أقرأ أيضاً
التاريخ: 28-2-2017
6596
التاريخ: 16-10-2017
14934
التاريخ: 28-2-2017
3941
التاريخ: 17-10-2017
5356
|
قال تعالى : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة : 64 - 66] .
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } [المائدة : 64]
أخبر الله تعالى بعظيم فريتهم ، فقال : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} أي : مقبوضة عن العطاء ، ممسكة عن الرزق ، فنسبوه إلى البخل ، عن ابن عباس ، وقتادة ، وعكرمة ، والضحاك ، قالوا : إن الله كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس مالا ، وأخصبهم ناحية ، فلما عصوا الله في محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وكذبوه ، كف الله عنهم ما بسط عليهم من السعة ، فقال عند ذلك فنحاص بن عاذورا {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} ، ولم يقل إلى عنقه . قال أهل المعاني : إنما قال فنحاص ولم ينهه الآخرون ، ورضوا بقوله ، فأشركهم الله في ذلك . وقيل : معناه يد الله مكفوفة عن عذابنا ، فليس يعذبنا إلا بما يبر به قسمه ، قدر ما عبد آباؤنا العجل ، عن الحسن .
وقيل : إنه استفهام ، وتقديره أيد الله مغلولة عنا ، حيث قتر المعيشة علينا (2) . وقال أبو القاسم البلخي : يجوز أن يكون اليهود قالوا قولا ، واعتقدوا مذهبا ، يؤدي معناه إلى أن الله يبخل في حال ، ويجود في حالة أخرى ، فحكى عنهم ذلك على وجه التعجيب منهم ، والتكذيب لهم . ويجوز أن يكونوا قالوا ذلك على وجه الهزؤ ، من حيث لم يوسع على النبي ، وعلى أصحابه .
وليس ينبغي أن يتعجب من قوم يقولون لموسى : {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة} ويتخذون العجل إلها أن يقولوا : إن الله يبخل تارة ، ويجود أخرى . وقال الحسين بن علي المغربي : حدثني بعض اليهود بمصر أن طائفة منهم قالت ذلك .
{غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} قيل فيه أقوال أحدها : إنه على سبيل الإخبار ، أي : غلت أيديهم في جهنم ، عن الحسن ، واختاره الجبائي ، ومعناه شدت إلى أعناقهم ، وتأويله أنهم جوزوا على هذا القول بهذا الجزاء ، فعلى هذا يكون في الكلام ضمير الفاء ، أو الواو ، وتقديره فغلت أيديهم ، أو وغلت ، لان كلامهم قد تم ، واستؤنف بعده كلام آخر ، ومن عاداتهم أنهم يحذفون فيما يجري هذا المجرى ، ومن ذلك قوله {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} [البقرة : 67] والمراد فقالوا : لان كلام موسى قد تم . وثانيها : أن يكون القول خرج مخرج الدعاء ، كما يقال : قاتله الله ، عن أبي مسلم . وعلى هذا فيكون معناه تعليمنا وتوفيقنا على الدعاء عليهم ، كما علمنا الاستثناء في غير هذا الموضع ، بقوله :
{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح : 27] . وثالثها : إن معناه جعلوا بخلاء ، ألزموا البخل ، فهم أبخل قوم . فلا يلفى يهودي أبدا غير لئيم بخيل ، عن الزجاج {وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} أي : أبعدوا عن رحمة الله وثوابه ، بسبب هذه المقالة ، وقيل :
عذبوا في الدنيا بالجزية ، وفي الآخرة بالنار ، عن الحسن .
ثم رد الله عليهم بضد مقالتهم فقال {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} أي : ليس الأمر على ما وصفوه ، بل هو جواد ، فليس لذكر اليد هنا معنى غير إفادة معنى الجود ، وإنما قال : {يَدَاهُ} على التثنية ، مبالغة في معنى الجود والإنعام ، لان ذلك أبلغ فيه من أن يقول بل يده مبسوطة ويمكن أن يكون المراد باليد النعمة ، ويكون الوجه في تثنية النعمة أنه أراد نعم الدنيا ، ونعم الآخرة ، لأن الكل ، وان كانت نعم الله ، فمن حيث اختص كل منهما بصفة تخالف صفة الآخر ، كأنهما جنسان ويمكن أن يكون تثنية النعمة أنه أريد بهما النعم الظاهرة والباطنة ، كما قال تعالى : {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان : 20] . وقيل : إن المراد باليدين القوة والقدرة ، عن الحسن . ومعناه قوتاه بالثواب والعقاب مبسوطتان ، بخلاف قول اليهود : إن يده مقبوضة عن عذابنا .
{يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} معناه يعطي كيف يشاء من يشاء من عباده ، ويمنع من يشاء من عباده ، لأنه متفضل بذلك ، فيفعل على حسب المصلحة {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} أي : سيزدادون عند إنزال القرآن إليك طغيانا وكفرا ، ويريد بالكثير منهم : المقيمين على الكفر . وإنما ازدادوا كفرا لأنه كلما أنزل الله حكما وأخبرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم به ، جحدوه وازدادوا بذلك طغيانا ، وهو التمادي والمجاوزة عن الحد ، وكفرا انضم إلى كفرهم ، وهذا كما يقول القائل : وعظتك فكانت موعظتي وبالا عليك ، وما زادتك إلا شرا ، على معنى أنك ازددت عندها شرا ، وذلك مشهور في الاستعمال {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي بين اليهود والنصارى ، عن الحسن ، ومجاهد . وقيل : يريد به اليهود خاصة ، وقد مر تفسيره في أول السورة عند قوله {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} .
{كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} أي : لحرب محمد ، عن الحسن ، ومجاهد . وفي هذا دلالة ومعجزة لان الله أخبره فوافق خبره المخبر ، فقد كانت اليهود أشد أهل الحجاز بأسا ، وأمنعهم دارا ، حتى إن قريشا كانت تعتضد بهم ، والأوس والخزرج تستبق إلى محالفتهم ، وتتكثر بنصرتهم ، فأباد الله خضراءهم ، واستأصل شأفتهم (2) ، واجتث أصلهم ، فأجلى النبي بني النضير وبني قينقاع ، وقتل بني قريظة ، وشرد أهل خيبر ، وغلب على فدك ، ودان له أهل وادي القرى ، فمحا الله تعالى آثارهم صاغرين . وقال قتالة : معناه إن الله أذلهم ذلا لا يعزون بعده أبدا ، وإنما يطفئ نار حربهم بلطفه ، وبما يطلع نبيه عليه من أسرارهم ، وبما يمن به عليه من التأييد والنصر {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} بمعصية الله ، وتكذيب رسله ، ومخالفة أمره ونهيه ، واجتهادهم في محو ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كتبهم (والله لا يحب المفسدين) العاملين بالفساد ، والمعاصي ، في أرضه .
{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة : 65 - 66] .
أمر سبحانه نبيه بالتبليغ ، ووعده العصمة والنصرة ، فقال {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} ، وهذا نداء تشريف وتعظيم {بلغ} أي : أوصل إليهم {مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} . أكثر المفسرون فيه الأقاويل فقيل : إن الله تعالى بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم برسالة ضاق بها ذرعا ، وكان يهاب قريشا ، فأزال الله بهذه الآية تلك الهيبة ، عن الحسن . وقيل يريد به إزالة التوهم من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتم شيئا من الوحي للتقية ، عن عائشة . وقيل غير ذلك .
وروى العياشي في تفسيره بإسناده عن ابن عمير ، عن ابن أذينة ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وجابر بن عبد الله ، قالا : أمر الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أن ينصب عليا عليه السلام للناس ، فيخبرهم بولايته ، فتخوف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقولوا :
حابى ابن عمه ، وأن يطعنوا في ذلك عليه ، فأوحى الله إليه هذه الآية ، فقام بولايته يوم غدير خم وهذا الخبر بعينه قد حدثناه السيد أبو الحمد ، عن الحاكم أبي القاسم الحسكاني ، بإسناده عن ابن أبي عمير في كتاب شواهد التنزيل لقواعد التفصيل والتأويل . وفيه أيضا بالإسناد المرفوع إلى حيان بن علي الغنوي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في علي عليه السلام ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده عليه السلام ، فقال : " من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه " . وقد أورد هذا الخبر بعينه أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي في تفسيره بإسناده مرفوعا إلى ابن عباس ، قال : نزلت هذه الآية في علي عليه السلام أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبلغ فيه ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيد علي عليه السلام ، فقال : " من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه " وقد اشتهرت الروايات عن أبي جعفر ، وأبي عبد الله عليهما السلام أن الله أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يستخلف عليا عليه السلام ، فكان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من أصحابه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية تشجيعا له على القيام بما أمره الله بأدائه .
والمعنى : إن تركت تبليغ ما أنزل إليك ، وكتمته ، كنت كأنك لم تبلغ شيئا من رسالات ربك في استحقاق العقوبة . وقال ابن عباس : معناه إن كتمت آية مما أنزل إليك فما بلغت رسالته أي : لم تكن ممتثلا بجميع الأمر {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} أي : يمنعك من أن ينالوك بسوء {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} قيل فيه قولان أحدهما : إن معنى الهداية هنا أنه سبحانه لا يهديهم بالمعونة ، والتوفيق ، والألطاف إلى الكفر ، بل إنما يهديهم إلى الإيمان ، لان من هداه إلى غرضه ، فقد أعانه على بلوغه عن علي بن عيسى ، قال : ولا يجوز أن يكون المراد لا يهديهم إلى الايمان ، لأنه تعالى هداهم إلى الإيمان ، بأن دلهم عليه ، ورغبهم فيه ، وحذرهم من خلافه والآخر إن المراد لا يهديهم إلى الجنة والثواب ، عن الجبائي .
وفي هذه الآية دلالة على صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحة نبوته من وجهين أحدهما : انه وقع مخبره على ما أخبر به فيه وفي نظائره ، فدل ذلك على أنه من عند عالم الغيوب والسرائر . والثاني : انه لا يقدم على الإخبار بذلك إلا وهو يأمن أن يكون مخبره على ما أخبر به ، لأنه لا داعي له إلى ذلك إلا الصدق . وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لما نزلت هذه الآية ، قال لحراس من أصحابه ، كانوا يحرسونه ، منهم سعد وحذيفة : الحقوا بملاحقكم ، فإن الله تعالى عصمني من الناس .
____________________________
1. تفسير مجمع البيان ، ج3 ، ص 377-383 .
2 . التقتير : التضييق في النفقة .
{ وقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ } . هذه صورة من الصور العديدة التي يرسمها القرآن لليهود ، ومثلها قولهم : « إن اللَّه فقير ونحن أغنياء » . . وعلى قياسهم ينبغي أن يكونوا هم الآلهة ، واللَّه جلت عظمته ( . . . ) وقد تجلت هذه الغطرسة والوقاحة بأقبح معانيها في تحديهم للرأي العام العالمي باحتلال القدس سنة 1967 .
وفي بعض الروايات ان الذي نطق بكلمة الكفر هذه رجل منهم ، اسمه فنحاص . . وقد تكون الرواية صحيحة ، وصحيح أيضا ان الواحد لا يعبّر عن رأي الطائفة والجماعة ، وان بعض ضعاف المسلمين يقول هذا حين تحاصره المصائب ، ولا يجد له مهربا . . هذا صحيح ، ولكن من اطلع على سيرة اليهود يعلم انهم يقولون هذا بلسان الحال ، وإن لم ينطقوا به بلسان المقال . . إنهم يريدون من اللَّه أن يهب الأرض ومن عليها إليهم وحدهم ، وإلا فهو بخيل مغلول اليد { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ولُعِنُوا بِما قالُوا } . وبما فعلوا من المسارعة إلى الإثم والعدوان وأكلهم المال الحرام .
الصهاينة تواطئوا مع النازيين :
قال صاحب تفسير المنار : { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } هو دعاء من اللَّه عليهم بالبخل وما زالوا أبخل الأمم ، فلا يكاد أحد منهم يبذل شيئا إلا إذا درّ عليه ربحا .
وقد كان الربح الوحيد عندهم هو المال ، ومن أجله يحل كل محرم ، أما اليوم فلا ربح أفضل من قتل عربي ، حتى ولو كان طفلا ، والشعار الديني المقدس لهيئاتهم ( الخيرية ) « ادفع دولارا تقتل عربيا » مسلما أو نصرانيا . .
بل إنهم يسخون بأرواحهم رجالا ونساء وأطفالا ليخرجوا الفلسطينيين من ديارهم ويحلَّوا محلهم . . وأغرب ما قرأت ان زعماء الصهاينة ، ومنهم وايزمان وموسى شاريت ودافيد بن غوريون تواطئوا مع النازية وزعماء الجستابو على ذبح اليهود والتنكيل بهم لهدفين : الأول دفع اليهود للهجرة إلى فلسطين . الثاني اصطناع المبررات لقيام دولة إسرائيل . ( عن كتاب اطلاق الحمامة 5 يونيو للمؤلفين :
بيليايف وكوبستيشنكو وبريماكوف . ترجمة ماهر عسل ).
وإذا تواطأ اليهود مع أعدى أعدائهم ، وضحوا بمئات الألوف منهم من أجل دولة إسرائيل فهل يكثر منهم القول : ان اللَّه فقير ونحن أغنياء ، وأن يده مغلولة عن البذل والعطاء ؟ وأية غرابة في قولهم : نحن حمامة السلام ، والعرب دعاة الحرب والدمار بعد أن قالوا : ان اللَّه فقير ونحن أغنياء ؟ . وإذا كانت يد اللَّه مغلولة لأنه لم يهبهم الأرض ومن عليها فبالأولى أن يكون العرب طغاة معتدين ، لأنهم لم يعتذروا لليهود عن التقصير ، وعدم عرفان الجميل . . وليس قولي هذا كلاما شعريا ، أو إحساسا عاطفيا . . ألم يلح اليهود على اعتراف العرب بإسرائيل ؟ . وأي معنى لهذا الاعتراف في هذا الظرف بالذات إلا الاعتذار وطلب العفو ؟.
{ بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ } . المراد باليد هنا عين المراد بيمينه في الآية 67 من الزمر : « والسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } أي بقدرته ، وقال يداه بالتثنية لا بالإفراد لأنها أبلغ شكلا ، وأقوى محتوى { يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ } بإيجاد السبب الموجب :
« هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك : 15].
أجل ، قد لا تسعف الظروف أحيانا ، ويخيب المسعى . وقوله : { وإليه النشور } تهديد ووعيد لمن يطلب العيش على حساب غيره.
{ ولَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وكُفْراً } . المراد بالكثير الرؤساء والمترفون الذين خافوا على مناصبهم من دعوة الحق ، وزادتهم هذه الدعوة حقدا على صاحبها محمد ( صلى الله عليه وآله ) لأنه كشف عن عوراتهم وسيئاتهم التي منها تحريف كلام اللَّه عن مواضعه ، وأكلهم المال الحرام ، وعدم التناهي عن المنكر . . ومن شأن الدعي الصلف أن يزداد عتوا وفسادا إذا نبه إلى عيوبه ومآثمه .
{ وأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ والْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ } . قال صاحب تفسير المنار :
لا نعرف في التفسير المأثور عن السلف إلا أن الضمير في قوله ( بينهم ) يرجع إلى اليهود والنصارى في قوله تعالى : { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ والنَّصارى أَوْلِياءَ } . . وفي تفاسير المتأخرين احتمال أن يكون الضمير لليهود وحدهم .
ونحن على رأي السلف أولا : لأنهم أعرف بما يراد من مفردات القرآن والحديث من المتأخرين ، لأنهم أقرب إلى عهد الرسالة ونزول القرآن .
ثانيا : لأن العداء بين اليهود والنصارى عداء ذاتي ، فاليهود يعتقدون ان المسيح مشعوذ محتال وابن سفاح - نعوذ باللَّه - والنصارى يعتقدون أنه ابنه تعالى اللَّه ، بينما يعتقد المسلمون أنه نبي منزه عن الجهل والمعصية . . ومحال أن يزول العداء بين اليهود والنصارى : ما دامت كل طائفة على عقيدتها ، وقد حاول بابا روما عام 1965 أن يقرب بين الطائفتين ، ولكن اليهود ما زالوا مصرين على رأيهم بالسيد المسيح ( عليه السلام ) . . أجل ، ان الأطماع المشتركة قربت ، بل وحدت بين أرباب الشركات لكلتا الطائفتين ، ولكن على أساس تجاري ، لا على أساس ديني .
اليهود ونار الحرب :
{ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ } . إن كلمة الحرب وضعت أول ما وضعت للقتال ، واستعملت في هذا المعنى قرونا طوالا ، وبمرور الزمن تطورت ، حتى أصبحت تدل الآن على ضد السلم والأمن والرخاء ، فأي بلد يخشى على نفسه من احتلال دولة أقوى منه ، أو ارتفعت أسعار المعيشة فيه لقتال في بلد من البلدان فهو في حالة حرب ، وإن لم تسل الدماء على أرضه ، لأنه قد تأثر بذاك القتال ، وأفقده الكثير من أمنه وراحته .
وبعد هذه الإشارة نتساءل : هل المراد بالحرب في الآية خصوص القتال أو ما يشمل الأمن والرخاء ؟ ثم إذا كان المقصود هم اليهود كما قال المفسرون فبماذا يجاب عن حرب 5 حزيران سنة 1967 التي أوقد اليهود نارها ، ولم تخمد ، حتى الآن ؟
الجواب : أما كلمة الحرب في الآية فإن المراد منها خصوص القتال ، لأن هذه الكلمة لم تحمل غير هذا المعنى يومذاك . أما حرب 5 حزيران فنجيب عنها بما يلي :
1 - اتفق المفسرون على أن المراد باليهود خصوص من كان يهم بالكيد لرسول اللَّه والمسلمين ، فقد جاء في كتب السيرة النبوية إن يهود المدينة تحالفوا مع المشركين ضد النبي وصحابته ، وأن منهم من سعى لتحريض الروم عليهم ، كما ان بعضهم كان يؤوي أعداءهم ويساعدهم .
2 - لو سلمنا - جدلا - ان المراد كل اليهود في كل عصر أخذا بظاهر العموم فان حادثة 5 حزيران لم تكن حربا بالمعنى المعروف لهذه الكلمة ، وإنما كانت اغتيالا وغدر جبان ، فحتى ليلة الغدر كانت تؤكد إسرائيل وواشنطن انهما لم تبدءا بالهجوم ، بل وبعد الغدر أذاعت إسرائيل ان العرب هم البادئون ، ثم ظهرت الحقيقة . . على أن حرب 5 حزيران لم تكن بين العرب واليهود ، وإنما كانت في واقعها بين العرب والولايات المتحدة ، فهي مهندس العدوان ، والآمر به ، ومصدر السلاح والمال ، وصانع الخديعة السياسية ، والمحامي والحارس ، أما إسرائيل فقد مثلت دور الجندي المطيع .
قال مؤلفو كتاب اطلاق الحمامة الذي أشرنا إليه منذ قريب : « نشرت الصحف الفرنسية وألمانيا الغربية أن المخابرات الأمريكية سلمت إسرائيل قبل العدوان كل ما تجمع لديها من معلومات بالإضافة إلى الدوسية الخاصة بالشرق الأوسط لدى قيادة الحلف الأطلسي . . وان الذي أصدر الأمر لإسرائيل بالهجوم على العرب باسم الرئيس جونسون هو مستشاره اليهودي الصهيوني ( والت روستو ) . . وكان الأميرال الأميركي يحمل في جيبه أمرا بتنفيذ الاستعداد للقتال في جميع الوحدات الخاضعة له . . أما عملية ليبرتي سفينة التجسس فقد كانت مدبرة بين الأميركيين والإسرائيليين » .
3 - ان نار الحرب التي أوقدتها واشنطن أو عميلتها إسرائيل قد أخمدها اللَّه ما في ذلك ريب . . فلقد اعترف الذين أوقدوها أكثر من مرات ، وأعلنوا بالصحف والإذاعات انها لم تحقق الهدف المطلوب منها ، وهو ضرب القيادة التحررية للعرب ، واستسلامهم دون قيد وشرط ، وبالتالي حل مشكلة إسرائيل من الناحية السياسية . . وفي الوقت نفسه كانت حادثة 5 حزيران امتحانا قاسيا للعرب ، وتأكيدا لضرورة الإصلاح الجذري ، وتنبيها لهم إلى أصدقائهم وأعدائهم . .
ولو لم يكن لتلك الحادثة من فائدة إلا افتضاح المتآمرين على بلادهم وأمتهم لكفى .
( ويسعون - أي اليهود - في الأرض فسادا ) . لأن أهدافهم الأثيمة محال أن تتحقق إلا بالتخريب وإثارة الفتن ، وقد صرح المسؤولون في إسرائيل ان بقاء دولتهم وحياتها رهن بالخلافات القائمة بين زعماء العرب . . فهل من مذكر ؟
{ واللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } . ومن ثم تكون عاقبتهم إلى وبال ، وإن طال الزمن .
{ ولَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا واتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ولأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ } . هذه دعوة من اللَّه سبحانه لليهود والنصارى أن يتوبوا ويدخلوا في الإسلام ، وإن استجابوا لدعوته صفح عن جميع ذنوبهم ، وإن عظمت ، لأن الإسلام يجبّ ما قبله ، كما جاء في الحديث ، وان اتقوا بعد إسلامهم أدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار .
الرزق وفساد الأوضاع :
{ ولَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ والإِنْجِيلَ وما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ ومِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } . إقامة التوراة والإنجيل العمل بهما ، والمراد بما أنزل إليهم التعاليم التي كانوا يسمعونها من الأنبياء ، وهي المعروفة عند المسلمين بالأحاديث النبوية ، ومن فوقهم ومن تحت أرجلهم كناية عن السعة في الرزق ، تماما كما تقول : فلان غارق في النعم من قرنه إلى قدمه .
وفي معنى هذه الآية آيات كثيرة ، منها الآية 95 من الأعراف : { ولَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا واتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ والأَرْضِ } . والآية 12 الرعد : { إِنَّ اللَّهً لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ } . والآية 41 الروم : ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ والْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ } . والآية 30 الشورى : { وما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } . وترشدنا هذه الآيات إلى أمرين :
1 - ان ظهور الفساد ، ومنه الفقر والمرض والجهل ، إنما هو من حكم الأرض ، لا من حكم السماء ، ومن أيدي الناس الذين أماتوا الحق ، وأحيوا الباطل ، لا من قضاء اللَّه وقدره ، وان أية جماعة عرفوا الحق ، وعملوا به عاشوا في سعادة وهناء .
2 - ان التعبير في الآيات الكريمة بقوم وبالناس يدل على ان الشقاء يستند إلى فساد الأوضاع ، وان مجرد صلاح فرد من الأفراد لا يجدي شيئا ما دام بين قوم فاسدين ، بل يجر صلاحه عليه البلاء والشقاء ، قال تعالى : { واتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً } [الأنفال - 25] ، أي ان الآثار السيئة لمجتمع سيء تعم جميع أفراده الصالح والطالح . . وليس من شك ان الشعب الكسول الخانع الخاضع للعسف والجور لا بد أن يعيش أفراده في الذل والهوان .
وعلى هذا يكون المراد بالإيمان الموجب للرزق هو الإيمان باللَّه مع العمل بجميع أحكامه ومبادئه ، لا إقامة الصلاة فقط ، بل وأداء الزكاة ، وجهاد المستقلين والمحتكرين ، وإقامة العدل في كل شيء ، وليس من شك ان العدل متى عم وساد صلحت الأوضاع ، وذهب الفقر والشقاء ، وهذا ما يهدف إليه القرآن .
لقد كشف الإسلام عن الصلة الوثيقة بين فساد الأوضاع ، وبين التخلف وآلام الإنسانية بشتى أنواعها ، وسبق إلى معرفة هذه الحقيقة كل عالم من علماء الاجتماع ، وكل قائد من قادة الاشتراكية والديمقراطية وغيرها . . وإذا كان لدى هؤلاء شيء يذكر فعن الإسلام أخذوا ، ومنه اقتبسوا . . ولكن ما الحيلة فيمن ينفر من كل ما يمت إلى الدين بسبب ، لا لشيء إلا لأن اسمه دين .
{ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ } . الضمير في منهم يعود إلى أهل الكتاب المذكورين في الآية صراحة ، وهم اليهود والنصارى ، والمراد بالأمة الجماعة ، ومعنى مقتصدة معتدلة ، والذين أطلق اللَّه عليهم وصف الاعتدال هم من اعتنق الإسلام من اليهود والنصارى بعد أن ظهرت لهم دلائل الحق ، وبينات الصدق . وقد ذكر أهل التاريخ والسير أسماء كثيرة لمن أسلم من أهل الكتاب ، أما الذين أصروا على الكفر بعد أن استبان لهم الحق فهم المقصودون بقوله تعالى : { وكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ } .
_______________________
1. تفسير الكاشف ، ج3 ، 90-96 .
قوله تعالى : { وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ } كانت اليهود لا ترى جواز النسخ في الأحكام الدينية ، ولذا كانت لا تقبل بنسخ التوراة وتعير المسلمين بنسخ الأحكام ، وكذا كانت لا ترى جواز البداء في القضايا التكوينية على ما يتراءى من خلال الآيات القرآنية كما تقدم الكلام فيه في تفسير قوله تعالى : { ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها } : الآية [البقرة : 106] ، في الجزء الأول من هذا الكتاب وفي موارد أخر.
والآية أعني قوله تعالى : { وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ } تقبل الانطباق على قولهم هذا غير أن ظاهر قوله تعالى جوابا عنهم : { بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ } يأبى عن ذلك ، ويدل على أنهم إنما تكلموا بهذه الكلمة الأثيمة في شيء من أمر الرزق أما في خصوص المؤمنين لما في عامتهم من الفقر الشامل والعسرة وضيق المعيشة ، وأنهم إنما قالوا هذا القول استهزاء بالله سبحانه إيماء إلى أنه لا يقدر على إغناء عباده المؤمنين به وإنجائهم من الفقر والمذلة ، لكن هذا الوجه لا يناسب وقوع الآية في سورة المائدة إن كانت نازلة في مطاوي سائر آياتها فإن المسلمين كانوا يوم نزولها على خصب من العيش وسعة من الرزق ورفاهية من الحال.
وإما أنهم إنما قالوها لجدب أو غلاء أصابهم فضاقت بذلك معيشتهم ، ونكدت حالهم ، واختل نظام حياتهم ، كما ربما يظهر من بعض ما ورد في أسباب النزول ، وهذا الوجه أيضا يأباه سياق الآيات فإن الظاهر أن الآيات إنما تتعرض لشتات أوصافهم فيما يعود إلى عدوانهم ومكرهم بالنسبة إلى المسلمين نقمة منهم لا ما صدر منهم من إثم القول عند أنفسهم.
وإما أنهم إنما تفوهوا بذلك لما سمعوا أمثال قوله تعالى : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً } [ البقرة : 245] ، وقوله تعالى : { وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً } : [المزمل ـ 20] ، فقالوا : يد الله مغلولة لا يقدر على تحصيل ما ينفق في حوائجه لترويج دينه وإحياء دعوته. وقد قالوا ذلك سخرية واستهزاء على ما يظهر من بعض آخر مما ورد في أسباب النزول ، وهذا الوجه أقرب إلى النظر.
وكيف كان فهذه النسبة أعني نسبة غل اليد والمغلوبية عند بعض الحوادث مما لا يأباه تعليمهم الديني والآراء الموجودة في التوراة فالتوراة تجوز أن يكون الأمور معجزا لله سبحانه وصادا مانعا له من إنفاذ بعض ما يريده من مقاصده كالأقوياء من الإنسان ، يشهد بذلك ما تقصه من قصص الأنبياء كآدم وغيره.
فعندهم من وجوه الاعتقاد ما يبيح لهم أن ينسبوا إليه تعالى ما لا يناسب ساحة قدسه وكبرياء ذاته جلت عظمته وإن كانت الكلمة إنما صدرت منهم استهزاء فإن لكل فعل مبادئ في الاعتقاد ينبعث إليه الإنسان منها ويتجرأ بها.
وأما قوله : {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا} فهو دعاء عليهم بعذاب مشابه لما نسبوا إليه تعالى من النقص غير المناسب لساحة قدسه ، وهو مغلولية اليد وانسلاب القدرة على ما يحبه ويشاؤه ، وعلى هذا فقوله : { وَلُعِنُوا بِما قالُوا } عطف تفسير على قوله : { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } فإن مغلولية أيديهم مصداق لعنة الله عليهم إذ القول من الله سبحانه فعل ، ولعنه تعالى أحدا إنما هو تعذيبه بعذاب إما دنيوي أو أخروي فاللعن هو العذاب المساوي لغل أيديهم أو الأعم منه ومن غيره.
وربما احتمل كون قوله : { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } {إلخ} إخبارا عن وقوع كلمة العذاب وهو جزاء اجترائهم على الله سبحانه بقولهم : { يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ } عليهم ، والوجه الأول أقرب من الفهم.
وأما قوله : { بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ } فهو جواب عن قولهم : { يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ } مضروب في قالب الإضراب.
والجملة أعني قوله : { يَداهُ مَبْسُوطَتانِ } كناية عن ثبوت القدرة ، وهو شائع في الاستعمال.
وإنما قيل : { يَداهُ } بصيغة التثنية مع كون اليهود إنما أتوا في قولهم : { يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ } بصيغة الإفراد ليدل على كمال القدرة كما ربما يستفاد من نحو قوله تعالى : { قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ } : [ص ـ 75] لما فيه من الإشعار أو الدلالة على إعمال كمال القدرة ، ونحو قولهم : { لا يدين بها لك } فإن ذلك مبالغة في نفي كل قدرة ونعمة.
وربما ذكروا لليد معاني مختلفة في اللغة غير الجارحة كالقدرة والقوة والنعمة والملك وغير ذلك ، لكن الحق أن اللفظة موضوعة في الأصل للجارحة ، وإنما استعملت في غيرها من المعاني على نحو الاستعارة لكونها من الشئون المنتسبة إلى الجارحة نوعا من الانتساب كانتساب الإنفاق والجود إلى اليد من حيث بسطها ، وانتساب الملك إليها من حيث التصرف والوضع والرفع وغير ذلك.
فما يثبته الكتاب والسنة لله سبحانه من اليد يختلف معناه باختلاف الموارد كقوله تعالى : { بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ } {الآية} ، وقوله : { أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } : [ص ـ 75] يراد به القدرة وكمالها ، وقوله : { بِيَدِكَ الْخَيْرُ } : [آل عمران : 26] ، وقوله : { فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } : [يس : 83] ، وقوله : { تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } : [الملك : 1] ، إلى غير ذلك يراد بها الملك والسلطة ، وقوله : { لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ } : [الحجرات : 1] يراد بها الحضور ونحوه.
وأما قوله : { يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ } فهو بيان لقوله : { يَداهُ مَبْسُوطَتانِ }.
قوله تعالى : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً } هذه الجملة وما يتلوها إلى آخر الآية كلام مسرود لتوضيح قوله : { وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا } على ما يعطيه السياق.
فأما قوله : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ } {إلخ} ، فيشير إلى أن اجتراءهم على الله العظيم وتفوههم بمثل قولهم : { يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ } ليس من المستبعد منهم فإن القوم متلبسون بالاعتداء والكفر من قديم أيامهم ، وقد أورثهم ذلك البغي والحسد ، ولا يؤمن من هذه سجيته إذا رأى أن الله فضل غيره عليه بما لا يقدر قدره من النعمة أن يزداد طغيانا وكفرا.
واليهود كانت ترى لنفسها السيادة والتقدم على الدنيا ، وكانت تتسمى بأهل الكتاب ، وتتباهى بالربانيين والأحبار ، وتفتخر بالعلم والحكمة ، وتسمي سائر الناس أميين ، فإذا رأت قرآنا نازلا على قوم كانت تتذلل لعلمها وكتابها ـ كما كانت هي الحرمة المراعاة بينها وبين العرب في الجاهلية ـ ثم أمعنت فيه فوجدته كتابا إلهيا مهيمنا على ما تقدم عليه من الكتب السماوية ، ومشتملا على الحق الصريح والتعليم العالي والهداية التامة ثم أحست بما يتعقبه من ذلتها واستكانتها في نفس ما كانت تتعزز وتتباهى به وهو العلم والكتاب.
لا جرم تستيقظ من رقدتها ، وتطغى عاديتها ، ويزيد طغيانها وكفرها.
فنسبة زيادة طغيانهم وكفرهم إلى القرآن إنما هي بعناية أن أنفسهم الباغية الحاسدة ثارت بالطغيان والكفر بمشاهدة نزول القرآن وإدراك ما يتضمنه من المعارف الحقة والدعوة الظاهرة.
على أن الله سبحانه ينسب الهداية والإضلال في كتابه إلى نفسه كثيرا كقوله : { كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً } : [الإسراء : 20] وقال في خصوص القرآن : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً } : [الإسراء : 82] والإضلال أو ما يشبهه إنما يعد مذموما إذا كان إضلالا ابتدائيا ، وأما ما كان منه من قبيل الجزاء إثر فسق ومعصية من الضال يوجب نزول السخط الإلهي عليه ويستدعي حلول ما هو أشد مما هو فيه من الضلال فلا ضير في الإضلال بهذا المعنى ولا ذم يلحقه كما يشير إليه قوله : { وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ } : [البقرة : 26] ، وقوله : { فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ } : [الصف ـ 5] .
وبالأخرة يعود معنى زيادة القرآن طغيانهم وكفرهم إلى سلب التوفيق وعدم تعلق العناية الإلهية بردهم مما هم فيه من الطغيان والكفر بآيات الله إلى التسليم والإيمان بإجابة الدعوة الحقة ، وقد تقدم البحث عن هذا المعنى في تفسير قوله تعالى : { وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ } : [البقرة : 26] في الجزء الأول من هذا الكتاب.
ولنرجع إلى أول الكلام فقوله : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ } {إلخ} ، كأنه مسوق لرفع الاستبعاد والتعجب الناشئ من اجتراء هؤلاء المتسمين بأهل الكتاب ، والمدعين أنهم أبناء الله وأحباؤه على ربهم بمثل هذه الكلمة المهينة المزرية : {يد الله مغلولة}.
وإن من المحتوم اللازم لهم هذه الزيادة في الطغيان والكفر التي هذه الكلمة من آثارها وسيتلوها آثار بعد آثار مشوهة ، وهذا هو المستفاد من التأكيد المدلول عليه بلام القسم ونون التأكيد في قوله : { لَيَزِيدَنَّ }.
وفي تعقيب الطغيان بالكفر من غير عكس جرى على الترتيب الطبعي فإن الكفر من آثار الطغيان وتبعاته.
قوله تعالى : { وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ } ضمير بينهم راجع إلى اليهود على ما هو ظاهر وقوع الجملة في سياق الكلام على اليهود خاصة وإن كانت الآيات بدأت الكلام في أهل الكتاب عامة ، وعلى هذا فالمراد بالعداوة والبغضاء بينهم ما يرجع إلى الاختلاف في المذاهب والآراء ، وقد أشار الله سبحانه إليه في مواضع من كلامه كقوله : {وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ـ إلى أن قال ـ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} : [الجاثية : 17] وغير ذلك من الآيات.
والعداوة كان المراد بها البغض الذي يستصحب التعدي في العمل ، والبغضاء هو مطلق ما في القلب من حالة النفار وإن لم يستعقب التعدي في العمل فيفيد اجتماعهما معنى البغض الذي يوجب الظلم على الغير والبغض الذي يقصر عنه.
وفي قوله تعالى : { إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ } ما لا يخفى من الدلالة على بقاء أمتهم إلى آخر الدنيا.
قوله تعالى : { كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ } إيقاد النار إشعالها ، وإطفاؤها إخمادها ، والمعنى واضح ، ومن المحتمل أن يكون قوله : { كُلَّما أَوْقَدُوا } {إلخ} بيانا لقوله : { وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ } {إلخ} فيعود المعنى إلى أنه كلما أثاروا حربا على النبي صلى الله عليه وآله والمؤمنين أطفأها الله بإلقاء الاختلاف بينهم.
والآية على ما يدل عليه السياق تسجل عليهم خيبة المسعى في إيقاد النيران التي يوقدونها على دين الله سبحانه ، وعلى المسلمين بما أنهم مؤمنون بالله وآياته ، وأما الحروب التي ربما أمكن أن يوقدوا نارها لا لأمر الدين الحق بل لسياسة أو تغلب جنسي أو ملي فهي خارجة عن مساق الآية.
قوله تعالى : { وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } السعي هو السير السريع ، وقوله : { فَساداً } مفعول له أي يجتهدون لإفساد الأرض ، والله لا يحب المفسدين فلا يخليهم وأن ينالوا ما أرادوه من فساد الأرض فيخيب سعيهم ، والله أعلم .
فهذا كله بيان لكونهم غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا ، حيث إنهم غير نائلين ما قصدوه من إثارة الحروب على النبي صلى الله عليه وآله والمسلمين ، وما اجتهدوا لأجله من فساد الأرض.
قوله تعالى : { {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ} {إلخ} عود إلى حال أهل الكتاب عامة كما كان بدأ الكلام فيهم عامة ، وختم الكلام بتخليص القول في ما فاتهم من نعمة السعادة في الآخرة والدنيا ، وهي جنة النعيم ونعمة الحياة السعيدة.
والمراد بالتقوى بعد الإيمان التورع عن محارم الله واتقاء الذنوب التي تحتم السخط الإلهي وعذاب النار ، وهي الشرك بالله وسائر الكبائر الموبقة التي أوعد الله عليها النار ، فيكون المراد بالسيئات التي وعد الله سبحانه تكفيرها الصغائر من الذنوب ، وينطبق على قوله سبحانه : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً } : [النساء : 31] .
قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } المراد بالتوراة والإنجيل الكتابان السماويان اللذان يذكر القرآن أن الله أنزلهما على موسى وعيسى عليه السلام دون ما بأيدي القوم من الكتب التي يذكر أنه لعبت بها يد التحريف.
والظاهر أن المراد بما أنزل إليهم من ربهم سائر الكتب المنسوبة إلى الأنبياء الموجودة عندهم كمزامير داود الذي يسميه القرآن بالزبور ، وغيره من الكتب.
وأما احتمال أن يكون المراد به القرآن فيبعده أن القرآن نسخ بأحكامه شرائع التوراة والإنجيل فلا وجه لعدهما معه وتمني أن يكونوا أقاموهما مع القرآن الناسخ لهما ، والقول بأن العمل بالقرآن عمل بهما أيضا ، كما أن العمل بالأحكام الناسخة في الإسلام عمل بمجموع شرائع الإسلام المتضمنة للناسخ والمنسوخ جميعا لكون دين الله واحدا لا يزاحم بعضه بعضا ، غاية الأمر أن بعض الأحكام مؤجلة موقوتة من غير تناقض يدفعه أن الله سبحانه عبر عن هذا العمل بالإقامة وهي حفظ الشيء على ساق ، ولا يلائم ذلك الأحكام المنسوخة بما هي منسوخة ، فإقامة التوراة والإنجيل إنما يصح حين كانت الشريعتان لم تنسخا بشريعة أخرى ، والإنجيل لم ينسخ شريعة التوراة إلا في أمور يسيرة .
على أن قوله تعالى : { وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ } يعدهم منزلا إليهم ، وغير معهود من كلامه تعالى أن يذكر أن القرآن نزل إليهم.
فالظاهر أن المراد بما أنزل إليهم من ربهم بعد التوراة والإنجيل سائر الكتب وأقسام الوحي المنزلة على أنبياء بني إسرائيل كزبور داود وغيره ، والمراد بإقامة هذه الكتب حفظ العمل العام بما فيها من شرائع الله تعالى ، والاعتقاد بما بين الله تعالى فيها من معارف المبدأ والمعاد من غير أن يضرب عليها بحجب التحريف والكتمان والترك الصريح ، فلو أقاموها هذه الإقامة لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم.
وأما قوله تعالى : { لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } فالمراد بالأكل التنعم مطلقا سواء كان بالأكل كما في مورد الأغذية أو بغيره كما في غيره ، واستعمال الأكل في مطلق التصرف والتنعم من غير مزاحم شائع في اللغة.
والمراد من فوقهم هو السماء ، ومن تحت أرجلهم هو الأرض ، فالجملة كناية عن تنعمهم بنعم السماء والأرض وإحاطة بركاتهما عليهم نظير ما وقع في قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ، وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ } : [الأعراف : 96] .
والآية من الدليل على أن لإيمان هذا النوع أعني نوع الإنسان وأعماله الصالحة تأثيرا في صلاح النظام الكوني من حيث ارتباطه بالنوع الإنساني فلو صلح هذا النوع صلح نظام الدنيا من حيث إيفائه باللازم لحياة الإنسان السعيدة من اندفاع النقم ووفور النعم.
ويدل على ذلك آيات أخرى كثيرة في القرآن بإطلاق لفظها كقوله تعالى {ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} : [الروم ـ 42] وقوله تعالى {وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} : [الشورى ـ 30] إلى غير ذلك وقد تقدم بعض ما يتعلق به من الكلام في البحث عن أحكام الأعمال في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
قوله تعالى {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ} الاقتصاد أخذ القصد وهو التوسط في الأمور فالأمة المقتصدة هي المعتدلة في أمر الدين والتسليم لأمر الله.
والكلام مستأنف أريد به بيان حال جميع ما نسب إليهم من التعدي عن حدود الله والكفر بآيات الله ونزول السخط واللعن على جماعتهم أن ذلك كله إنما تلبس به أكثرهم وهو المصحح لنسبة هذه الفظائع إليهم وأن منهم أمة معتدلة ليست على هذا النعت وهذا من نصفة الكلام الإلهي حيث لا يضيع حقا من الحقوق ويراقب إحياء أمر الحق وإن كان قليلا.
وقد تعرض لذلك أيضا في مطاوي الآيات السابقة لكن لا بهذه المثابة من التصريح كقوله {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ} وقوله {وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ} إلخ وقوله {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً}.
________________________
1. تفسير الميزان ، ج6 ، ص 27-33 .
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة : 64] .
تبرز هذه الآية واحدا من المصاديق الواضحة للأقوال الباطلة التي كان اليهود يتفوهون بها ، وقد تطرقت الآية السابقة إليها ـ أيضا ـ ولكن على نحو كلي .
ويتحدث لنا التّأريخ عن فترة من الوقت كان اليهود فيها قد وصلوا إلى ذروة السلطة والقدرة ، وكانوا يمارسون الحكم على قسم مهم من المعمورة ، ويمكن الاستشهاد بحكم سليمان وداود كمثال على حكم الدولة اليهودية ، وقد استمر حكم اليهود بعدهما بين رقي وانحطاط حتى ظهر الإسلام ، فكان إيذانا بأفول الدولة اليهودية ، وبالأخص في الحجاز ، إذ أدى قتال النّبي صلى الله عليه وآله وسلم ليهود بني النضير وبني قريظة ويهود خيبر إلى إضعاف سلطتهم بصورة نهائية .
وفي ذلك الوضع كان البعض من اليهود حين يتذكرون سلطتهم القوية السابقة ، كانوا يقولون استهزاء وسخرية ـ إنّ يد الله أصبحت مقيدة بالسلاسل (والعياذ بالله) وأنّه لم يعد يعطف على اليهود ! ويقال : أنّ المتفوه بهذا الكلام كان الفخاس بن عازوراء رئيس قبيلة بني القينقاع ، أو النباش بن قيس كما ذكر بعض المفسّرين .
وبما أنّ سائر أبناء الطائفة اليهودية أظهروا الرضى عن أقوال كبار قومهم هؤلاء ، لذلك جاء القرآن لينسب هذه الأقوال إلى جميعهم ، كما تقول الآية : {قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ...} .
ويجب الانتباه إلى أنّ كلمة (اليد) تطلق في اللغة العربية على معان كثيرة ومنها (اليد العضوية) كما أن معانيها (النعمة) و (القدرة) و (السلطة) و (الحكم) ، وبديهي أنّ المعنى الشائع لها هو اليد العضوية .
ولما كان الإنسان ينجز أغلب أعماله المهمّة بيده ، فقد أطلقت من باب الكناية على معان أخرى .
وتفيدنا الكثير من الرّوايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام أنّ هذه الآية تشير إلى ما كان اليهود يعتقدون به حول القضاء والقدر والمصير والإرادة ، حيث كانوا يذهبون إلى أنّ الله قد عين كل شيء منذ بدء الخليقة ، وأنّ كل ما يجب أن يحصل قد حصل ، وأنّ الله لا يستطيع من الناحية العملية إيجاد تغيير في ذلك (2) .
وبديهي أنّ تتمة الآية التي تتضمن عبارة {بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ} ـ كما سيأتي شرحه ـ تؤيد المعنى الأوّل ، كما يمكن أن يقترن المعنى الثّاني بالمعنى الأوّل في مسير واحد ، لأنّ اليهود حين أفل نجم سلطانهم ، كانوا يعتقدون أن هذا الأفول هو مصيرهم المقدر ، وأنّ يد الله مقيدة لا تستطيع فعل شيء أمام هذا المصير .
والله تعالى يرد على هؤلاء توبيخا وذما لهم ولمعتقدهم هذا بقوله : {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا ...} ثمّ لكي يبطل هذه العقيدة الفاسدة يقول سبحانه وتعالى {بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ ...} فلا إجبار في عمل الله كما أنّه ليس محكوما بالجبر الطبيعي ولا الجبر التّأريخي ، بل أنّ إرادته فوق كل شيء وتعمل في كل شيء.
والملفت للنظر هنا أنّ اليهود ذكروا اليد بصيغة المفرد كما جاء في الآية موضوع البحث ، لكن الله تعالى من خلال رده عليهم قد ثنّى كلمة اليد فقال : {بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ} وهذا بالإضافة إلى كونه تأكيدا للموضوع ، هو كناية لطيفة تظهر عظمة جود الله وعفوه ، وذلك لأنّ الكرماء جدّا يهبون ما يشاءون للغير بيدين مبسوطتين ، أضف إلى ذلك أنّ ذكر اليدين كناية عن القدرة الكاملة ، أو ربّما يكون إشارة إلى النعم المادية والمعنوية ، أو الدنيوية والأخروية.
ثمّ تشير الآية إلى أنّ آيات الله التي تفضح أقوال ومعتقدات هؤلاء تجعلهم يوغلون أكثر في صلفهم وعنادهم ويتمادون في طغيانهم وكفرهم بدلا من تأثيرها الإيجابي في ردعهم عن السير في نهجهم الخاطئ حيث تقول الآية الكريمة : {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً ...}.
بعد ذلك تؤكّد الآية على أن صلف هؤلاء وطغيانهم وكفرهم سيجر عليهم الوبال ، فينالهم من الله عذاب شديد في هذه الدنيا ، من خلال تفشي العداء والحقد فيما بينهم حتى يوم القيامة ، فتقول الآية الكريمة : {وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ...}.
وقد اختلف المفسّرون في معنى عبارة {الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ} الواردة في هذه الآية ، لكنّنا لو تغاضينا عن الوضع الاستثنائي غير الدائم الذي يتمتع به اليهود في الوقت الحاضر ، ونظرنا إلى تاريخ حياتهم المقترن بالتشتت والتشرد ، لثبت لدينا أنّ هناك عامل واحد لهذا الوضع التّأريخي الخاص لهؤلاء ، وهو انعدام الاتحاد والإخلاص فيما بينهم على الصعيد العالمي ، فلو كان هؤلاء يتمتعون بالوحدة والصدق فيما بينهم ، لما عانوا طيلة تاريخ حياتهم من ذلك التشرد والضياع والتشتت والتعاسة.
وقد شرحنا قضية العداوة والبغضاء الدائمة بين أهل الكتاب بشيء من التفصيل عند تفسير الآية (١٤) من نفس هذه السورة.
وتشير الآية ـ في الختام ـ إلى المساعي والجهود التي كان يبذلها اليهود لتأجيج نيران الحروب ، وعناية الله ولطفه بالمسلمين في انقاذهم من تلك النيران المدمرة الماحقة ، فتقول {كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ ...}.
وتعتبر هذه الظاهرة إحدى معاجز حياة النّبي الأكرم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ، لأنّ اليهود كانوا الأقوى بين أهل الحجاز والأعرف بمسائل الحرب ، بالإضافة إلى ما كانوا يمتلكون من قلاع حصينة وخنادق منيعة ، ناهيك عن قدرتهم المالية الكبيرة التي كانت لهم عونا في كل صراع بحيث أن قريشا كانوا يستمدون العون منهم ، وكان الأوس ، والخزرج يسعى كل منهما إلى التحالف معهم وكسب صداقتهم ونيل العون منهم في المجال العسكري ، لكنّهم فقدوا فجأة قدرتهم المتفوقة ـ هذه ـ وطويت صفحة جبروتهم دفعة واحدة ، بشكل لم يكن متوقعا لديهم ، فاضطر يهود بني النضير وبني قريظة وبني القينقاع إلى ترك ديارهم ، كما استسلم نزلاء قلاع خيبر الحصينة وسكان فدك من اليهود خاضعين للمسلمين ، وحتى أولئك الذين كانوا يقطنون في فيافي الحجاز منهم اضطروا إلى الخضوع أمام عظمة الإسلام ، فهم بالإضافة إلى عجزهم عن نصرة المشركين اضطروا إلى ترك ميدان النزال والصراع .
ثمّ تبيّن الآية ـ أيضا ـ أنّ هؤلاء لا يكفون عن نثر بذور الفتنة والفساد في الأرض فتقول : {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً} ... وتؤكّد أيضا قائلة : {وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} .
ويستدلّ من هذا على أن أسلوب المواجهة القرآني لليهود لم يكن يتركز على أساس عنصري مطلقا ، بل أن المعيار الذي استخدمه القرآن في توجيه النقد إليهم ، هو معيار الأعمال التي يمكن أن تصدر من أي جنس وعنصر أو طائفة ، وسنلاحظ في الآيات القادمة أنّ القرآن على الرغم من كل ما صدر من هؤلاء ، قد ترك باب التوبة مفتوحا أمامهم .
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة : 65 - 66] .
بعد أن وجهت الآيات السابقة النقد لنهج وأسلوب أهل الكتاب ، جاءت هاتان الآيتان وفقا لما تقتضيه مبادئ التربية الإنسانية لتفتحا باب العودة والتوبة أمام المنحرفين من أهل الكتاب ، لكي يعودوا إلى الطريق القويم ، ولتريهم الدرب الحقيقي الذي يجب أن يسيروا فيه ، ولتثمن دور تلك الأقلية من أهل الكتاب التي عاشت في ذلك العصر لكنّها لم تواكب الأكثرية في أخطائها ، فتقول الآية الأولى في البدء : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ} .
بل ذهبت إلى أبعد من هذا فوعدتهم بالجنّة ونعيمها ، إذ قالت : {وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} ، وهذه إشارة إلى النعم المعنوية الأخروية .
ثمّ تشير الآية الثّانية إلى الأثر العميق الذي يتركه الإيمان والتقوى ـ في الحياة الدنيوية للإنسان ، فتؤكّد أنّ أهل الكتاب لو طبقوا التّوراة والإنجيل وجعلوهما منهاجا لحياتهم وعملوا لكل ما نزل عليهم من ربّهم ، سواء في الكتب السماوية السابقة أو في القرآن ، دون تمييز أو تطرف لغمرتهم النعم الإلهية من السماء والأرض ، فتقول الآية : {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ...}.
وبديهي أنّ المراد من إقامة التّوراة والإنجيل هو اتّباعهم لما بقي من التّوراة والإنجيل الحقيقيين في أيديهم في ذلك العصر ، ولا يعني اتّباع ما حرّف منهما والذي يمكن معرفته من خلال القرائن .
والمراد بجملة {ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ} هو كل الكتب السماوية والأحكام الإلهية ، لأنّ هذه الجملة يفهم منها الإطلاق ، وهي في الحقيقة إشارة إلى النهي عن خلط العصبيات القومية بالوسائل الدينية الإلهية ، فليس المهم كون هذا الكتاب عربيا أو ذلك الكتاب يهوديا ، بل المهم هو الأحكام الإلهية الواردة فيهما وفي كل الكتب السماوية ، أي أنّ القرآن أراد أن يطفئ ـ ما أمكنه ذلك ـ نار العصبية القومية عند هؤلاء ، ويمهد السبيل إلى التغلغل في أعماق نفوسهم وقلوبهم ، لذلك فالضمائر الواردة في هذه الآية تعود إلى أهل الكتاب وهي : (إليهم ، من ربّهم ، من فوقهم ، ومن تحت أرجلهم) وما ذلك إلّا لكي يترك هؤلاء عنادهم وصلفهم ، ولكي لا يتصوروا أنّ الخضوع والاستسلام أمام القرآن يعني استسلام اليهود للعرب ، بل هو استسلام وخضوع لربّهم العظيم .
ولا شك أنّ المراد بإقامة التّوراة والإنجيل هو العمل بالمبادئ السماوية الواردة فيهما ، لأنّ جميع المبادئ والتعاليم كما أسلفنا سابقا ـ التي جاء بها الأنبياء أينما كانوا ـ واحدة لا فرق بينها غير الفرق بين الكامل والأكمل ، ولا يتنافى هذا مع النسخ الذي ورد في بعض الأحكام الواردة في الشريعة اللاحقة لأحكام وردت في شريعة سابقة.
ومجمل القول هو أن الآية الأخيرة تؤكّد مرّة أخرى هذا المبدأ الأساسي القائل بأن اتباع التعاليم السماوية التي جاء بها الأنبياء ، ليس لأعمار الحياة الآخرة التي تأتي بعد الموت فحسب ، بل أنّ لها ـ أيضا ـ انعكاسات واسعة على الحياة الدنيوية المادية للإنسان ، فهي تقوي الجماعات وتعزز صفوفها وتكثف طاقاتها ، وتغدق عليها النعيم وتضاعف إمكانياتها وتضمن لها الحياة السعيدة المقترنة بالأمن والاستقرار.
ولو ألقينا نظرة على الثروات الطائلة والطاقات البشرية الهائلة التي تهدر اليوم في عالم الإنسان نتيجة للانحراف عن هذه التعاليم ، وفي صنع وتكديس أسلحة فتّاكة ، وفي صراعات لا مبرر لها ومساع هدامة لرأينا أن ذلك كله دليل حيّ على هذه الحقيقة ، حيث أنّ الثروات التي تستخدم لإشاعة الدمار في هذا العالم ـ إذا أمعنا النظر جيدا ـ إن لم تكن أكثر حجما من الثروات التي تنفق في سبيل البناء ، فهي ليست بأقلّ منها .
إنّ العقول المفكرة التي تسعى وتعمل جاهدة ـ اليوم ـ لإكمال وتوسيع إنتاج الأسلحة الحربية ، ولتوسيع بقعة النزاعات الاستعمارية ، إنّما تشكل جزءا مهما من الطاقات البشرية الخلاقة التي طالما احتاجها المجتمع البشري لرفع احتياجاته ، وكم سيصبح وجه الدنيا جميلا وجذابا لو كانت كل هذه الطاقات تستغل في سبيل الإعمار ؟
وجدير بالانتباه هنا ـ أيضا ـ إلى أن عبارتي {مِنْ فَوْقِهِمْ} و {مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} الواردتان في الآية الأخيرة ، معناهما أن نعم السماء والأرض ستغمر هؤلاء المؤمنين ، ما يحتمل أن تكونا كناية عن النعم بصورة عامّة كما ورد في الآثار الأدبية العربية وغيرها قولهم : (إنّ فلانا غرق في النعمة من قمة رأسه حتى أخمص قدمه) .
كما أنّ هذه الآية تعد جوابا على أحد أقوال اليهود الذي ورد ذكره في الآيات السابقة ، حيث تؤكّد أنّ سبب انقطاع نعم الله عنهم ، ليس هو ما زعموه من أن ذات الله المقدسة المنزهة قد شابها البخل (والعياذ بالله) أو أن يده أصبحت مغلولة ، بل لأنّ أعمالهم الخبيثة قد انعكست آثارها في حياتهم المادية والمعنوية فسودتهما ، فإن لم يتوبوا لن ينقذهم الله من آثار هذه الأعمال .
وفي الختام تشير الآية الكريمة إلى الأقلية الصالحة من أهل الكتاب الذين اختاروا طريق الاعتدال في حياتهم خلافا لنهج الأغلبية المنحرفة ، فعزل الله حسابهم عن حساب هذه الأكثرية الضالة ، حيث تقول الآية : {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ} .
وقد وردت عبارات مشابهة عن الأقلية الصالحة من أهل الكتاب ، في الآيتين (١٥٩ و ١٨١) من سورة الأعراف ، والآية (٧٥) من سورة آل عمران .
__________________________
1. تفسير الأمثل ، ج3 ، ص569-575 .
2. تفسير نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٦٤٩ ، تفسير البرهان ، ج ١ ، ص ٤٨٦.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|