أقرأ أيضاً
التاريخ: 16-3-2021
11750
التاريخ: 28-2-2021
5902
التاريخ: 15-3-2021
7577
التاريخ: 23-3-2021
6637
|
قال تعالى : {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران : 1 - 6] .
إن الله تعالى لما ختم سورة البقرة بذكر التوحيد والايمان ، افتتح هذه السورة بالتوحيد والإيمان أيضا فقال : {ألم} وقد ذكرنا الاختلاف فيه ، وفي معناه ، وفي محله في أول سورة البقرة . {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وقد ذكرنا ما فيه في تفسير آية الكرسي . وروي عن ابن عباس أنه قال : الحي القيوم اسم الله الأعظم ، وهو الذي دعا به آصف بن برخيا صاحب سليمان " عليه السلام " في حمل عرش بلقيس من سبا إلى سليمان ، قبل أن يرتد إليه طرفه {نَزَّلَ عَلَيْكَ} يا محمد {الْكِتَابَ} يعني القرآن {بِالْحَقِّ} فيه قولان أحدهما : بالصدق في اخباره والثاني : بالحق أي : بما توجبه الحكمة من الإرسال وهو حق من الوجهين .
{مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي : لما قبله من كتاب ورسول ، عن مجاهد وقتادة والربيع وجميع المفسرين . وإنما . قيل {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} لما قبله ، لأنه ظاهر له كظهور الذي بين يديه . وقيل في معنى {مُصَدِّقًا} ههنا قولان أحدهما : إن معناه مصدقا لما بين يديه ، وذلك لموافقته لما تقدم الخبر به ، وفيه دلالة على صحة نبوته " صلى الله عليه وآله وسلم " من حيث لا يكون ذلك كذلك إلا وهو عند الله علام الغيوب والثاني : إن معناه أن يخبر بصدق الأنبياء ، وبما أتوا به من الكتب ، ولا يكون مصدقا للبعض ، ومكذبا للبعض .
{وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ} على موسى {وَالْإِنْجِيلَ} على عيسى {مِنْ قَبْلُ} أي : من قبل إنزال القرآن {هُدًى لِلنَّاسِ} مفعول له أي : دلالة وبيانا . وقيل : يعني به الكتب الثلاثة أي : ليهتدي أهل كل كتاب بكتابه ، وأهل كل زمان بما أنزل في زمانه .
وقيل : إن {هُدًى لِلنَّاسِ} حال من الكتاب أي : هاديا للناس {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} يعني به القرآن . وإنما كرر ذلك لما اختلفت دلالات صفاته ، وإن كانت لموصوف واحد ، لأن كل صفة فيها فائدة غير فائدة الأخرى . فإن الفرقان هو الذي يفرق بين الحق والباطل فيما يحتاج إليه من أمور الدين في الحج وغيره من الأحكام ، وذلك كله في القرآن . ووصفه بالكتاب يفيد أن من شأنه أن يكتب .
وروى عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله " عليه السلام " أنه قال : الفرقان هو كل آية محكمة في الكتاب ، وهو الذي يصدق فيه من كان قبله من الأنبياء . وقيل : المراد بالفرقان الأدلة الفاصلة بين الحق والباطل ، عن أبي مسلم . وقيل : المراد به الحجة القاطعة لمحمد " صلى الله عليه وآله وسلم " على من حاجه في أمر عيسى . وقيل : المراد به النصر .
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} أي : بحججه ودلالاته {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} لما بين حججه الدالة على توحيده ، وصدق أنبيائه ، عقب ذلك بوعيد من خالف فيه ، وجحده ، ليتكامل به التكليف . {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} أي : قادر لا يتمكن أحد أن يمنعه من عذاب من يريد عذابه ، وأصل العزة : الامتناع ، ومنه أرض عزازاي : منيعة السلوك لصعوبتها . ومنه يقال من عزيز أي : من غلب سلب ، لأن الغالب ممتنع عن الضيم .
فالله تعالى عزيز أي : ممتنع من حيث إنه قادر لنفسه لا يعجزه شيء .
{ذُو انْتِقَامٍ} أي : ذو قدرة على الانتقام من الكفار ، لا يتهيأ لأحد منعه .
والانتقام : مجازاة المسئ على إساءته {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} لما ذكر سبحانه الوعيد على الإخلال بمعرفته ، مع نصب الأدلة على توحيده ، وصدق أنبيائه ، اقتضى أن يذكر أنه لا يخفى عليه شيء ، فيكون في ذلك تحذير من الاغترار بالاستسرار بمعصيته ، لأن المجازي لا تخفى عليه خافية .
فإن قيل : لم قال {لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} ، ولم يقل : لا يخفى عليه شيء على وجه من الوجوه ، فيكون أشد مبالغة ؟ قلنا : لأن الغرض أن يعلمنا أنه يعلم ما يستسر به في الأرض أو في السماء ، والإفصاح بذكر ذلك أعظم في النفس ، وأهول في الصدر ، مع الدلالة على أنه عالم بكل شيء .
فإن قيل : لم لم يقل إنه عالم بكل شيء في الأرض والسماء ؟ قلنا : لأن الوصف بأنه لا يخفى عليه شيء ، يدل على أنه يعلمه من كل وجه يصح أن يعلم منه ، مع ما فيه من التصرف في العبارة ، وإنما لا يخفى عليه شيء لأنه عالم لنفسه ، فيجب أن يعلم كل ما يصح أن يكون معلوما ، وما يصح أن يكون معلوما لا نهاية له ، فلا يجوز أن يخفى عليه شيء بوجه من الوجوه .
{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ} أي : يخلق صوركم {فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} على أي صورة شاء ، وعلى أي صفة شاء ، من ذكر أو أنثى ، أو صبيح أو دميم ، أو طويل أو قصير . {ا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ} في سلطانه {الْحَكِيمُ} في أفعاله . ودلت الآية على وحدانية الله ، وكمال قدرته ، وتمام حكمته ، حيث صور الولد في رحم الأم على هذه الصفة ، وركب فيه من أنواع البدائع من غير آلة ولا كلفة . وقد تقرر في عقل كل عاقل ان العالم لو اجتمعوا على أن يخلقوا من الماء بعوضة ، ويصوروا منه صورة في حال ما يشاهدونه ويصرفونه ، لم يقدروا على ذلك ، ولا وجدوا إليه سبيلا ، فكيف يقدرون على الخلق في الأرحام؟ فتبارك الله أحسن الخالقين . وهذا الاستدلال مروي عن جعفر بن محمد " عليه السلام " .
__________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2 ، ص235-237 .
{ ألم } . مر تفسيرها في أول سورة البقرة . { اللَّهُ لا إِلهً إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } .
مر تفسيرها في أول آية الكرسي 255 سورة البقرة .
{ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ } . المراد بالكتاب القرآن ، وهو مصدق للكتب المنزلة على الأنبياء السابقين ، وبديهة ان تصديق ما انزل على الأنبياء لا يستلزم تصديق الكتب التي ينسبها إليهم بعض الطوائف . . وها نحن المسلمين نؤمن بقول رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله ) ، ومع ذلك لا نؤمن بكل ما في كتب الحديث المروية عنه ، أما من يؤمن بالكتب المنزلة على الأنبياء السابقين فعليه أن يؤمن حتما بالقرآن ، وإلا ناقض نفسه بنفسه ، لأن القرآن مصدق لتلك الكتب ، فتكذيبه تكذيب لها بالذات .
{ وأَنْزَلَ التَّوْراةَ والإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ } . ووصف التوراة والإنجيل بالهدى يستلزم انهما قد انزلا بالحق ، كما ان وصف القرآن بأنه نزل بالحق يستلزم أن يكون هدى للناس . . إذن ، فكل واحد من الكتب الثلاثة حق وهدى .
والمراد بالهدى هنا بيان اللَّه سبحانه للحلال والحرام على لسان أنبيائه ، وهذا البيان يفيد العلم بأحكام اللَّه ، أما العمل بها فيحتاج إلى هدى من نوع آخر زائدا على البيان ، ولا أجد لفظا أعبّر عنه سوى التوفيق ، وهو المشار إليه بقوله تعالى : {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص : 56] .
التوراة والإنجيل :
يطلق القرآن لفظ التوراة على ما أنزله اللَّه تعالى من الوحي على موسى ( عليه السلام ) ، ويطلق لفظ الإنجيل على الوحي الذي أنزله على عيسى ( عليه السلام ) . ولكن القرآن قد بيّن وسجّل ان التوراة والإنجيل اللذين يعترف بهما هما غير التوراة والإنجيل الموجودين الآن عند اليهود والنصارى ، قال تعالى في الآية 45 من سورة النساء :
{ مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ } . وقال في الآية 14 من سورة المائدة : {ومِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ } .
وفي الآية 15 من السورة المذكورة : { يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ } .
والمبشرون المسيحيون أعرف الناس بهذه الحقيقة ، ومع ذلك يدلسون ويوهمون العوام بأن القرآن يعترف بالتوراة والإنجيل اللذين لعبت بهما يد التحريف . . ان القرآن بكامله هو كلام واحد ، وجملة واحدة ، لا يجوز الايمان ببعضه ، والكفر ببعضه الآخر .
والتوراة كلمة عبرانية ، ومعناها الشريعة ، وتطلق عند أهل الكتاب على خمسة أسفار : الأول سفر التكوين ، وفيه الكلام عن بدء الخليقة ، وأخبار الأنبياء ، الثاني سفر الخروج ، وفيه تاريخ بني إسرائيل وقصة موسى ، الثالث سفر التثنية ، وفيه أحكام الشريعة اليهودية ، الرابع سفر اللاويين ، واللاويون هم نسل لاوي أحد أبناء يعقوب ، وفيه العبادات والمحرمات من الطيور والحيوانات ، الخامس سفر العدد ، وفيه احصاء لقبائل بني إسرائيل وجيوشهم ، وهذه الأسفار الخمسة هي من مجموعة أسفار تبلغ تسعة وثلاثين سفرا ، ويطلق النصارى عليها اسم العهد القديم .
أما الإنجيل فكلمة يونانية الأصل ، ومعناها البشارة ، والأناجيل عند المسيحيين أربعة : الأول إنجيل متى ، ويرجع تاريخ تأليفه إلى حوالي سنة 60 بعد الميلاد ، وقد ألف باللهجة الآرامية . الثاني إنجيل مرقص ، وألفه باللغة اليونانية حوالي سنة 63 أو 65 ، الثالث إنجيل لوقا ، ألفه باللغة اليونانية بتاريخ إنجيل مرقص ، الرابع إنجيل يوحنا ، ألفه باللغة اليونانية حوالي سنة 90 بعد الميلاد .
وقد استقر رأي المسيحيين في أوائل القرن الخامس الميلادي على اعتماد سبعة وعشرين سفرا من أسفارهم ، وقالوا : انها موحى بها لأصحابها من الرب ، ولكن بمعانيها لا بألفاظها ، وأطلقوا عليها اسم العهد الجديد ، للمقابلة بينها ، وبين ما اعتمد من أسفار اليهود المقدسة التي أطلقوا عليها اسم العهد القديم ، فالقديم يرجع إلى عهد موسى ، والجديد إلى عهد عيسى ، ومعنى العهد الميثاق (2) .
ومر ما يتصل بهذا الموضوع عند تفسير الآية 3 من سورة البقرة فقرة { يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ } .
{ وأَنْزَلَ الْفُرْقانَ } . الفرقان مصدر فرق ، وهو ما يفرق بين الحق والباطل ،
وقد اختلفوا في المراد منه : هل هو العقل ، أو الزبور ، أو القرآن ، أو كل دلالة فاصلة بين الحق والباطل ، واختار الشيخ محمد عبده العقل ، وصاحب مجمع البيان القرآن . ولفظ الآية يحتمل المعنيين .
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ واللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ إِنَّ اللَّهً لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ ولا فِي السَّماءِ } . قال المفسرون : ان ستين رجلا من نصارى نجران اليمن وفدوا على رسول اللَّه السنة التاسعة للهجرة ، وهي السنة المعروفة بعام الوفود ، حيث توافد فيه الناس على النبي ( صلى الله عليه واله ) من شتى بقاع الجزيرة العربية يخطبون وده بعد أن نصره اللَّه على أعداء الإسلام (3) واحتج وفد نجران لعقيدة النصارى بالتثليث وألوهية عيسى ، احتج بأن عيسى ولد من غير أب ، وبما جرى على يديه من المعجزات التي اعترف بها القرآن .
وقال المفسرون أيضا : ان سورة آل عمران من أولها إلى نحو ثمانين آية نزلت في نصارى نجران ، والرد عليهم ، فبدأ اللَّه سبحانه بذكر التوحيد نفيا للتثليث ، ثم ذكر القرآن والتوراة والإنجيل ، لأن هذه الكتب الثلاثة تنزه اللَّه عن الولد ، والحلول أو الاتحاد ، وتنفي عن عيسى طبيعة الألوهية ، ثم ذكر سبحانه : { إِنَّ اللَّهً لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ ولا فِي السَّماءِ } للرد على قول النصارى بأن عيسى كان يعلم الغيب .
ثم ذكر جل وعلا انه {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهً إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } . ذكر سبحانه هذا ليبطل به قول النصارى بأن عيسى إله لأنه من غير أب ، ووجه البطلان ان الإله لا يخلق ويوجد في الأرحام ، وإنما الإله هو الخالق المصور للمخلوق في رحم أمه ، فان شاء خلقه وصوره بواسطة الأب ، وإن شاء خلقه بغير هذه الواسطة حسبما تستدعيه حكمته القدسية .
وخلاصة القول ان الإخبار ببعض المغيبات ، وإحياء بعض الأموات ، والولادة بلا أب لا يدل شيء منها على ان عيسى إله ، لأن الإله هو الذي يعلم جميع المغيبات ، لا بعضها ، والذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ، والذي يحيي جميع الأموات ، دون استثناء ، والذي يقدر على كل شيء ، حتى على الخلق من غير أب ، وإيجاد الشيء من لا شيء . . وبديهة ان عيسى لم يكن يعلم جميع المغيبات ، ولا يقدر على إحياء جميع الأموات ، ولم يخلق أحدا في رحم أمه بواسطة الأب أو بلا أب ، بل العكس هو الصحيح فإنه هو الذي خلق في الرحم .
___________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج2 ، ص5-9 .
2- تلخيص من كتاب « الاسفار المقدسة في الأديان السابقة للإسلام » لعلي عبد الواحد وافي .
3- التفصيل عند تفسير الآية 61 المعروفة بآية المباهلة . فإلى هناك .
غرض السورة دعوة المؤمنين إلى توحيد الكلمة في الدين والصبر والثبات في حماية حماه بتنبيههم بما هم عليه من دقة الموقف لمواجهتهم أعداءا كاليهود والنصارى والمشركين وقد جمعوا جمعهم وعزموا عزمهم على إطفاء نور الله تعالى بأيديهم وبأفواههم .
ويشبه أن تكون هذه السورة نازلة دفعة واحدة فإن آياتها - وهى مئتا آية ظاهرة الاتساق والانتظام من أولها إلى آخرها متناسبة آياتها مرتبطة أغراضها .
ولذلك كان مما يترجح في النظر أن تكون السورة إنما نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد استقر له الامر بعض الاستقرار ولما يتم استقراره فإن فيها ذكر غزوة أحد وفيها ذكر المباهلة مع نصارى نجران وذكرا من أمر اليهود وحثا على المشركين ودعوة إلى الصبر والمصابرة والمرابطة وجميع ذلك يؤيد أن السورة نزلت أيام كان المسلمون مبتلين بالدفاع عن حمى الدين بعامة قواهم وجميع أركانهم فمن جانب كانوا يقاومون الفشل والفتور الذين يدبان في داخل جماعتهم بفتنه اليهود والنصارى ويحاجونهم ويجاوبونهم ومن جانب كانوا يقاتلون المشركين ويعيشون في حال الحرب وانسلاب الامن فقد كان الاسلام في هذه الأيام قد انتشر صيته فثارت الدنيا عليه من اليهود والنصارى ومشركي العرب ووراء ذلك الروم والعجم وغيرهم .
والله سبحانه يذكر المؤمنين في هذه السورة من حقائق دينه الذي هداهم به ما يطيب به نفوسهم ويزول به رين الشبهات والوساوس الشيطانية وتسويلات أهل الكتاب عن قلوبهم ويبين لهم أن الله سبحانه لم يغفل عن تدبير ملكه ولم يعجزه خلقه وإنما اختار دينه وهدى جمعا من عباده إليه على طريقه العادة الجارية والسنة الدائمة وهى سنة العلل والأسباب فالمؤمن والكافر جاريان على سنة الأسباب فيوم للكافر ويوم للمؤمن فالدار دار الامتحان واليوم يوم العمل والجزاء غدا .
قوله تعالى الله لا إله إلا هو الحي القيوم قد مر الكلام فيه في تفسير آية الكرسي وتحصل من هناك أن المراد به بيان قيامه تعالى أتم القيام على أمر الايجاد والتدبير فنظام الموجودات بأعيانها وآثارها تحت قيمومة الله لا مجرد قيمومة التأثير كالقيمومة في الأسباب الطبيعية الفاقدة للشعور بل قيمومة حياه تستلزم العلم والقدرة فالعلم الإلهي نافذ فيها لا يخفى عليه شيء منها والقدرة مهيمنه عليها لا يقع منها إلا ما شاء وقوعه وأذن فيه ولذلك عقبه بقوله بعد آيتين {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} .
ولما كانت هذه الآيات الست في أول السورة على طريق براعه الاستهلال مشتملة على إجمال ما تحتويه السورة من التفصيل وقد مر ذكر غرض السورة كانت هذه الآية بمنزلة تصدير الكلام بالبيان الكلى الذي يستنتج به الغرض كما أن الآيتين الأخيرتين أعني قوله {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ} الخ بمنزلة التعليل بعد البيان وعلي هذا فالكلام التي يتم به أمر براعة الاستهلال هما الآيتان المتوسطتان أعني قوله {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} إلى قوله {عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} وعلي هذا فيعود المعنى إلى أنه يجب على المؤمنين أن يتذكروا أن الله الذي آمنوا به واحد في الوهيته قائم على الخلق والتدبير قيام حياة لا يغلب في ملكه ولا يكون إلا ما شاء وأذن فيه . فإنهم إذا تذكروا ذلك علموا أنه هو المنزل للكتاب الهادي إلى الحق والفرقان المميز بين الحق والباطل وأنه إنما جرى في ذلك على ما أجرى عليه عالم الأسباب وظرف الاختيار فمن آمن فله أجره ومن كفر فإن الله سيجزيه لأنه عزيز ذو انتقام ، وذلك أنه الله الذي لا إله غيره حتى يحكم في هذه الجهات ولا يخفى عليه أمرهم ، ولا يخرج عن إرادته ومشيئته فعالهم وكفرهم .
قوله تعالى : {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} ، قد مر أن التنزيل يدل على التدريج كما أن الانزال يدل على الدفعة .
وربما ينقض ذلك بقوله : {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان : 32] وبقوله تعالى : {أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً} [المائدة : 112] وقوله تعالى {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ} [الأنعام : 37] وقوله تعالى : {قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً} [الأنعام : 37] ولذلك ذكر بعض المفسرين أن الأولى أن يقال إن معنى نزل عليك الكتاب أنزله إنزالا بعد إنزال دفعا للنقض .
والجواب : أن المراد بالتدريج في النزول ليس هو تخلل زمان معتد به بين نزول كل جزء من اجزاء الشيء وبين جزئه الآخر بل الأشياء المركبة التي توجد بوجود أجزائها لوجودها نسبة إلى مجموع الاجزاء وبذلك يصير الشيء أمرا واحدا غير منقسم والتعبير عنه من هذه الجهة بالنزول كقوله تعالى {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [الرعد : 17] وهو الغيث ونسبة من حيث وجوده بوجود أجزائه واحدا بعد واحد سواء تخلل بينهما زمان معتد به أو لم يتخلل وهو التدريج والتعبير عنه بالتنزيل كقوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [الشورى : 28] .
ومن هنا يظهر أن الآيات المذكورة للنقض غير ناقضة فإن المراد بقوله لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة الآية أن ينزل عليه القرآن آية بعد آية في زمان متصل واحد من غير تخلل زمان معتد به كما كان عليه الامر في نزول القرآن في الشؤون والحوادث والأوقات المختلفة وبذلك يظهر الجواب عن بقية الآيات المذكورة .
وأما ما ذكره البعض المزبور فهو على أنه استحسان غير جائز في اللغة البتة لا يدفع شيئا من النقض بالآيات المذكورة بل هي بحالها وهو ظاهر .
قد جرى كلامه تعالى ان يعبر عن إفاضة الكتاب على النبي ص بالتنزيل والنزول والنزول يستلزم مقاما أو مكانا عاليا رفيعا يخرج منه الشيء نوعا من الخروج ويقصد مقاما أو مكانا آخر أسفل فيستقر فيه وقد وصف نفسه تعالت ذاته بالعلو ورفعة الدرجات وقد وصف كتابه أنه من عنده قال تعالى : {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى : 51] وقال تعالى : {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة : 89] فصح بذلك استعمال لفظ النزول في مورد استقرار الوحي في قلب رسول الله ص وقد ذكروا أن الحق هو الخبر من حيث إن بحذائه خارجا ثابتا كما أن الصدق هو الخبر من حيث إنه مطابق للخارج وعلى هذا فإطلاق الحق على الأعيان الخارجية والأمور الواقعية كما يطلق على الله سبحانه أنه حق وعلى الحقائق الخارجية أنها حقه إنما هو من جهة أن كلا منها حق من جهة الخبر عنها وكيف كان فالمراد بالحق في الآية الامر الثابت الذي لا يقبل البطلان .
والظاهر أن الباء في قوله بالحق للمصاحبة والمعنى نزل عليك الكتاب تنزيلا يصاحب الحق ولا يفارقه فيوجب مصاحبة الحق ان لا يطرء عليه ولا يخالطه باطل فهو في أمن من جهة ظهور الباطل عليه ففي قوله نزل عليك الكتاب بالحق استعارة
بالكناية وقد قيل في معنى الباء وجوه اخر لا يخلو عن سقم .
والتصديق من الصدق يقال صدقت مقالا كذا أي قررته على الصدق واعترفت بكونه صدقا وصدقت فلانا أي اعترفت بصدقه فيما يخبر به .
والمراد مما بين يديه التوراة والإنجيل كما قال تعالى : {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى} إلى أن قال : {وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى} إلى أن قال : {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} [المائدة : 48] والكلام لا يخلو عن دلالة على أن ما بأيدي اليهود والنصارى من التوراة والإنجيل لا يخلو عن بعض ما أنزله الله على موسى وعيسى عليهما السلام وإن كانا لا يخلوان عن السقط والتحريف فان الدائر بينهم في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو التوراة الموجودة اليوم والأناجيل الأربعة المشهورة فالقرآن يصدق التوراة والإنجيل الموجودين لكن في الجملة لا بالجملة لمكان الآيات الناطقة بالتحريف والسقط فيهما قال تعالى {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} إلى أن قال : {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة : 13] إلى أن قال {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة : 14] .
قوله تعالى : {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ} ، التوراة كلمة عبرانية بمعنى الشريعة والإنجيل لفظ يوناني وقيل فارسي الأصل معناه البشارة وسيجئ استيفاء البحث عن الكتابين في قوله : {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائدة : 44] .
ومما أصر عليه القرآن تسميه كتاب عيسى عليه السلام بالإنجيل بصيغة الافراد والقول بأنه نازل من عند الله سبحانه مع أن الأناجيل كثيرة والمعروفة منها أعني الأناجيل الأربعة كانت موجوده قبل نزول القرآن وفي عهده وهى التي ينسب تأليفها إلى لوقا ومرقس ومتى ويوحنا ولا يخلو ما ذكرناه من إفراد الاسم والتوصيف بالنزول عن دلالة على التحريف والاسقاط وكيف كان لا يخلو ذكر التوراة والإنجيل في هذه الآية وفي أول السورة من التعريض لليهود والنصارى على ما سيذكره من أمرهم وقصص تولد عيسى ونبوته ورفعه .
قوله تعالى : {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} الفرقان ما يفرق به بين الحق والباطل على ما في الصحاح واللفظ بمادته يدل على الأعم من ذلك وهو كل ما يفرق به بين شيء وشيء .
قال تعالى : {يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال : 41] وقال تعالى : {يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال : 29] .
وإذا كان الفرق المطلوب عند الله فيما يرجع إلى معنى الهداية هو الفرق بين الحق والباطل في العقائد والمعارف وبين وظيفة العبد وما ليس بوظيفة له بالنسبة إلى الأعمال الصادرة عنه في الحياة الدنيا انطبق معناه على مطلق المعارف الأصلية والفرعية التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه بالوحي أعم من الكتاب وغيره .
قال تعالى : {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} [الأنبياء : 48] وقال تعالى : {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} [البقرة : 53] وقال تعالى : {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان : 1] .
وقد عبر تعالى عن هذا المعنى بالميزان في قوله {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد : 25]
وهو في وزان قوله {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة : 213] .
فالميزان كالفرقان هو الدين الذي يحكم بين الناس بالعدل مع ما ينضم إليه من المعارف ووظائف العبودية والله أعلم .
وقيل المراد بالفرقان القرآن .
وقيل الدلالة الفاصلة بين الحق والباطل .
وقيل الحجة القاطعة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على من حاجه في أمر عيسى .
وقيل النصر .
وقيل العقل .
والوجه ما قدمناه .
قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} إلى قوله {ذُو انْتِقَامٍ} الانتقام ما قيل مجازاة المسئ على إساءته وليس من لازم المعنى أن يكون للتشفي فإن ذلك من لوازم الانتقامات التي بيننا حيث إن إساءة المسئ يوجب منقصة وضررا في جانبنا فنتدارك ذلك بالمجازاة الشديدة التي توجب تشفى قلوبنا وأما هو تعالى فأعز ساحة من أن ينتفع أو يتضرر بشيء من أعمال عباده لكنه وعد - وله الوعد الحق - أن سيقضى بين عباده بالحق إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا قال تعالى : {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} [غافر : 20] وقال تعالى : {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم : 31] .
كيف وهو عزيز على الاطلاق منيع الجانب من أن ينتهك محارمه وقد قيل إن الأصل في معنى العزة الامتناع .
وقوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} من حيث إطلاق العذاب وعدم تقييده بالآخرة أو يوم القيمة ربما تضمن الوعيد بالعذاب في الدنيا كما في الآخرة .
وهذا من الحقائق القرآنية التي ربما قصر الباحثون في استيفاء البحث عنه وليس ذلك إلا لكوننا لا نعد شيئا عذابا إلا إذا اشتمل على شيء من الآلام الجسمانية أو نقص أو فساد في النعم المادية كذهاب الأموال وموت الأعزة ونقاهة الأبدان مع أن الذي يعطيه القرآن بتعليمه أمر وراء ذلك .
كلام في معنى العذاب في القرآن :
القرآن يعد معيشة الناسي لربه ضنكا وإن اتسعت في أعيننا كل الاتساع .
قال تعالى : {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه : 124] ، ويعد الأموال والأولاد عذابا وإن كنا نعدها نعمة هنيئة قال تعالى : {وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة : 85] .
و حقيقة الأمر كما مر إجمال بيانه في تفسير قوله تعالى : {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة : 35] ، أن سرور الإنسان وغمه وفرحه وحزنه ورغبته ورهبته وتعذبه وتنعمه كل ذلك يدور مدار ما يراه سعادة أو شقاوة ، هذا أولا .
وأن النعمة والعذاب وما يقاربهما من الأمور تختلف باختلاف ما تنسب إليه فللروح سعادة وشقاوة وللجسم سعادة وشقاوة وكذا للحيوان منهما شيء وللإنسان منهما شيء وهكذا ، وهذا ثانيا .
والإنسان المادي الدنيوي الذي لم يتخلق بأخلاق الله تعالى ، ولم يتأدب بأدبه يرى السعادة المادية هي السعادة ولا يعبأ بسعادة الروح وهي السعادة المعنوية .
فيتولع في اقتناء المال والبنين والجاه وبسط السلطة والقدرة .
وهو وإن كان يريد من قبل نفس هذا الذي ناله لكنه ما كان يريد إلا الخالص من التنعم واللذة على ما صورته له خياله وإذا ناله رأى الواحد من اللذة محفوفا بالألوف من الألم .
فما دام لم ينل ما يريده كان أمنية وحسرة وإذا ناله وجده غير ما كان يريده لما يرى فيه من النواقص ويجد معه من الآلام وخذلان الأسباب التي ركن إليها ولم يتعلق قلبه بأمر فوقها فيه طمأنينة القلب والسلوة عن كل فائتة فكان أيضا حسرة فلا يزال فيما وجده متألما به معرضا عنه طالبا لما هو خير منه لعله يشفي غليل صدره وفيما لم يجده متقلبا بين الآلام والحسرات .
فهذا حاله فيما وجده ، وذاك حاله فيما فقده .
وأما القرآن فإنه يرى أن الإنسان أمر مؤلف من روح خالد وبدن مادي متحول متغير ، وهو على هذا الحال حتى يرجع إلى ربه فيتم له الخلود من غير زوال ، فما كان فيه سعادة الروح محضا كالعلم ونحو ذلك فهو من سعادته ، وما كان فيه سعادة جسمه وروحه معا كالمال والبنين إذا لم تكن شاغلة عن ذكر الله ، وموجبة للإخلاد إلى الأرض فهو أيضا من سعادته ونعمت السعادة .
وكذا ما كان فيه شقاء الجسم ونقص لما يتعلق بالبدن وسعادة الروح الخالد كالقتل في سبيل الله وذهاب المال واليسار لله تعالى فهو أيضا من سعادته بمنزلة التحمل لمر الدواء ساعة لحيازة الصحة دهرا .
وأما ما فيه سعادة الجسم وشقاء الروح فهو شقاء للإنسان وعذاب له والقرآن يسمى سعادة الجسم فقط متاعا قليلا لا ينبغي أن يعبأ به قال تعالى : {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران : 196 ، 197] .
و كذا ما فيه شقاء الجسم والروح معا يعده القرآن عذابا كما يعدونه عذابا لكن وجه النظر مختلف ، فإنه عذاب عنده لما فيه من شقاء الروح وعذاب عندهم لما فيه من شقاء الجسم ، وذلك كأنواع العذاب النازلة على الأمم السالفة ، قال تعالى : {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر : 6 - 14] .
والسعادة والشقاوة لذوي الشعور يتقومان بالشعور والإدراك فإنا لا نعد الأمر اللذيذ الذي نلناه ولم نحس به سعادة لأنفسنا كما لا نعد الأمر المؤلم غير المشعور به شقاء ، ومن هنا يظهر أن هذا التعليم القرآني الذي يسلك في السعادة والشقاوة غير مسلك المادة ، والإنسان المولع بالمادة لا بد من أن يستتبع نوع تربية يرى بها الإنسان السعادة الحقيقية التي يشخصها القرآن سعادة والشقاوة الحقيقية شقاوة ، وهو كذلك ، فإنه يلقن على أهله : أن لا يتعلق قلوبهم بغير الله ، ويروا أن ربهم هو المالك الذي يملك كل شيء فلا يستقل شيء إلا به ، ولا يقصد شيء إلا له .
وهذا الإنسان لا يرى لنفسه في الدنيا إلا السعادة بين ما كان فيه سعادة روحه وجسمه ، وما كان فيه سعادة روحه محضا ، وأما ما دون ذلك فإنه يراه عذابا ونكالا ، وأما الإنسان المتعلق بهوى النفس ومادة الدنيا فإنه وإن كان ربما يرى ما اقتناه من زينة الدنيا سعادة لنفسه وخيرا ولذة فإنه سوف يطلع على خبطه في مشيه ، وانقلبت سعادته المظنونة بعينها شقاوة عليه قال تعالى : {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الزخرف : 83] ، وقال تعالى : {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق : 22] ، وقال تعالى : {عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [النجم : 29 ، 30] ، على أنهم لا يصفو لهم عيش إلا وهو منغص بما يربو عليه من الغم والهم .
و من هنا يظهر : أن الإدراك والفكر الموجود في أهل الله وخاصة القرآن غيرهما في غيرهم مع كونهم جميعا من نوع واحد هو الإنسان ، وبين الفريقين وسائط من أهل الإيمان ممن لم يستكمل التعليم والتربية الإلهيين .
فهذا ما يتحصل من كلامه تعالى في معنى العذاب وكلامه تعالى مع ذلك لا يستنكف عن تسمية الشقاء الجسماني عذابا لكن نهايته أنه عذاب في مرحلة الجسم دون الروح ، قال تعالى حكاية عن أيوب (عليه السلام) : {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص : 41] ، وقال تعالى : {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [الأعراف : 141] ، فسمى ما يصنعون بهم بلاء وامتحانا من الله وعذابا في نفسه لا منه سبحانه .
قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} الخ ، قد علل تعالى عذاب الذين كفروا بآياته بأنه عزيز ذو انتقام لكن لما كان هذا التعليل لا يخلو عن حاجة إلى ضميمة تنضم إليه ليتم المطلوب فإن العزيز ذا الانتقام يمكن أن يخفى عليه كفر بعض من كفر بنعمته فلا يبادر بالعذاب والانتقام ، فعقب لذلك الكلام بقوله : {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ} ، فبين أنه عزيز لا يخفى عليه شيء ظاهر على الحواس ولا غائب عنها ، ومن الممكن أن يكون المراد مما في الأرض وما في السماء الأعمال الظاهرة القائمة بالجوارح والخفية الكامنة في القلوب على حد ما نبهنا عليه في قوله تعالى : {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة : 284] .
قوله تعالى : {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} ، التصوير إلقاء الصورة على الشيء والصورة تعم ما له ظل كالتمثال وما لا ظل له .
والأرحام جمع رحم وهو مستقر الجنين من الإناث .
وهذه الآية في معنى الترقي بالنسبة إلى ما سبقها من الآيتين ، فإن محصل الآيتين : أن الله تعالى يعذب الذين كفروا بآياته لأنه العزيز المنتقم العالم بالسر والعلانية فلا يغلب في أمره بل هو الغالب ومحصل هذه الآية أن الأمر أعظم من ذلك ، ومن يكفر بآياته ويخالف عن أمره أذل وأوضع من أن يكفر باستقلال من نفسه واعتماد على قدرته من غير أن يأذن الله في ذلك فيغلب هو على أمره تعالى ، ويبطل النظام الأحسن الذي نظم الله سبحانه عليه الخلقة فتظهر إرادته على إرادة ربه بل الله سبحانه هو أذن له في ذلك ، بمعنى أنه نظم الأمور نوع نظم يؤدي إلى وجود الاختيار في الإنسان ، وهو الوصف الذي يمكنه به ركوب صراط الإيمان والطاعة أو التزام طريق الكفر والمعصية ، ليتم بذلك أمر الفتنة والامتحان ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، وما يشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين .
فما من كفر ولا إيمان ولا غيرهما إلا عن تقدير ، وهو نظم الأشياء على نحو يتيسر لكل شيء ما يتوجه إليه من مقاصده التي سوف يستوفيها بعمله بتصويره بصورته الخاصة التي تمهد له السلوك إلى ما يسلك إليه .
فالله سبحانه هو الغالب على أمره القاهر في إرادته المهيمن على خلقه ، يظن الإنسان أنه يفعل ما يشاء ويتصرف فيما يريد ، ويقطع بذلك النظم المتصل الذي نظمه الله في الكون فيسبق التقدير ، وهذا بعينه من القدر .
وهذا هو المراد بقوله : {يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} ، أي ينظم أجزاء وجودكم في بدء الأمر على نحو يؤدي إلى ما يشاؤه في ختمه مشية إذن لا مشية حتم .
وإنما خص الكلام بالتقدير الجاري في الإنسان ولم يذكر التقدير العام الجاري في العالم كله لينطبق على المورد ، ولما مر أن في الآيات تعريضا للنصارى في قولهم في المسيح (عليه السلام) والآيات منتهية إلى ما هو الحق من أمره ، فإن النصارى لا ينكرون كينونته (عليه السلام) في الرحم وأنه لم يكون نفسه .
والتعميم بعد التخصيص في الخطاب أعني قوله : {يُصَوِّرُكُمْ} بعد قوله : {نَزَّلَ عَلَيْكَ} ، للدلالة على أن إيمان المؤمنين أيضا ككفر الكافرين غير خارج عن حكم القدر ، فتطيب نفوسهم بالرحمة والموهبة الإلهية في حق أنفسهم ، ويتسلوا بما سمعوه من أمر القدر ومن أمر الانتقام فيما يعظم عليهم من كفر الكافرين .
قوله تعالى : {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، فيه عود إلى ما بدىء به الكلام في الآيات من التوحيد ، وهو بمنزلة تلخيص الدليل للتأكيد .
فإن هذه الأمور المذكورة أعني هداية الخلق بعد إيجادهم ، وإنزال الكتاب والفرقان ، وإتقان التدبير بتعذيب الكافرين أمور لا بد أن تستند إلى إله يدبرها وإذ لا إله إلا الله تعالى شأنه فهو الذي يهدي الناس وهو الذي ينزل الكتاب والفرقان ، وهو يعذب الكافرين بآياته ، وإنما يفعل ما يفعل من الهداية والإنزال والانتقام والتقدير بعزته وحكمته .
____________________
1 . تفسير الميزان ، ج3 ، ص 5-14 .
تفسير الحروف المقطّعة بالعقول الإلكترونية :
فيما يتعلّق بالحروف المقطّعة في القرآن ، سبق الحديث عنها في بداية سورة البقرة ، فلا موجب لتكرار ذلك . وما ينبغي عرضه هنا هو النظرية المثيرة التي تقدّم بها مؤخّراً عالم مصري نورد هنا خلاصة لها لأهميّتها ، لا شكّ أنّ الحكم على
صحتها أو بطلانها يستلزم بحوثاً دقيقة يقع عبؤها على الأجيال القادمة . إنّما نوردها كنظرية لا غير (2) .
مجلة «آخر ساعة» المصرية المعروفة نشرت تقريراً عن تحقيقات عجيبة قام بها عالم مصري مسلم بخصوص تفسير بعض آيات القرآن المجيد بوساطة العقول الإلكترونية أثارت إعجاب الناس في مختلف أنحاء العالم .
تلك التحقيقات التي أجراها الدكتور «رشاد خليفة» العالم الكيمياويّ المصري خلال ثلاث سنوات متواصلة ، أثبتت أنّ هذا الكتاب السماويّ العظيم ليس من نتاج عقل بشري ، وأنّ الإنسان غير قادر على الإتيان بمثله .
أجرى الدكتور رشاد تحقيقاته في مدينة «سانت لويس» بمقاطعة «ميسوري» الأمريكية واستخدم في تحقيقاته العقول الإلكترونية لفترات طويلة مع أنّ أُجرتها في كلّ دقيقة 10 دولارات تبرّع بها المسلمون المقيمون هناك .
كان كلّ جهد الاُستاذ المذكور ينصبّ على معرفة معاني الحروف المقطّعة في القرآن ، مثل «ق ، الم ، يس» . لقد استطاع بحسابات معقّدة أن يثبت وجود علاقة قوية بين هذين الحروف والسورة التي تقع في صدرها (فتأمّل) .
لقد استعان بالعقل الإلكتروني لإجراء تلك الحسابات الخاصّة لمعرفة أعداد حروف السور ونسبة وجود كلّ حرف منها ، لا لتفسير القرآن .
ولولا هذه الأجهزة ما استطاع أحد أن يجري تلك الحسابات على الورق .
والآن نوجز الإكتشافات الذي توصّل إليه العالم المصري : يقول الدكتور رشاد : نعلم أنّ القرآن يضمّ 114 سورة ، منها 86 سورة نزلت في مكّة و 28 سورة في المدينة ، ومن بين مجموع سور القرآن 29 سورة تبدأ بحروف مقطعة .
من الجدير بالذكر أنّ مجموع هذه الحروف يبلغ نصف حروف الهجاء العربية ، وهي (أ ـ ح ـ ر ـ س ـ ص ـ ط ـ ع ـ ق ـ ك ـ ل ـ م ـ ن ـ هـ ـ ي) وقد يصفونها بالحروف النيّرة .
يقول الدكتور : منذ سنوات وأنا أحبّ أن أعرف معنى هذه الحروف التي تبدو في الظاهر أنّها مقطّعة وتتصدّر بعض السور . وعلى الرغم من رجوعي إلى تفاسير مشاهير المفسّرين فلم أعثر لديهم على جواب مقنع ، فاستعنت بالله واتّكلت عليه وبدأت بحثي :
خطر لي مرّة أنّه ربما تكون هناك علاقة بين هذه الحروف وحروف كلّ سورة تتصدّرها . غير أنّ دراسة الحروف النيّرة الأربعة عشر كلّها ضمن حروف سور القرآن المائة وأربعة عشر واستخراج نسبة كلّ حرف والحسابات الكثيرة الأُخرى لم تكن من الأُمور التي يمكن إجراؤها دون الإستعانة بالعقول الإلكترونية . لذلك شرعت أوّلاً بتعيين تلك الحروف منفردة في جميع سور القرآن ، ثمّ تعيين مجموع حروف كلّ سورة ، وأعطيتها جميعاً إلى العقل الإلكتروني مع رقم كلّ سورة (لغرض القيام بالحسابات المعقّدة المطلوبة فيما بعد) . لقد استغرق هذا العمل مع مقدّماته سنتين من الزمان .
ثمّ عملت على العقل الإلكتروني لإجراء تلك الحسابات مدّة سنة كاملة . كانت النتائج لامعة جدّاً ، وكشف الستار لأوّل مرّة في تاريخ الإسلام عن حقائق مذهلة أكّدت إعجاز القرآن (إضافة إلى أُمور أُخرى) من الناحية الرياضية ونسبة حروف القرآن .
لقد أوضحت لنا حسابات العقل الإلكتروني نسبة وجود كلّ من الحروف الأربعة عشر في كلّ سورة من سور القرآن المائة وأربعة عشر .
فمثلاً بالحسابات وجدنا أن نسبة حرف القاف ، وهو أحد الحروف النورانية في القرآن في سورة «الفلق» تحوز أعلى نسبة (700/6%) وتحوز المرتبة الأولى بين سور القرآن ، طبعاً بإستثناء سورة «ق» . بعدها تأتي سورة «القيامة» التي يبلغ فيها عدد حروف القاف بالنسبة إلى حروف السورة (907/3%) ، ثمّ تأتي سورة «والشمس» ونسبتها (906/3%) .
ونلاحظ من ذلك أنّ الفرق بين سورة «القيامة» وسورة «والشمس» يبلغ (001/0%) .
وهكذا استخرجنا هذه النسبة في 114 سورة لهذا الحرف ولسائر الحروف النورانية الأُخرى ، وبذلك ظهرت نسبة مجموعة حروف كلّ سورة إلى كلّ حرف من الحروف النورانية .
وفيما يلي النتائج المثيرة التي توصّل إليها التحقيق :
1 ـ نسبة حرف «ق» في سورة «ق» أكثر من نسبتها في أية سورة أُخرى بدون إستثناء . أي أنّ الآيات التي نزلت طوال 23 سنة ـ وهي فترة نزول القرآن ـ في 113 سورة استعملت فيها القاف بنسبة أقل ، إنّه مثير ومدهش أن يكون إنسان قادر على مراقبة تعداد كلّ حرف من الحروف التي يستعملها على مدى 23 سنة ، وفي الوقت نفسه يعرب بكلّ طلاقة وبدون أي تكلّف عمّا يريد بيانه . لاشكّ أنّ أمراً كهذا خارج عن نطاق قدرة الإنسان ، بل أنّ مجرّد حساب ذلك يتعذّر على أعظم العقول الرياضية بدون الإلتجاء إلى العقل الإلكتروني .
وهذا كلّه يدلّ على أنّ سور القرآن وآياته ليست وحدها الموضوعة وفق حساب معيّن ، بل حتّى حروفه موضوعة بحساب ونظام خاصّ لا يقدر عليه سوى الله تعالى .
كذلك دلّت الحسابات على أنّ حرف «ص» في سورة «ص» له هذه الخاصيّة نفسها ، أي نسبة وجوده في هذه السورة أكثر من نسبة وجوده في أية سورة أُخرى من سور القرآن .
كما أنّ حرف «ن» في سورة «ن والقلم» يمتاز بنسبة أعلى من وجوده في أية سورة أُخرى .
الإستثناء الوحيد هو سورة «الحجر» التي فيها نسبة الحرف «ن» أكثر من سورة «ن والقلم» . ولكن ما يلفت هو أنّ سورة «الحجر» تبدأ بالحروف «الر» .
وسنجد أنّ السور التي تبدأ بحروف «الر» يجب أن تعتبر بحكم السورة الواحدة . فإذا فعلنا ذلك نصل إلى النتيجة المطلوبة أي أنّ عدد حرف «ن» في هذه السور سوف يكون أقلّ مما في سورة «ن والقلم» .
2 ـ حروف «المص» في بداية سورة الأعراف إذا حسبنا حروف الألف والميم والصاد في هذه السورة نجدها أكثر ممّا هي في أية سورة أُخرى .
كذلك «المر» في بداية سورة «الرعد» . و «كهيعص» في بداية سورة «مريم» ، إذا حسبت الأحرف الخمس كان عددها في هذه السورة أكثر ممّا هي في السور الأخرى .
وهنا تواجهنا ظاهرة جديدة ، فالحرف الواحد ليس هو وحده الذي يرد بحساب في السور ، بل أنّ مجموعات الأحرف أيضاً تأتي هكذا بشكل مدهش .
3 ـ كان الكلام حتّى الآن يدور على الحروف التي تتصدّر سورة واحدة من سورة القرآن ، أمّا الحروف التي تتصدّر سوراً متكرّرة ، مثل «الر ، ألم» فإنّها تتّخذ شكلاً آخر ، فالحسابات الإلكترونية تقول إنّ مجموع هذه الحروف الثلاث ، مثلاً «أل م» إذا حسبت في مجموع السور التي تتصدّرها ، وتستخرج نسبتها إلى مجموع حروف هذه السور ، نجد أنّ هذه النسبة أكبر من نسبة وجودها في السور الأُخرى من القرآن .
هنا أيضاً تتّخذ المسألة شكلاً مثيراً وهو أنّ حروف كلّ سورة من سور القرآن ليست هي وحدها التي تقع تحت الضبط والحساب . بل أنّ مجموع حروف السور المتشابهة تقع تحت حساب متشابه أيضاً .
وبهذه المناسبة يتّضح أيضاً لماذا تبدأ عدّة سور مختلفة بالحروف «الم» أو «الر» وهذا لم يكن من باب المصادفة والإتّفاق .
يقوم الدكتور رشاد بحسابات أعقد على السور التي تتصدّرها «حم» لا نتطرّق إليها إختصاراً .
ويصل الأستاذ المذكور من خلال دراساته هذه إلى حقائق وإستنتاجات أُخرى أيضاً نوردها للقرّاء الكرام :
1 ـ لابدّ من الإبقاء على إملاء القرآن الأصلي
يقول الدكتور : إنّ هذه الحسابات تصحّ في حالة الإبقاء على الإملاء الأصلي في كتابة القرآن ، مثل : اسحق وزكوة وصلوة ، فلا نكتبها اسحاق وزكاة وصلاة ، وإلاَّ فإنّ الحسابات تختل .
2 ـ دليل على عدم تحريف القرآن
هذه التحقيقات تدلّ على أنّ أيّ تحريف ـ ولو في كلمة واحدة ـ لم يطرأ على القرآن من حيث الزيادة والنقصان ، وإلاَّ لما ظهرت هذه الحسابات على هذه الصورة .
3 ـ إشارات عميقة المعنى
في كثير من السور التي تبدأ بالحروف المقطّعة نلاحظ أنّه بعد الحروف تأتي الإشارة إلى صدق القرآن وعظمته ، مثل : {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران : 1 ، 2] ، وهذا في نفسه إشارة ظريفة إلى علاقة هذه الحروف بإعجاز القرآن .
نتيجة البحث
نستنتج من هذا البحث أنّ حروف القرآن الكريم الذي نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)على مدى 23 سنة تنتظم في حساب دقيق ، فكلّ حرف من حروف الهجاء له مع مجموع حروف كلّ سورة نسبة رياضية دقيقة بحيث إنّ الحفاظ على هذا التنظيم والحساب يتعذّر على البشر بدون العقول الإلكترونية .
لاشكّ أنّ التحقيقات التي أجرها العالم المذكور ما زالت في بداية الطريق ولا تخلو من النقائص . فيجب أن تتظافر جهود الآخرين للتغلّب عليها .
في الآية الثانية يقول تعالى : {الله لا إله إلاَّ هو الحيُّ القيّوم} .
سبق أن شرحنا هذه الآية في سورة البقرة في الآية 255 .
الآية التي تليها تخاطب نبي الإسلام وتقول : إنّ الله تعالى قد أنزل عليك القرآن الذي فيه دلائل الحقّ والحقيقة ، وهو يتطابق تماماً مع ما جاء به الأنبياء والكتب السابقة (التوراة والأنجيل) التي بشّرت (3) به وقد أنزلها الله تعالى أيضاً لهداية البشر : {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ} . ثمّ تضيف الآية {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} .
وبعد إتمام الحجّة بنزول الآيات الكريمة من الله تعالى وشهادة الفطرة والعقل على صدق دعوة الأنبياء ، فلا سبيل للمخالفين سوى العقوبة ، ولذلك تقول الآية محلّ البحث بعد ذكر حقّانيّة الرسول الأكرم والقرآن المجيد : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} .
ومن أجل أن لا يتوهّم أحد أو يشك في قدرة الله تعالى على تنفيذ تهديداته تضيف الآية {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو} [آل عمران : 4] (4) .
(عزيز) في اللّغة بمعنى كلّ شيء صعب وغير قابل للنفوذ ، ولذلك يقال للأرض الصعبة العبور (عزاز) وكذلك يطلق على كلّ أمر يصعب الحصول عليه لقلّته وندرته (عزيز) وكذلك تطلق هذه الكلمة على الشخص القويّ والمقتدر الذي يصعب التغلّب عليه أو يستحيل التغلّب عليه ، وكلّما أطلقت كلمة (عزيز) على الله تعالى يراد بها هذا المعنى ، أي أنّه لا أحد يقدر على التغلّب عليه ، وأنّ كلّ المخلوقات خاضعة لمشيئته وإرادته .
وفي الجملة الآنفة الذكر ولكي يعرف الكفّار أنّ هذا التهديد جادّ تماماً تذكّرهم الآية بأنّ الله عزيزٌ ، أي أنّه قاهر وما من أحد يستطيع أن يقف بوجه تنفيذ تهديداته وأنّه في الوقت الذي يكون فيه غفوراً رحيماً يكون شديد العقاب بالنسبة لمن لا يستحقّون هذه الرحمة .
كلمة (الانتقام) تستعمل غالباً في مفهومنا الحالي في لجوء شخص لا يستطيع أن يتسامح مع الآخرين ويغفر لهم أخطاءهم إلى عمل مقابل قد يكون عنيفاً لا يأخذ حتّى مصلحته الخاصّة بنظر الإعتبار ، وبديهيٌّ أنّ هذه الصفة مذمومة ، إذ أنّ على الإنسان في كثير من الحالات أن يعفو ويغفر بدلاً من الإنتقام ، ولكنّ (الإنتقام) في اللّغة ليس بهذا المعنى بل يعني إنزال ا لعقاب بالمجرم ، ولا شكّ أنّ معاقبة المجرمين العصاة فضلاً عن كونها من الأُمور الحسنة فإنّه لا يجوز التهاون فيها وإهمالها لأنّ ذلك يجانب العدالة والحكمة .
هنا لابدّ من ملاحظة ما يلي :
1 ـ أصل (الحقّ) المطابقة والموافقة ، لذلك يقال لما يطابق الواقع «الحق» . كما أنّ وصف الله بالحقّ ناشيء من كون ذاته القدسية أعظم واقع غير قابل للإنكار . وبعبارة أُخرى «الحق» هو الموضوع الثابت المكين الذي لا باطل فيه .
والباء في «الحق» في هذه الآية للمصاحبة ، أي يا أيّها النبيّ لقد أنزل عليك الله القرآن مصحوباً بدلائل الحقّ .
2 ـ «التوراة» لفظة عبرية تعني «الشريعة والقانون» (5) ، وأُطلقت على الكتاب الذي أنزل الله على موسى بن عمران (عليه السلام) . وقد تطلق أيضاً على مجموعة كتب العهد القديم أو أسفاره الخمسة .
إنّ مجموعة كتب العهد القديم تتألّف من التوراة وعدد من الكتب الأُخرى . والتوراة تتألّف من خمسة أقسام ، كلّ قسم يسمّى «سفراً» وهي : «سفر التكوين» و«سفر الخروج» و «سفر لاوي» و «سفر الاعداد» و «سفر التثنية» . هذه الأقسام من العهد القديم تشرح تكوين العالم والإنسان والمخلوقات وبعضاً من سير الأنبياء السابقين وموسى بن عمران وبني إسرائيل والأحكام .
أمّا الكتب الأُخرى فهي ما كتبه المؤرّخون بعد موسى (عليه السلام) في شرح أحوال الأنبياء والملوك والأقوام التي جاءت بعد موسى بن عمران (عليه السلام) .
بديهيّ أنّ هذه الكتب ـ عدا الأسفار الخمسة ـ ليست كتباً سماوية واليهود أنفسهم لا يدّعون ذلك . وحتّى «زبور» داود الذي يطلقون عليه اسم «المزامير» هو شرح مناجاة داود ومواعظه .
أمّا أسفار التوراة الخمسة ففيها دلائل تشير إلى أنّها ليست من الكتب السماوية ، بل هي كتب تاريخية دوّنت بعد موسى بن عمران (عليه السلام) ، إذ فيها بيان موت موسى (عليه السلام) ومراسيم دفنه ، وبعض الحوادث التي وقعت بعده ، على الأخصّ الفصل الأخير من سفر التثنية الذي يثبت أنّ هذا الكتاب قد كتب بعد موت موسى (عليه السلام) .
يضاف إلى ذلك أنّ في هذه الكتب الكثير من الخرافات وهي تنسب أُموراً فاضحة للأنبياء ، وبعض الأقوال الصبيانية ، ممّا يؤكّد زيف هذه الكتب . والشواهد التاريخية تؤكّد أنّ التوراة الأصلية قد ضاعت ، وأنّ أتباع موسى هم الذين كتبوا هذه الكتب بعده (6) .
3 ـ «الإنجيل» كلمة يونانية بمعنى «البشارة» أو «التعليم الجديد» (7) وتطلق على الكتاب الذي نزل على عيسى بن مريم (عليه السلام) . ومن الجدير بالتنويه أنّ القرآن كلّما أورد اسم كتاب عيسى (عليه السلام) «الإنجيل» جاء به مفرداً وعلى أنّه قد نزل من الله . وعليه فإنّ الأناجيل المتداولة بين أيدي المسيحيّين ، وحتّى الأشهر منها ، وهي الأناجيل الأربعة «لوقا ، ومُرقُس ، ومتّى ، ويوحنا» ليست من الوحي الإلهي ، وهذا ما لا ينكره المسيحيّون أنفسهم ، إذ يقولون إنّ هذه الأناجيل قد كتبت بأيدي تلامذة السيّد المسيح (عليه السلام) بعده بمدّة طويلة . ولكنّهم يزعمون أن أُولئك التلامذة قد كتبوها بإلهام من الله .
هنا يحسن بنا أن نتعرّف ـ ولو بإيجاز ـ على «العهد الجديد» والأناجيل وكتّابها : إنّ أهم كتاب ديني عند المسيحيّين والذي يعتمدونه على أنّه كتاب سماوي هو المجموعة التي يطلق عليها اسم «العهد الجديد» .
«العهد الجديد» الذي يبلغ نحو ثلث «العهد القديم» يتألّف من 27 كتاباً ورسالة تشمل موضوعات عامّة متناثرة ومختلفة ، على النحو التالي :
1 ـ إنجيل متّى (8) : وهو الإنجيل الذي كتبه «متّى» أحد حواريّي المسيح (عليه السلام)الاثني عشر في سنة 38 ميلادية ، وبعض يقول في سنة 50 أو 60 ميلادية (9) .
2 ـ إنجيل مُرقُس (10) : بحسب ما جاء في كتاب «القاموس المقدّس» صفحة 792 ، لم يكن مُرقُس من الحواريّين ، ولكنّه كتب إنجيله بإشراف «بطرس» . قتل مُرقُس سنة 68 م .
3 ـ إنجيل لوقا : كان «لوقا» رفيق سفر «بولس» الرسول . كان «بولس» على عهد المسيح يهودياً متعصّباً ، ولكنه اعتنق المسيحية بعده . يقال إنّه توفي في سنة 70 م ، وحسبما يقول مؤلّف «القاموس المقدّس» ص 772 : «إنّ تاريخ كتابة إنجيل لوقا يعود إلى حوالي سنة 63 م» .
4 ـ إنجيل يوحنا : «يوحنا» كان من تلامذة المسيح (عليه السلام) ومن أصحاب «بولس» . يقول صاحب القاموس المذكور ، اعتماداً على عدد من المحقّقين : إنّه أُلف في أواخر القرن الأول الميلادي (11) .
يتّضح من محتويات هذه الأناجيل ، التي تشرح عموماً حكاية صلب المسيح وما جرى بعد ذلك ، أنّ جميع هذه الأناجيل قد كتبت بعد المسيح بسنوات وليست كتباً سماوية نزلت على المسيح (عليه السلام) .
5 ـ أعمال الرسل : «أعمال الحواريّين ودعاة الصدر الأوّل» .
6 ـ رسائل بولس الأربعة عشرة إلى جهات مختلفة .
7 ـ رسالة يعقوب : «الرسالة العشرون من الرسائل السبع والعشرين في العهد الجديد» .
8 ـ رسالتا بطرس : «الرسالتنا 21 و 22 من العهد الجديد» .
9 ـ رسائل يوحنا : «الرسائل 23 و 24 و 25 من العهد الجديد» .
10 ـ رسالة يهودا : «الرسالة 26 من العهد الجديد» .
11 ـ مكاشفة يوحنا : «القسم الأخير من العهد الجديد» .
إستناداً إلى المؤرّخين المسيحيّين وحسبما ورد في هذه الأناجيل والكتب والرسائل في العهد الجديد ، فإنّ أيّاً منها ليس كتاباً سماوياً ، بل هي كتب كتبت بعد المسيح (عليه السلام) ، ونستنتج من ذلك أنّ الإنجيل الأصلي السماوي الذي نزل على المسيح (عليه السلام) قد فُقِد وليس له وجود الآن . إنّما تلامذة المسيح أدرجوا بعضاً منه في أناجيلهم ومزجوه ـ مع الأسف ـ بالخرافات .
أمّا القول بأنّ على المسلمين أن لا يشكّوا في صحّة الأناجيل والتوراة الموجودة ـ على اعتبار أنّ القرآن قد صدقّها وشهد لها ـ فإنّه قول مردود ، وقد أجبنا عليه في المجلّد الأوّل عند تفسير الآية : {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} [البقرة : 41] .
4 ـ بعد ذكر التوراة والإنجيل ، يشار إلى نزول القرآن ، ولكنّه سمّي الفرقان ، لأنّ لفظة «الفرقان» تستعمل في التفريق بين الحقّ والباطل وكلّ ما يميّز الحقّ عن الباطل يقال له «الفرقان» . ولذلك يسمّي القرآن حرب بدر {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الأنفال : 41] ، ففي ذلك اليوم انتصر فريق صغير مفتقر لكلّ أنواع المعدّات الحربيّة على جيش كبير مسلّح ومتفوّق تفوّقاً كبيراً . وكذلك يطلق على معجزات موسى (عليه السلام) العشر اسم «الفرقان» أيضاً (12) .
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
علم الله وقدرته المطلقة :
هاتان الآيتان تكمّلان الآيات السابقة التي قرأنا فيها أنّ الله تعالى حيٌّ وقيّوم وهو مدبّر الكون بأجمعه وسيعاقب الكافرين المعاندين (حتّى لو لم يظهروا كفرهم وعنادهم) ومن البديهي أنّ هذه الإحاطة والقدرة لتدبير العالم بحاجة إلى علم غير محدود وقدرة مطلقة ، ولهذا أشارت الآية الأُولى إلى علم الله تعالى ، وفي الآية الثانية إلى قدرته المطلقة .
في البداية تقول الآية الشريفة { إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ } [آل عمران : 5] .
فكيف يمكن أن يختفي عن أنظاره شيءٌ من الأشياء في حين أنّه حاضرٌ وناظرٌ في كلّ مكان ، فلا يخلو منه مكان ، وبما أنّ وجوده غير محدود ، فلا يخلو منه مكان معين ، ولهذا فهو أقرب إلينا من كلّ شيء حتّى من أنفسنا ، وفي نفس الوقت الذي يتنزّه فيه الله تعالى عن المكان والمحل ، فإنّه محيطٌ بكل شيء ، وهذه الإحاطة والحضور الإلهي بالنسبة لجميع المخلوقات بمعنى (العلم الحضوري) لا (العلم الحصولي) (13) .
ثمّ تبيّن الآية التالية واحدة من علم وقدرة الله تعالى الرائعة ، بل هي في الحقيقة إحدى روائع عالم الخلقة ومظهر بارزٌ لعلم الله وقدرته المطلقة حيث تقول الآية {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} ثمّ تضيف { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
إنّه لأمرٌ عجيب ومحيّر حقّاً أن يصوّر الله الإنسان وهو في رحم أُمّه صوراً جميلة ومتنوّعة في أشكالها ومواهبها وصفاتها وغرائزها .
وهذه الآية تؤكّد أنّ المعبود الحقيقي ليس سوى الله القادر الحكيم الذي يستحقّ العبادة ، فلماذا إذن يختارون مخلوقات كالمسيح (عليه السلام) ويعبدونها ، ولعلّ هذه العبارة إشارة إلى سبب النزول المتقدّم في بداية السورة من أنّ المسيحيّين أنفسهم يوافقون على أنّ المسيح كان جنيناً في بطن أُمّه مريم ، ثمّ تولّد منها ، إذن فهو مخلوق وليس بخالق فكيف يكون معبوداً ؟ !
____________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2 ، ص185-195 .
2 ـ مع الأسف أن هذا العالم الذي يعيش في أمريكا ، وقع تحت تأثير المحيط الفاسد هناك وقد أنكر بصراحة بعض المسائل والأحكام الإسلامية المسلمة ما دعا ادعاءات باطلة .
3 ـ انظر الجزء الأول ص 146 في تفسير الآية 40 من سورة البقرة ، شرح (مصدّقاً لما بين يديه) .
4 ـ ذكر بعض المفسّرين أن «ذو» لها معناً أقوى من «صاحب» ولذلك لا نجد في صفات الله أنها تذكر معنى كلمة صاحب بل تذكر دائماً مع كلمة «ذو» البحر المحيط : ج 2 ص 379 .
5- تفسير الميزان ، ج3 ، ص9 .
6 ـ انظر «الهدى إلى دين المصطفى» و «الرحلة المدرسية» .
7- تفسير الميزان ، ج3 ، ص9 .
8 ـ متّى : على وزن حتّى ، بمعنى عطاء الله .
9 ـ كتاب القاموس المقدّس : ص 782 .
10 ـ مُرقُس : على وزن قُنفُذ ، وقيل على وزن أسهُم ، جمع سهم .
11 ـ القاموس المقدّس : ص 966 .
12 ـ البقرة : 53 .
13-العلم الحضوري يعني ان يكون المعلوم ذاته حاضرا عند العلم . أما في (( العلم الحصولي )) فإن الحاضر عند العالم هو صورة المعلوم ورسمه فمثلا ان علمي بنفسي علم حضوري لأن نفسي ذاتها حاضرة في نفسي أما بالنسبة للموجودات الاخرى فعلمنا بها حصولي ، لأن صورتها فقط هي الحاضرة في اذهاننا .
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
قسم الشؤون الفكرية والثقافية يجري اختبارات مسابقة حفظ دعاء أهل الثغور
|
|
|