أقرأ أيضاً
التاريخ: 15-2-2018
4248
التاريخ: 15-2-2018
10957
|
قال تعالى : {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَونُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ } [المرسلات: 1 - 28].
{والمرسلات عرفا} يعني الرياح أرسلت متتابعة كعرف الفرس عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة وأبي صالح فعلى هذا يكون عرفا نصبا على الحال من قولهم جاءوا إليه عرفا واحدا أي متتابعين وقيل إنها الملائكة أرسلت بالمعروف من أمر الله ونهيه وفي رواية أخرى عن ابن مسعود وعن أبي حمزة الثمالي عن أصحاب علي عنه (عليه السلام) وعلى هذا يكون مفعولا له وقيل المراد بها الأنبياء جاءت بالمعروف والإرسال نقيض الإمساك.
{فالعاصفات عصفا} يعني الرياح الشديدات الهبوب والعصوف مرور الريح بشدة {والناشرات نشرا} وهي الرياح التي تأتي بالمطر تنشر السحاب نشرا للغيث كما تلحقه للمطر وقيل أنها الملائكة تنشر الكتب عن الله تعالى عن أبي حمزة الثمالي وأبي صالح وقيل أنها الأمطار تنشر النبات عن أبي صالح في رواية أخرى وقيل الرياح ينشرها الله تعالى نشرا بين يدي رحمته عن الحسن وقيل الرياح تنشر السحاب في الهواء عن الجبائي {فالفارقات فرقا} يعني الملائكة تأتي بما يفرق به بين الحق والباطل والحلال والحرام عن ابن عباس وأبي صالح وقيل هي آيات القرآن تفرق بين الحق والباطل والهدى والضلال عن الحسن وأبي حمزة وقتادة وقيل أنها الرياح التي تفرق بين السحاب فتبدده عن مجاهد.
{فالملقيات ذكرا} يعني الملائكة تلقي الذكر إلى الأنبياء وتلقيه الأنبياء إلى الأمم عن ابن عباس وقتادة كأنها الحاملات للذكر الطارحات له ليأخذه من خوطب به والإلقاء طرح الشيء على غيره {عذرا أو نذرا} أي للإعذار والإنذار ومعناه إعذارا من الله وإنذارا إلى خلقه وقيل عذرا يعتذر الله به إلى عباده في العقاب أنه لم يكن إلا على وجه الحكمة ونذرا أي إعلاما بموضوع المخافة عن الحسن وهذه أقسام ذكرها الله تعالى وقيل أقسم الله سبحانه برب هذه الأشياء عن الجبائي قال لا يجوز القسم إلا بالله سبحانه وقال غيره بل أقسم بهذه الأشياء تنبيها على عظم موقعها.
{إنما توعدون لواقع} هذا جواب القسم والمعنى أن الذي وعدكم الله به من البعث والنشور والثواب والعقاب لكائن لا محالة وقيل إن الفرق بين الواقع والكائن أن الواقع لا يكون إلا حادثا تشبيها بالحائط الواقع لأنه من أبين الأشياء في الحدوث والكائن أعم منه لأنه بمنزلة الموجود الثابت يكون حادثا وغير حادث ثم بين سبحانه وقت وقوعه فقال {فإذا النجوم طمست} أي محيت آثارها وأذهب نورها وأزيل ضوءها {وإذا السماء فرجت} أي شقت وصدعت فصار فيها فروج {وإذا الجبال نسفت} أي قلعت من مكانها كقوله سبحانه ينسفها ربي نسفا وقيل نسفت أذهبت بسرعة حتى لا يبقى لها أثر في الأرض {وإذا الرسل أقتت} أي جمعت لوقتها وهو يوم القيامة لتشهد على الأمم وهو قوله {لأي يوم أجلت} أي أخرت وضرب لهم الأجل لجمعهم تعجب العباد من ذلك اليوم عن إبراهيم ومجاهد وابن زيد وقيل أقتت معناه عرفت وقت الحساب والجزاء لأنهم في الدنيا لا يعرفون متى تكون الساعة وقيل عرفت ثوابها في ذلك اليوم وقال الصادق (عليه السلام) أقتت أي بعثت في أوقات مختلفة.
ثم بين سبحانه ذلك اليوم فقال {ليوم الفصل} أي يوم يفصل الرحمن بين الخلائق ثم عظم ذلك اليوم فقال {وما أدراك ما يوم الفصل} ثم أخبر سبحانه حال من كذب به فقال {ويل يومئذ للمكذبين} هذا تهديد ووعيد إنما خص الوعيد بمن جحدوا يوم القيامة وكذب به لأن التكذيب بذلك يتبعه خصال المعاصي كلها وإن لم يذكر معه. والعامل في الظرف محذوف يدل عليه قوله : {انما توعدون لواقع} والتقدير : فاذا طمست النجوم ، وفرجت السماء ، ونسفت الجبال ، واقتت الرسل ، وقعت القيامة .
ثم ذكر سبحانه ما فعله بالمكذبين الأولين فقال {أ لم نهلك الأولين} يعني بالعذاب في الدنيا يريد قوم نوح وعاد وثمود حين كذبوا رسلهم {ثم نتبعهم الآخرين} قوم لوط وإبراهيم لم يعطف نتبعهم على نهلك فيجزم بل استأنف وقال المبرد تقديره ثم نحن نتبعهم لا يجوز غيره لأن قوله {أ لم نهلك} ماض وقوله {ثم نتبعهم} مستقبل ويؤيده قول الحسن أن الآخرين هم الذين تقوم عليهم القيامة {كذلك نفعل بالمجرمين} أي كما فعلنا بمن تقدم نفعل بالمكذبين من أهل مكة وقد فعل بهم ذلك فقتلوا يوم بدر وقد يكون الإهلاك بتصيير الشيء إلى حيث لا يدري أين هو إما بإعدامه أو بإخفاء مكانه وقد يكون بالأمانة وقد يكون بالنقل إلى حال الجمادية.
{ويل يومئذ} يعني يوم الجزاء {للمكذبين} فإنهم يجازون باليم العقاب {أ لم نخلقكم من ماء مهين} أي حقير قليل الغناء وفي خلق الإنسان على هذا الكمال من الحواس الصحيحة والعقل الشريف والتمييز والنطق من ماء ضعيف أعظم الاعتبار وأبين الحجة على أن له صانعا مدبرا حكيما والجاحد لذلك كالمكابر لبداية العقول {فجعلناه} أي فجعلنا ذلك الماء المهين {في قرار مكين} يعني الرحم {إلى قدر معلوم} أي إلى مقدار من الوقت معلوم يعني مدة الحمل {فقدرنا} أي قدرنا خلقه كيف يكون قصيرا أو طويلا ذكرا أم أنثى.
{فنعم القادرون} أي فنعم المقدرون نحن ويجوز أن يكون المعنى إذا خفف من القدرة أي قدرنا على جميع ذلك فنعم القادرون على تدبير ذلك وعلى ما لا يقدر عليه أحد إلا نحن فحذف المخصوص بالمدح {ويل يومئذ للمكذبين} بأنا قد خلقنا الخلق وأنا نعيدهم {أ لم نجعل الأرض كفاتا} للعباد تكفتهم {أحياء} على ظهرها في دورهم ومنازلهم {و} تكفتهم {أمواتا} في بطنها أي تحوزهم وتضمهم عن قتادة ومجاهد والشعبي قال بنان خرجنا في جنازة مع الشعبي فنظر إلى الجنازة فقال هذه كفات الأموات ثم نظر إلى البيوت فقال هذه كفات الأحياء وروي ذلك عن أمير المؤمنين (عليه السلام) وقيل كفاتا أي وعاء وهذا كفته أي وعاءه وقوله {أحياء وأمواتا} أي منه ما ينبت ومنه ما لا ينبت فعلى هذا يكون أحياء وأمواتا نصبا على الحال وعلى القول الأول على المفعول به {وجعلنا فيها رواسي شامخات} أي جبالا ثابتة عالية {وأسقيناكم ماء فراتا} أي وجعلنا لكم سقيا من الماء العذب عن ابن عباس {ويل يومئذ للمكذبين} بهذه النعم وأنها من جهة الله وقيل بالأنبياء والقرآن وإنما كرر لأنه عدد النعم فذكره عند كل نعمة فلا يعد ذلك تكرارا وقد تقدم الوجه في التكرار في سورة الرحمن .
_____________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص228-232.
تعرض هذه السورة جانبا من مشاهد اليوم الآخر ، وتحذر المجرمين والمكذبين من عذابه وأهواله . . وتقدم ذلك في عشرات الآيات ، ومن أجل هذا نقتصر على التفسير اللغوي ، ونعرب بعض ما يحتاج إلى الإعراب من الكلمات جامعين بين اللغة والإعراب في فقرة واحدة على خلاف عادتنا في سائر السور .
{والْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} . قيل ، هي الملائكة . وان المراد بالعرف المعروف وانه مفعول من أجله للمرسلات ، والمعنى ان اللَّه يرسل ملائكته من أجل تبليغ الوحي للأنبياء وغير ذلك من الخيرات . وقيل المراد بالمرسلات الرياح ، وبالعرف التتابع ، وقد نصب على الحال ، والمعنى يرسل اللَّه الرياح متتابعة {فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً} . السريعات في السير ، يقال : عصفت الناقة براكبها إذا أسرعت به ، وعصفا مفعول مطلق للعاصفات {والنَّاشِراتِ نَشْراً} . تنشر الرياح السحب في الفضاء ، أو تنشر الملائكة رحمة اللَّه في خلقه {فَالْفارِقاتِ فَرْقاً} . تنزل الملائكة بآيات اللَّه التي تفرق بين الحق والباطل ، أو ان الرياح تفرق الأمطار في أنحاء الأرض {فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً} . ذكرا مفعول به للملقيات ، وعذرا أو نذرا مفعول من أجله ، وقيل : بدل من الذكر ، والأول أقرب إلى الصواب ، لأن المعنى ان اللَّه سبحانه يرسل ملائكته بالوحي لينذر به العباد ، ولا يكون لهم عليه الحجة . وقيل : ان المراد بالملقيات الرياح ، وبالذكر المطر لأنه يذكّر باللَّه ورحمته ، فالمؤمن يشكر اللَّه حين ينزل المطر ويعتذر عما سبق منه من التقصير ، والكافر يزداد طغيانا لأن المطر يزيد من ثرائه ، وبالتالي يكون المطر أو الرياح نذيرا له بعذاب أليم .
هذا ملخص ما قاله المفسرون حول هذه الكلمات أو الآيات الخمس ، ولكل وجه ، لأن اللَّه يرسل الرياح كما جاء في الآية 57 من سورة الأعراف : {وهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} وأيضا يرسل الملائكة كما جاء في الآية 75 من سورة الحج : {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا} . ومهما يكن فما نحن بمسؤولين عن هذا البحث أمام اللَّه ، ولا تمتّ معرفته إلى حياتنا بسبب ، فالأولى أن نترك ذلك لعلمه تعالى مؤمنين بأنه هو وحده مسبب الأسباب .
{إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ} . الموعود به هو يوم القيامة ، و « انما » كلمتان « ان » و « ما » الموصولة وهي اسم ان وتوعدون صلة وواقع خبر « ان » والجملة جواب القسم ، والمعنى ان الساعة آتية لا ريب فيها {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} .
ذهب ضوءها {وإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ} انفطرت كواكبها {وإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ} .
صارت هباء وذهبت مع الريح {وإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} من التوقيت ، والرسل الملائكة ، وقد جعل اللَّه لها وقتا معلوما تحضر فيه لتشهد على العباد ، ثم تسوق المتقين زمرا إلى الجنة ، والمجرمين زمرا إلى جهنم {لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} تلك الرسل ؟ {لِيَوْمِ الْفَصْلِ} بدل من لأي يوم بإعادة حرف الجر ، والاستفهام لتفخيم اليوم وشدة أهواله ، وسمي بيوم الفصل حيث يفصل فيه بين الناس بالحق بلا إجحاف ومحاباة {وما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ} . ما الذي تعرفه عن هذا اليوم الذي لا يقاس بهوله هول ؟ {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} . هذا تهديد ووعيد لمن كذب بيوم الدين ، وأيضا لمن آمن به ولم يعمل له .
{أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ} كقوم نوح لأنهم كذبوا رسولهم {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ} كقوم لوط {كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} الذين كذبوا محمدا {ص} لأن السبب واحد ، وهو الإعراض عن الحق {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} تكررت هذه الآية عشر مرات تبعا لاختلاف معنى الآية التي قبلها {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ} . أتنكرون البعث وتقولون : من يحيي العظام وهي رميم ؟ وأنتم تعلمون ان اللَّه أنشأكم من ماء حقير ، وأودعكم في ظلمات ثلاث أمدا معينا ينقلكم فيه من خلق إلى خلق ، وحدد هذا الأمد في منتهى الدقة والحكمة . . أبعد هذا كله تكفرون بأنعم اللَّه ، وتكذبون بقدرته على البعث والحساب والجزاء ؟ .
{أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وأَمْواتاً} ؟ . كفات جمع كفت ، وهو الوعاء ، وقد شبّه سبحانه الأرض بالأوعية ، والخلق بما تضمه الأوعية وتجمعه ، والمعنى ان الأرض تضم الخلائق أحياء على ظهرها ، وأمواتا في بطنها . . والأرض مفعول أول لنجعل ، وكفاتا مفعول ثان ، وأحياء وأمواتا حال من مفعول فعل مقدر أي تكفتهم الأرض أحياء وأمواتا ، وقيل : مفعول {وجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ} جبالا ثابتات عاليات كيلا تميد بكم {وأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً} عذبا ، وهو حياة لكم وللأرض ، فتفيض عليكم بالخيرات والبركات .
______________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص489-491.
تذكر السورة يوم الفصل وهو يوم القيامة وتؤكد الإخبار بوقوعه وتشفعه بالوعيد الشديد للمكذبين به والإنذار والتبشير لغيرهم ويربو فيها جانب الوعيد على غيره فقد كرر فيها قوله: {ويل يومئذ للمكذبين} عشر مرات.
والسورة مكية بشهادة سياق آياتها.
قوله تعالى: {والمرسلات عرفا} الآية وما يتلوها إلى تمام ست آيات إقسام منه تعالى بأمور يعبر عنها بالمرسلات فالعاصفات والناشرات فالفارقات فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا، والأوليان أعني المرسلات عرفا والعاصفات عصفا لا تخلوان لو خليتا ونفسهما مع الغض عن السياق من ظهور ما في الرياح المتعاقبة الشديدة الهبوب لكن الأخيرة أعني الملقيات ذكرا عذرا أو نذرا كالصريحة في الملائكة النازلين على الرسل الحاملين لوحي الرسالة الملقين له إليهم إتماما للحجة أو إنذارا وبقية الصفات لا تأبى الحمل على ما يناسب هذا المعنى.
وحمل جميع الصفات الخمس على إرادة الرياح كما هو ظاهر المرسلات والعاصفات - على ما عرفت - يحتاج إلى تكلف شديد في توجيه الصفات الثلاث الباقية وخاصة في الصفة الأخيرة.
وكذا حمل المرسلات والعاصفات على إرادة الرياح وحمل الثلاث الباقية أو الأخيرتين أو الأخيرة فحسب على ملائكة الوحي إذ لا تناسب ظاهرا بين الرياح وبين ملائكة الوحي حتى يقارن بينها في الأقسام وينظم الجميع في سلك واحد، وما وجهوه من مختلف التوجيهات معان بعيدة عن الذهن لا ينتقل إليها في مفتتح الكلام من غير تنبيه سابق.
فالوجه هو الغض عن هذه الأقاويل وهي كثيرة جدا لا تكاد تنضبط، وحمل المذكورات على إرادة ملائكة الوحي كنظيرتها في مفتتح سورة الصافات {والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا} وفي معناها قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} [الجن: 26 - 28].
فقوله: {والمرسلات عرفا} إقسام منه تعالى بها والعرف بالضم فالسكون الشعر النابت على عنق الفرس ويشبه به الأمور إذا تتابعت يقال: جاءوا كعرف الفرس، ويستعار فيقال: جاء القطا عرفا أي متتابعة وجاءوا إليه عرفا واحدا أي متتابعين، والعرف أيضا المعروف من الأمر والنهي و{عرفا} حال بالمعنى الأول مفعول له بالمعنى الثاني، والإرسال خلاف الإمساك، وتأنيث المرسلات باعتبار الجماعات أو باعتبار الروح التي تنزل بها الملائكة قال تعالى: { يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل: 2] وقال {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } [غافر: 15].
والمعنى أقسم بالجماعات المرسلات من ملائكة الوحي.
وقيل: المراد بالمرسلات عرفا الرياح المتتابعة المرسلة وقد تقدمت الإشارة إلى ضعفه، ومثله في الضعف القول بأن المراد بها الأنبياء (عليهم السلام) فلا يلائمه ما يتلوها.
قوله تعالى: {فالعاصفات عصفا} عطف على المرسلات والمراد بالعصف سرعة السير استعارة من عصف الرياح أي سرعة هبوبها إشارة إلى سرعة سيرها إلى ما أرسلت إليه، والمعنى أقسم بالملائكة الذين يرسلون متتابعين فيسرعون في سيرهم كالرياح العاصفة.
قوله تعالى: {والناشرات نشرا} إقسام آخر، ونشر الصحيفة والكتاب والثوب ونحوها: بسطه، والمراد بالنشر نشر صحف الوحي كما يشير إليه قوله تعالى {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ } [عبس: 11 - 16] والمعنى وأقسم بالملائكة الناشرين للصحف المكتوبة عليها الوحي للنبي ليتلقاه.
وقيل: المراد بها الرياح ينشرها الله تعالى بين يدي رحمته وقيل: الرياح الناشرة للسحاب، وقيل: الملائكة الناشرين لصحائف الأعمال، وقيل: الملائكة نشروا أجنحتهم حين النزول وقيل: غير ذلك.
قوله تعالى {فالفارقات فرقا} المراد به الفرق بين الحق والباطل وبين الحلال والحرام، والفرق المذكور صفة متفرعة على النشر المذكور.
قوله تعالى: {فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا} المراد بالذكر القرآن يقرءونه على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو مطلق الوحي النازل على الأنبياء المقر و عليهم.
والصفات الثلاث أعني النشر والفرق وإلقاء الذكر مترتبة فإن الفرق بين الحق والباطل والحلال والحرام يتحقق بنشر الصحف وإلقاء الذكر فبالنشر يشرع الفرق في التحقق وبالتلاوة يتم تحققه فالنشر يترتب عليه مرتبة من وجود الفرق ويترتب عليها تمام وجوده بالإلقاء.
وقوله: {عذرا أو نذرا} هما من المفعول له و{أو} للتنويع قيل: هما مصدران بمعنى الإعذار والإنذار، والإعذار الإتيان بما يصير به معذورا والمعنى أنهم يلقون الذكر لتكون عذرا لعباده المؤمنين بالذكر وتخويفا لغيرهم.
وقيل: ليكون عذرا يعتذر به الله إلى عباده في العقاب أنه لم يكن إلا على وجه الحكمة، ويئول إلى إتمام الحجة، فمحصل المعنى عليه أنهم يلقون الذكر ليكون إتماما للحجة على المكذبين وتخويفا لغيرهم، وهو معنى حسن.
قوله تعالى: {إنما توعدون لواقع} جواب القسم، وما موصولة والخطاب لعامة البشر، والمراد بما توعدون يوم القيامة بما فيه من العقاب والثواب والواقع أبلغ من الكائن لما فيه من شائبة الاستقرار، والمعنى أن الذي وعدكم الله به من البعث والعقاب والثواب سيتحقق لا محالة.
كلام في إقسامه تعالى في القرآن
من لطيف صنعة البيان في هذه الآيات الست أنها مع ما تتضمن الإقسام لتأكيد الخبر الذي في الجواب تتضمن الحجة على مضمون الجواب وهو وقوع الجزاء الموعود فإن التدبير الربوبي الذي يشير إليه القسم أعني إرسال المرسلات العاصفات ونشرها الصحف وفرقها وإلقاءها الذكر للنبي تدبير لا يتم إلا مع وجود التكليف الإلهي والتكليف لا يتم إلا مع تحتم وجود يوم معد للجزاء يجازى فيه العاصي والمطيع من المكلفين.
فالذي أقسم تعالى به من التدبير لتأكيد وقوع الجزاء الموعود هو بعينه حجة على وقوعه كأنه قيل: أقسم بهذه الحجة أن مدلولها واقع.
وإذا تأملت الموارد التي أورد فيها القسم في كلامه تعالى وأمعنت فيها وجدت المقسم به فيها حجة دالة على حقية الجواب كقوله تعالى في الرزق: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ } [الذاريات: 23] فإن ربوبية السماء والأرض هي المبدأ لرزق المرزوقين، وقوله: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] فإن حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الطاهرة المصونة بعصمة من الله دالة على سكرهم وعمههم، وقوله: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } [الشمس: 1 - 10] فإن هذا النظام المتقن المنتهي إلى النفس الملهمة المميزة لفجورها وتقواها هو الدليل على فلاح من زكاها وخيبة من دساها.
وعلى هذا النسق سائر ما ورد من القسم في كلامه تعالى وإن كان بعضها لا يخلو من خفاء يحوج إلى إمعان من النظر كقوله: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ} [التين: 1، 2] وعليك بالتدبر فيها.
قوله تعالى: {فإذا النجوم طمست - إلى قوله - أقتت} بيان لليوم الموعود الذي أخبر بوقوعه في قوله: {إنما توعدون لواقع} وجواب إذا محذوف يدل عليه قوله: {لأي يوم أجلت - إلى قوله – للمكذبين}.
وقد عرف سبحانه اليوم الموعود بذكر حوادث واقعة تلازم انقراض العالم الإنساني وانقطاع النظام الدنيوي كانطماس النجوم وانشقاق الأرض واندكاك الجبال وتحول النظام إلى نظام آخر يغايره، وقد تكرر ذلك في كثير من السور القرآنية وخاصة السور القصار كسورة النبإ والنازعات والتكوير والانفطار والانشقاق والفجر والزلزال والقارعة، وغيرها، وقد عدت الأمور المذكورة فيها في الأخبار من أشراط الساعة.
ومن المعلوم بالضرورة من بيانات الكتاب والسنة أن نظام الحياة في جميع شئونها في الآخرة غير نظامها في الدنيا فالدار الآخرة دار أبدية فيها محض السعادة لساكنيها لهم فيها ما يشاءون أو محض الشقاء وليس لهم فيها إلا ما يكرهون والدار الدنيا دار فناء وزوال لا يحكم فيها إلا الأسباب والعوامل الخارجية الظاهرية مخلوط فيها الموت بالحياة، والفقدان بالوجدان، والشقاء بالسعادة، والتعب بالراحة، والمساءة بالسرور، والآخرة دار جزاء ولا عمل والدنيا دار عمل ولا جزاء، وبالجملة النشأة غير النشأة.
فتعريفه تعالى نشأة البعث والجزاء بأشراطها التي فيها انطواء بساط الدنيا بخراب بنيان أرضها وانتساف جبالها وانشقاق سمائها وانطماس نجومها إلى غير ذلك من قبيل تحديد نشأة بسقوط النظام الحاكم في نشأة أخرى قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ } [الواقعة: 62].
فقوله: {فإذا النجوم طمست} أي محي أثرها من النور وغيره، والطمس إزالة الأثر بالمحو قال تعالى: {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ } [التكوير: 2].
وقوله: {وإذا السماء فرجت} أي انشقت، والفرج والفرجة الشق بين الشيئين قال تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1].
وقوله: {وإذا الجبال نسفت} أي قلعت وأزيلت من قولهم: نسفت الريح الشيء أي اقتلعته وأزالته قال تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه: 105].
وقوله: {وإذا الرسل أقتت} أي عين لها الوقت الذي تحضر فيه للشهادة على الأمم أو بلغت الوقت الذي تنتظره لأداء شهادتها على الأمم من التأقيت بمعنى التوقيت، قال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6] ، وقال: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة: 109].
قوله تعالى: {لأي يوم أجلت - إلى قوله: - للمكذبين} الأجل المدة المضروبة للشيء، والتأجيل جعل الأجل للشيء، ويستعمل في لازمه وهو التأخير كقولهم: دين مؤجل أي له مدة بخلاف الحال وهذا المعنى هو الأنسب للآية، والضمير في {أجلت} للأمور المذكورة قبلا من طمس النجوم وفرج السماء ونسف الجبال وتأقيت الرسل، والمعنى لأي يوم أخرت يوم أخرت هذه الأمور.
واحتمل أن يكون {أجلت} بمعنى ضرب الأجل للشيء وأن يكون الضمير المقدر فيه راجعا إلى الرسل، أو إلى ما يشعر به الكلام من الأمور المتعلقة بالرسل مما أخبروا به من أحوال الآخرة وأهوالها وتعذيب الكافرين وتنعيم المؤمنين فيها، ولا يخلو كل ذلك من خفاء.
وقد سيقت الآية والتي بعدها أعني قوله: {لأي يوم أجلت ليوم الفصل} في صورة الاستفهام وجوابه للتعظيم والتهويل والتعجيب وأصل المعنى أخرت هذه الأمور ليوم الفصل.
وهذا النوع من الجمل الاستفهامية في معنى تقدير القول، والمعنى أن من عظمة هذا اليوم وهوله وكونه عجبا أنه يسأل فيقال: لأي يوم أخرت هذه الأمور العظيمة الهائلة العجيبة فيجاب: ليوم الفصل.
وقوله: {ليوم الفصل} هو يوم الجزاء الذي فيه فصل القضاء قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [الحج: 17].
وقوله: {وما أدراك ما يوم الفصل} تعظيم لليوم وتفخيم لأمره.
وقوله: {ويل يومئذ للمكذبين} الويل الهلاك، والمراد بالمكذبين المكذبون بيوم الفصل الذي فيه ما يوعدون فإن الآيات مسوقة لبيان وقوعه وقد أقسم على أنه واقع.
وفي الآية دعاء على المكذبين، وقد استغنى به عن ذكر جواب إذا في قوله: {فإذا النجوم طمست} إلخ والتقدير فإذا كان كذا وكذا وقع ما توعدون من العذاب على التكذيب أو التقدير فإذا كان كذا وكذا كان يوم الفصل وهلك المكذبون به.
وقوله تعالى : {أَلَمْ نهْلِكِ الأَوّلِينَ (16) ثمّ نُتْبِعُهُمُ الاَخِرِينَ (17) كَذَلِك نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (19) أَ لَمْ نخْلُقكم مِّن مّاءٍ مّهِينٍ (20) فَجَعَلْنَهُ فى قَرَارٍ مّكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مّعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَدِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (24) أَ لَمْ نجْعَلِ الأَرْض كِفَاتاً (25) أَحْيَاءً وأَمْوَتاً (26) وجَعَلْنَا فِيهَا رَواَسيَ شمِخَتٍ وأَسقَيْنَكم مّاءً فُرَاتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ }
حجج دالة على توحد الربوبية تقضي بوجود يوم الفصل الذي فيه جزاء المكذبين به، وإشارة إلى ما فيه من الجزاء المعد لهم الذي كانوا يكذبون به، وإلى ما فيه من النعمة والكرامة للمتقين، وتختتم بتوبيخهم وذمهم على استكبارهم عن عبادته تعالى والإيمان بكلامه.
قوله تعالى: {ألم نهلك الأولين ثم نتبعهم الآخرين كذلك نفعل بالمجرمين} الاستفهام للإنكار، والمراد بالأولين أمثال قوم نوح وعاد وثمود من الأمم القديمة عهدا، وبالآخرين الملحقون بهم من الأمم الغابرة، والإتباع جعل الشيء أثر الشيء.
وقوله: {ثم نتبعهم} برفع نتبع على الاستيناف وليس بمعطوف على {نهلك} وإلا لجزم.
والمعنى قد أهلكنا المكذبين من الأمم الأولين ثم إنا نهلك الأمم الآخرين على أثرهم.
وقوله: {كذلك نفعل بالمجرمين} في موضع التعليل لما تقدمه ولذا أورد بالفصل من غير عطف كان قائلا قال: لما ذا أهلكوا؟ فقيل: كذلك نفعل بالمجرمين.
والآيات - كما ترى - إنذار وإرجاع للبيان إلى الأصل المضروب في السورة أعني قوله: {ويل يومئذ للمكذبين} وهي بعينها حجة على توحد الربوبية فإن إهلاك المجرمين من الإنسان تصرف في العالم الإنساني وتدبير، وإذ ليس المهلك إلا الله - وقد اعترف به المشركون – فهو الرب لا رب سواه ولا إله غيره.
على أنها تدل على وجود يوم الفصل لأن إهلاك قوم لإجرامهم لا يتم إلا بعد توجه تكليف إليهم يعصونه ولا معنى للتكليف إلا مع مجازاة المطيع بالثواب والعاصي بالعقاب فهناك يوم يفصل فيه القضاء فيثاب فيه المطيع ويعاقب فيه العاصي وليس هو الثواب والعقاب الدنيويين لأنهما لا يستوعبان في هذه الدار فهناك يوم يجازى فيه كل بما عمل، وهو يوم الفصل ذلك يوم مجموع له الناس.
قوله تعالى: {ألم نخلقكم من ماء مهين - إلى قوله - فنعم القادرون} الاستفهام للإنكار والماء المهين الحقير قليل الغناء والمراد به النطفة، والمراد بالقرار المكين الرحم وبقوله: {قدر معلوم} مدة الحمل.
وقوله: {فقدرنا} من القدر بمعنى التقدير، والفاء لتفريع القدر على الخلق أي خلقناكم فقدرنا ما سيجري عليكم من الحوادث وما يستقبلكم من الأوصاف والأحوال من طول العمر وقصره وهيئة وجمال وصحة ومرض ورزق إلى غير ذلك.
واحتمل أن يكون {قدرنا} من القدرة مقابل العجز والمراد فقدرنا على جميع ذلك، وما تقدم أوجه.
والمعنى: قد خلقناكم من ماء حقير هو النطفة فجعلنا ذلك الماء في قرار مكين هي الرحم إلى مدة معلومة هي مدة الحمل فقدرنا جميع ما يتعلق بوجودكم من الحوادث والصفات والأحوال فنعم المقدرون نحن.
ويجري في كون مضمون هذه الآيات حجة على توحد الربوبية نظير البيان السابق في الآيات المتقدمة، وكذا في كونه حجة على تحقق يوم الفصل فإن الربوبية تستوجب خضوع المربوبين لساحتها وهو الدين المتضمن للتكليف، ولا يتم التكليف إلا بجعل جزاء على الطاعة والعصيان، واليوم الذي يجازى فيه بالأعمال هو يوم الفصل.
قوله تعالى: {ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا - إلى قوله - فراتا} الكفت والكفات بمعنى الضم والجمع أي أ لم نجعل الأرض كفاتا يجمع العباد أحياء وأمواتا، وقيل: الكفات جمع كفت بمعنى الوعاء، والمعنى أ لم نجعل الأرض أوعية تجمع الأحياء والأموات.
وقوله: {وجعلنا فيها رواسي شامخات} الرواسي الثابتات من الجبال، والشامخات العاليات، وكان في ذكر الرواسي توطئة لقوله: {وأسقيناكم ماء فراتا} لأن الأنهار والعيون الطبيعية تنفجر من الجبال فتجري على السهول، والفرات الماء العذب.
ويجري في حجية الآيات نظير البيان السابق في الآيات المتقدمة.
__________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج20 ، ص127-134.
الوعود الإلهية وجزاء المكذبين:
ذكرت في صدر السورة ابتداءً خمسة أيمان، وذلك في خمس آيات. الحديث وافر في تفسير معانيها:
يقول تعالى: {والمرسلات عرفاً}(2) أي قسماً بالتي تُرسل تباعاً.
{فالعاصفات عصفاً} التي تُسرع في حركتها كالعاصفة.
{والناشرات نشراً}... التي توسّع وتنشر ما وكّلت به.
{فالفارقات فرقاً}... التي تفرق وتفصل.
{فالملقيات ذكراً} التي تلقي بالآيات الموقظة والمذكرّة.
{عذراً أو نذراً}(3) إمّا لإتمام الحجة أو للإنذار.
والآن لِنَرَ ما هو مفهوم هذه الأيمان المغلقة التي تخبر عن مسائل مهمّة، ويوجد هنا ثلاث تفاسير مهمّة:
1 ـ إنّ هذه الأيمان الخمسة إشارة إلى الرياح والعواصف التي لها الأثر البالغ في كثير من مسائل الطبيعة في العالم، فيصبح معنى الآيات حينئذ: أُقسم بالريح المتوالية الهبوب.
وأُقسم بالأعاصير السريعة.
وأُقسم بالناشرات السحاب التي تنزل المطر إلى الأراضي الميتة.
وأُقسم بالرياح التي تفرّق السحاب بعد هطول المطر.
وأُقسم بالرياح المذكّرة بالله بهذه المعطيات النافعة.
(وقيل أنّ {فالعاصفات عصفاً} إشارة إلى أعاصير العذاب النقيضة للرياح الباعثة للحياة والتي تعتبر بدورها سبباً للتذكر واليقظة).
2 ـ إنّ هذه الأيمان إشارة إلى (ملائكة السماء): أي أُقسم بالملائكة المرسلة تباعاً إلى الأنبياء (والملائكة المرسلين بالمناهج المعروفة)، وأُقسم بأولئك المسرعين كالإعصار لتنفيذ مهامهم، والذين ينشرون ما أنزل الله على الأنبياء، وأولئك الذين يفصلون بعملهم هذا الحق عن الباطل، والذين يلقون ذكر الحق وأوامر الله على الأنبياء.
3 ـ القسم الأوّل والثّاني ناظر إلى الرياح والأعاصير، والقسم الثّالث والرّابع والخامس يتعلق بنشر آيات الحق بواسطة الملائكة، ثمّ فصل الحق عن الباطل، وبعد ذلك إلقاء الذكر والأوامر الإلهية على الأنبياء بقصد إتمام الحجّة والإنذار.
وما يمكن أن يكون شاهداً على التفسير الثّالث هو:
أوّلاً: فصل المجموعتين من الأقسام التي في الآيات (بالواو)، والحال أنّ البقية عطفت بالفاء وهي علامة ارتباطها.
ثانياً: إنّ هذه الأيمان كما سوف نرى واردة لموضوع الآية السابعة، أي أحقيّة البعث والمعاد و واقعيته، ونعلم أنّ تغيّراً عظيماً يحصل في الدنيا عند البعث حيث العواصف الشديدة والزلازل والحوادث المهيبة من جهة، ثمّ تشكيل محكمة العدل الإلهية من جهة أُخرى وعندها تنشر الملائكة صحائف الأعمال وتفصل بين المؤمنين والكافرين، وتلقي بالحكم الإلهي في هذا المجال.
وطبقاً لهذا التّفسير سوف يتناسب القسم مع المقسم له، ولهذا فإنّ التّفسير الأخير أفضل.
«الذكر» في جملة: (فالملقيات ذكراً) أمّا أن يكون بمعنى العلوم الملقاة على الأنبياء، أو الآيات النازلة عليهم، ونعلم أنّ القرآن جاء التعبير عنه بالذكر كما في الآية (6) من سورة الحجر: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [الحجر: 6] .
كلمة «الملقيات» بصيغة الجمع مع أنّ ملك الوحي ـ أي جبرئيل(عليه السلام) ـ واحد ليس إلاّ لما يستفاد من الرّوايات أنّ جماعات كثيرة من الملائكة كانوا يصاحبون جبرئيل(عليه السلام) عند نزول الآيات القرآنية، كقوله تعالى في الآية (15) من سورة عبس: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} [عبس: 15].
والآن لابدّ أن نرى الغرض من هذه الأيمان، الآية التالية ترفع الستار عن هذا المعنى، فتقول: {إنّما توعدون لواقع}.
إنّ البعث والنشور، والثواب والعقاب والحساب والجزاء كلها حق لا ريب فيه.
ويرى البعض أنّها إشارة إلى جميع الوعود الإلهية، وتشمل وعود الصالحين والطالحين، في الدنيا كانت أوفي الآخرة، ولكنّ الآيات التالية توحي أنّ المراد هو الوعد بالقيامة(4).
وهنا وإن لم يستدل في هذه الآية على مسألة المعاد واكتفى بالادعاء، فإنّ ظرافة الموضوع تكمن في أنّ مواضيع الأيمان السابقة تُعتبر بحدّ ذاتها دلائل للمعاد، منها إحياء الأراضي الميتة بالأمطار، وهذا نموذج ممّا يحدث في المعاد، ثمّ نزول التكاليف الإلهية على الأنبياء وإرسال الرسل ممّا لا يكون الهدف منه واضحاً ومفهوماً إلاّ بوجود المعاد، وهذا يُشير إلى أنّ واقعة البعث أمر حتمي.
وجاء ما يشابه هذا الموضوع في الآية (23) من سورة الذاريات إذ يقول الله تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذاريات: 23] القسم بالربّ يعتبر إشارة إلى أنّ ربوبية الربّ وتدبيره عالم الخلق يستوجب عدم تركه للخلق دون رزق.
ثمّ ينتهي إلى تبيان علامات ذلك اليوم الموعود، فيقول: إذا تحقّق ذلك اليوم الموعود فإنّ النجوم سوف تنطفيء وتمحى {فإذا النجوم طمست}.
{وإذا السماء فرجت} أي انشقت.
{وإذا الجبال نسفت} أي زالت وانقلعت من مكانها.
(طمست): من مادة (طمس) ـ على وزن شمس ـ وهو محو وزوال آثار الشيء، ومن الممكن أن تشير العبارة هنا إلى محو نور النجوم أو اختفائها، ولكن التفسير الأول أنسب، كقوله في الآية (2) من سورة التكوير: {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ } [التكوير: 2].
نسفت: من مادة (نسف) ـ على وزن حذف ـ وفي الأصل، بمعنى وضع حبوب الغذاء في الغربال وتحريكه لعزل القشور عن الحبوب، ويعني هنا تفتيت الجبال ثمّ نسفها في الريح، ونستفيد من بعض آيات القرآن المجيد أنّ انقراض العالم يلازم وقوع حوادث مهولة بحيث يتلاشى نظام العالم بكامله. وحلول نظام الآخرة الجديد مكان ذلك النظام، ولا يمكن وصف تلك الحوادث بأي بيان لما فيها من الرعب والعجب، وهل يوصف حادث تنقلع فيه الجبال وتندك لتتحول إلى غبار وتكون كالصوف المنفوش؟! وكما يرى بعض المفسّرين أنّ هذه الحوادث عظيمة للغاية بحيث أنّ أشد الزلازل المهيبة في الدنيا بالنسبة لها كفرقعة صغيرة يفرقعها الأطفال للّعب بها مقابل أقوى قنبلة ذرية.
وعلى أي حال فإنّ هذه التعابير القرآنية تشير إلى الإختلاف الكبير بين أنظمة الآخرة وأنظمة الدنيا.
ثمّ أشار القرآن بعد ذلك إلى ما يجري في البعث، فيضيف: وفي ذلك الوقت يتمّ تعيين وقت للأنبياء والرسل ليأتوا إلى ساحة المحشر ويدلوا بشهادتهم: { وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ } [المرسلات: 11] (5) وهو كقوله: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6] ثمّ يضيف تعالى: {لأي يوم أُجِّلَتْ}(6)، أي لماذا تمّ تأخير هذه الشهادة ولأي وقت؟ ثم يقول: (ليوم الفصل) يوم فصل الحق عن الباطل، فصل صفوف المؤمنين عن الكافرين، والأبرار عن الأشرار، ويوم حكم الله المطلق على الجميع، وقد جاء هذا الحوار لبيان عظمة ذلك اليوم، ويا لهُ من تعبير بليغ عميق لذلك اليوم، .. إنّه «يوم الفصل»!!.
ثمّ يبيّن عظمة ذلك اليوم أيضاً، فيقول تعالى: {وما أدراك ما يوم الفصل} إنّ الرسول(صلى الله عليه وآله) بعلمه الواسع وبنظره الحاد الذي كان يرى من خلاله أسرار الغيب لم يكن مطلعاً بصورة كاملة على أبعاد عظمة ذلك اليوم، فكيف بسائر الناس: وقد قلنا مراراً إنّنا لا نستطيع الإحاطة والعلم بجميع أسرار القيامة العظيمة فنحن سجناء قفص الدنيا، وما نتصوره عن ذلك اليوم ليس إلاّ شبحاً وخيالاً يحكي عن مجريات الآخرة.
وفي آخر آية من آيات بحثنا هدد الله تعالى المكذبين بيوم القيامة تهديداً شديداً وقال: (ويل يومئذ للمكذبين).
ويل: قيل هو الهلاك، وقيل المراد به العذاب المتنوع، وقيل هو واد في جهنّم مليء بالعذاب، وتستخدم هذه الكلمة عادة فيما يخص الحوادث المؤسفة، وهنا تحكي الآية عن مصير المكذبين المؤلم في ذلك اليوم(7).
المراد بالمكذبين هنا هم المكذبون بيوم القيامة، ونعلم أنّ من لا يؤمن بيوم القيامة ومحكمة العدل الإلهي وبالحساب والجزاء يسهل عليه أن يرتكب الذنوب والظلم والفساد، بعكس الإيمان الراسخ بذلك اليوم فإنّه يهب الإنسان التقوى والإحساس بالمسؤولية.
وقوله تعالى : {أَلَمْ نُهْلِكِ الاَْوَّلِينَ(16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الاَْخِرِينَ(17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ(18) وَيْلٌ يَوْمَئِذ لِّلْمُكَذِّبِينَ(19) أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآء مَّهِين(20) فَجَعَلْنَهُ فِى قَرَار مَّكِين(21) إِلَى قَدَر مَّعْلُوم (22)فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَدِرُونَ(23) وَيْلٌ يَوْمَئِذ لِّلْمُكَذِّبِينَ(24) أَلَمْ نَجْعَلِ الاَْرْضَ كِفَاتاً(25) أَحْيَآءً وَأَمْوَتاً(26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَسِىَ شَمِخَت وَأَسْقَيْنَكُم مَّآءً فُرَاتاً(27) وَيْلٌ يَوْمَئِذ لِّلْمُكَذِّبِينَ}
جزاءِ المكذبين بالمعاد
هذه الآيات أيضاً تحذّر وبطرق مختلفة المنكرين للبعث، وتوقظهم ببيانات مختلفة من نوم الغفلة العميق; فتأخذ بأيديهم أوّلاً إلى ما مضى من التاريخ لتريهم الأراضي المترامية الأطراف التي كانت ملكاً للأقوام السابقين، فيقول تعالى: {ألم نهلك الأولين}.
إنّ آثارهم واضحة على صفحات البسيطة. وليس على صفحات التاريخ فحسب، أقوام ـ كقوم عاد وثمود وقوم نوح وقوم لوط وقوم فرعون ـ عوقبوا جزاءاً لأعمالهم فبعض أبيدوا بالطوفان وآخرون بالصاعقة، وجماعة بقوة الرياح، وقوم بالزلزلة وأحجار السماء.
{ثم نُتبعُهُم الآخرين} لأنّها سنّة مستمرة لا تبعيض فيها ولا استثناء، وهل يمكن أن يعاقب جماعة لجرم ما، ويقبل ذلك الجرم من آخرين؟!
ولذا يضيف تعالى في الآية الأُخرى: {كذلك نفعل بالمجرمين}.
هذه الآية في الحقيقة هي بمنزلة بيان الدليل على هلاك الأُمم الأُولى ويستتبعه هلاك الأُمم الأُخرى، لأنّ العذاب الإِلهي ليس فيه جانب الثأر ولا الإِنتقام الشخصي. بل إِنّه تابع لأصل الإِستحقاق ومقتضى الحكمة.
وقال البعض: إنّ المراد من (الأولين) هم الأُمم المتوغلة في الماضي البعيد كقوم نوح وعاد ثمود، و(الآخرين) اللاحقون بهم من الأُمم الغابرة أمثال قوم لوط وقوم فرعون ولكنّنا نلاحظ أنّ (نتبعهم) جاءت بصيغة فعل مضارع، والحال أنّ عبارة (ألم نهلك) وردت بصيغة الماضي، فيتضح من ذلك أنّ (الأولين) هم الأُمم السابقة الذين هلكوا بالعذاب الإلهي و(الآخرين) هم الكفار المعاصرون للنّبي(صلى الله عليه وآله)أو الذين يأتون إلى الوجود فيما بعد، ويتلوثون بالجرائم والمعاصي والظلم والفساد.
ثمّ يضيف مستنتجاً: {ويل يومئذ للمكذبين}.
(يومئذ): إشارة إلى يوم البعث الذي يعاقب فيه المكذبون بالعقوبات الشديدة، والتكرار هو لتأكيد المطلب، وما احتمله البعض من أنّ هذه الآية ناظرة إلى العذاب الدنيوي، والآية المشابهة لها والتي وردت سابقاً ناظرة إلى العذاب الأُخروي يبدو بعيداً جدّاً.
ثمّ يمسك القرآن بأيديهم ليأخذهم إلى عالم الجنين ويريهم عظمة الله وقدرته وكثرة مواهبه في هذا العالم المليء بالأسرار، ليفهموا قدرة الله تعالى على المعاد والبعث من جهة وأنّهم غارقون في نعمه اللامتناهية من جهة أُخرى، فيقول تعالى: (ألم نخلقكم من ماء مهين) أي تافه وحقير {فجعلناه في قرار مكين}(8).
مقرّ فيه ضمان لجميع ظروف الحياة والتربية والنمووالمحافظة على نطفة الإنسان، فهوعجيب وظريف وموزون بحيث يثير إعجاب كل إنسان.
ثمّ يضيف تعالى: أنّ بقاء النطفة في ذلك المكان المكين والمحفوظ إنّما هولمدة معينة: (إلى قدر معلوم).
مدة لا يعلمها إلاّ الله تعالى، مدة مملوءة بالتغيرات والتحولات الكثيرة بحيث ترتدي النطفة في كل يوم لباساً جديداً من الحياة يؤدي به إلى التكامل في داخل ذلك المخبأ.
ثمّ يستنتج من قدرته تعالى على خلق الإنسان الكامل والشريف من نطفة حقيرة بأن الله تعالى نعم القادر: {فقدرناه فنعم القادرون}(9)(10) وهذا الدليل اعتمده القرآن مرات عديدة لإثبات مسألة المعاد منها قوله تعالى في أول سورة الحج: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ... ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الحج: 5]
ثمّ يعود في النهاية ليكرر تلك الآية وهو قوله: {ويل يومئذ للكذبين} الويل لأُولئك الذين يرون آثار قدرة الله تعالى ثمّ ينكرونها، يقول أمير المؤمنين(عليه السلام):
«أيّها المخلوق السوي، والمنشأ المرعي في ظلمات الأرحام ومضاعف الأستار، بُدئت من سلالة من طين، ووضعت في قرار مكين، إلى قدر معلوم، وأجل مقسوم، تمور في بطن أُمّك جنيناً لا تحير دعاء، ولا تسمع نداءً، ثمّ أخرجت من مقرّك إلى دار لم تشهدها، ولم تعرف سبل منافعها، فمن هداك لإِجترار الغذاء من ثدي أُمّك، وعرفك عند الحاجة مواضع طلبك وإرادتك؟!»(11).
ثمّ يقول تعالى: {ألم نجعل الأرض كفاتاً(12)، أحياءً وأمواتاً}(13).
«كفات»: ـ على وزن كتاب ـ و(كفت) ـ على وزن كشف ـ هوجمع وضم الشيء للآخر، ويقال أيضاً لسرعة طيران الطيور «كفات» لجمعه لأجنحته حال الطيران السريع حتى يتمكن من شق الهواء والتقدم أسرع.
والمراد هو أنّ الأرض مقر لجميع البشر: إذ تجمع الأحياء على ظهرها وتهيء لهم جميع ما يحتاجونه، وتضم أمواتهم في بطنها، فلو أنّ الأرض لم تكن مهيئة لدفن الأموات لسببت العفونة والأمراض الناتجة منها فاجعة لجميع الأحياء.
نعم، إنّ الأرض هي كالأُم التي تجمع أولادها حولها وتضمهم تحت أجنحتها، وتغذيهم، وتلبسهم، وتسكنهم، وتقضي جميع حوائجهم، وتحفظ أمواتهم في قلبها أيضاً، وتمتصهم وتزيل مساويء آثارهم.
وفسّر بعضهم «الكفات» بالطيران السريع، والآية تشير إلى حركة الأرض حول الشمس والحركات الأُخرى والتي كانت غير مكتشفة زمن نزول القرآن.
ولكن بملاحظة الآية الأُخرى أي {أحياءً وأمواتاً} يتضح أنّ التفسير الأوّل أنسب، ويؤيد ذلك قول أمير المؤمنين علي(عليه السلام) عند رجوعه من صفين ووصوله قرب الكوفة، حيث قال وهو ينظر إلى مقبرة خارج الكوفة: «هذه كفات الأموات» أي مساكنهم. ثم نظر إلى منازل الكوفة فقال: «هذه كفات الأحياء» ثم تلا هذه الآيات: {ألم نجعل الأرض كفاتاً أحياءً وأمواتاً}(14).
ثمّ يشير تعالى إلى إحدى النعم الإلهية العظيمة في الأرض، فيضيف: {وجعلنا فيها رواسي شامخات}(15) هذه الجبال التي قاربت بارتفاعها السماء، واتصلت أُصولها بالبعض الآخر قد لزمت الأرض كالدرع من جهة لحفظها من الضغط الداخلي والضغوط الناتجة من الجزر والمد الخارجي، ومن جهة أُخرى تمنع اصطكاك الرياح مع الأرض حيث تمدّ قبضتها في الهواء لتحركه حول نفسها وكذلك تنظم حركة الأعاصير والرياح من جهة ثالثة، ولهذا تكون الجبال باعثة على الإستقرار لأهل الأرض.
وفي آخر الآية إشارة إلى إحدى البركات الأُخرى للجبال فيضيف تعالى: {وأسقيناكم ماء فراتاً} ماءاً سائغاً لكم وباعثاً للحياة، ولحيواناتكم ولبساتينكم. صحيح أنّ كل ماء مستساغ هومن المطر، ولكن للجبال الدور الأهم في الإيفاء بهذا الغرض، فإنّ كثيراً من العيون والقنوات هي من الجبال، ومصدر الأنهار العظيمة هي من الجليد المتراكم على قمم الجبال، حيث تعتبر من الذخائر المائية المهمّة للإنسان، إنّ قمم الجبال تكون باردة على الدوام لبعدها عن سطح الأرض، ولهذا فأنّها تحافظ على الجليد المتراكم عليها لآجال طويلة حتى تتأثر بشعاع الشمس فيتحول إلى ماء ويتدفق بالتالي على شكل أنهار وجداول.
ثمّ يقول في نهاية هذا القسم: {ويل يومئذ للمكذبين}.
أُولئك الذين ينكرون كل هذه الآيات وعلامات قدرة الله التي يرونها بأعينهم، وكذلك يشاهدون النعم الإلهية التي غرقوا فيها، ثمّ ينكرون البعث ومحكمة القيامة التي هي مظهر العدل والحكمة الإلهية.
_______________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج14 ، ص649-659.
2 ـ «عرفاً»: بمعنى متتابعاً، وأصله بمعنى (عرف الفرس) المتساقط بعضها على البعض الآخر، وفُسر أحياناً بالعمل الحسن والمعروف.
3 ـ «عذراً أو نذراً»: محله من الإعراب النصب على أنّه (مفعول لأجله) وقيل (حال).
4 ـ العطف بالفاء أيضاً يقوي هذا المعنى.
5 ـ (أقّتت) أصلها (وقِّتت) من مادة (وقت) إذ أن الواو المضمومة بدلت إلى الهمزة، ويعني توقيت الوقت لرسل الله تعالى، وهذا واضح إذ لا يُعين لهم وقت بل يتعيّن لعملهم، أي لشهادتهم على الأُمم، ولذا قيل إن في الآية حذفاً.
6 ـ طبقاً لهذا التفسير فإن الضمير في (أجلت) يعود إلى شهادة الأنبياء والرسل على الأُمم، وهوما يستفاد منه في الآية السابقة، وقيل إنّه يعود إلى جميع الأُمور المرتبطة بالأنبياء وما أعطوا من الأخبار بالثواب والعقاب وحوادث القيامة وغيرها، وقيل: إنّها إشارة إلى جميع الأُمور التي وردت في الآيات السابقة كظلام النجوم وغيرها، ولكن من الواضح أن التّفسير الأوّل أنسب، لأنّ مرجع الضمير في الآية متصل بذلك.
7 ـ ورد مزيد من التوضيح في باب معنى (ويل) واختلافه مع (ويس) و(ريح) في ذيل الآية (60) من سورة الذاريات.
8 ـ (قرار): هو محل الإستقرار و(مكين) يعني محفوظ، وأصله من المكانة المشتقة من التمكن (وتأتي المكانة أحياناً بمعنى المنزلة).
9 ـ للآية حذف تقديره (فنعم القادرون نحن)أي أن المحذوف هو المخصوص بالمدح.
10 ـ قال بعض المفسّرين إن معنى الآية هكذا: (إنا قدرنا النطفة بمقاييس ضرورية ومقادير مختلفة، وخصوصيات في جسم الإنسان وروحه، فنعم القادرون) ولكن هذا المعنى يبدو بعيداً لأن متن القرآن والقراءة المعروفة له غير مشددة ولذا يبدوا بعيداً وإن قال بعض إن المادة الثلاثية المجردة وردت بمعنى التقدير، ولكن في الاستعمالات العادّية لا تستعمل كلمة (قادر) بهذا المعنى.
11 ـ نهج البلاغة، الخطبة 163.
12 ـ «كفاتاً»: مفعول ثاني لـ (جعلنا) وهو مصدر قد جاء بصيغة اسم فاعل.
13 ـ «أحياءً وأمواتاً»: حال لضمير مفعول محذوف تقديره (كفاتاً لكم أحياءً أمواتاً).
14 ـ تفسير البرهان، ج 4، ص 417 (نقلاً عن تفسير علي بن إبراهيم).
15 ـ «رواسي»: جمع راسية، وهي الثابتات، و(شامخات) جمع شامخ، أي عال، وتأتي بعض العبارات كالقول (شمخ بأنفه) كناية عن التكبر (مفردات الراغب).
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|