : {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [الإنسان : 29] [المزمل : 19] .
____________________
1 . تفسير الميزان ، ج3 ، ص 93-99 .
هذه الآية توضّح الخطّ البياني الصاعد لتكامل الحياة الإنسانية الذي اُشير إليه في الآية السابقة . تقول الآية : هل أُخبركم بحياة أرفع وأسمى من هذه الحياة المادّية المحدودة في الدينا ، تلك الحياة فيها كلّ ما في هذه الحياة من النِعم لكنّها صورتها الكاملة الخالية من أيّ نقص وعيب خاصة بالمتقين . {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ}
بساتينها ، لا كبساتين الدنيا ، لا ينقطع الماء عن الجريان بجوار أشجارها : {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} .
ونِعمها دائمة أبدية ، لا كنِعم الدنيا السريعة الزوال : {خَالِدِينَ فِيهَا} .
نساؤها خلافاً لكثير من غواني هذه الدنيا ، ليس في أجسامهنّ ولا أرواحهنّ نقطة ظلام وخبث : {وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} .
كلّ هذا بانتظار المتّقين . وأسمى من ذلك كلّه ، النِعم المعنوية التي تفوق كلّ تصورّ وهي {رضوان من الله} .
نلاحظ أنّ الآية تبدأ بجملة : {أَؤُنَبِّئُكُمْ} الإستفهامية الموجّهة إلى الفطرة الإنسانية الواعية لكي تكون أنفذ في السامع وأعمق ، ثمّ إنّ الإستفهام ينصّ على «الإنباء» التي تستعمل للإدلاء بخبر مهمّ جدير بالاستيعاب .
وتخبر الآية المؤمنين أنّهم إذا امتنعوا عن اللذائذ غير المشروعة والأهواء الطاغية الممزوجة بالمعصية ، فإنّهم سيفوزون في الآخرة بلذائذ مشابهة ولكن بمستوى أرفع وخالية من كلّ نقص وعيب . إلاَّ أنّ هذا لا يعني حرمان النفس من لذائذ الحياة الدنيا التي لهم أن يتمتّعوا بها بصورة مشروعة .
هل في الجنّة لذائذ مادّية أيضاً ؟
يظنّ بعضهم أنّ اللذائذ المادّية مقتصرة على الحياة الدنيا ، وأنّ الحياة الأُخرى خالية منها ، وأنّ جميع ما جاء في القرآن عن الجنّات والفواكه والمياه الجارية والأزواج الطاهرة إنّما هي كناية عن مقامات ونِعم معنوية من باب «كلّم الناس على قدر عقولهم» (2) .
ولكنّنا ينبغي أن نقول : إنّنا بعد أن قبلنا بالمعاد الجسماني إستناداً إلى الكثير من آيات القرآن الصريحة ، فلابدّ من وجود نِعم تناسب الجسم والروح وبمستوى أرفع وأعلى . وفي هذه الآية إشارة إلى كليهما : ما يناسب المعاد الجسماني ، وما يناسب المعاد الروحي .
في الواقع ، إنّ الذين يعتبرون نِعم الآخرة المادّية كناية عن نِعم معنوية ، إنّما يؤوّلون ظاهر آيات القرآن دون سبب ، كما أنّهم ينسون المعاد الجسماني وما يقتضيه .
ولعلّ جملة {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} التي جاءت في آخر الآية إشارة إلى هذه الحقيقة ، أي أنّه يعلم ما يحتاجه الجسم والروح في العالم الآخر ، وما هي متطلّبات كلّ منهما وهو يضمن إشباع هذه الحاجات على أحسن وجه .
{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا} [آل عمران : 16] .
في هذه الآية والآية التي بعدها نتعرّف على المتّقين الذين كانوا في الآية السابقة مشمولين بِنِعم الله العظيمة في العالم الآخر ، فتعددان ستّ صفات من صفاتهم الممتازة .
1 ـ إنّهم يتوجّهون إلى الله بكلّ جوارحهم ، والإيمان يضيء قلوبهم ، ولذلك يحسّون بمسؤولية كبيرة في كلّ أعمالهم ، ويخشون عقاب أعمالهم خشية شديدة ، فيطلبون مغفرته والنجاة من النار : {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} .
2 ـ مثابرون صابرون ذوو همّة ، ومقاومون عند مواجهتهم الحوادث في مسيرة إطاعتهم لله وتجنّبهم المعاصي ، وعند ابتلائهم بالشدائد الفردية والإجتماعية (الصابرين) .
3 ـ صادقون ومستقيمون ، وما يعتقدون به في الباطن يعملون به في الظاهر ، ويتجنّبون النفاق والكذب والخيانة والتلوّث (والصادقين) .
4 ـ في طريق العبودية لله خاضعون ومتواضعون ومواظبون على ذلك (والقانتين) (3) .
5 ـ لاينفقون من أموالهم فحسب ، بل ينفقون من جميع ما لديهم من النِعم المادّية والمعنوية في سبيل الله ، فيعالجون بذلك أدواء المجتمع (والمنفقين) .
6 ـ في أواخر الليل وعند السحر ، أي عندما يسود الهدوء والصفاء وحين يغطّ الغافلون في نوم عميق وتهدأ ضوضاء العالم المادّي ، يقوم ذوو القلوب الحيّة اليقظة ، ويذكرون الله ويطلبون المغفرة منه وهم ذائبون في نور الله وجلاله ، وتلهج كلّ ذرّة من وجودهم بتوحيده سبحانه {والْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحارِ} .
____________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2 ، ص218-220 .
2- أصول الكافي ، ج1 ، ص23 .
3 ـ «قانتين» من مادة «قنوت» بمعنى الخضوع امام الله وأيضاً بمعنى المداومة على الطاعة والعبودية .
|
|
مخاطر عدم علاج ارتفاع ضغط الدم
|
|
|
|
|
اختراق جديد في علاج سرطان البروستات العدواني
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|