أقرأ أيضاً
التاريخ: 20-9-2017
1147
التاريخ: 20-9-2017
7702
التاريخ: 4-2-2018
1574
التاريخ: 4-2-2018
823
|
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [التغابن: 14 - 18].
{يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم} يعني أن بعضهم بهذه الصفة ولذلك أتى بلفظة من وهي للتبعيض يقول أن من هؤلاء من هو عدو لكم في الدين فاحذروهم أن تطيعوهم وقيل إنه سبحانه إنما قال ذلك لأن من الأزواج من يتمنى موت الزوج ومن الأولاد من يتمنى موت الوالد ليرث ماله وما من عدو أعدى ممن يتمنى موت غيره ليأخذ ماله وكذلك يكون من يحملك على معصية الله لمنفعة نفسه ولا عدو أشد عداوة ممن يختار ضررك لمنفعته قال عطاء يعني قوما أرادوا الغزو فمنعهم هؤلاء وقال مجاهد يريد قوما أرادوا طاعة الله فمنعوهم.
{وإن تعفوا} أي تتركوا عقابهم {وتصفحوا وتغفروا} أي تتجاوزوا عنهم وتستروا ما سبق منهم إن عادوا إلى الحالة الجميلة وذلك أن الرجل من هؤلاء إذا هاجر ورأى الناس قد سبقوه بالهجرة وفقهوا في الدين هم أن يعاقب زوجته وولده الذين ثبطوه عن الهجرة وأن يلحقوا به في دار الهجرة لم ينفق عليهم فأمر سبحانه بالعفو والصفح {فإن الله غفور رحيم} يغفر لكم ذنوبكم ويرحمكم وقيل هو عام أي إن تعفوا وتصفحوا عمن ظلمكم فإن الله يغفر بذلك كثيرا من ذنوبكم عن الجبائي {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} أي محنة وابتلاء وشدة للتكليف عليكم وشغل عن أمر الآخرة فإن الإنسان بسبب المال والولد يقع في الجرائم عن ابن مسعود قال لا يقولن أحدكم اللهم إني أعوذ بك من الفتنة فإنه ليس أحد منكم يرجع إلى مال وأهل وولد إلا وهو مشتمل على فتنة ولكن ليقل اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن .
وروى عبد الله بن بريدة عن أبيه قال كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يخطب فجاء الحسن والحسين (عليهما السلام) وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إليهما فأخذهما فوضعهما في حجره على المنبر وقال ((صدق الله عز وجل {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما)) ثم أخذ في خطبته.
{والله عنده أجر عظيم} أي ثواب جزيل وهو الجنة يعني فلا تعصوه بسبب الأموال والأولاد ولا تؤثر وهم على ما عند الله من الأجر والذخر {فاتقوا الله ما استطعتم} أي ما أطقتم والاتقاء الامتناع من الردى باجتناب ما يدعو إليه الهوى ولا تنافي بين هذا وبين قوله {اتقوا الله حق تقاته} لأن كل واحد منهما إلزام لترك جميع المعاصي فمن فعل ذلك فقد اتقى عقاب الله لأن من لم يفعل قبيحا ولا أخل بواجب فلا عقاب عليه إلا أن في أحد الكلامين تبيينا أن التكليف لا يلزم العبد إلا فيما يطيق وكل أمر أمر الله به فلا بد أن يكون مشروطا بالاستطاعة وقال قتادة قوله {فاتقوا الله ما استطعتم} ناسخ لقوله {اتقوا الله حق تقاته} وكأنه يذهب إلى أن فيه رخصة لحال التقية وما جرى مجراها مما يعظم فيه المشقة وإن كانت القدرة حاصلة معه وقال غيره ليس هذا بناسخ وإنما هو مبين لإمكان العمل بهما جميعا وهو الصحيح {واسمعوا} من الرسول ما يتلو عليكم وما يعظكم به ويأمركم وينهاكم.
{وأطيعوا} الله والرسول {وأنفقوا} من أموالكم في حق الله {خيرا لأنفسكم} مثله ف آمنوا خيرا لكم وانتهوا خيرا لكم وقد مضى ذكر ذلك وقال الزجاج معناه قدموا خيرا لأنفسكم من أموالكم {ومن يوق شح نفسه} حتى يعطي حق الله من ماله {فأولئك هم المفلحون} أي المنجحون الفائزون بثواب الله وقال الصادق (عليه السلام) من أدى الزكاة فقد وقى شح نفسه {إن تقرضوا الله قرضا حسنا} قد مضى معناه وإطلاق اسم القرض هنا تلطف في الاستدعاء إلى الإنفاق {يضاعفه لكم} أي يعطي بدله أضعاف ذلك من واحد إلى سبعمائة إلى ما لا يتناهى فإن ثواب الصدقة يدوم {ويغفر لكم} ذنوبكم {والله شكور} أي مثيب مجاز على الشكر {حليم} لا يعاجل العباد بالعقوبة وهذا غاية الكرم {عالم الغيب والشهادة} أي السر والعلانية وقيل المعدوم والموجود وقيل غير المحسوس والمحسوس {العزيز} القادر {الحكيم} العالم وقيل المحكم لأفعاله .
__________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص33-35.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} . جاء في كتب التفسير والحديث ان قوما من مكة أسلموا ، وأرادوا الهجرة إلى رسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) فمنعهم أزواجهم وأولادهم ، فنزلت هذه الآية تحذر المؤمنين من طاعة بعض الأزواج والأولاد . وقلنا أكثر من مرة : ان سبب النزول لا يخصص دلالة العام ، وانما هو فرد من أفراده ، وعليه فكل زوجة لا تتعاون مع زوجها على ما فيه صلاح الطرفين دينا ودنيا فهي عدوة له ، وأيضا هو عدو لها إذا استنكف عن هذا التعاون معها ، ونفس الشيء يقال في حق الوالد والولد ، بل والأم والأخ ، وكل من يفعل ما يفعله العدو فهو عدو كائنا من كان .
وبهذه المناسبة نسجل ان انتقال الإنسان من العزوبة إلى الحياة الزوجية أشبه بانتقاله من الدنيا إلى الآخرة ، إما إلى جنة وإما إلى نار ، وفي الأغلب إلى الجحيم لا إلى النعيم . . فإن الحياة في العصر الحاضر مع كثير من الزوجات والأولاد - عذاب وجحيم . . فلا الولد يرضى من والده إلا بالخضوع والطاعة ، ولا الزوجة ترضى من زوجها إلا أن تكون هي الرجل ، وهو المرأة .
{وإِنْ تَعْفُوا وتَصْفَحُوا وتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهً غَفُورٌ رَحِيمٌ} . لا فرق بين العفو والصفح والمغفرة إلا باللفظ ، والقصد من الجمع بينها مجرد التأكيد والترغيب . .
بعد أن حذر سبحانه من بعض الأزواج والأولاد لأنهم يفعلون ما يفعله العدو- قال : ان تعفوا عنهم رحمة بهم وطمعا في إصلاحهم فإن اللَّه تعالى يعاملكم بالمثل لأنه يرحم من يرحم ، ويغفر للذين يغفرون حيث تحسن الرحمة والمغفرة بلا ريب ، وإلا فان بعض الذنوب لا يجوز تجاهلها بحال . وتومئ الآية إلى ان حياة الأسرة لا تستقيم إلا بالصبر والعفو عن كثير ، وانه لو حاسب كل واحد من أبنائها الآخر على كلمة يقولها أو حركة تبدر منه لساد بينهم التنازع والتخاصم وعاشوا في جحيم .
{إنَّما أَمْوالُكُمْ وأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ واللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} . كل ما شغفت به وضدك عما أنت مسؤول عنه دنيا وآخرة فهو فتنة ، مالا كان أو ولدا أو زوجة أوجاها أوفنا وما إليه ، وانما خص سبحانه بالذكر الأموال والأولاد لأنها أعظم فتنة من غيرها ، ومهما عظمت ملذات الدنيا فإن الذي عند اللَّه خير وأبقى .
وتقدم مثله بالحرف في الآية 28 من سورة الأنفال ج 3 ص 469 .
وفي تفسير الطبري وغيره : ان رسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) كان يخطب فجاء الحسن والحسين ، وعليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان ، فنزل الرسول وأخذهما ورفعهما في حجره ، ثم قال : صدق اللَّه العظيم : انما أموالكم وأولادكم فتنة ، رأيت هذين فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما . ثم أخذ يخطب .
{فَاتَّقُوا اللَّهً مَا اسْتَطَعْتُمْ} . ابذلوا جهد المستطاع في صيانة أنفسكم عن الفتنة والابتعاد عن محارم اللَّه ، ولا ترتكبوا شيئا منها حرصا على الأموال أو إيثارا للأولاد . . وذهب البعض إلى ان قوله تعالى : {اتَّقُوا اللَّهً حَقَّ تُقاتِهِ} - 102 آل عمران فيه تشديد ، وان قوله : {فَاتَّقُوا اللَّهً مَا اسْتَطَعْتُمْ} فيه تخفيف ، ثم رتب على ذلك ان قوله : {مَا اسْتَطَعْتُمْ} ناسخ لقوله : {حَقَّ تُقاتِهِ} أما نحن فلا نرى أي فرق بين الآيتين لأن على الإنسان أن يتقي غضب اللَّه ما استطاع ، ولا شيء عليه فيما لا يستطيع . أنظر ج 2 ص 122 .
{واسْمَعُوا وأَطِيعُوا وأَنْفِقُوا} . اسمعوا دعوة اللَّه ورسوله ، وراعوها بالطاعة والتقوى ، وأنفقوا الفضل من أموالكم في سبيل اللَّه يكن ذلك {خَيْراً لأَنْفُسِكُمْ} أي {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها} - 7 الإسراء . {ومَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . إن بذل المال والنفس طريق إلى الفلاح والنجاح ، والشح بهما سبيل الخذلان والخسران ، لأن الشح والحرص من أقوى البواعث على التقحم في القبائح والجرائم . وتقدم مثله بالحرف في الآية 9 من سورة الحشر .
{إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهً قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ ويَغْفِرْ لَكُمْ واللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} .
يستقرض سبحانه عباده وعنده خزائن السماوات والأرض ، ويضاعف الأجر للمطيعين تفضلا منه ، ويغفر للتائبين رحمة بهم ، ويشكر للمحسنين بإعطاء الكثير على القليل ، ويمهل العاصين حتى كأنه قد غفر عنهم . وتقدم مثله في الآية 245 من سورة البقرة 2 12 من سورة المائدة و11 من سورة الحديد {عالِمُ الْغَيْبِ والشَّهادَةِ} لا يخفى عليه شيء {الْعَزِيزُ} الذي لا يقهر {الْحَكِيمُ} فيما خلق ودبر .
____________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص343-345.
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم} إلخ {من} في {أزواجكم} للتبعيض، وسياق الخطاب بلفظ {يا أيها الذين آمنوا} وتعليق العداوة بهم يفيد التعليل أي إنهم يعادونهم بما أنهم مؤمنون، والعداوة من جهة الإيمان لا تتحقق إلا باهتمامهم أن يصرفوهم عن أصل الإيمان أوعن الأعمال الصالحة كالإنفاق في سبيل الله والهجرة من دار الكفر أو أن يحملوهم على الكفر أو المعاصي الموبقة كالبخل عن الإنفاق في سبيل الله شفقة على الأولاد والأزواج والغصب واكتساب المال من غير طريق حله.
فالله سبحانه يعد بعض الأولاد والأزواج عدوا للمؤمنين في إيمانهم حيث يحملونهم على ترك الإيمان بالله أوترك بعض الأعمال الصالحة أو اقتراف بعض الكبائر الموبقة وربما أطاعوهم في بعض ذلك شفقة عليهم وحبا لهم فأمرهم الله بالحذر منهم.
وقوله: {وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم} قال الراغب: العفو القصد لتناول الشيء يقال: عفاه واعتفاه أي قصده متناولا ما عنده - إلى أن قال - وعفوت عنه قصدت إزالة ذنبه صارفا عنه، وقال: الصفح ترك التثريب وهو أبلغ من العفو، ولذلك قال تعالى: {فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره} وقد يعفو الإنسان ولا يصفح، وقال: الغفر البأس ما يصونه عن الدنس، ومنه قيل: اغفر ثوبك في الوعاء واصبغ ثوبك فإنه أغفر للوسخ، والغفران والمغفرة من الله هو أن يصون العبد من أن يمسه العذاب قال: {غفرانك ربنا} و{مغفرة من ربكم} {ومن يغفر الذنوب إلا الله} انتهى.
ففي قوله: {فاعفوا واصفحوا واغفروا} ندب إلى كمال الإغماض عن الأولاد والأزواج.
إذا ظهر منهم شيء من آثار المعاداة المذكورة - مع الحذر من أن يفتتن بهم.
وفي قوله: {فإن الله غفور رحيم} إن كان المراد خصوص مغفرته ورحمته للمخاطبين أن يعفوا ويصفحوا ويغفروا كان وعدا جميلا لهم تجاه عملهم الصالح كما في قوله تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ } [النور: 22].
وإن أريد مغفرته ورحمته العامتان من غير تقييد بمورد الخطاب أفاد أن المغفرة والرحمة من صفات الله سبحانه فإن عفوا وصفحوا وغفروا فقد اتصفوا بصفات الله وتخلقوا بأخلاقه.
قوله تعالى: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم} الفتنة ما يبتلى ويمتحن به، وكون الأموال والبنين فتنة إنما هو لكونهما زينة الحياة تنجذب إليهما النفس انجذابا فتفتتن وتلهو بهما عما يهمها من أمر آخرته وطاعة ربه، قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46].
والجملة كناية عن النهي عن التلهي بهما والتفريط في جنب الله باللي إليهما ويؤكده قوله: {والله عنده أجر عظيم}.
قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} إلخ، أي مبلغ استطاعتكم - على ما يفيده السياق فإن السياق سياق الدعوة والندب إلى السمع والطاعة والإنفاق والمجاهدة في الله - والجملة تفريع على قوله: {إنما أموالكم} إلخ، فالمعنى: اتقوه مبلغ استطاعتكم ولا تدعوا من الاتقاء شيئا تسعه طاقتكم وجهدكم فتجري الآية مجرى قوله: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [آل عمران: 102] ، وليست الآية ناظرة إلى نفي التكليف بالاتقاء فيما وراء الاستطاعة وفوق الطاقة كما في قوله: {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286].
وقد بان مما مر: أولا: أن لا منافاة بين الآيتين أعني قوله: {فاتقوا الله ما استطعتم} وقوله: {اتقوا الله حق تقاته} وأن الاختلاف بينهما كالاختلاف بالكمية والكيفية، فقوله: {فاتقوا الله ما استطعتم} أمر باستيعاب جميع الموارد التي تسعها الاستطاعة بالتقوى، وقوله: {اتقوا الله حق تقاته} أمر بالتلبس في كل من موارد التقوى بحق التقوى دون شبحها وصورتها.
وثانيا: فساد قول بعضهم: إن قوله: {فاتقوا الله ما استطعتم} ناسخ لقوله: {اتقوا الله حق تقاته} وهو ظاهر.
وقوله: {واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم} توضيح وتأكيد لقوله: {فاتقوا الله ما استطعتم} والسمع الاستجابة والقبول وهو في مقام الالتزام القلبي، والطاعة الانقياد وهو في مقام العمل، والإنفاق المراد به بذل المال في سبيل الله.
و{خيرا لأنفسكم} منصوب بمحذوف - على ما في الكشاف، - والتقدير آمنوا خيرا لأنفسكم، ويحتمل أن يكون {أنفقوا} مضمنا معنى قدموا أو ما يقرب منه بقرينة المقام، وفي قوله: {لأنفسكم} دون أن يقال: خيرا لكم زيادة تطييب لنفوسهم أي إن الإنفاق خير لكم لا ينتفع به إلا أنفسكم لما فيه من بسط أيديكم وسعة قدرتكم على رفع حوائج مجتمعكم.
وقوله: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} تقدم تفسيره في تفسير سورة الحشر.
قوله تعالى: {إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم} المراد بإقراض الله الإنفاق في سبيله سماه الله إقراضا لله وسمي المال المنفق قرضا حسنا حثا وترغيبا لهم فيه.
وقوله: {يضاعفه لكم ويغفر لكم} إشارة إلى حسن جزائه في الدنيا والآخرة.
والشكور والحليم وعالم الغيب والشهادة والعزيز والحكيم خمسة من أسماء الله الحسنى تقدم شرحها، ووجه مناسبتها لما أمر به في الآية من السمع والطاعة والإنفاق ظاهر.
___________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج19 ، ص273-274.
أولادكم وأموالكم وسيلة لإمتحانكم :
حذر القرآن الكريم من مغبة الوقوع في الحب المفرط للأولاد والأموال ، الذي قد يجر إلى عدم الطاعة لله ورسوله حيث قال : {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم} .
إن هناك مظاهر عديدة لهذه العداوة ، فأحيانا يتعلقون بثيابكم ليحرموكم خير الهجرة ، واخرى ينتظرون موتكم ليسيطروا على أموالكم وثروتكم ، وما إلى ذلك .
وليس كل الأولاد ، ولا كل الزوجات كذلك ، لهذا جاءت " من " التبعيضية .
وتظهر هذه العداوة أحيانا بمظهر الصداقة وتقديم الخدمة ، وحينا آخر تظهر بسوء النية وخبث المقصد .
وعلى كل حال فإن الإنسان يصبح على مفترق طريقين ، فطريق الله وطريق الأهل والأزواج ، ولا ينبغي أن يتردد الإنسان في اتخاذ طريق الله وإيثاره على غيره ، ففيه النجاة والصلاح في الدنيا والآخرة . وهذا ما أكدت عليه الآية 23 من سورة التوبة : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [التوبة: 23].
ومن أجل أن لا يؤدي ذلك إلى الخشونة في معاملة الأهل ، نجد القرآن يوازن ذلك بقوله في ذيل نفس الآية : {وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم} فإذا ندموا واعتذروا والتحقوا بكم فلا تتعرضوا لهم بعد ذلك ، واعفوا عنهم واصفحوا كما تحبون أن يعفوا الله عنكم .
جاء في حديث الإفك أن بعض المؤمنين أقسموا أن يقاطعوا أقرباءهم الذين ساهموا في بث تلك الشائعة الخبيثة وترويجها ، وأن يمنعوا عنهم أي عون مالي ، فنزلت الآية 22 من تلك السورة : { وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22] .
وكما يظهر من المعنى اللغوي فإن لغفران الذنب مستويات ثلاثة هي ( العفو ) بمعنى صرف النظر عن العقوبة ، و ( الصفح ) في مرتبة أعلى ، ويراد به ترك أي توبيخ ولوم ، و ( الغفران ) الذي يعني ستر الذنب وتناسبه ، وبهذا فان الآية في نفس الوقت الذي تدعو الإنسان إلى الحزم وعدم التسليم في مقابل الزوجة والأولاد فيما لو دعوه إلى سلوك خاطئ تدعوه كذلك إلى بذل العفو والمحبة في جميع المراحل وكل ذلك من أساليب التربية السليمة وتعميق جذور التدين والإيمان في العائلة .
وتشير الآية اللاحقة إلى أصل كلي آخر حول الأموال والأولاد ، حيث تقول : {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} فإذا تجاوزتم ذلك كله فإن {الله عنده أجر عظيم} .
وقد تقدم في الآية السابقة الكلام عن عداء بعض الأزواج والأولاد الذين يدعون الإنسان إلى الانحراف وسلوك طريق الشيطان والمعصية والكفر ، وفي هذه الآية نجد الكلام عن أن جميع الأموال والأولاد عبارة عن " فتنة " ، وفي الحقيقة فان الله يبتلي الإنسان دائما من أجل تربيته ، وهذين الأمرين ( الأموال والأولاد ) من أهم وسائل الامتحان والابتلاء ، لأن جاذبية الأموال من جهة ، وحب الأولاد من جهة أخرى يدفعان الإنسان بشدة إلى سلوك طريق معين قد لا يكون فيه رضا الله تعالى أحيانا ، ويقع الإنسان في بعض الموارد في مضيقة شديدة ، ولذلك ورد التعبير في الآية " إنما " التي تدل على الحصر .
يقول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في رواية عنه " لا يقولن أحدكم : اللهم إني أعوذ بك من الفتنة لأنه ليس أحد إلا وهو مشتمل على فتنة ، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلات الفتن فإن الله سبحانه يقول : {واعلموا إنما أموالكم وأولادكم فتنة} " (2) .
يلاحظ نفس هذا المعنى مع تفاوت يسير في الآية 28 سورة الأنفال .
وعن كثير من المفسرين والمؤرخين ( كان رسول الله يخطب فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله إليهما فأخذهما فوضعهما في حجره على المنبر وقال : " صدق الله عز وجل : إنما أموالكم وأولادكم فتنة نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما . ثم أخذ في خطبته " (3) .
إن قطع الرسول لخطبته لا يعني أنه غفل عن ذكر الله ، أو عن أداء مسؤوليته التبليغية ، وإنما كان على علم بما لهذين الطفلين من مقام عظيم عند الله ، ولذا بادر إلى قطع الخطبة ليبرز مدى حبه واحترامه لهما .
إن عمل الرسول هذا كان تنبيها لكل المسلمين ليعرفوا شأن هذين الطفلين العظيمين ابني علي وفاطمة . فقد ورد في حديث نقلته المصادر المشهورة أن البراء بن عازب ( صحابي معروف يقول : رأيت الحسن بن علي على عاتق النبي وهو يقول : " اللهم إني أحبه فأحبه " (4) .
وفي رواية أخرى أن الحسين ( عليه السلام ) كان يصعد على ظهر الرسول وهو ساجد ، دون أن يمنعه الرسول (6) ، كل ذلك لإظهار عظمة هذين الإمامين ومقامهما الرفيع .
وجاء في الآية اللاحقة : {فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم} لقد أمر الله تعالى أولا باجتناب الذنوب ، ثم بإطاعة الأوامر ، وتعد الطاعة في قضية الإنفاق مقدمة لتلك الطاعة ، ثم يخبرهم أن خير ذلك يعود إليكم ولأنفسكم .
قال بعضهم : إن " خيرا " تعني ( المال ) وهو وسيلة لتحقيق بعض الطاعات ، وما جاء في آية الوصية يعتبر تعزيزا لهذا المعنى {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف} . (7)
وذهب البعض إلى أن كلمة ( خيرا ) جاءت بمعناها الواسع ، ولم يعتبروها قيدا للإنفاق ، بل هي متعلقة بالآية ككل ، فان ثمار الطاعة - كما يقولون - تعود لكم .
وربما يكون هذا التفسير أقرب من غيره (8) .
والأمر بالتقوى بقدر المستطاع لا يتنافى مع ما جاء في الآية ( 102 ) من سورة آل عمران حيث تقول : {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] بل هي مكملة لتلك ومن المسلم أن أداء حق التقوى لا يكون إلا بالقدر الذي يستطيعه الإنسان ، إذ يتعذر التكليف بغير المقدور .
فلا مجال لإعتبار الآية - مورد البحث - ناسخة لتلك الآية في سورة آل عمران كما اعتقد البعض .
وللتأكيد على أهمية الإنفاق ختمت الآية ب {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} .
" شح " بمعنى " البخل المرادف للحرص " ، ومن المعلوم أن هاتين الخصلتين السيئتين من أكبر الموانع أمام فوز الإنسان ، وتغلق عليه سبيل الإنفاق وتصده عن الخير ، ومن يتخلص من هاتين الخصلتين السيئتين فلا شك أنه سيضمن السعادة .
هذا وتوجد رواية عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) تقول : " من أدى الزكاة فقد وقى شح نفسه " (9) . ويبدو أن ذلك أحد المصاديق الحية في مسألة الشح وليس كل ( الشح ) .
وفي حديث آخر عن الصادق ( عليه السلام ) - أيضا - : رأيت أبا عبد الله ( عليه السلام ) يطوف من أول الليل إلى الصباح وهو يقول : " اللهم قني شح نفسي " فقلت : جعلت فداك ما
سمعتك تدعو ، بغير هذا الدعاء قال : " وأي شيء أشد من شح النفس وأن الله يقول : {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} (10) .
وللتشجيع على الإنفاق والتحذير من البخل ، يقول تعالى : {إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم}.
وكم هو رائع هذا التعبير الذي تكرر مرات عديدة في القرآن الكريم فالله الخالق الواهب للنعم الذي له كل شيء ، يستقرض منا ثم يعدنا بأنه سيعوضنا أضعاف ذلك ، إنه لطف ما بعده لطف !
وغير بعيد أن يكون ذلك إشارة إلى أهمية الإنفاق من جهة ، وإلى اللطف اللامحدود لله تعالى الذي يغمر به عباده من جهة أخرى .
" القرض " في الأصل بمعنى القطع ، ولأنها اقترنت بكلمة ( حسن ) فإنها تعني فصل المال عن النفس وإنفاقه في الخير .
" يضاعفه " من مادة " ضعف " ( على وزن شعر ) وكما قلنا سابقا : إنها تشتمل على عدة أضعاف وليس ضعفا واحدا ، كما جاء في سورة البقرة آية 161 .
وعبارة يغفر لكم للإشارة إلى أن الإنفاق أحد عوامل غفران الذنوب .
" شكور " هو أحد صفات الله تعالى الذي يشكر عباده بمجازاتهم أفضل الجزاء وأجزل الجزاء . وكونه ( حليم ) أي يغفر الذنوب ولا يتعجل العقوبة .
ويقول في آخر الآية : {عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم} إنه مطلع على أعمال عباده ومنها النفقة والبذل في سبيل الله . وإنه غير محتاج لكي يستقرض من عباده وإنما هو إظهار لكمال لطفه ومحبته لعباده .
وبناء على ذلك فإن الصفات الخمس - المذكورة في هذه الآية والآية السابقة - لله تعالى ، ترتبط كلها بمسألة الإنفاق في سبيله والحث عليه ، والاندكاك بالله تعالى الذي يؤدي إلى الاقتناع عن ارتكاب الذنوب والإعتصام بالتقوى .
__________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج14 ، ص240-244.
2 - نهج البلاغة ، الجمل القصار 93 .
3 - مجمع البيان ، ج 10 ، ص 301 .
4 - صحيح مسلم ، ج 4 ، ص 1883 ، حديث 58 .
6 - البحار ، ج 43 ، ص 296 ، حديث 57 .
7 - البقرة ، الآية 180 .
8 - على التفسير الأول تكون " خيرا " مفعول للفعل " أنفقوا " ، وعلى الثاني تكون خبرا لفعل مقدر ، وتقديره " يكن خيرا لكم " .
9 - مجمع البيان ، ج 10 ، ص 301 .
10 - نور الثقلين ، ج 5 ، ص 346 .
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|