أقرأ أيضاً
التاريخ: 26-2-2018
7640
التاريخ: 26-2-2018
6579
|
قال تعالى : {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس: 17 - 42].
ذكر سبحانه المكذبين بالقرآن فقال {قتل الإنسان} أي عذب ولعن الإنسان وهو إشارة إلى كل كافر عن مجاهد وقيل هو أمية بن خلف عن الضحاك وقيل هو عتبة بن أبي لهب إذ قال كفرت برب النجم إذا هوى {ما أكفره} أي ما أشد كفره وما أبين ضلاله وهذا تعجب منه كأنه قد قال تعجبوا منه ومن كفره مع كثرة الشواهد على التوحيد والإيمان وقيل أن ما للاستفهام أي أي شيء أكفره وأوجب كفره عن مقاتل والكلبي فكأنه قال ليس هاهنا شيء يوجب الكفر ويدعو إليه فما الذي دعاه إليه مع كثرة نعم الله عليه.
ثم بين سبحانه من أمره ما كان ينبغي معه أن يعلم أن الله خالقه فقال {من أي شيء خلقه} لفظه استفهام ومعناه التقرير وقيل معناه لم لا ينظر إلى أصل خلقته من أي شيء خلقه الله ليدله على وحدانية الله تعالى ثم فسر فقال {من نطفة خلقه فقدره} أطوارا نطفة ثم علقة إلى آخر خلقة وعلى حد معلوم من طوله وقصره وسمعه وبصره وحواسه وأعضائه ومدة عمره ورزقه وجميع أحواله {ثم السبيل يسره} أي ثم يسر سبيل الخروج من بطن أمه حتى خرج منه عن ابن عباس وقتادة وذلك أن رأسه كان إلى رأس أمه وكذلك رجلاه كانتا إلى رجليها فقلبه الله عند الولادة ليسهل خروجه منها وقيل ثم السبيل أي سبيل الدين يسره وطريق الخير والشر بين له وخيره ومكنه من فعل الخير واجتناب الشر ونظيره وهديناه النجدين عن مجاهد والحسن وابن زيد.
{ثم أماته} أي خلق الموت فيه وقيل أزال عنه حياته {فأقبره} أي صيره بحيث يقبر وجعله ذا قبر عن أبي مسلم وقيل جعله مقبورا ولم يجعله ممن يلقى إلى السباع والطير عن الفراء وقيل أمر بأن يقبر عن أبي عبيدة {ثم إذا شاء أنشره} أي أحياه من قبره وبعثه إذا شاء تعالى أن يحييه للجزاء والحساب والثواب والعقاب عن الحسن {كلا} أي حقا {لم يقض} أي لم يقض {ما أمره} الله به من إخلاص عبادته ولم يؤد حق الله تعالى عليه مع كثرة نعمه قال مجاهد هو على العموم في الكافر والمسلم لم يعبده أحد حق عبادته .
ولما ذكر سبحانه خلق ابن آدم ذكر رزقه ليعتبر فقال {فلينظر الإنسان إلى طعامه} الذي يأكله ويتقوته من الأطعمة الشهية اللذيذة كيف خلقها سبحانه وهيأها لرزق عباده ليفكر كيف مكنه من الانتفاع بذلك ثم بين فقال {أنا صببنا الماء صبا} أي نزلنا الغيث إنزالا {ثم شققنا الأرض شقا} بالنبات {فأنبتنا فيها} أي في الأرض {حبا} أي جنس الحبوب التي يتغذى بها وتدخر {وعنبا} خص العنب لكثرة منافعه {وقضبا} وهو ألقت الرطب يقضب مرة بعد أخرى يكون علفا للدواب عن ابن عباس والحسن {وزيتونا} وهوما يعصر عنه الزيت {ونخلا} جمع نخلة {وحدائق غلبا} أي وبساتين محوطة تشتمل على أشجار عظام غلاظ مختلفة وقيل غلبا ملتفة الشجر عن مجاهد {وفاكهة} يعني سائر ألوان الفواكه {وأبا} وهو المرعى والكلأ الذي لم يزرعه الناس مما تأكله الأنعام وقيل أن الأب للأنعام كالفاكهة للناس {متاعا} أي منفعة {لكم ولأنعامكم} مر معناه.
ثم ذكر يوم القيامة فقال {فإذا جاءت الصاخة} يعني صيحة القيامة عن ابن عباس سميت بذلك لأنها تصخ الآذان أي تبالغ في إسماعها حتى تكاد تصمها وقيل لأنها يصخ لها الخلق أي يستمع وقد قلب حرف التضعيف ياء لكراهية التضعيف فقالوا صاخ كما قالوا تظنيت في تظننت وتقضي البازي(2) في تقضض ثم ذكر سبحانه في أي وقت تجيء الصاخة فقال {يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته} أي وزوجته {وبنيه} أي أولاده الذكور أي لا يلتفت إلى واحد من هؤلاء لعظم ما هو فيه وشغله بنفسه وإن كان في الدنيا يعتني بشأنهم وقيل يفر منهم حذرا من مطالبتهم إياه بما بينه وبينهم من التبعات والمظالم وقيل لعلمه بأنهم لا ينفعونه ولا يغنون عنه شيئا ويجوز أن يكون مؤمنا وأقرباؤه من أهل النار فيعاديهم ولا يلتفت إليهم أو يفر منهم لئلا يرى ما نزل بهم من الهوان.
{لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه} أي لكل إنسان منهم أمر عظيم يشغله عن الأقرباء ويصرفه عنهم ومعنى يغنيه يكفيه من زيادة عليه أي ليس فيه فضل لغيره لما هو فيه من الأمر الذي قد اكتنفه وملأ صدره فصار كالغني عن الشيء في أمر نفسه لا ينازع إليه وروي عن عطاء بن يسار عن سودة زوجة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قالت قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ((يبعث الناس عراة حفاة غرلا(3) يلجمهم العرق ويبلغ شحمة الآذان)) قالت قلت يا رسول الله واسوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض قال شغل الناس عن ذلك وتلا رسول الله {لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه}.
ثم قسم سبحانه أحوال الناس في ذلك اليوم فقال {وجوه يومئذ مسفرة} أي مشرقة مضيئة {ضاحكة مستبشرة} من سرورها وفرحها بما أعد لها من الثواب وأراد بالوجوه أصحاب الوجوه {ووجوه يومئذ عليها غبرة} أي سواد وكآبة للهم {ترهقها} أي تعلوها وتغشاها {قترة} أي سواد أو كسوف عند معاينة النار وقيل أن الغبرة ما انحطت من السماء إلى الأرض والقترة ما ارتفعت من الأرض إلى السماء عن زيد بن أسلم {أولئك هم الكفرة} في أديانهم {الفجرة} في أفعالهم واستدلت الخوارج بذلك على أن من ليس بمؤمن لا بد أن يكون كافرا فإن الله سبحانه قسم الوجوه هذين القسمين ولا تعلق لهم به لأنه سبحانه ذكر هنا قسمين من الوجوه متقابلين وجوه المؤمنين ووجوه الكفار ولم يذكر وجوه الفساق من أهل الصلاة فيجوز أن يكون لها صفة أخرى بأن يكون عليها غبرة لا تغشاها قترة أو يكون عليها صفرة أولون آخر .
________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص268-272.
2-هذا جزء بيت قد مر بتمامه في الجزء الاول فراجع.
3- الغرل : جمع الاغرل ، وهو الاقلف.
{قُتِلَ الإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ} . جاء في تفسير الرازي نقلا عن جماعة من المفسرين :
{ان المراد بالإنسان هنا كل غني ترفع على فقير بسبب الغنى والفقر} . ونحن مع هذا القول أولا ، لأن الواقع يؤيده ويشهد به ، فلولا الطمع والتكالب على الحطام وكنز المال لعاش الناس في رفاهية وأمان . قال الشيخ محمد عبده : (ان هذا الدعاء على الإنسان بأبشع الدعوات هو كناية عن انه قد بلغ من القبح مبلغا لا يستحق معه الحياة ، ومنشأ الشناعة نسيانه لما يتقلب فيه من النعم ، وذهوله عن مسديها حتى إذا ذكّر بالحق أعرض عن الذكرى) . . ولا شك في نعمة الوجود والإدراك والسمع والبصر ، بل هي من أعظم النعم ، ولكن نعمة الوجود وما إليه لا تبعث على التعالي والطغيان ما دامت عامة شاملة ، وانما الذي يخرج الإنسان المجرم عن حده ويبعثه على البغي والعدوان هو إحساسه بثروته وامتيازه عن غيره .
{مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} . من أنت أيها الإنسان الضعيف حتى تستنكف عن طاعة اللَّه ، وتتطاول على عباده ؟ فكّر في أصلك ، وفي انتقالك من خلق إلى خلق ، وفي مصيرك ومآلك . . . فمن الذي أوجدك ولم تك شيئا ، وأنشأك في بطن أمك حالا بعد حال ، ثم أخرجك في أحسن تقويم . .
هل الصدفة فعلت هذا كله ؟ {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} . مهد للإنسان الطريق إلى الخير بشيئين : الأول الإرشاد إليه والترغيب فيه . الثاني العقل والقدرة على العمل .
وأيضا مهد له الطريق إلى الحياة بشيئين : الأول ما أودعه تعالى في الطبيعة من الخيرات الكافية بحاجاته . الثاني ما أودعه في الإنسان من الطاقة والاستعداد لاستغلال الطبيعة وتكييفها كما يشاء . وتقدم مثله في العديد من الآيات . انظر تفسير الآية الأولى وما بعدها من سورة الإنسان .
{ثُمَّ أَماتَهُ} بعد انقضاء أجله {فَأَقْبَرَهُ} أمر سبحانه بدفن الإنسان بعد موته ، ونهى عن تركه مطروحا للوحوش والطيور إشارة إلى كرامته عند اللَّه حتى بعد خروج الروح منه فكيف إذا كان حيا ؟ {ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ} . خلقه ثم أماته فأقبره ، ثم يبعثه كما كان للحساب والجزاء . . ولولا هذا البعث لكان وجود الإنسان عبثا في عبث . انظر تفسير الآية 4 من سورة يونس فقرة {الحساب والجزاء حتم} . أما قوله تعالى : {إِذا شاءَ} فيشير إلى انه هو وحده يعلم متى يكون الحشر والنشر {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ} . الضمير في يقضي يعود إلى الإنسان المجرم المهمل ، والمعنى لقد زودنا الإنسان بجميع الطاقات والمعدات لفعل الخير وصالح الأعمال ، وما تركنا له من عذر يتعلل به ، ومع ذلك أهمل وقصر أكثر الناس ، بل ان الكثير منهم طغوا وبغوا واتخذوا من نعم اللَّه عليهم وسيلة للفساد والاعتداء على العباد .
{فَلْيَنْظُرِ الإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ} وهوبين يديه ، وفيه قوام حياته ووجوده ، فلينظر إليه ، ويسأل عقله : من الذي يسر له هذا الطعام ؟ الطبيعة ؟ ومن الذي أوجد الطبيعة ؟ الصدفة ؟ وهل للصدفة عقل يقدر ويدبر ؟ فأوجدت الطبيعة بما فيها من أسباب الطعام والشراب وما إلى ذلك من الدقة وأحكام الصنع {أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا} . كلا . . اللَّه وحده هو الذي أوجد الماء وأنزله من السماء ، وسبق أكثر من مرة ان الظواهر الكونية تسند إليه تعالى لأنه مصدر الوجود وسبب الأسباب {ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وعِنَباً وقَضْباً} أي ان النبات يشق تربة الأرض ليخرج منها تماما كما يشق الفرخ قشرة البيضة التي هو فيها {وزَيْتُوناً ونَخْلًا وحَدائِقَ غُلْباً} جمع غلباء وهي الضخمة العظيمة من الشجر وغيرها :
والمعنى ان تلك الحدائق عظيمة بأشجارها وثمارها ، وظلالها وجمالها .
{وفاكِهَةً وأَبًّا مَتاعاً لَكُمْ ولأَنْعامِكُمْ} . والابّ المرعى ، والمتاع ما يتمتع به الإنسان والحيوان . قال الشيخ محمد عبده : {روي ان أبا بكر الصديق سئل عن الأب فقال : أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب اللَّه ما لا علم لي به ؟ وعن عمر بن الخطاب انه قرأ هذه الآية فقال : كل هذا عرفناه فما الأب ؟ . ثم رفض عصا كانت بيده أي كسرها وقال : هذا لعمر اللَّه التكلف ، وما عليك يا ابن أم عمر أن لا تدري ما الأب ؟ . . ولا تظن ان سيدنا عمر ينهى عن تتبع معاني القرآن ، وانما يريد أن يعلمك ان الذي عليك من حيث أنت مؤمن ان تفهم جملة المعنى} .
{فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ} القيامة ، وهي تصك الآذان بصوتها حتى تكاد تصمها {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وأُمِّهِ وأَبِيهِ وصاحِبَتِهِ وبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} . لا أحباب ولا أنساب يوم القيامة لأن كل إنسان مشغول بنفسه منصرف لما هو فيه عن غيره . . هذا ، إلى انه أعزل من كل شيء . وفيه إيماء إلى ان الذين يحرص الإنسان عليهم في الحياة الدنيا ، ويعصي اللَّه من أجلهم - لا يغنون عنه شيئا في الآخرة ، ولا هو عنهم بمغن شيئا . وفي بعض التفاسير : ان ذكر الأرحام في الآية جاء على الترتيب الطبيعي حيث قدمت الأخ ثم الأبوين ثم الزوجة والولد لأن عاطفة الإنسان نحو أبويه أقوى منها نحو أخيه ، وعاطفته نحو زوجته وولده أقوى منها نحو أبويه . فكأنه قال تعالى : يفر المرء من أخيه بل من أمه وأبيه بل من صاحبته وبنيه .
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} أي مضيئة ، من أسفر الصبح {ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} فرحا وسرورا بما أعد اللَّه لها من المقام الكريم والأجر العظيم {ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ} الذل والهوان {تَرْهَقُها قَتَرَةٌ} يعلوها سواد الحزن والكآبة {أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} . ووصف الكفرة بالفجور يومئ إلى ان الفاجر المتهتك هو والكافر بمنزلة سواء عند اللَّه حتى ولو حافظ على الصلوات الخمس في أوقاتها .
وللشيخ محمد عبده كلام طويل حول هذه الآية نلخصه بالآتي : (من طلب الحق لوجه الحق وعمل به ، أو أدركه الموت وهولا يزال في طلبه - من كان هذا شأنه في الحياة الدنيا فهو الذي يضحك ويستبشر يوم القيامة بفضل اللَّه ، ومن احتقر عقله وشغل نفسه بتبرير الأهواء والتماس الحيل لتقرير الباطل كما كان يفعل أعداء الأنبياء فهو الذي يعلو وجهه سواد الحزن ، وغبرة الذل يوم القيامة لأنه من الكفرة الفجرة ، ذلك ان الدين ينهى عن الفواحش ، وهو يقترفها ، الدين يأمر بصيانة المصالح العامة ، وهو يفتك بها ، الدين يطالب أهله ببذل المال في سبيل الخير ، وهو يسلب المال لينفقه في سبيل الشر ، الدين يأمر بالعدل ، وهو أظلم الظالمين ، الدين يأمر بالصدق ، وهو يكذب ويحب الكاذبين . . ومن كان هذا شأنه فما ذا يكون حاله يوم يتجلى الجبار ، ويرتفع الستار) ؟ .
_____________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص519-522.
دعاء على الإنسان وتعجيب من مبالغته في الكفر بربوبية ربه وإشارة إلى أمره حدوثا وبقاء فإنه لا يملك لنفسه شيئا من خلق وتدبير بل الله سبحانه هو الذي خلقه من نطفة مهينة فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره فهو سبحانه ربه الخالق له المدبر لأمره مطلقا وهو في مدى وجوده لا يقضي ما أمره به ربه ولا يهتدي بهداه.
ولو نظر الإنسان إلى طعامه فقط وهو مظهر واحد من مظاهر تدبيره وغرفة من بحار رحمته رأى من وسيع التدبير ولطيف الصنع ما يبهر عقله ويدهش لبه ووراء ذلك نعم لا تعد - وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها -.
فستره تدبير ربه وتركه شكر نعمته عجيب وإن الإنسان لظلوم كفار وسيرون تبعة شكرهم وكفرهم من السرور والاستبشار أو الكآبة وسواد الوجه.
والآيات - كما ترى - لا تأبى الاتصال بما قبلها سياقا واحدا وإن قال بعضهم إنها نزلت لسبب آخر كما سيجيء.
قوله تعالى: {قتل الإنسان ما أكفره} دعاء على الإنسان لما أن في طبعه التوغل في اتباع الهوى ونسيان ربوبية ربه والاستكبار عن اتباع أوامره.
وقوله {ما أكفره} تعجيب من مبالغة في الكفر وستر الحق الصريح وهو يرى أنه مدبر بتدبير الله لا يملك شيئا من تدبير أمره غيره تعالى.
فالمراد بالكفر مطلق ستر الحق وينطبق على إنكار الربوبية وترك العبادة ويؤيده ما في ذيل الآية من الإشارة إلى جهات من التدبير الربوبي المتناسبة مع الكفر بمعنى ستر الحق وترك العبادة، وقد فسر بعضهم الكفر بترك الشكر وكفران النعمة وهو وإن كان معنى صحيحا في نفسه لكن الأنسب بالنظر إلى السياق هو المعنى المتقدم.
قال في الكشاف: {قتل الإنسان} دعاء عليه وهي من أشنع دعواتهم لأن القتل قصارى شدائد الدنيا وفظائعها و{ما أكفره} تعجب من إفراطه في كفران نعمة الله ولا ترى أسلوبا أغلظ منه، ولا أخشن مسا، ولا أدل على سخط، ولا أبعد شوطا في المذمة مع تقارب طرفيه، ولا أجمع للأئمة على قصر متنه، انتهى.
وقيل جملة {ما أكفره} استفهامية والمعنى ما هو الذي جعله كافرا، والوجه المتقدم أبلغ.
قوله تعالى: {من أي شيء خلقه} معناه على ما يعطيه المقام من أي شيء خلق الله الإنسان حتى يحق له أن يطغى ويستكبر عن الإيمان والطاعة، وحذف فاعل قوله: {خلقه} وما بعده من الأفعال للإشعار بظهوره فمن المعلوم بالفطرة - وقد اعترف به المشركون - أن لا خالق إلا الله تعالى.
والاستفهام بداعي تأكيد ما في قوله: {ما أكفره} من العجب - والعجب إنما هو في الحوادث التي لا يظهر لها سبب - فأفيد أولا: أن من العجب إفراط الإنسان في كفره ثم سئل ثانيا: هل في خلقته إذ خلقه الله ما يوجب له الإفراط في الكفر فأجيب بنفيه وأن لا حجة له يحتج بها ولا عذر يعتذر به فإنه مخلوق من ماء مهين لا يملك شيئا من خلقته ولا من تدبير أمره في حياته ومماته ونشره، وبالجملة الاستفهام توطئة للجواب الذي في قوله: {من نطفة خلقه} إلخ.
قوله تعالى: {من نطفة خلقه فقدره} تنكير {نطفة} للتحقير أي من نطفة مهينة حقيرة خلقة فلا يحق له وأصله هذا الأصل أن يطغى بكفره ويستكبر عن الطاعة.
وقوله {فقدره} أي أعطاه القدر في ذاته وصفاته وأفعاله فليس له أن يتعدى الطور الذي قدر له ويتجاوز الحد الذي عين له فقد أحاط به التدبير الربوبي من كل جانب ليس له أن يستقل بنيل ما لم يقدر له.
قوله تعالى: {ثم السبيل يسره} ظاهر السياق المقصود به نفي العذر من الإنسان في كفره واستكباره أن المراد بالسبيل - وقد أطلق - السبيل إلى طاعة الله وامتثال أوامره وإن شئت فقل: السبيل إلى الخير والسعادة.
فتكون الآية في معنى دفع الدخل فإنه إذا قيل: {من نطفة خلقه فقدره} أمكن أن يتوهم السامع أن الخلق والتقدير إذا كانا محيطين بالإنسان من كل جهة كانت أفعال الإنسان لذاته وصفاته مقدرة مكتوبة ومتعلقة لمشية الربوبية التي لا تتخلف فتكون أفعال الإنسان ضرورية الثبوت واجبة التحقق والإنسان مجبرا عليها فاقدا للاختيار فلا صنع للإنسان في كفره إذا كفر ولا في فسقه إذا فسق ولم يقض ما أمره الله به وإنما ذلك بتقديره تعالى وإرادته فلا ذم ولا لائمة على الإنسان ولا دعوة دينية تتعلق به لأن ذلك كله فرع للاختيار ولا اختيار.
فدفع الشبهة بقوله: {ثم السبيل يسره} ومحصله أن الخلق والتقدير لا ينافيان كون الإنسان مختارا فيما أمر به من الإيمان والطاعة له طريق إلى السعادة التي خلق لها فكل ميسر لما خلق له وذلك أن التقدير واقع على الأفعال الإنسانية من طريق اختياره، والإرادة الربوبية متعلقة بأن يفعل الإنسان بإرادته واختياره كذا وكذا فالفعل صادر عن الإنسان باختياره وهو بما أنه اختياري متعلق للتقدير.
فالإنسان مختار في فعله مسئول عنه وإن كان متعلقا للقدر، وقد تقدم البحث عن هذا المعنى كرارا في ذيل الآيات المناسبة له في هذا الكتاب.
وقيل: المراد بتيسير السبيل تسهيل خروج الإنسان من بطن أمه والمعنى ثم سهل للإنسان سبيل الخروج وهو جنين مخلوق من نطفة.
وقيل: المراد الهداية إلى الدين وتبين طريق الخير والشر كما قال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10] والوجه المتقدم أوجه.
قوله تعالى: {ثم أماته فأقبره} الإماتة إيقاع الموت على الإنسان، والمراد بالإقبار دفنه في القبر وإخفاؤه في بطن الأرض وهذا بالبناء على الغالب الذي جرى عليه ديدن الناس وبهذه المناسبة نسب إليه تعالى لأنه تعالى هو الذي هداهم إلى ذلك وألهمهم إياه فللفعل نسبة إليه كما له نسبة إلى الناس.
وقيل: المراد بالإقبار جعله ذا قبر ومعنى جعله ذا قبر أمره تعالى بدفنه تكرمة له لتتوارى جيفته فلا يتأذى بها الناس ولا يتنفروا.
والوجه المتقدم أنسب لسياق الآيات المسرود لتذكير تدبيره تعالى التكويني للإنسان دون التدبير التشريعي الذي عليه بناء هذا الوجه.
قوله تعالى: {ثم إذا شاء أنشره} في المجمع،: الإنشار الإحياء للتصرف بعد الموت كنشر الثوب بعد الطي.
انتهى، فالمراد به البعث إذا شاء الله، وفيه إشارة إلى كونه بغتة لا يعلمه غيره تعالى.
قوله تعالى: {كلا لما يقض ما أمره} الذي يعطيه السياق أن {كلا} ردع عن معنى سؤال يستدعيه السياق ويلوح إليه قوله: {لما يقض ما أمره} كأنه لما أشير إلى أن الإنسان مخلوق مدبر له تعالى من أول وجوده إلى آخره من خلق وتقدير وتيسير للسبيل وإماتة وإقبار وإنشار وكل ذلك نعمة منه تعالى سئل فقيل: فما ذا صنع الإنسان والحال هذه الحال وهل خضع للربوبية أوهل شكر النعمة فأجيب وقيل: كلا، ثم أوضح فقيل: لما يقض ما أمره الله به بل كفر وعصى.
فقد ظهر مما تقدم أن ضمير {يقض} للإنسان والمراد بقضائه إتيانه بما أمر الله به، وقيل: الضمير لله تعالى والمعنى لما يقض الله لهذا الكافر أن يأتي بما أمره به من الإيمان والطاعة بل إنما أمره بما أمر إتماما للحجة، وهو بعيد.
وظهر أيضا أن ما في الآيات من الذم واللائمة إنما هو للإنسان بما في طبعه من الإفراط في الكفر كما في قوله: { إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34] فينطبق على من تلبس بالكفر وأفرط فيه بالعناد ومنه يظهر عدم استقامة ما نقل عن بعضهم أن الآية على العموم في الكافر والمسلم لم يعبده أحد حق عبادته.
وذلك أن الضمير للإنسان المذكور في صدر الآيات بما في طبعه من داعية الإفراط في الكفر وينطبق على من تلبس به بالفعل.
قوله تعالى: {فلينظر الإنسان إلى طعامه} متفرع على ما تقدم تفرع التفصيل على الإجمال ففيه توجيه نظر الإنسان إلى طعامه الذي يقتات به ويستمد منه لبقائه وهو واحد مما لا يحصى مما هيأه التدبير الربوبي لرفع حوائجه في الحياة حتى يتأمله فيشاهد سعة التدبير الربوبي التي تدهش لبه وتحير عقله، وتعلق العناية الإلهية - على دقتها وإحاطتها - بصلاح حاله واستقامة أمره.
والمراد بالإنسان - كما قيل - غير الإنسان المتقدم المذكور في قوله: {قتل الإنسان ما أكفره} فإن المراد به خصوص الإنسان المبالغ في الكفر بخلاف الإنسان المذكور في هذه الآية المأمور بالنظر فإنه عام شامل لكل إنسان، ولذلك أظهر ولم يضمر.
قوله تعالى: {إنا صببنا الماء صبا - إلى قوله - ولأنعامكم} القراءة الدائرة {أنا} بفتح الهمزة وهو بيان تفصيلي لتدبيره تعالى طعام الإنسان نعم هو مرحلة ابتدائية من التفصيل وأما القول المستوفى لبيان خصوصيات النظام الذي هيأ له هذه الأمور والنظام الوسيع الجاري في كل من هذه الأمور والروابط الكونية التي بين كل واحد منها وبين الإنسان فمما لا يسعه نطاق البيان عادة.
وبالجملة قوله: {إنا صببنا الماء صبا} الصب إراقة الماء من العلو، والمراد بصب الماء إنزال الأمطار على الأرض لإنبات النبات، ولا يبعد أن يشمل إجراء العيون والأنهار فإن ما في بطن الأرض من ذخائر الماء إنما يتكون من الأمطار.
وقوله: {ثم شققنا الأرض شقا} ظاهره شق الأرض بالنبات الخارج منها ولذا عطف على صب الماء بثم وعطف عليه إنبات الحب بالفاء.
وقوله: {فأنبتنا فيها حبا} ضمير {فيها} للأرض، والمراد بالحب جنس الحب الذي يقتات به الإنسان كالحنطة والشعير ونحوهما وكذا في العنب والقضب وغيرهما.
وقوله: {وعنبا وقضبا} العنب معروف، ويطلق على شجر الكرم ولعله المراد في الآية ونظيره الزيتون.
والقضب هو الغض الرطب من البقول الذي يأكله الإنسان يقضب أي يقطع مرة بعد أخرى، وقيل: هوما يقطع من النبات فتعلف به الدواب.
وقوله: {وزيتونا ونخلا} معروفان.
وقوله: {وحدائق غلبا} الحدائق جمع حديقة وهي على ما فسر البستان المحوط والغلب جمع غلباء يقال: شجرة غلباء أي عظيمة غليظة فالحدائق الغلب البساتين المشتملة على أشجار عظام غلاظ.
وقوله: {وفاكهة وأبا} قيل: الفاكهة مطلق الثمار، وقيل: ما عدا العنب والرمان.
قيل: إن ذكر ما يدخل في الفاكهة أولا كالزيتون والنخل للاعتناء بشأنه والأب الكلاء والمرعى.
وقوله: {متاعا لكم ولأنعامكم} مفعول له أي أنبتنا ما أنبتنا مما تطعمونه ليكون تمتيعا لكم وللأنعام التي خصصتموها بأنفسكم.
والالتفات عن الغيبة إلى الخطاب في الآية لتأكيد الامتنان بالتدبير أو بإنعام النعمة.
قوله تعالى: {فإذا جاءت الصاخة} إشارة إلى ما ينتهي إليه ما ذكر من التدبير العام الربوبي للإنسان بما أن فيه أمرا ربوبيا إلهيا بالعبودية يقضيه الإنسان أولا يقضيه وهو يوم القيامة الذي يوفى فيه الإنسان جزاء أعماله.
والصاخة: الصيحة الشديدة التي تصم الأسماع من شدتها، والمراد بها نفخة الصور.
قوله تعالى: {يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه} إشارة إلى شدة اليوم فالذين عدوا من أقرباء الإنسان وأخصائه هم الذين كان يأوي إليهم ويأنس بهم ويتخذهم أعضادا وأنصارا يلوذ بهم في الدنيا لكنه يفر منهم يوم القيامة لما أن الشدة أحاطت به بحيث لا تدعه يشتغل بغيره ويعتني بما سواه كائنا من كان فالبلبلة إذا عظمت واشتدت وأطلت على الإنسان جذبته إلى نفسها وصرفته عن كل شيء.
والدليل على هذا المعنى قوله بعد: {لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه} أي يكفيه من أن يشتغل بغيره.
وقيل: في سبب فرار الإنسان من أقربائه وأخصائه يومئذ وجوه أخر لا دليل عليها أغمضنا عن إيرادها.
قوله تعالى: {وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة} بيان لانقسام الناس يومئذ إلى قسمين: أهل السعادة وأهل الشقاء، وإشارة إلى أنهم يعرفون بسيماهم في وجوههم وإسفار الوجه إشراقه وإضاءته فرحا وسرورا واستبشاره تهلله بمشاهدة ما فيه البشرى.
قوله تعالى: {ووجوه يومئذ عليها غبرة} هي الغبار والكدورة وهي سيماء الهم والغم.
قوله تعالى: {ترهقها قترة} أي يعلوها ويغشاها سواد وظلمة، وقد بين حال الطائفتين في الآيات الأربع ببيان حال وجوههما لأن الوجه مرآة القلب في سروره ومساءته.
قوله تعالى: {أولئك هم الكفرة الفجرة} أي الجامعون بين الكفر اعتقادا والفجور وهو المعصية الشنيعة عملا أو الكافرون بنعمة الله الفاجرون، وهذا تعريف للطائفة الثانية وهم أهل الشقاء ولم يأت بمثله في الطائفة الأولى وهم أهل السعادة لأن الكلام مسوق للإنذار والاعتناء بشأن أهل الشقاء.
___________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج20 ، ص181-186.
على الرغم من توفير مختلف وسائل الهداية إلى اللّه، ومنها ما في صحف المكرمة من تذكير وتوجيه.. ولكنّ الإنسان يبقى عنيداً متمرداً: {قتل الإنسان ما أكفره}(2).
«الكفر»: في هذا الموضع قد يحتمل على ثلاثة معان... عدم الإيمان، الكفران وعدم الشكر... جحود الحق وستره بأيّ غطاء كان وعلى كلّ المستويات، وهو المعنى الجامع والمناسب للآية، لأنّها تعرضت لأسباب الهداية والإيمان، فيما تتحدث الآيات التي تليها عن بيان النعم الإلهية التي لا تُعد ولا تُحصى.
{قتل الإنسان}: كناية عن شدّة غضب الباري جلّ وعلا، وزجره لمن يكفر بآياته.
ثمّ يتعرض البيان القرآني إلى غرور الإنسان الواهي، والذي غالباً ما يوقع صاحبه في هاوية الكفر والجحود السحيقة: {من أيّ شيء خلقه}؟
لقد خلقه من نطفة قذرة حقيرة، ثمّ صنع منه مخلوقاً موزوناً مستوياً قدّر فيه جميع اُموره في مختلف مراحل حياته: {من نطفة خلقه فقدّره}.
فَلِمَ لا يتفكر الإنسان بأصل خلقته؟!
لِمَ ينسى تفاهة مبدأه؟!
ألاَ يجدر به أن يتأمل في قدرة الباري سبحانه، وكيف جعله موجوداً بديع الهيئة والهيكل من تلك النطفة الحقيرة القذرة!! ألا يتأمل!!..
فالنظرة الفاحصة الممعنة في خلق الإنسان من نطفة قذرة وتحويله إلى هيئته التامّة المقدرة من كافة الجهات، ومع ما منحه اللّه من مواهب واستعدادات... لأفضل دليل يقودنا بيسر إلى معرفته جلّ اسمه.
«قَدَّره»: من (التقدير)، وهو الحساب في الشيء... وكما بات معلوماً أنّ أكثر من عشرين نوعاً من الفلزات وأشباه الفلزات داخلة في التركيب (البيولوجي) للإنسان، ولكلّ منها مقداراً معيناً ومحسوباً بدقّة متناهية من حيث الكمية الكيفية، بل ويتجاوز التقدير حدّ البناء الطبيعي للبدن ليشمل حتى الإستعدادات والغرائز والميول المودعة في الإنسان الفرد، بل وفي المجموع العام للبشرية، وقد وضع الحساب في مواصفات تكوينية ليتمكن الإنسان بواسطتها من الوصول إلى السعادة الإنسانية المرجوة.
وتتجلّى عظمة تقدير الخالق سبحانه في تلك النطفة الحقيرة القذرة التي تتجلّى بأبهى صورها جمالاً وجلالاً، حيث لو جمعنا الخلايا الأصلية للإنسان (الحيامن) لجميع البشر، ووضعناها في مكان واحد، لكانت بمقدار حمصة! نعم... فقد اُودعت في هذا المخلوق العاقل الصغير كلّ هذه البدائع والقابليات.
وقيل: التقدير بمعنى التهيئة.
وثمّة احتمال آخر، يقول التدير بمعنى إيجاد القدرة في هذه النطفة المتناهية في الصغر.
فما أجلّ الإله الذي الذي جعل في موجود ضعيف كلّ هذه القدرة والإستطاعة، فترى النطفة بعد أن تتحول إلى الإنسان تسير وتتحرك بين أقطار السماوات والأرض، وتغوص في أعماق البحار وقد سخرت لها كلّ ما يحيط بها من قوى(3).
ولا مانع من الأخذ بالتفاسير الثلاث جملةً واحدةً.
ويستمر القرآن في مشوار المقال: (ثمّ السبيل يسّره)... يسّر له طريق تكامله حينما كان جنيناً في بطن اُمّه، يسّر له سبيل خروجه إلى الحياة من ذلك العالم المظلم.
ومن عجيب خلق الإنسان أنّه قبل خروجه من بطن اُمّه يكون على الهيئة التالية: رأسه إلى الأعلى ورجليه إلى الأسفل، ووجهه متجهاً صوب ظهر اُمّه، وما أنْ تحين ساعة الولادة حتى تنقلب هيئة فيصبح رأسه إلى الأسفل كي تسهل وتتيسّر ولادته! وقد تشذ بعض حالات لولادة، بحيث يكون الطفل في بطن اُمّه في هيئة مغايرة للطبيعة، ممّا تسبب كثير من السلبيات على وضع الاُم عموماً.
وبعد ولادته: يمرّ الإنسان في مرحلة الطفولة التي تتميز بنموه الجسمي، ثمّ مرحلة نمو الغرائز، فالرشد في مسير الهداية الايمانية والروحية، ويساهم العقل ودعوة الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام) في تركيز معالم شخصية وبناء الإنسان ورحياً وإيمانياً.
وبلاغة بيان القرآن قد جمعت كلّ ذلك في جملة واحدة: (ثمّ السبيل يسّره).
والملفت للنظر أنّ الآية المباركة تؤكّد على حرية اختيار الإنسان حين قالت أنّ اللّه تعالى يسّر وسهّل له الطريق الى الحق، ولم تقل أنّه تعالى أجبره على
سلوك ذلك الطريق.
وتشير الآية التالية إلى الأمر الحتمي الذي به تطوى آخر صفحات مشوار الحياة الدنيا: {ثمّ أماته فأقبره}.
ومن المعلوم أنّ «الإماتة» من اللّه تعالى والدفن على ظاهره من عمل الإنسان، ولمّا كانت عملية الدفن تحتاج إلى نسبة من الذكاء والعقل بالإضافة إلى توفر بعض المستلزمات الضرورية لذلك، فقد نسب الدفن «فاقبره» إلى اللّه تعالى.
وقيل: نسب اللّه ذلك إليه، باعتبار تهيئة الأرض قبراً للإنسان.
قيل: تمثل الآية حكماً شرعياً، وأمراً إلهياً في دفن الأموات.
وعلى أيّة حال، فالدفن من عناية ولطف وتكريم اللّه للإنسان، فلولا أمره سبحانه بالدفن لبقيت أجساد الإنسان الميتة على الأرض وتكون عرضة للتعفن والتفسخ وطعماً للحيوانات الضارية والطيور الجارحة، فيكون الإنسان والحال هذه في موضع الذّلة والمهانة، ولكنّ لطف الباري عزّوجلّ على الإنسان في حياته وبعد مماته أوسع ممّا يلتفت فيه الإنسان لنفسه أيضاً.
وحكم دفن الأموات (بعد الغسل والتكفين والصلاة)، يبيّن لنا... إنّه ينبغي على الإنسان أن يكون طاهراً محترماً في موته، فكيف به يا تُرى وهو حيّ؟!
وذكر الموت في الآية باعتباره نعمة ربّانية، أضفى بها الباري على الإنسان.. وبنظرة تأملية فاحصة سنجد حقيقة ذلك، فالموت في حقيقته عبارة عن:
أوّلاً: مقدمة للخلاص من أتعاب وصعاب هذا العالم، والإنتقال إلى عالم أوسع.
ثانياً: فسح المجال لتعاقب الأجيال على الحياة الدنيا لمتابعة مشوار التكامل البشري بصورة عامّة، ولولا الموت لضاقت الأرض بأهلها، ولما كان ممكناً أنْ تستمر عجلة الحياة على الأرض.
وأشارت الآيات (26 ـ 28) من سورة الرحمن إلى نعمة الموت، بالقول: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن: 26 - 28] ؟!
فالموت على ضوء الآية المباركة من مفردات النعم الكبيرة للباري جلّ شأنه على البشرية.
نعم.. فالدنيا وجميع ما تحويه من نعم ربّانية لا تتعدى كونها سجن المؤمن، والخروج منها إطلاق سراح من هذا السجن الكئيب.
وإذا كانت النعم سبباً لوقوع الإنسان في غفلة عن اللّه، فالموت خير رادع لايقاظه وتحذيره من الوقوع في ذلك الشَرَك، فهو والحال هذه نعمة جليلة الشأن.
أضف إلى ذلك كلّه، إنّ الحياة لو دامت فسوف لا يجني الإنسان منها سوى الملل والتعب، فهي ليست كالآخرة التي تحمل بين ثناياها النشاط والسعادة الأبدية.
وينتقل البيان القرآني إلى يوم القيامة: {ثمّ إذا شاء أنشره}.
«أنشره»: من (النشر)، بمعنى الانبساط بعد الجمع، فالكلمة تشير بأسلوب بلاغي رائع إلى جمع كلّ حياة الإنسان عند الموت لتنشر في محيط أكبر وأعلى (يوم القيامة).
ومع أنّ الآية السابقة لم تشر إلى مشيئة اللّه في عمليتي الموت والإقبار (ثمّ أماته فأقبره)، إلاّ أنّ «النشر» قد اقترن بمشيئته سبحانه في الآية المبحوثة (ثمّ إذا شاء أنشره).. يمكن حمل ذلك على كون إشارة لعدم معرفة أيّ مخلوق بوقت حدوث يوم القيامة، وأمّا الموت فهو معروف إجمالاً، حيث كلّ إنسان يموت بعد عمر طبيعي.
وتأتي الآية الأخيرة من الآيات المبحوثة لتبيّن لنا ما يؤول إليه الإنسان من ضياع في حال عدم اعتباره بكلّ ما أعطاه اللّه من المواهب، فالرغم من حتمية تسلسل حياة الإنسان من نطفة حقيرة، مروراً بما يطويه من صفحات الزمن العابرة، حتى يموت ويقبر، لكنّه.. {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ } [عبس: 23] (4).
جاءت «لمّا»، ـ التي عادة ما يستعمل للنفي المصاحب لما ينتظر ويتوقع ـ كإشارة إلى ما وضع تحت اختيار وعين الإنسان من نعم إلهية وهداية ربّانية وأسباب التذكير، لأجل أن يرجع الإنسان إلى ما فطر عليه ويؤدي ما عليه من مسؤولية وتكاليف، ولكنّه مع كلّ ذلك فلا زال غير مؤد لما عليه!
وثمّة احتمالات فيمن عنتهم الآية:
الأوّل: إنّهم السائرون في طريق الكفر والنفاق، إنكار الحق، الظلم والعصيان، بقرينة الآية (34) من سورة إبراهيم: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34].
الثّاني: إنّهم جميع البشر.. لأنّ المؤمن والكافر يلتقون معاً في عدم بلوغهما لدرجة العبودية الحقة والطاعة الكاملة التي تليق بجلالة وعظمة ولطف الباري جلّ شأنه.
وقوله تعالى : {فَلْيَنْظُرِ الاْنْسَنُ إِلَى طَعَامِهِ(24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبَّاً(25) ثُمَّ شَقَقْنَا الاَْرْضَ شَقَّاً(26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبَّاً(26) وَعِنَباً وَقَضْباً (28)وَزَيْتُونَاً وَنَخْلاً(29) وَحَدَآئِقَ غُلْباً(30) وَفَكِهَةً وَأَبَّاً(31) مَتَعاً لَكُمْ وَلاَِنْعَمِكُمْ}
فلينظر الإنسان إلى طعامه:
تحدثت الآيات السابقة حول مسألة المعاد، والآيات القادمة تتناول نفس الموضوع بشكل أوضح، ويبدو أنّ الآيات المبحوثة ـ وانسياقاً مع ما قبلها وما بعدها ـ تتطرق لذات لبحث تبيّن مفردات قدرة الباري جلّ شأنه على كلّ شيء كدليل على إمكان تحقق المعاد، فما يقرّب إمكانية القيامة إلى الأذهان هو إحياء الأراضي الميتة بإنزال المطر عليها، العملية تمثل إحياء بعد موت مختصة في عالم النبات.
ثمّ إن البيان القرآني في الآيات أعلاه قد طرح بعض مفردات الأغذية التي جعلها اللّه تحت تصرف الإنسان والحيوان، لتثير عند الإنسان الإحساس بضرورة شكر المنعم الواهب، وهذا الإحساس بدوره سيدفع الإنسان ليتقرب في معرفة بارئه ومصوّره.
وشرعت الآيات بقولها: {فلينظر الإنسان إلى طعامه}(5) كيف خلقه اللّه تعالى؟!
الغذاء من أقرب الاشياء الخارجية من الإنسان وأحد العوامل الرئيسية في بناء بدنه، ولولاه لتقطّعت أنفاس الإنسان وأسدلت ستارة نصيبه من الحياة، ولذلك جاء التأكيد القرآني على الغذاء وبالذات النباتي منه من دون بقية العوامل المسخرة لخدمة هذا المخلوق الصغير في حجمه.
ومن الجلي أنّ «النظر» المأمور به في الآية جاء بصيغة المجاز، واُريد به التأمل والتفكير في بناء هذه المواد الغذائية، وما تحويه من تركيبات حياتية، وما لها من تأثيرات مهمّة وفاعلة في وجود الإنسان، وصولاً إلى حال التأمل في أمر خالقها جلّ وعلا.
أمّا ما احتمله البعض، من كون «النظر» في الآية هو النظر الظاهري (أي المعنى الحقيقي للكلمة)، وعلى أساس طبي، حيث أنّ النظر إلى الغذاء يثير إلى الغدد الموجودة في الفم لإفراز موادها كي تساعد عملية هضمه في المعدة، فيبدو هذا الإحتمال بعيداً جدّاً، لأنّ سياق الآية وبربطها بما قبلها وما بعدها من الآيات لا ينسجم مع هذا الإحتمال.
وبطبيعة الحال إنّ الذين يميلون إلى هذا الإحتمال هم علماء التغذية الذين ينظرون إلى القرآن الكريم من زاوية تخصصهم لا غير.
وقيل أيضاً: نظر الإنسان إلى غذاءه في حال جلوسه حول مائدة الطعام، النظر إلى كيفية حصوله... فهل كان من حلال أم من حرام؟ هل هو مشروع أم غير مشروع؟ أيْ ينظر إلى طعامه من جانبيه الأخلاقي والتشريعي.
وقد ذُكِرَ في بعض روايات أهل البيت(عليهم السلام)، إنّ المراد بـ «الطعام» في الآية هو(العلم) لأنّه غذاء الروح الإنسانية.
ومن هذه الروايات ما روي عن الإمام الباقر(عليه السلام) في تفسير الآية، إنّه قال: «علمه الذي يأخذه عمن يأخذه»(6).
وقد روي عن الإمام الصادق(عليه السلام) ما يشابه معنى الرواية أعلاه(7).
وإذا كان المستفاد من ظاهر الآية هو الطعام الذي يدخل في عملية بناء الجسم، فلا يمنع من تعميمه ليشمل الغذاء الروحي أيضاً، لأنّ الإنسان في تركيبته مكوّن من جسم وروح، فكما أنّ الجسم يحتاج إلى الغذاء المادي فكذا الروح بحاجة إلى الغذاء المعنوي.
وفي الوقت الذي ينبغي على الإنسان أنْ يكون فيه دقيقاً متابعاً لأمر غذائه وباحثاً عن منبعه: وهو المطر المحيي الأرض بعد موتها (كما سيأتي في الآيات التالية)، فعليه أيضاً أنْ يهتم في أمر غذاءه الروحي وباحثاً في منشئه، وهو غيث الوحي الإلهي النازل على قلب الحبيب المصطفى(صلى الله عليه وآله وسلم)، والذي خزن في صدور المعصومين(عليهم السلام) من بعده، حيث ينبع من صفحات قلوبهم الطاهرة ليسقي الموات عسى أن تثمر ألوان الثمار الإيمانية اللذيذة من فضائل أخلاقية وعقائدية.
نعم... ينبغي على الإنسان أنْ يكون دقيقاً في متابعة مصدر ومنبع علمه ليطمئن لغذائه الروحي، وليأمن بالنتيجة من مدلهمات الخطوب التي تؤدي لمرض الروح أو هلاكها.
وبواسطة الدلالة الالتزامية، يستفاد من الآية المباركة ضرورة النظر في حليّة وحرمة الغذاء، وذلك عن طريق قياس الأولوية.
وثَمّة مَنْ يقول: إنّ المعنى كلٌّ من «الطعام» و«النظر» من الوسع بحيث يشمل كلّ ما ذكره أعلاه، ولكنْ.. مَنْ المخاطب في الآية؟
الجميع مخاطبون، سواء كانوا مؤمنين أو كافرين، فعلى كلّ إنسان أنْ ينظر إلى طعامه ويتفكر فيما أودع فيه من أسرار وعجائب كماً وكيفيةً، وعسى الضال ـ والحال هذه ـ أن يجد ضالته فيترك طريق الضلال ويسلك طريق الحقّ، ولكي يزداد المؤمنون إيماناً.
فالأغذية بما تحمل وتقدم تعتبر عالماً مضيئاً وآيات باهرة تنير درب الباحثين عن الحق في لجج الضياع والجهالة، وتوصل الباحثين عن الأمان إلى شاطئ النجاة.
ثمّ يدخل القرآن في شرح تفصيلي لماهية الغذاء ومصدر تشكيله، فيقول {أنّ صببنا الماء صبّاً}.
«الصب»: إراقة الماء من أعلى، وجاء هنا بمعنى هطول المطر.
و «صباً»: تأكيد، وللإشارة إلى غزارة الماء.
نعم.. فالماء مصدر رئيسي للحياة، وهو على الدوام ينزل من السماء وبغزارة ليجسد لطف اللّه تعالى على خلقه.
كيف لا، وكلّ العيون والآبار والقنوات والأنهار قد استمدت أساس وجودها من الأمطار.
وعليه.. فلابدّ للإنسان حين ينظر إلى طعامه أن يربط ذلك بنظام المطر، ويدقق النظر في عملية تكوين الغيوم وكيفية حدوث الأمطار.
فالماء المتبخر من سطح البحار، يتجمع في الفضاء على شكل غيوم، وتتحرك تلك الغيوم بفعل الرياح إلى طبقات الجو الباردة، فتبدأ بعملية التكاثف حتى تصل لدرجة الهطول، فترى ذلك البخار وقد تحول إلى قطرات ماء زلال خال من أيّ أملاح مضرة وقد تطهر عن كلّ قذارة، وليستقر في آخر مطافه على الأرض ليعطيها القوّة والحركة والحياة.
وبعد ذكر نعمة الماء وما له من أثر حيوي ومهم في نمو النباتات، ينتقل البيان القرآني إلى الأرض، فيقول: (ثمّ شققنا الأرض شقّاً).
يذهب أكثر المفسّرين إلى أنّ الآية تشير إلى عملية شقّ الأرض بواسطة النباتات التي تبدأ بالظهور على سطح الأرض بعد عملية بذر الحبوب، والعلمية بحدّ ذاتها مدعاة للتأمل، إذ كيف يمكن لهذا العشب الصغير الناعم أنْ يفتت سطح التربة مع ما لها من صلابة وخشونة! بل ونرى في المناطق الجبلية أنّ سويقات نباتاتها وقد ظهرت من بين حافات صخورها الصلدة! فأيّة قدرة هائلة قد اُودعت فيها، سبحانك يا ربّ وأنت الخلاق العليم.
وقيل: تشير الآية إلى شقّ الأرض بالآت الزرّاعة من قبل الإنسان، أو تشير إلى ما تقوم به الديدان من حرث الأرض وتشقيقها من خلال ممارساتها لنشاطاتها الحياتية المختصة بها.
صحيح أنّ الإنسان هو الذي يقوم بعملية الحرث، ولكنّ جميع أسبابه ووسائله من اللّه عزّوجلّ، لذا فقد نسبت عملية شقّ الأرض إلى الباري جلّ اسمه.
وثمّة تفسير ثالث يقول: إنّ شقّ الأرض في الآية إشارة إلى تفتت الصخور التي كانت على سطح الأرض.
ولهذا التفسير مرجحات عديدة...
وتوضيح ذلك: كان سطح الكرة الأرضية مغطى بطبقة عظيمة من الصخور، وقد تشققت تلك الطبقة الصخرية بفعل غزارة هطول الأمطار المتتالية عليها، ممّا جعلتها علس شكل ذرات منتشرة على معظم سطح الأرض، فتحولت إلى تربة صالحة للزراعة.
وحتى يومنا المعاش... نلاحظ قسماً كبيراً من الأتربة التي تحملها مياه الأنهار أو المصحوبة مع السيول، نلاحظها وقد كونت طبقات من التربة الصالحة للزراعة بعد أن تستقر على الأرض يتبخر الماء عنها أو تمتصه الأرض.
فالآية تمثل إحدى مفردات الإعجاز العلمي للقرآن، لأنّها تناولت موضوع الأمطار وتشقق الأرض وتهيئها للزراعة، بشكل علمي دقيق، والآية لم تتحدث عن شيء قد حدث، بل حدث ولا زال، يبدو أنّ هذا التفسير ينسجم مع ما تطرحه الآية التالية بخصوص عملية الإنبات.... مع ذلك، فلا ضير من قبول التفاسير الثلاثة للآية ومن جهات مختلفة.
وبعد ذكر ركنين أساسيين في عملية الإنبات ـ أي الماء والتراب ـ ينتقل القرآن بالإشارة إلى ثمانية مصادر لغذاء الإنسان أو الحيوان: {فأنبتنا فيها حبّاً}.
تعتبر الحبوب من الأغذية الرئيسية للإنسان والحيوان معاً، وتتوضح أهميتها فيما لو عمّ الجفاف ـ على سبيل المثال ـ فمدّة عام واحد، حيث يعمّ القحط وتنتشر المجاعة في كلّ مكان.
«حبّاً»: جاءت في الآية نكرة، لتعظيم شأنها، أو لتشير إلى تنوع أصناف الحبوب، وذهب البعض إلى أنّ الحنطة الشعير هما المرادان دون بقية الحبوب، ولكن ليس هناك من دليل على هذا التخصيص، وإطلاق الكلمة يدل على شمول كلّ الحبوب.
ثمّ يضيف: {وعنباً وقضباً}.
وقد اختارت الآية العنب دون البقية لما اُودع فيه من مواد غذائية غنية بالمقويات، حتى قيل عنه بأنّه غذاء كامل.
ومع أنّ «العنب» يطلق على الشجرة والثمرة، وبالرغم من ورود كلا الإستعمالين في الآيات القرآنية، لكنّ المناسب هنا الثمرة دون الشجرة.
«قضباً»: هو الخضراوت التي تحصد بين فترة اُخرى، وما اُريد منها بالذات، تلك الخضراوات التي تؤكل من غير طبخ (تؤكل طرية)، وقد جاء ذكرها بعد العنب لأهميتها الغذائية، وقد أكّد هذا المعنى علم التغذية الحديث.
وتستعمل كلمة (القضيب) بمعنى القطف والقطع أيضاً، و(القضيب): غصن الشجرة، و(سيف قاضب) بمعنى: قاطع.
وروي عن ابن عباس قوله: إن «القضيب» في هذه الآية هو(الرطب)، ولكنّ هذا المعنى بعيد جدّاً للإشارة إلى الرطب في الآية التالية.
وقيل أيضاً: «القضب» الوارد في الآية، بمعنى ثمار النباتات الزاحفة (كالخيار والبطيخ وما شابهه)، أو النباتات الأرضية (كالبصل والجزر... الخ).
ولا يبعد من إرادة كلّ الخضروات التي تؤكل طرية والنباتات الزاحفة وكذا الأرضية في معنى «القضب» المشار إليه في الآية.
ثمّ يضيف (وزيتوناً ونخلاً) ومن الواضح أنّ ذكر هاتين الفاكهتين لما لهما من الأهمية الغذائية للإنسان، حيث يعتبر الزيتون والثمر من أهم الأغذية المقوية والصحية والمفيدة للإنسان.
وتأتي المرحلة التالية: (وحدائق غلباً).
«الحدائق»: جمع (حديقة)، وهي الأرض المزروعة والمحاطة بسور يحفظها، وهي الأصل بمعنى: قطعة الأرض التي تحتوي على الماء، وسميّت حديقة تشبيهاً بحدقة العين من حيث الهيئة وحصول الماء فيها.
ويحتمل إشارة الآية إلى أنواع الفواكه، باعتبار أنّ الحدائق غالباً ما تزرع بأشجار الفاكهة.
«غلب»: على وزن (قفل)، جمع (أغلب) و(غلباء)، بمعنى غليظ الرقبة، فلآية إذَنْ ترمز إلى الأشجار الشاهقة المتينة.
ثمّ يضيف: (وفاكهة وأبّاً).
«الأبّ»: (بتشديد الباء): هو المرعى المُهيأ للرعي والحصد، وهو في الأصل بمعنى «التهيؤ»، اُطلق على المرعى لما فيه من أعشاب يكون بها مهيئاً لاستفادة الحيوانات منه.
وذكر جمع من المفسّرين ـ من كلا الفريقين ـ في ذيل الآية: إنّ عمر بن الخطاب قرأ يوماً على المنبر: (فأنبتنا فيها حبّاً وعنباً وقضياً) إلى قوله تعالى: (وأبّاً).. قال: كلّ هذا قد عرفناه، فما الأبّ! ثمّ رمى عصاً كانت في يده، فقال: هذا لعمر اللّه هو التكلف، فما عليك أنْ لا تدري ما الأبّ!! إتّبعوا ما تبيّن لكم هداه من الكتاب فاعملوا به، وما لم تعرفوه فكِلوه إلى ربّه!(8).
وأغرب من ذلك، ما ورد في (الدر المنثور) عن أبي بكر حينما سئل عن ذلك، أنّه قال: (أيُّ سماء تظلني وأيُّ أرض تقلني إذا قلت في كتاب اللّه ما لا أعلم)!
وقد اتّخذ كثير من علماء السنّة من الحديثين المذكورين على أنّه: لا ينبغي لأحد التكلم فيما لا يعلم، وعلى الأخص في كتاب اللّه.
ولكنْ، يبقى في الذهن إشكال... إذْ كيف يكون لخليفة المسلمين أنْ لا يفقه كلمة وردت في القرآن الكريم، مع كونها ليست من معضلات اللغة؟!! وهذا ما يوصلنا إلى ضرورة وجود قائد الإلهي في كلّ عصر، وأن يكون عارفاً بجميع المسائل الشرعية، ومنزّهاً عن الخطأ (معصوماً).
ولذلك، روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام)، إنّه حينما سمع بما قاله الخليفة.. قال: «سبحان اللّه أمَا عَلِمَ أنّ الأبّ هو الكلأ والمرعى، وأنّ قوله تعالى:(وفاكهة وأبّاً)اعتداد من اللّه بإنعامه على خلقه، فيما غذّاهم به، وخلقه لهم ولأنعامهم، ممّا تحيى به أنفسهم وتقوم به أجسادهم»(9).
ويواجهنا سؤال: إذا كانت الآيات السابقة ذكرت بعض أنواع الفاكهة، والآية المبحوثة تناولت الفاكهة بشكل عام، هذا بالإضافة إلى ذكر الـ «حدائق» في الآية السابقة والتي قيل أنّ ظاهرها يشير إلى الفاكهة... فَلِمَ هذا التكرار؟
الجواب: إنّ تخصيص ذكر العنب والزيتون والتمر (بقرينة ذكر النخل)، إنّما جاء ذكرها لأهميتها المميزة على بقية الفاكهة(10).
أمّا لماذا ذكرت بشكل منفصل عن الفاكهة؟ فيمكن حمله على ما للحدائق من منافع خاصّة بها، ولا تشترك الفاكهة فيها، كجمالية منظرها وعذوبة نسيمها وما شابه ذلك، بالإضافة إلى إستعمال أوراق الأشجار وجذورها وقشور جذوعها كمواد غذائية (كالشاي والزنجبيل وأمثالها)، أمّا بالنسبة للحيوانات، فأوراق الأشجار المختلفة من أفضل أغذيتها عموماً... فالآيات إذَنْ كانت في صدد الحديث عن غذاء الإنسان والحيوان.
ولذلك... جاءت الآية التالية لتوضيح هذا المعنى: {متاعاً لكم ولأنعامكم}.
«والمتاع»: هو كلّ ما يستفيد منه الإنسان ويتمتع به.
وقوله تعالى : {فَإِذَا جَآءَتِ الصَّآخَّةُ(33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ(34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ(35) وَصَحِبَتِهِ وَبَنِيهِ(36) لِكُلِّ امْرِىء مِنْهُمْ يَوْمَئِذ شَأْنٌ يُغْنِيهِ(37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذ مُّسْفِرَةٌ(38) ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ (39)وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذ عَلَيٌهَا غَبَرَةٌ(40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ(41) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ}
صيحة البعث....
وينتقل الحديث في هذه الآيات إلى يوم القيامة وتصوير حوادثه، وما سيؤول فيه من أحوال المؤمنين الكافرين، كلٌّ بما كسبت يداه وقدَّم.
فمتاع الحياة الدنيا وإنّ طال فهو قليل جدّاً في حساب حقيقة الزمن، وأنّ خالق كلّ شيء لعظيم في خلقه وشأنه، وأنّ المعاد حق ولابدّ من حتمية وقوعه.
ويقول القرآن الكريم: {فإذا جاءت الصاخة}(11)
«الصّاخة»: من (صخّ)، وهو الصوت الشديد الذي يكاد أنْ يأخذ بسمع الإنسان، ويشير في الآية إلى نفخة الصور الثّانية، وهي الصيحة الرهيبة التي تعيد الحياة إلى الموجودات بعد موتها جميعاً ليبدأ منها يوم الحشر.
نعم، فالصيحة من الشدّة بحيث تذهله عن كلّ ما كان مرتبطاً به، سوى نفسه وأعماله.
ولذا، تأتي الآية التالية، ولتقول مباشرة: {يوم يفرّ المرء من أخيه}.
ذلك الأخ الذي ما كان يفارقه وقد ارتبط به بوشائج الاُخوة الحقة!
وكذلك: (اُمّه وأبيه).
حتى: (وصاحبته وبنيه).
فوحشة ورهبة يوم القيامة لا تُنسي الأخ والاُم والأب والزوجة والأولاد فحسب، بل وتتعدى إلى الفرار منهم، وعندما ستتقطع كلّ روابط وعلاقات الإنسان الفرد مع الآخرين... فحينها سوف لا يهتم إلاّ نفسه وما قدّم، وسينسى:
اُمّه التي كانت تحبّه وتفديه..
وأبو الذي ربّاه واحترمه..
وزوجته التي لا تعرف غيره..
وأولاده.. ثمرة كبده وقرة عينه..
وقيل: إنّما يكون الفرار للتهرب من الحقوق التي لهم عليه، وهو عاجز عن أدائها.
وقيل أيضاً: إنّما يفر المؤمنون خاصّة من أقربائهم من غير المؤمنين وغير المتقين، خوفاً من الإصابة بما سيصيب اُولئك من عقاب.
ويبدو أنّ التفسير الأوّل أنسب ولا مانع من الجمع بينهما.
ولكن... ما سرّ تسلسل ذكر الأخ، ثمّ الاُمّ، فالأب من بعدها، ومن ثمّ الزوجة والأولاد؟
يعتقد بعض بأّ التسلسل قد لوحظ فيه شدّة العلاقة ما بين الفار ومَنْ يرتبط بهم، وقد تسلسل الذكر من الأدنى حتى الأعلى، ليعطي لهذا التصوير بعداً بلاغياً، فهومن أخيه، ثمّ من اُمّه وأبيه، ثمّ من زوجته وبنيه.
ولكن: يصعب الخروج بقاعدة كلية تختص في ترتيب العلائق بين الناس، فالناس ليسوا سواسية في هذا الجانب، فقد نجد من يكون مرتبطاً بأخيه أكثر من أيّ إنسان الآخر، ونجد ممن لا يقرّب على علاقته باُمّه شيء، وثمّة من تكون زوجته رمز حياته، أومَنْ يفضل ابنه حتى على نفسه... الخ.
وثمّة عوامل اُخرى تدخل في التأثير على علاقة الإنسان بأخيه وأبيه وزوجته وبنيه، وعلى ضوئها لا يمكننا ترجيح أفضلية أيّ منهم على الآخر من جميع الجهات، وعليه فلا يمكن القطع بأنّ التسلسل الوارد في الآية قد جاء على أثر أهمية وشدّة العلاقة.
ولكن.. لِمَ الفرار؟... {لكلّ امرء منهم يومئذ شأن يغنيه}.
«يغنيه»: كناية لطيفة عن شدّة انشغال الإنسان بنفسه في ذلك اليوم، ولما سيرى من حوادث مذهلة، تأخذه كاملاً، فكراً وقلباً.
وقد سئل رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) عن الحميم، وهل يذكره الرجل يوم القيامة؟ فقال: «ثلاثة مواطن لا يذكر (فيها) أحدٌ أحداً: عند الميزان، حتى ينظر أيثقل ميزانه أم يخف؟.. وعند الصراط، حتى ينظر أيجوزه أم لا؟.. وعند الصحف، حتى ينظر بيمينه يأخذ الصحف أم بشمال؟.. فهذه ثالثة مواطن لا يذكر فيها أحد حميمه ولا حبيبه ولا قريبه ولا صديقه، ولا بنيه ولا والديه، ذلك قوله تعالى: {لكلّ امرء منهم يومئذ شأن يغنيه}(12).
وينتقل البيان القرآني ليصور لنا حال العباد بقسميهم في ذلك اليوم، فتقول:
{وجوهٌ يومئذ مسفرة} أي مشرقة وصبيحة.
{ضاحكة مستبشرة}.
{ووجوهٌ يومئذ عليها غبرة}.
{ترهقها قترة} أي تغطيها ظلمات ودخان.
{اُولئك هم الكفرة الفجرة}.
«مسفرة»: من (الأسفار)، بمعنى الظهور بياض الصبح بعد ظلام الليل.
«غبرة»: على وزن (غَلَبَة)، من (الغبار).
«قترة»: من (القتار)، وهو شبه دخان يغشي من الكذب، وقد فسّره بعض أهل اللغة بـ (الغبار) أيضاً، ولكن ذكرهما في آيتين «الغبرة والقترة» متتاليتين منفصلتين يشير إلى اختلافهما في المعنى.
«الكفرة»: جمع (كافر)، والوصف يشير إلى فاسدي العقيدة.
«الفجر»: جمع (فاجر)، والوصف يشير إلى فاسدي العمل.
ونستخلص من كلّ ما تقدّم، إنّ آثار فساد العقيدة لدى الإنسان وأعماله السيئة ستظهر على وجهه يوم القيامة.
وقد اختير الوجه، لأنّه أكثر أجزاء الإنسان تعبيراً عمّاً يخالجه من حالات الغبطة والسرور أو الحزن والكآبة، فبإمكانك وبكلّ وضوح أن تعرف أنّ فلاناً مسروراً أم حزيناً من خلال رؤيتك لما انطبع على وجهه، وحالات: السرور، والحزن، والخوف، والغضب، والخجل وما شابه، لها بصمات خاصّة على ملامح وتقاسيم الوجه.
وعلى أيّة حال.. فالوجوه الضاحكة المستبشرة، تحكي عن: الإيمان وطهارة القلب وصلاح الأعمال.
وبعكس الوجوه المقابلة والدالة على: ظلام الكفر، قبح الأعمال، وكأنّ وجوههم قد غطاها الغبار، تراها مسودة، وتحيط بها هالة من الدخان..
وترى معاني الغم والألم والأسف قد تجسدت على الوجوه، كما تشير إلى ذلك الآية (41) من وسورة الرحمن: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن: 41]... فيكفي لمعرفة حال الإنسان في يوم القيامة من خلال النظر إلى وجهه.
_____________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج15، ص92-108.
2 ـ «قتل الإنسان»: نوع من اللعن، وهو أشدّها عند الزمخشري في (الكشاف). «ما»، في «ما أكفره»: للتعجب، التعجب من السير في متاهات الكفر والضلال، مع ما للحق من سبيل واضحة، وتوفير مختلف مصاديق واللطف والرحمة والرّبانية التي توصل الإنسان إلى شاطىء النجاة.
3 ـ يقول الراغب في مفردات: «قدّره (بالتشديد): أعطاه القدرة، ويقال: قدّرني اللّه على كذا وقواني عليه».
4 ـ قيل: أتت «كلاّ» هنا بمعنى (حقّاً)... إلاّ أنّ سياق الآية وظاهر الكلمة لا يؤيدان ذلك ولعل المعنى المشهور (الردع) هو المطلوب، لوجود الكثير ممن يعتقد مغروراً ومدعيّاً بأنّه قد أدّى وظائفه الشرعية على أتمّ أداء، فتأتي الآية لتقول رادعة بأنّه لم يؤدِ وظائفه بعد.
5 ـ يمكن اعتبار جملة «فلينطر»: جزاء شرط مقدّر، والتقدير: (إنّ كان الإنسان في شك من ربّه ومن البعث فلينظر إلى طعامه).
6 ـ تفسير البرهان، ج4، ص429.
7 ـ المصدر السابق.
8 ـ تفسير الآية المذكورة في: تفسير روح المعاني، تفسير القرطبي، تفسير في ظلال القرآن، الدر المنثور، وتفسير الميزان.
9 ـ إرشاد المفيد، ص107، وعنه تفسير الميزان، ج20، ص319.
10 ـ بحثنا مفصّلاً موضوع الأهمية الغذائية للزيتون والعنب والتمر في هذا التفسير ضمن تفسير الآية (11) من سورة النحل ـ فراجع.
11 ـ ثمّة احتمالات كثيرة في تعيين جزاء الشرط لهذه الجملة الشرطية... الأوّل: إنّه محذوف بدلالة الآيات التالية، التقدير: (فإذا جاءت الصاخة فما أعظم أسف لكافرين) ـ تفسير المراعي. والثاني: وفي (مجمع البيان) قيل: إنّه (لكلّ امرء منهم يومئذ شأن يغنيه). والثالث: أمّا في (روح المعاني)، فقد احتمل: إنّه مستفاد من جملة (يوم يفر المرء)، والتقدير: (فإذا جاءت الصاخة يفر المرء من أخيه).
12 ـ تفسير البرهان، ج4، ص429.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|