أقرأ أيضاً
التاريخ: 9-11-2017
9486
التاريخ: 9-11-2017
3976
التاريخ: 12-11-2017
9611
|
قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَو انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَو زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُو فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل: 1 - 9].
{يا أيها المزمل} معناه يا أيها المتزمل بثيابه المتلفف بها عن قتادة وقيل يا أيها المتزمل بعباءة النبوة أي المتحمل لأثقالها عن عكرمة وقيل معناه يا أيها النائم وكان قد تزمل للنوم عن السدي وقيل كان يتزمل بالثياب في أول ما جاء به جبرائيل خوفا حتى أنس به وإنما خوطب بهذا في بدء الوحي ولم يكن قد بلغ شيئا ثم خوطب (صلى الله عليه وآله وسلّم) بعد ذلك بالنبي والرسول {قم الليل} للصلاة {إلا قليلا} والمعنى بالليل صل إلا قليلا من الليل فإن القيام بالليل عبارة عن الصلاة بالليل {نصفه} هو بدل من الليل فيكون بيانا للمستثنى منه أي قم نصف الليل ومعناه صل من الليل النصف إلا قليلا وهو قوله {أو أنقص منه قليلا} أي من النصف.
{أو زد عليه} أي على النصف وقال المفسرون أو أنقص من النصف قليلا إلى الثلث أو زد على النصف إلى الثلثين وقيل أن نصفه بدل من القليل فيكون بيانا للمستثنى والمعنى فيهما سواء ويؤيد هذا القول ما روي عن الصادق (عليه السلام) قال القليل النصف أو أنقص من القليل قليلا أو زد على القليل قليلا وقيل معناه قم نصف الليل إلا قليلا من الليالي وهي ليالي العذر كالمرض وغلبة النوم وعلة العين ونحوها أو أنقص من النصف قليلا أو زد عليه ذكره الإمام علي بن أبي الطالب (عليه السلام) خير الله سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) في هذه الساعات القيام بالليل وجعله موكولا إلى رأيه.
وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وطائفة من المؤمنين معه يقومون على هذه المقادير وشق ذلك عليهم فكان الرجل منهم لا يدري كم صلى وكم بقي من الليل فكان يقوم الليل كله مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب حتى خفف الله عنهم ب آخر هذه السورة وعن قتادة عن زرارة بن أوفى عن سعيد بن هشام قال قلت لعائشة أنبئيني عن قيام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال أ لست تقرأ {يا أيها المزمل} قلت بلى قالت فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام نبي الله وأصحابه حولا وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف فصار قيام الليل تطوعا بعد أن كان فريضة وقيل كان بين أول السورة وآخرها الذي نزل فيه التخفيف عشر سنين عن سعيد بن جبير وقيل كان هذا بمكة قبل فرض الصلوات الخمس ثم نسخ بالخمس عن ابن كيسان ومقاتل وقيل لما نزل أول المزمل كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان فكان بين أولها وآخرها سنة عن ابن عباس وقيل أن الآية الأخيرة نسخت الأولى عن الحسن وعكرمة وليس في ظاهر الآيات ما يقتضي النسخ فالأولى أن يكون الكلام على ظاهره فيكون القيام بالليل سنة مؤكدة مرغبا فيه وليس بفرض.
{ورتل القرآن ترتيلا} أي بينه بيانا واقرأه على هينتك ثلاث آيات وأربعا وخمسا عن ابن عباس قال الزجاج والبيان لا يتم بأن تعجل في القرآن إنما يتم بأن تبين جميع الحروف وتوفي حقها من الإشباع قال أبوحمزة قلت لابن عباس إني رجل في قراءتي وفي كلامي عجلة فقال ابن عباس لأن أقرأ البقرة أرتلها أحب إلي من أن أقرأ القرآن كله وقيل معناه ترسل فيه ترسلا عن مجاهد وقيل معناه تثبت فيه تثبتا عن قتادة وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في معناه أنه قال بينه بيانا ولا تهذه هذ الشعر(2) ولا تنثره نثر الرمل ولكن أقرع به القلوب القاسية ولا يكونن هم أحدكم آخر السورة وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال إذا مررت ب آية فيها ذكر الجنة فاسأل الله الجنة وإذا مررت ب آية فيها ذكر النار فتعوذ بالله من النار وقيل الترتيل هو أن تقرأ على نظمه وتواليه ولا تغير لفظا ولا تقدم مؤخرا وهو مأخوذ من ترتل الأسنان إذا استوت وحسن انتظامها وثغر رتل إذا كانت أسنانه مستوية لا تفاوت فيها وقيل رتل معناه ضعف والرتل اللين عن قطرب قال والمراد بهذا تحزين القرآن أي اقرأه بصوت حزين ويعضده ما رواه أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في هذا قال هو أن تتمكث فيه وتحسن به صوتك وروي عن أم سلمة أنها قالت كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقطع قراءته آية آية وعن أنس قال كان يمد صوته مدا وعن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها.
{إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا} أي سنوحي عليك قولا يثقل عليك وعلى أمتك أما ثقله عليه فلما فيه من تبليغ الرسالة وما يلحقه من الأذى فيه وما يلزمه من قيام الليل ومجاهدة النفس وترك الراحة والدعة وأما ثقله على أمته فلما فيه من الأمر والنهي والحدود وهذا معنى قول قتادة ومقاتل والحسن قال ابن زيد هو والله ثقيل مبارك وكما ثقل في الدنيا ثقل في الموازين يوم القيامة وقيل ثقيلا لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق ونفس مؤيدة بالتوحيد وقيل ثقيلا ليس بالسفساف الخفيف(3) ، لأنه كلام ربنا جلت عظمته عن الفراء وقيل معناه قولا عظيم الشأن كما يقال هذا كلام رصين وهذا الكلام له وزن إذا كان واقعا موقعه وقيل معناه قولا ثقيلا نزوله فإنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان يتغير حاله عند نزوله ويعرق وإذا كان راكبا يبرك راحلته ولا يستطيع المشي وسأل الحرث بن هشام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال يا رسول الله كيف يأتيك الوحي فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم) ((أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشد علي فيفصم عني(4) وقد وعيت ما قال وأحيانا يتمثل الملك رجلا فأعي ما يقول)) قالت عائشة أنه كان ليوحى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وهو على راحلته فيضرب بجرانها(5) قالت ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليرفض عرقا وقيل ثقيلا على الكفار لما فيه من الكشف عن جهلهم وضلالهم وسفه أحلامهم وقبح أفعالهم.
{إن ناشئة الليل} معناه إن ساعات الليل لأنها تنشأ ساعة بعد ساعة وتقديره أن ساعات الليل الناشئة وقال ابن عباس هو الليل كله لأنه ينشأ بعد النهار وقال مجاهد هي ساعات التهجد من الليل وقيل هي بالحبشية قيام الليل عن عبد الله بن مسعود وسعيد بن جبير وقيل هي القيام بعد النوم عن عائشة وقيل هي ما كان بعد العشاء الآخرة عن الحسن وقتادة والمروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) أنهما قالا هي القيام في آخر الليل إلى صلاة الليل {هي أشد وطأ} أي أكثر ثقلا وأبلغ مشقة لأن الليل وقت الراحة والعمل يشق فيه ومن قال وطاء فالمعنى أشد مواطاة للسمع والبصر يتوافق فيها قلب المصلي ولسانه وسمعه على التفهم والتفكر إذ القلب غير مشتغل بشيء من أمور الدنيا.
{وأقوم قيلا} أي أصوب للقراءة وأثبت للقول لفراغ البال وانقطاع ما يشغل القلب عن أنس ومجاهد وابن زيد وقال أبوعبد الله (عليه السلام) هو قيام الرجل عن فراشه لا يريد به إلا الله تعالى {إن لك في النهار سبحا طويلا} معناه أن لك يا محمد في النهار منصرفا ومنقلبا إلى ما تقضي فيه حوائجك عن قتادة والمراد أن مذاهبك في النهار ومشاغلك كثيرة فإنك تحتاج فيه إلى تبليغ الرسالة ودعوة الخلق وتعليم الفرائض والسنن وإصلاح المعيشة لنفسك وعيالك وفي الليل يفرغ القلب للتذكر والقراءة فاجعل ناشئة الليل لعبادتك لتأخذ بحظك من خير الدنيا والآخرة وفي هذا دلالة على أنه لا عذر لأحد في ترك صلاة الليل لأجل التعليم والتعلم لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان يحتاج إلى التعليم أكثر مما يحتاج الواحد منا إليه.
ثم لم يرض سبحانه أن يترك حظه من قيام الليل {واذكر اسم ربك} يعني أسماء الله تعالى التي تعبد بالدعاء بها وقيل اقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء صلاتك توصلك بركة قراءتها إلى ربك وتقطعك من كل ما سواه وقيل واقصد بعملك وجه ربك {وتبتل إليه تبتيلا} أي أخلص له إخلاصا عن ابن عباس وغيره يعني في الدعاء والعبادة وقيل انقطع إليه انقطاعا عن عطاء وهو الأصل وقيل توكل عليه توكلا عن شقيق وقيل تفرغ لعبادته عن ابن زيد وقد جاء في الحديث النهي عن التبتل والمراد به الانقطاع عن الناس والجماعات وكان يجب أن يقول تبتلا لأن المراد بتلك الله من المخلوقين واصطفاك لنفسه تبتيلا فتبتل أنت أيضا إليه وقيل إنما قال تبتيلا ليطابق أواخر آيات السورة وروى محمد بن مسلم وزرارة وحمران عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) أن التبتل هنا رفع اليدين في الصلاة وفي رواية أبي بصير قال هو رفع يدك إلى الله وتضرعك إليه.
{رب المشرق والمغرب} أي رب العالم بما فيه لأنه بين المشرق والمغرب وقيل رب مشرق الشمس ومغربها والمراد أول النهار وآخره فأضاف النصف الأول من النهار إلى المشرق والنصف الآخر منه إلى المغرب وقيل مالك المشرق والمغرب أي المتصرف فيما بينهما والمدبر لما بينهما {لا إله إلا هو} أي لا أحد تحق له العبادة سواه {فاتخذه وكيلا} أي حفيظا للقيام بأمرك وقيل معناه فاتخذه كافيا لما وعدك به واعتمد عليه وفوض أمرك إليه تجده خير حفيظ وكاف .
__________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص160-164.
2- الهذ : سرعة القراءة.
3- اي الذي يستخف به.
4- قال الجزري : اي يقلع عني .
5- الجران : مقدم عنق البعير من مذبحه الى منحره.
{يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} . هذه الآية وما بعدها من أوائل الآيات التي نزلت على الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) أما أول آية أول أول سورة نزلت عليه فسيأتي الحديث عنها عند تفسير {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . .} وخاطب سبحانه هنا نبيه الكريم بالمزمل لأنه كان آنذاك مشتملا بكسائه لسبب من الأسباب ، فخاطبه العلي الأعلى بالصفة التي كان عليها ملاطفة له ، ومن هذا الباب قوله النبي (صلى الله عليه واله وسلم) لعلي :
قم يا أبا تراب ، وكان نائما على التراب ، وقوله لحذيفة اليماني : قم يا نومان وكان نائما .
{قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} . دع التلفف يا محمد ، وأحي الليل في الصلاة والعبادة ما عدا جزءا قليلا منه تأوي فيه إلى فراشك للنوم والراحة . وبكلام آخر اجعل الليل شطرين : شطرا لربك وآخر لنفسك . . وقال قائل : أراد اللَّه بهذا ان يهيئ نبيّه الكريم للجهاد الطويل ، والصبر على متاعب الدعوة ، وما يلاقيه من أذى المشركين بسببها ! . . وهذا مجرد خيال لأن اللَّه سبحانه قد هيأ محمدا لأمانته الكبرى بفطرته ومنذ اليوم الأول لولادته .
{نِصْفَهُ أَو انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَو زِدْ عَلَيْهِ} قليلا أيضا . هذا بيان وتفسير لقوله تعالى : {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} لأن معناه لك يا محمد أن تقوم للَّه تمام النصف من الليل ، أو أقل من النصف بقليل أو أكثر منه أيضا بقليل ، ويبتني هذا التفسير على ان {نصفه} بدل من الليل لا من قليل ، ويجوز أن يكون بدلا من قليل لا من الليل ، وعليه يكون المعنى لك أن تأوي إلى فراشك وتستريح تمام
النصف من الليل أو أقل منه أو أكثر بقليل . . ولا فرق من حيث المعنى بين الإعرابين لأن البدل هو بدل كل من كل سواء أكان من المستثنى أم من المستثنى منه . واستنتج كثير من المفسرين من كلمة {قليل} في الآية ، استنتجوا ان لا يتجاوز النقص حد الثلث ، والزيادة حد الثلثين ، وعليه يكون التخيير بين النصف والثلث والثلثين ، والآية 20 من هذه السورة نصت على هذه الأوقات الثلاثة .
{ورَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} . الخطاب للرسول (صلى الله عليه واله وسلم) والمقصود العموم ، والمعنى تمهل ولا تسرع في التلاوة ، فإن الغرض من قراءة القرآن ان يتدبر القارئ معانيه ومراميه ، وينتفع بأحكامه وعظاته وبوعده ووعيده ، فيشعر بالخوف من العذاب الأليم على المعصية ، وبالأمل في الثواب الجزيل على الطاعة ، وإلا فإن مجرد حركة اللسان وإخراج الحروف مخارجها - غير مقصود بالذات .
شخصية الرسول الأعظم :
{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} . القرآن ثقيل بكل ما في هذه الكلمة من معنى ، هو ثقيل في إعجازه وخلوده ، وفي عقيدته وشريعته ، وفي حربه ونضاله ضد الأقوياء المفسدين والطغاة المترفين ، وقال كثير من المفسرين : {القرآن ثقيل لأن تكاليفه شاقة مثل المحافظة على الصلوات الخمس ، والقيام آخر الليل لصلاة الفجر ، والوضوء بالماء البارد مرارا ، والاغتسال به أحيانا ، وكالصوم في أيام الحر ، والقيام للسحور من آخر الليل ، وكالحج ومشتقاته من الإحرام والسعي والطواف} .
وليس من شك ان هذه كبيرة إلا على الخاشعين ، ولكن أكبر منها وأثقل التكليف بالجهاد ، وهو على أنواع ، وأثقل أنواعه الجهاد لتغيير القلوب والمشاعر ، والقضاء على العقائد الفاسدة والتقاليد الموروثة ، واستئصال الفساد من جذوره ، وهذا ما كلف به أبو القاسم محمد بن عبد اللَّه : فلقد بعثه اللَّه سبحانه ليتمم مكارم الأخلاق للبشرية كلها ، ويخرج الناس من الظلمات إلى النور ، وأي تكليف أثقل وأشق من هذا التكليف ؟ ومن الذي يستطيع أن يغير من أخلاق زوجته وولده بخاصة في عصر الجاهلية أفسد العصور وأكثرها فسادا وطغيانا ؟ ولكن محمدا تغلب على جميع الصعاب ، وقام بالأمر على أكمل وجه ، أما السر في ذلك فيكمن في شخصية محمد وقوتها وعظمتها ، وفي صبره العجيب على تحمل الأذى في سبيل دعوته ، فكان يزداد صبرا وحلما كلما ازداد الطغاة في أذاه ، ولا يزيد على قوله : {اللهم اغفر لقومي انهم لا يعلمون . .} ان لم يكن بك غضب علي فلا أبالي .
وبهذا نجد التفسير الصحيح لقوله تعالى : {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ} 124 الانعام . أجل ، اللَّه يعلم ان شخصية محمد أقوى من العقائد والتقاليد ومن الناس مجتمعين ، ولولا علمه بذلك لما بعث محمدا ليتمم للبشرية مكارم الأخلاق :
{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها} - 7 الطلاق . وقد أدرك الأديب العالمي الشهير (برناردشو) هذه الحقيقة حيث قال : لوكان محمد بن عبد اللَّه في القرن العشرين لقضى على ما فيه من فساد وضلال .
{إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وأَقْوَمُ قِيلًا} كأن سائلا يسأل : لما ذا أمر اللَّه نبيه الكريم أن يتعبد في شطر من الليل ؟ فأجاب سبحانه : لأن قيام الإنسان من مضجعه بعد هدأة من الليل يشق كثيرا على النفس ، وأفضل الأعمال أشقها ، ولأن قلب الإنسان في الليل أصفى وأهدأ ، فتكون تلاوته للقرآن أصوب وأثبت ، وأيضا يكون أكثر تجاوبا مع ما يتلوه من الآيات . وقيل : المراد بالوطء هنا المواطأة والموافقة بين القلب واللسان {إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا} . الليل للعبادة والتهجد ، والنهار للعمل والسعي في طلب العيش ، وهو طويل يتسع لكل ما يحتاجه الإنسان من أعمال .
وقال الشيخ عبد القادر المغربي عند تفسير هذه الآية : {قد يعترض معترض بأن قيام الليل يضعف الجسم عن المقاومة والمكافحة . وقد أجاب سيدنا علي {ض} عن ذلك بقوله : {وكأني بقائلكم يقول : إذا كان هذا حال علي بن أبي طالب - أي التخشن والتهجد - فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران ومنازلة الشجعان ألا وان الشجرة البرية أصلب عودا والروائح الخضرة أرق جلودا ، والنباتات البدوية أقوى وقودا وأبطأ خمودا ، وأنا ورسول اللَّه كالصنو من الصنو، والذراع من العضد . أي انه هو وسيدنا رسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) من أصل واحد في العمل والطريقة وأسلوب المعيشة ، فيكون في حالته كما كان سيدنا الرسول شديد البأس قوي العزيمة ، وان كان خشن المعيشة} .
{واذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} . المراد بذكر اللَّه هنا الدعوة إليه تعالى ، والتبتل مأخوذ من البتل ، وهو القطع مثل البت ، ويستعمل التبتل في الانصراف عن الدنيا ، ومنه البتول لقب السيدة مريم ، والمعنى بعد أن تحيي يا محمد شطرا من الليل في العبادة ، وتستريح في شطر منه - ادع دعوة الحق وجاهد في سبيلها لوجه اللَّه وحده . . وكأن اللَّه سبحانه يعلم نبيّه الكريم ان يجعل وقته ثلاثة أقسام : الأول للعبادة ، والثاني للجهاد ، والثالث للراحة كي يستمر في عبادته وجهاده {رَبُّ الْمَشْرِقِ والْمَغْرِبِ لا إِلهً إِلَّا هُو فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} . الملك في المشارق والمغارب وفي السماوات والأرض للَّه وحده لا شريك له ، وإذا كان الخلق كله للَّه وجب على العبد أن يعتمد على اللَّه ، ولا يلجأ إلى أحد سواه ، وفيه إيماء إلى ان الخلق يدل على وجود الخالق ، وان خضوع المخلوقات بكاملها لنواميس طبيعية ثابتة يدل دلالة واضحة على ان الخالق واحد في ذاته وصفاته .
___________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص445-448.
السورة تأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقيام الليل والصلاة فيه ليستعد بذلك لتلقي ثقل ما سيلقى عليه من القول الثقيل والقرآن الموحي إليه، وتأمره أن يصبر على ما يقولون فيه أنه شاعر أوكاهن أو مجنون إلى غير ذلك ويهجرهم هجرا جميلا، وفيها وعيد وإنذار للكفار وتعميم الحكم لسائر المؤمنين، وفي آخرها تخفيف ما للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين.
والسورة مكية من عتائق السور النازلة في أول البعثة حتى قيل: إنها ثانية السور النازلة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو ثالثتها.
قوله تعالى: {يا أيها المزمل} بتشديد الزاي والميم وأصله المتزمل اسم فاعل من التزمل بمعنى التلفف بالثوب لنوم ونحوه، وظاهره أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد تزمل بثوب للنوم فنزل عليه الوحي وخوطب بالمزمل.
وليس في الخطاب به تهجين ولا تحسين كما توهمه بعضهم، نعم يمكن أن يستفاد من سياق الآيات أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد قوبل في دعوته بالهزء والسخرية والإيذاء فاغتم في الله فتزمل بثوب لينام دفعا للهم فخوطب بالمزمل وأمر بقيام الليل والصلاة فيه والصبر على ما يقولون على حد قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45] فأفيد بذلك أن عليه أن يقاوم الكرب العظام والنوائب المرة بالصلاة والصبر لا بالتزمل والنوم.
وقيل: المراد يا أيها المتزمل بعباءة النبوة أي المتحمل لأثقالها، ولا شاهد عليه من جهة اللفظ.
قوله تعالى: {قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا} المراد بقيام الليل القيام فيه إلى الصلاة فالليل مفعول به توسعا كما في قولهم: دخلت الدار، وقيل: معمول {قم} مقدر و{الليل} منصوب على الظرفية والتقدير قم إلى الصلاة في الليل، وقوله: {إلا قليلا} استثناء من الليل.
وقوله: {نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه} ظاهر السياق أنه بدل من {الليل إلا قليلا} المتعلق به تكليف القيام، وضميرا {منه} و{عليه} للنصف، وضمير {نصفه} لليل، والمعنى قم نصف الليل أو انقص من النصف قليلا أو زد على النصف قليلا، والترديد بين الثلاثة للتخيير فقد خير بين قيام النصف وقيام أقل من النصف بقليل وقيام أكثر منه بقليل.
وقيل: {نصفه} بدل من المستثنى أعني {قليلا} فيكون المعنى قم الليل إلا نصفه أو انقص من النصف قليلا فقم أكثر من النصف بقليل أو زد على النصف فقم أقل من النصف، وتكون جملة البدل رافعا لإبهام المستثنى بالمطابقة ولإبهام المستثنى منه بالالتزام عكس الوجه السابق.
والوجهان وإن اتحدا في النتيجة غير أن الوجه السابق أسبق إلى الذهن لأن الحاجة إلى رفع الإبهام عن متعلق الحكم أقدم من الحاجة إلى رفع الإبهام عن توابعه وملحقاته فكون قوله: {نصفه} إلخ بدلا من الليل ولازمه رفع إبهام متعلق التكليف بالمطابقة أسبق إلى الذهن من كونه بدلا من {قليلا}.
وقيل: إن نصفه بدل من الليل لكن المراد بالقليل القليل من الليالي دون القليل من أجزاء الليل، والمعنى قم نصف الليل أو انقص منه قليلا أو زد عليه إلا قليلا من الليالي وهي ليالي العذر من مرض أو غلبة نوم أو نحو ذلك، ولا بأس بهذا الوجه لكن الوجه الأول أسبق منه إلى الذهن.
وقوله: {ورتل القرآن ترتيلا} ترتيل القرآن تلاوته بتبيين حروفه على تواليها، والجملة معطوفة على قوله: {قم الليل} أي قم الليل واقرأ القرآن بترتيل.
والظاهر أن المراد بترتيل القرآن ترتيله في الصلاة أو المراد به الصلاة نفسها وقد عبر سبحانه عن الصلاة بنظير هذا التعبير في قوله: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } [الإسراء: 78] ، وقيل: المراد إيجاب قراءة القرآن دون الصلاة.
قوله تعالى: {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا} الثقل كيفية جسمانية من خاصته أنه يشق حمل الجسم الثقيل ونقله من مكان إلى مكان وربما يستعار للمعاني إذا شق على النفس تحملها أولم تطقها فربما أضيف إلى القول من جهة معناه فعد ثقيلا لتضمنه معنى يشق على النفس إدراكه أولا تطيق فهمه أو تتحرج من تلقيه كدقائق الأنظار العلمية إذا ألقيت على الأفهام العامة، أو لتضمنه حقائق يصعب التحقق بها أو تكاليف يشق الإتيان بها والمداومة عليها.
والقرآن قول إلهي ثقيل بكلا المعنيين: أما من حيث تلقي معناه فإنه كلام إلهي مأخوذ من ساحة العظمة والكبرياء لا تتلقاه إلا نفس طاهرة من كل دنس منقطع عن كل سبب إلا الله سبحانه، وكتاب عزيز له ظهر وبطن وتنزيل وتأويل تبيانا لكل شيء، وقد كان ثقله مشهودا من حال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما كان يأخذه من البرحاء وشبه الإغماء على ما وردت به الأخبار المستفيضة.
وأما من حيث التحقق بحقيقة التوحيد وما يتبعها من الحقائق الاعتقادية فكفى في الإشارة إلى ثقله قوله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [الحشر: 21] ، وقوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى } [الرعد: 31].
وأما من حيث القيام بما يشتمل عليه من أمر الدعوة وإقامة مراسم الدين الحنيف، وإظهاره على الدين كله فيشهد به ما لقي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المصائب والمحن في سبيل الله والأذى في جنب الله على ما يشهد به الآيات القرآنية الحاكية لما لقيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المشركين والكفار والمنافقين والذين في قلوبهم مرض من أنواع الإيذاء والهزء والجفاء.
فقوله: {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا} المراد بالقول الثقيل القرآن العظيم على ما يسبق إلى الذهن من سياق هذه الآيات النازلة في أول البعثة، وبه فسره المفسرون.
والآية في مقام التعليل للحكم المدلول عليه بقوله: {قم الليل} إلخ فتفيد بمقتضى السياق - والخطاب خاص بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - أن أمره بقيام الليل والتوجه فيه إليه تعالى بصلاة الليل تهيئة له وإعداد لكرامة القرب وشرف الحضور وإلقاء قول ثقيل فقيام الليل هي السبيل المؤدية إلى هذا الموقف الكريم وقد عد سبحانه صلاة الليل سبيلا إليه في قوله الآتي: {إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا}.
وقد زاد سبحانه وعدا على ما في هذه الآية في قوله: { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } [الإسراء: 79] وقد تقدم معنى المقام المحمود في تفسير الآية.
وفيه أنه إن أراد بالذكر الذكر اللفظي فعدم نسيانه (صلى الله عليه وآله وسلم) ربه تعالى لا ينافي أمره بالذكر اللفظي، وإن أراد ما يعم الذكر القلبي فهو ممنوع ولو سلم ففيه أولا أن عدم نسيانه (صلى الله عليه وآله وسلم) ربه إلى حين الخطاب لا ينافي أمره بذكره بعده وثانيا أن عده الدوام الحقيقي غير ممكن وحمل الدوام على العرفي وهم ناش عن عدم تحصيل المعنى على ما هو عليه فالله جل ذكره مذكور للإنسان لا يغيب عنه ولا لحظة سواء تنبه عليه الإنسان أو غفل عنه.
ومن الممكن أن يعرفه الله نفسه بحيث لا يغفل عنه ولا في حال قال تعالى: { فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ } [فصلت: 38] وقال: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20] وقد تقدم في تفسير الآيتين وآخر سورة الأعراف أن ذلك لا يختص بالملائكة.
وبالجملة قوله: {واذكر اسم ربك} أمر بذكر اسم من أسمائه أولفظ الجلالة خاصة وقيل: المراد به البسملة.
وفي قوله: {ربك} التفات عن التكلم مع الغير في قوله: {إنا سنلقي} إلى الغيبة ولعل الوجه فيه إيقاظ ذلة العبودية التي هي الرابطة بين العبد وربه، بذكر صفة الربوبية.
وقوله {وتبتل إليه تبتيلا} فسر التبتل بالانقطاع أي وانقطع إلى الله، ومن المروي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن التبتل رفع اليد إلى الله والتضرع إليه، وهذا المعنى أنسب بناء على حمل الذكر على الذكر اللفظي كما تقدم.
و{تبتيلا} مفعول مطلق ظاهرا وكان مقتضى الظاهر أن يقال: وتبتل إليه تبتلا فالعدول إلى التبتيل قيل: لتضمين تبتل معنى بتل، والمعنى وقطع نفسك من غيره إليه تقطيعا أو احمل نفسك على رفع اليد إليه والتضرع حملا، وقيل: لمراعاة الفواصل.
قوله تعالى: {رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا} وصف مقطوع عن الوصفية والتقدير هورب المشرق والمغرب، ورب المشرق والمغرب في معنى رب العالم كله فإن المشرق والمغرب جهتان نسبيتان تشملان جهات العالم المشهود كلها، وإنما اختصا بالذكر لمناسبة ما تقدم من ذكر الليل والنهار المرتبطين بالشروق والغروب.
وإنما لم يقتصر في الإشارة إلى ربوبيته تعالى بقوله السابق: {ربك} للإيذان بأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) مأمور باتخاذه ربا لأنه ربه ورب العالم كله لا لأنه ربه وحده كما ربما كان الرجل من الوثنيين يتخذ صنما لنفسه فحسب غير ما اتخذه غيره من الأصنام ولوكان اتخاذه (صلى الله عليه وآله وسلم) له تعالى ربا من هذا القبيل أو احتمل ذلك لم تصح دعوته إلى التوحيد.
وليكون قوله: ربك رب المشرق والمغرب – وهو في معنى رب العالم كله - توطئة وتمهيدا لقوله بعده: {لا إله إلا هو} يعلل به توحيد الألوهية فإن الألوهية وهي المعبودية من فروع الربوبية التي هي الملك والتدبير كما تقدم مرارا فهو تعالى الإله وحده لا إله إلا هو لأنه الرب وحده لا رب إلا هو.
وقوله: {فاتخذه وكيلا} أي في جميع أمورك، وتوكيل الوكيل هو إقامة الإنسان غيره مقام نفسه بحيث تقوم إرادته مقام إرادته وعمله مقام عمله فاتخاذه تعالى وكيلا أن يرى الإنسان الأمر كله له وإليه تعالى أما في الأمور الخارجية والحوادث الكونية فأن لا يرى لنفسه ولا لشيء من الأسباب الظاهرية استقلالا في التأثير فلا مؤثر في الوجود بحقيقة معنى التأثير إلا الله فلا يتعلق بتأثير سبب من الأسباب برضى أو سخط أو سرور أو أسف وغير ذلك بل يتوسل إلى مقاصده ومآربه بما عرفه الله من الأسباب من غير أن يطمئن إلى استقلالها في التأثير ويرجع الظفر بالمطلوب إلى الله ليختار له ما يرتضيه.
وأما الأمور التي لها تعلق بالعمل من العبادات والمعاملات فأن يجعل إرادته تابعة لإرادة ربه التشريعية فيعمل على حسب ما يريده الله تعالى منه فيما شرع من الشريعة.
ومن هنا يظهر أن لقوله: {فاتخذه وكيلا} ارتباطا بقوله: {واذكر اسم ربك} إلخ وما تقدم عليه من الأوامر التشريعية كما أن له ارتباطا بما تأخر عنه من قوله {واصبر} وقوله {اهجر} وقوله: {وذرني}.
_______________
1- الميزان ن الطباطبائي ، ج20 ، ص53-59.
يشير سياق الآيات كما بيّنا إلى دعوة الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) للاستقامة والإستعداد لقبول مهمّة كبيرة وثقيلة، وهذا لا يتمّ إلاّ بالبناء المسبق للذات، فيقول: (يا أيّها المزّمل (2)، قم الليل إلاّ قليلاً، نصفه أو انقص منه قليلاً، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً).
الطريف في هذه الآيات أنّ المخاطب هو الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن لا بعنوان يا أيّها الرّسول، أويا أيّها النّبي، بل بعنوان يا أيّها المزمل، إشارة إلى إنّ هذا ليس زمان التزمل والإنزواء، بل زمان القيام والبناء الذاتي والإستعداد لأداء الرسالة العظيمة، واختيار الليل لهذا العمل أوّلاً: لأنّ أعين الأعداء نائمة، وثانياً: تتعطل الأعمال المكاسب، ولهذا فإنّ الإنسان يستعد للتفكر ولتربية النفس.
وكذلك إختيار القرآن لأنّ يكون المادة الأُولى في البرنامج العبادي في الليل إنّما هو لإقتباس الدروس اللازمة في هذا الباب، وهو يعدّ من أفضل الوسائل لتقوية الإيمان والإستقامة والتقوى وتربية النفوس، والتعبير بالترتيل الذي يراد به التنظيم والترتيب الموزون هنا هو القراءة بالتأني والإنتظام اللازم، والأداء الصحيح للحروف، وتبيّن الحروف، والدقّة والتأمل في مفاهيم الآيات، والتفكر في نتائجها.
وبديهي أنّ مثل هذه القراءة تعطي الإنسان الرّشد والنمو المعنوي السريع والشهامة الخلقية وتهب التقوى، وإذا فسّره البعض بالصلاة فذلك لأنّ أحد أجزاء الصلاة المهمّة هي قراءة القرآن.
عبارة «قم الليل» تعني النهوض في مقابل النوم، وليس الوقوف فحسب، وأمّا ما جاء من العبارات المختلفة في هذه الآيات حول مقدار إحياء الليل فهو في الحقيقة لتبيان التخيير، وأنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مخيّر في الإستيقاظ في نصف الليل أو أقل من ذلك أو أكثر لقراءة القرآن، ففي المرحلة الأُولى يذكر الليل كلّه إلاّ قليلاً منه، ثمّ يخففه ليوصله إلى النصف، وبعدئذ إلى أقل من النصف.
وقيل: المراد هو التخيير بين الثلث الثّاني والنصف والثلث الأوّل، بقرينة الآية التي في آخر السورة: {إنّ بربّك يعلم أنّك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه} ويستفاد من هذه الآية أيضاً أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن وحده الذي يقوم الليل، بل معه عدّة من المؤمنين كانوا ملتزمين أيضاً بهذا النظام للبناء الذاتي والتربية والإستعداد متخذين النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) اُسوة لهم.
وقال البعض: إنّ المراد من «قم الليل إلاّ قليلاً»، هو القيام في الليالي كلّها إلاّ بعض الليالي، وليس الإستثناء في أجزاء الليل، ولكن هذا القول بعيد عن الصواب حيث أنّ الليل جاء بصيغة مفرد «ليل»، وجاء التعبير بالنصف أو أقل النصف.
ثمّ يبيّن الهدف النهائي لهذا الأمر المهم والشاق فيقول: (إنّا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً.)
ذكر المفسّرين في القول الثقيل أقوالاً مختلفة، لكن الملاحظ أن ثقل القول يراد به القرآن المجيد بأبعاده المختلفة... ثقيل بلحاظ المحتوى ومفاهيم الآيات.
ثقيل بلحاظ حمل على القلوب له لما يقوله القرآن: { لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } [الحشر: 21]. ثقيل بلحاظ الوعد والوعيد وبيان المسؤوليات.
ثقيل بلحاظ التبليغ ومشاكل طريق الدعوة.
وثقيل في ميزان العمل وفي عرصة القيامة، وبالتالي ثقيل بلحاظ تخطيطه وتنفيذه بشكل تام.
نعم، وإن قراءة القرآن وأن كانت سهلة وجميلة ومؤثرة، ولكن تحقق مفاده ليس بأسهل اليسير بالخصوص في أوائل الدعوة النّبوية في مكّة حيث الظلام والجهل وعبادة الأصنام والخرافات، إذ أنّ الأعداء المتعصبين القساة كانوا قد تكاتفوا ضد الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه القلائل استطاعوا أن يتغلبوا على كل تلك هذه المشاكل باستمدادهم من تربية القرآن، والإستعانة بصلاة الليل، وبالإستفادة من قربهم من ذات اللّه المقدسة، واستطاعوا بذلك حمل هذا القول الثقيل والوصول إلى مرادهم.
وقوله تعالى :{إنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً(6) إِنَّ لَكَ فِى النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً(7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8)رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9)وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً}
تأثير الدعاء والمناجاة في أعماق الليل:
تستمر هذه الآيات في البحث حول عبادة الليل والتعاليم المعنوية الموجودة قراءة القرآن في الليل، وهي بمنزلة بيان الدليل على ما جاء في الآيات السالفة، فيقول تعالى: {إنّ ناشئة الليل هي أشدُّ وطأً وأقوم قيلاً}(3).
«الناشئة»: من مادة (نشأ)، على وزن نثر، وتعني الحادثة، وقد ذكر هنا ثلاثة تفاسير لما يراد منها.
الأوّل: المراد به ساعات الليل الحادثة بالتوالي، أو أنّها تخصّ الساعات الأخيرة لليل والسحر.
والآخر: إنّ المراد هو إحياء الليل بالصلاة والعبادة وقراءة القرآن كما ورد في حديث عن الإمامين الصادق والباقر(عليهما السلام) حيث قالا: «هي القيام في آخر الليل إلى صلاة الليل»(4).
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام) في تفسير هذه الآية، قال: «قيامه عن فراشه لا يريد إلاّ اللّه».(5)
والثّالث: الحالات المعنوية والروحية والنشاط والجذوة الملكوتية التي تحصل في القلب الإنسان وروحه في هذه الساعات الخاصّة بالليل، والتي تكون آثارها في روح الإنسان أعمق واستمرارها أكثر، والتّفسيران الثّاني والثّالث متلازمان، ويمكن جمعها في ما يراد بمعنى الآية.
«وطأً»: تعني في الأصل وضع القدم، وتعني كذلك الموافقة.
والتعبير بـ (أشدّ وطأً): العناء والمشقّة الحاصلة في عبادة الليل، أو أنّه يعني التأثيرات الثابتة والراسخة الحاصلة من شعاع هذه العبادات في روح الإنسان، والمعنى الثّاني أوجه.
ويحتمل أن يراد له التوافق الحاصل بين قلب الإنسان وعينه وأُذنه وبالتالي تعبئتها في طريق العبادة.
«أقوم»: من القيام، ويراد بكونها أثبت للقول وأصوب لحضور القلب.
«قيلاً»: تعني القول، وتشير هنا إلى ذكر اللّه وقراءة القرآن.
ومحصلة ذلك أنّ هذه الآية من الآيات التي تحتوي على أبلغ الأحاديث حول العبادة الليلية، ورمز إظهار المحبّة مع المحبوب في ساعات يختلي فيها الحبيب بحبيبه وأكثر من غيرها.
ويضيف في الآية الأُخرى: {إنّ لك في النهار سبحاً طويلاً}.
أي إنّك مشغول بهداية الخلق وإبلاغ الرسالة وحلّ المشاكل المتنوعة، ولا مجال لك بالتوجه التام إلى ربّك والإنقطاع إليه بالذكر، فعليك بالليل والعبادة فيه.
وهناك معنى أدق وتفسير يناسب الآيات السابقة أيضاً هو: أنّك تتحمل في النهار مشاغل ثقيلة ومساعي كثيرة، فعليك بعبادة الليل لتقوى بها روحك وتستعد للفعاليات والنشاطات الكثيرة في النهار.
«سبح»: على وزن مدح، وتعني في الأصل الحركة والذهاب والإيّاب، ويطلق على السباحة لما فيها من الحركة المستمرة، وكأنّه يشبه المجتمع الإنساني بالمحيط اللامتناهي الذي يغرق فيه الكثير من الناس، وأمواجه المتلاطمة تتحرك في كل الجهات، وفيها من السفن المضطربة التي تبحث عن الملجأ الأمين، والرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) هو المنجي الوحيد للغريق ، وقرآنه سفينة النجاة الوحيدة في هذا المحيط، فعلى هذا السبّاح العظيم أن يهيئ نفسه يومياً بالعبادة الليلة لإتمام هذه المهمّة والرسالة العظيمة.
وبعد الإشارة إلى العبادة الليلية، والإشارة الإجمالية إلى الآثارها العميقة يذكّر القرآن بخمسة أوامر اُخرى مكملة لتلك فيقول: {واذكر اسم ربّك}.
والطبيعي أنّ المراد ليس ذكر الاسم فحسب، بل التوجه إلى المعنى، لأنّ الذكر اللفظي مقدمة للذكر القلبي، والذكر القلبي يبعث على صفاء القلب والروح ويروي منهل المعرفة والتقوى في القلب.
المراد بـ «الربّ» هو الإشارة إلى التوجه إلى النعم اللامتناهية وذلك عند الإتيان بذكره المقدس، وأن يكون ذكره ملازماً مع التوجه إلى تربيته تعالى شأنه لنا، ويبيّن بعض المفسّرين مراحل لذكر الربّ تعالى.
المرحلة الاُولى: ذكره تعالى كما أشير إلى ذلك.
المرحلة الثّانية: الذكر القلبي لذاته المقدسة، كما هو في الآية (205) من سورة الأعراف: { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً } [الأعراف: 205] .
ثمّ تبدأ المرحلة الثّالثة، وفيها يتعدى الذكر مقام الرّبوبية ليصل إلى مقام مجموعة الصفات الجمالية والجلالية المجتمعة في اللّه تعالى، كما هو في الآية (41) من سورة الأحزاب حيث يقول: {يا أيّها الذين آمنوا اذكروا اللّه ذكراً كثيراً} وعلى هذا الأساس يستمر هذا الذكر ليتكامل في مراحلة ليوصل الذاكر نفسه إلى أوج الكمال.(6)
ويقول في الأمر الثّاني: {وتبتّل إليه تبتيلاً}.(7)
«التبتل»: من (البتل) على وزن (حتم)، وتعني في الأصل الإنقطاع، ولهذا سمّيت «مريم العذراء»(عليها السلام) بالبتول، لأنّها لم تتخذ لنفسها زوجاً وسمّيت الزّهراء(عليها السلام) بالبتول لأنّها كانت أفضل نساء عصرها في السيرة والسلوك، وكانت بالغة درجة الإنقطاع إلى اللّه تعالى.
فالتبتل هو التوجه القلبي التام إلى اللّه تعالى، والإنقطاع عن غيره إليه تعالى، والإتيان بالأعمال الخالصة للّه، وكذا الخلوص له تعالى.
وما روي عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «لا رهبانية، ولا تبتل في الإسلام»(8)، فهو اشارة لما هو حاصل في أوساط المسيحيين في تركهم للدنيا، إذ أنّهم اعتزلوا الزواج لاعتزالهم الدينا، واعتزلوا بذلك الوظائف الإجتماعية، وهذا ما لم يكن حاصلاً عند المسلمين، إذ أن أحدهم يعيش في أوساط المجتمع الإنساني وهو في نفس الوقت متوجّه إلى اللّه تعالى.
وممّا روي عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) «التبتل رفع اليد إلى اللّه حال الصّلاة»(9)والواضح أنّ هذا هو مظهر من مظاهر الإخلاص والانقطاع إلى اللّه.
على أيّ حال فإنّ ذلك الذكر للّه تعالى وهذا الإخلاص هما الثّروة العظيمة لأهل اللّه في مهامهم الثقيلة لهداية الخلق.
ثمّ ينتهي إلى الأمر الثّالث فيقول: {ربّ المشرق والمغرب لا إله إلاّ هو فاتّخذه وكيلا} وهنا تأتي مسألة إيداع الاُمور إلى اللّه، وذلك بعد مرحلة ذكر اللّه والإخلاص، إيداع الاُمور للربّ الذي بيده الحاكمية والرّبوبية على المشرق والمغرب والمعبود الوحيد المستحق للعبادة، وهذا التعبير في الحقيقة هو بمنزلة الدليل على موضوع التوكل على اللّه، فكيف لا يتوكل الإنسان عليه، ولا يودعه أعماله، وليس في العالم الواسع من حاكم وآمر ومنعم ومولى ومعبود غيره؟
______________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج14، ص520-528.
2 ـ «مزّمل»: أصلها متزمل، وهي من التزمل، وتعني لف الثوب على نفسه، ولهذا جاء لفظ
الزميل، أي المصاحب والرفيق.
3 ـ «الناشئة»: اسم فاعل واحتمل كونها مصدراً كالعاقبة.
4 ـ مجمع البيان، ج10، ص378.
5 ـ نور الثقلين، ج5، ص448، الحديث، 16.
6 ـ تفسير الفخر الرازي، ج30، ص177 (مع الاقتباس).
7 ـ «التبتل»: يجب أن يكون التبتل هنا حسب القاعدة مفعول مطلق وهو مصدر من باب (تفعل) ولكنّه جاء على وزن تفعيل، لحفظ توافق أواخر الآيات، ويمكن أن يكون مصدر إشارة إلى أن الإنقطاع إلى اللّه لا يكون كلّه اكتسابياً، ولا يكون هبة بتمامه أيضاً، بل يكون ذلك بشروط السعي والعمل الجاد للعبد المتقي من جهة، وبلطف اللّه وعنايته من جهة اُخرى.
8 ـ المفردات، ومجمع البحرين باب البتل.
9 ـ نور الثقلين، ج5، ص450، ح27.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
قسم الشؤون الفكرية والثقافية يجري اختبارات مسابقة حفظ دعاء أهل الثغور
|
|
|