أقرأ أيضاً
التاريخ: 3-10-2017
15457
التاريخ: 3-10-2017
12554
التاريخ: 3-10-2017
10529
التاريخ: 30-9-2017
8186
|
قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُورَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوسَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُومَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة: 5، 10].
{إن الذين يحادون الله ورسوله} أي يخالفون أمر الله ويعادون رسوله {كبتوا} أي أذلوا وأخزوا {كما كبت الذين من قبلهم} أي كما أخزي الذين من قبلهم من أهل الشرك {وقد أنزلنا آيات بينات} أي حججا واضحات من القرآن وما فيه من الأدلة والبيان {وللكافرين} الجاحدين لما أنزلناه {عذاب مهين} يهينهم ويخزيهم فأما الكلام في مسائل الظهار وفروعها فموضعه كتب الفقه .
ثم بين سبحانه وقت ذلك العذاب فقال {يوم يبعثهم الله جميعا} أي يحشرهم إلى أرض المحشر ويعيدهم أحياء {فينبؤهم بما عملوا} أي يخبرهم ويعلمهم بما عملوه من المعاصي في دار الدنيا {أحصاه الله} عليهم وأثبته في كتاب أعمالهم {ونسوة والله على كل شيء شهيد} معناه أنه يعلم الأشياء كلها من جميع وجوهها لا يخفى عليه شيء منها ومنه قوله {شهد الله أنه لا إله إلا هو} أي علم الله ثم بين سبحانه أنه يعلم ما يكون في العالم فقال {أ لم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض} يعني جميع المعلومات والخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) والمراد جميع المكلفين وهو استفهام معناه التقرير أي أ لم تعلم وقيل أ لم تر إلى الدلالات المرئية من صنعته الدالة على أنه عالم بجميع المعلومات {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} بالعلم يعني أن نجواهم معلومة عنده كما تكون معلومة عند الرابع الذي هو معهم وقيل السرار ما كان بين اثنين والنجوى ما كان بين ثلاثة وقال بعضهم النجوى كل حديث كان سرا أو علانية وهو اسم للشيء الذي يتناجى به.
{ولا خمسة إلا هو سادسهم} أي ولا يتناجى خمسة إلا وهو عالم بسرهم كسادس معهم {ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا} المعنى أنه عالم بأحوالهم وجميع متصرفاتهم فرادى وعند الاجتماع لا يخفى عليه شيء منها فكأنما هو معهم ومشاهد لهم وعلى هذا يقال إن الله مع الإنسان حيثما كان لأنه إذا كان عالما به لا يخفى عليه شيء من أمره حسن هذا الإطلاق لما فيه من البيان فأما أن يكون معهم على طريق المجاورة فذلك محال لأنه من صفات الأجسام وقد دلت الأدلة على أنه ليس بصفات الأجسام.
{ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة} أي يخبرهم بأعمالهم {إن الله بكل شيء عليم} لا يخفى عليه خافية {أ لم تر إلى الذين نهوا عن النجوى} أي أ لم تعلم حال الذين نهوا عن المناجاة وأسرار الكلام بينهم دون المسلمين بما يغم المسلمين ويحزنهم وهم اليهود والمنافقون {ثم يعودون لما نهوا عنه} يعني إلى ما نهوا عنه أي يرجعون إلى المناجاة بعد النهي {ويتناجون بالإثم والعدوان} في مخالفة الرسول وهو قوله {ومعصية الرسول} وذلك أنه نهاهم عن النجوى فعصوه ويجوز أن يكون الإثم والعدوان ذلك السر الذي يجري بينهم لأنه شيء يسوء المسلمين ويوصي بعضهم بعضا بترك أمر الرسول والمعصية له.
{وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله} وذلك أن اليهود كانوا يأتون النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فيقولون السام عليك والسام الموت وهم يوهمونه أنهم يقولون السلام عليك وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يرد على من قال ذلك فيقول وعليك وقال الحسن كان اليهودي يقول السام عليك أي إنكم ستسأمون دينكم هذا وتملونه فتدعونه ومن قال السام الموت فهو سام الحياة بذهابها {ويقولون في أنفسهم} أي يقول بعضهم لبعض وقيل معناه أنهم لو تكلموا لقالوا هذا الكلام وإن لم يكن منهم قول.
{لولا يعذبنا الله بما نقول} أي يقولون لوكان هذا نبيا كما يزعم فهلا يعذبنا الله ولا يستجيب له فينا قوله وعليكم يعني السام وهو الموت فقال سبحانه {حسبهم} أي كافيهم {جهنم يصلونها} يوم القيامة ويحترقون فيها {فبئس المصير} أي فبئس المرجع والمال جهنم لما فيها من أنواع العذاب والنكال ثم نهى المؤمنين عن مثل ذلك فقال {يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول} أي لا تفعلوا كفعل المنافقين واليهود {وتناجوا بالبر والتقوى} أي بأفعال الخير والطاعة والخوف من عذاب الله واتقاء معاصي الله.
{واتقوا الله الذي إليه} أي إلى جزائه {تحشرون} يوم القيامة {إنما النجوى من الشيطان} يعني نجوى المنافقين والكفار بما يسوء المؤمنين ويغمهم من وساوس الشيطان وبدعائه وإغوائه يفعل ذلك النجوى {ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا} أي نجواهم لا يضرهم شيئا وقيل إن الشيطان لا يضرهم شيئا {إلا بإذن الله} يعني بعلم الله وقيل بأمر الله لأن سببه بأمره وهو الجهاد وخروجهم إليه وقيل بأمر الله لأنه يلحقهم الآلام والأمراض عقيب ذلك {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} في جميع أمورهم دون غيره وقيل إن الآية المراد بها أحلام المنام التي يراها الإنسان في نومه فيحزنه وورد في الخبر عن عبد الله بن مسعود قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ((إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه)) وعن ابن عمر عنه قال ((لا يتناج اثنان دون الثالث)) .
___________________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9 ، ص411-416.
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهً ورَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} . بعد ان ذكر سبحانه حدود اللَّه هدد من يتجاوزها ، ووصفهم بالمخالفة والعداء للَّه ورسوله ، وان عقابهم القهر والخزي تماما كعقاب الذين فعلوا ذلك من الأمم الماضية {وقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ ولِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ} . أقام سبحانه الدلائل الواضحة على وجوده ونبوة رسوله (صلى الله عليه واله وسلم) وبيّن حلاله وحرامه ، وهذه الدلائل هي بالذات تدل أيضا على ان طاعة اللَّه والرسول فرض ، وان من خالفهما يستحق العذاب الذي يهينه ويخزيه على رؤوس الأشهاد {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ ونَسُوهُ واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} . يجمع اللَّه الخلائق غدا للحساب والجزاء على ما كانوا يعملون ، وإذا نسي المجرمون ما اقترفوا من الذنوب والسيئات كلها أو بعضها فإن اللَّه قد أحاط بها علما فيخزيهم بما صنعوا ويذيقهم وبال أمرهم بالحق والعدل ، وهم لا يظلمون .
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وما فِي الأَرْضِ} . ألم تعلم يا محمد ان اللَّه لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ، وتعلم أيضا {ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُو رابِعُهُمْ ولا خَمْسَةٍ إِلَّا هُو سادِسُهُمْ ولا أَدْنى مِنْ ذلِكَ ولا أَكْثَرَ إِلَّا هُو مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ} . قوله تعالى : {ولا أَدْنى مِنْ ذلِكَ} إشارة إلى ما دون الثلاثة ، وقوله : {ولا أَكْثَرَ} إشارة إلى ما فوق الخمسة . وقال جماعة من المفسرين : ان قوما من اليهود والمنافقين كانوا يجتمعون وينالون في الخفاء من مقام الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) والصحابة ، فنزلت فيهم هذه الآية . . وليس هذا ببعيد فان ظاهر الآية يومئ إليه ، والاعتبار يؤيده ، فإن الغيبة والنجوى بالإثم دأب المنافقين في كل زمان ومكان ، ومهما يكن فان المعنى هولا تزعجك يا محمد أقوالهم ومناجاتهم بالنيل منك وممن آمن بك ، وكيف تهتم وتكترث وأنت على علم اليقين بأن اللَّه يعلم السر من ضمائر المضمرين ونجوى المتخافتين قلوا أم كثروا ؟ وأيضا تعلم ان اللَّه يجمعهم غدا ويأخذهم بما كانوا يقولون ويفعلون . . والقصد من ذكر الثلاثة والخمسة مجرد التمثيل ب {إِنَّ اللَّهً بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} حتى تحريك الشفة ورجع الكلمة .
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ ويَتَناجَوْنَ بِالإِثْمِ والْعُدْوانِ ومَعْصِيَةِ الرَّسُولِ} . يومئ هذا إلى أن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) كان قد نصح للمتخافتين بنجوى السوء أن ينتهوا ولا يعودوا فلم يقبلوا منه وعادوا تمردا وعنادا ، فوبخهم سبحانه على معصية الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) بصيغة التعجب التي خاطب بها نبيه الكريم تماما كما تقول لصاحبك : ألم تر إلى هذا اللئيم العاق ؟ {وإِذا جاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} . روي {ان ناسا من اليهود دخلوا على رسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) وقالوا : السام عليك يا أبا القاسم . والسام هو الموت . فقال الرسول ، وعليكم ، فنزلت الآية} ونحن لا نشك في صحة هذه الرواية لأنها أصدق تعبير عن لؤم اليهود وحقدهم على الحق وأهله {ويَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَولا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ} فعلوا هذا وقالوا : لوكان محمد نبيا لأنزل اللَّه بنا سوء العذاب لجرأتنا على نبيه {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . لا تستعجلوا ما هو كائن ، فإن اللَّه سبحانه قد أعد لكم جهنم وساءت مصيرا ، وان غدا من اليوم قريب .
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالإِثْمِ والْعُدْوانِ ومَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وتَناجَوْا بِالْبِرِّ والتَّقْوى واتَّقُوا اللَّهً الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} . ان كثيرا من الناس يؤمنون باللَّه ، ويصومون له ويصلون حقا وصدقا لا كذبا ورياء ، ولكنهم يذهلون عن هذا الايمان في كثير من الأحيان ، ويتناجون بالإثم تماما كما يفعل المنافقون والكافرون . والخطاب في قوله تعالى : {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ} لهؤلاء الذاهلين عن ايمانهم ، وقد أمرهم اللَّه سبحانه ان يتناجوا بالخير ، فإنه أليق بالمؤمنين ، ولا يتناجوا بالشر كما هو شأن المنافقين والكافرين .
وكأنّ هذه الآية قد نزلت الآن في بعض الدول ومن إليها من الذين يتظاهرون بالإسلام ، وهم يناصرون إسرائيل في الخفاء ويوالون من يختفي وراءها ، ويغدق عليها أنواع الأسلحة لتقتل بها النساء والأطفال ، وتدمر بيوت الآمنين وتشردهم من ديارهم وأوطانهم . . وأي نفاق أعظم من ان يدعي مدع انه مسلم يؤمن باللَّه واليوم الآخر ، وهو يوالي أعداء اللَّه والإنسانية ، ويبارك الظلم والاستغلال ؟ . وقد نهى سبحانه المؤمنين عن مناصرة الطغاة ولو بكلمة تقال بالسر ، وأمر بجهادهم بالقول والفعل سرا وجهرا .
{إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ولَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} . المراد بالنجوى هنا نجوى المجرمين بالشر والإثم ، والمعنى ان الشيطان يغري أتباعه بمناجاة السوء بقصد أن يؤذي المؤمنين ويحزنهم ، ولكن المؤمنين في حصن حصين لا تنالهم أية مضرة إلا بإرادة اللَّه ومشيئته {وعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} في جميع أمورهم ، ولا يخشوا الضرر من أحد ، أو يترقبوا النفع إلا منه تعالى . ومن توكل على الشيطان قاده إلى المهالك .
فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ الآيات 11 إلى 13.
_______________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص268-270.
قوله تعالى: {إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم} إلخ، المحادة الممانعة والمخالفة، والكبت الإذلال والإخزاء.
والآية والتي تتلوها وإن أمكن أن تكونا استئنافا يبين أمر محادة الله ورسوله من حيث تبعتها وأثرها لكن ظاهر السياق أن تكونا مسوقتين لتعليل ذيل الآية السابقة الذي معناه النهي عن محادة الله ورسوله، والمعنى: إنما أمرناكم بالإيمان بالله ورسوله ونهيناكم عن تعدي حدود الله والكفر بها لأن الذين يحادون الله ورسوله بالمخالفة أذلوا وأخزوا كما أذل وأخزى الذين من قبلهم.
ثم أكده بقوله: {وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين} أي لا ريب في كونها منا وفي أن رسولنا صادق أمين في تبليغها، وللكافرين بها الرادين لها عذاب مهين مخز.
قوله تعالى: {يوم يبعثهم الله فينبؤهم بما عملوا} ظرف لقوله: {وللكافرين عذاب أليم} أي لهم أليم العذاب في يوم يبعثهم الله وهو يوم الحساب والجزاء فيخبرهم بحقيقة جميع ما عملوا في الدنيا.
وقوله: {أحصاه الله ونسوه} الإحصاء الإحاطة بعدد الشيء من غير أن يفوت منه شيء، قال الراغب: الإحصاء التحصيل بالعدد يقال: أحصيت كذا، وذلك من لفظ الحصى، واستعمال ذلك فيه من حيث إنهم كانوا يعتمدونه في العد كاعتمادنا فيه على الأصابع.
انتهى.
وقوله: {والله على كل شيء شهيد} تعليل لقوله: {أحصاه الله} وقد مر تفسير شهادة الله على كل شيء في آخر سورة حم السجدة.
آيات في النجوى وبعض آداب المجالسة.
قوله تعالى: {ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض} الاستفهام إنكاري، والمراد بالرؤية العلم اليقيني على سبيل الاستعارة، والجملة تقدمه يعلل بها ما يتلوها من كونه تعالى مع أهل النجوى مشاركا لهم في نجواهم.
قوله تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم} إلى آخر الآية النجوى مصدر بمعنى التناجي وهو المسارة، وضمائر الإفراد لله سبحانه، والمراد بقوله: {رابعهم} و{سادسهم} جاعل الثلاثة أربعة وجاعل الخمسة ستة بمشاركته لهم في العلم بما يتناجون فيه ومعيته لهم في الاطلاع على ما يسارون فيه كما يشهد به ما احتف بالكلام من قوله في أول الآية: {أ لم تر أن الله يعلم} إلخ، وفي آخرها من قوله: {إن الله بكل شيء عليم}.
وقوله: {ولا أدنى من ذلك ولا أكثر} أي ولا أقل مما ذكر من العدد ولا أكثر مما ذكر، وبهاتين الكلمتين يشمل الكلام عدد أهل النجوى أيا ما كان أما الأدنى من ذلك فالأدنى من الثلاثة الاثنان والأدنى من الخمسة الأربعة، وأما الأكثر فالأكثر من خمسة الستة فما فوقها.
ومن لطف سياق الآية ترتب ما أشير إليه من مراتب العدد: الثلاثة والأربعة والخمسة والستة من غير تكرار فلم يقل: من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا أربعة إلا هو خامسهم وهكذا.
وقوله: {إلا هو معهم أينما كانوا} المراد به المعية من حيث العلم بما يتناجون به والمشاركة لهم فيه.
وبذلك يظهر أن المراد بكونه تعالى رابع الثلاثة المتناجين وسادس الخمسة المتناجين معيته لهم في العلم ومشاركته لهم في الاطلاع على ما يسارون لا مماثلته لهم في تتميم العدد فإن كلا منهم شخص واحد جسماني يكون بانضمامه إلى مثله عدد الاثنين وإلى مثليه الثلاثة والله سبحانه منزه عن الجسمية بريء من المادية.
وذلك أن مقتضى السياق أن المستثنى من قوله: {ما يكون من نجوى} إلخ، معنى واحد وهو أن الله لا يخفى عليه نجوى فقوله: {إلا هو رابعهم} {إلا هو سادسهم} في معنى قوله: {إلا هو معهم} وهو المعية العلمية أي أنه يشاركهم في العلم ويقارنهم فيه أو المعية الوجودية بمعنى أنه كلما فرض قوم يتناجون فالله سبحانه هناك سميع عليم.
وفي قوله: {أينما كانوا} تعميم من حيث المكان إذ لما كانت معيته تعالى لهم من حيث العلم لا بالاقتران الجسماني لم يتفاوت الحال ولم يختلف باختلاف الأمكنة بالقرب والبعد فالله سبحانه لا يخلو منه مكان وليس في مكان.
وبما تقدم يظهر أيضا أن - ما تفيده الآية من معيته تعالى لأصحاب النجوى وكونه رابع الثلاثة منهم وسادس الخمسة منهم لا ينافي ما تقدم تفصيلا في ذيل قوله تعالى: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73] ، من أن وحدته تعالى ليست وحدة عددية بل وحدة أحدية يستحيل معها فرض غير معه يكون ثانيا له فالمراد بكونه معهم ورابعا للثلاثة منهم وسادسا للخمسة منهم أنه عالم بما يتناجون به وظاهر مكشوف له ما يخفونه من غيرهم لا أن له وجودا محدودا يقبل العد يمكن أن يفرض له ثان وثالث وهكذا.
وقوله: {ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة} أي يخبرهم بحقيقة ما عملوا من عمل ومنه نجواهم ومسارتهم.
وقوله: {إن الله بكل شيء عليم} تعليل لقوله: {ثم ينبئهم} إلخ، وتأكيد لما تقدم من علمه بما في السماوات وما في الأرض، وكونه مع أصحاب النجوى.
والآية تصلح أن تكون توطئة وتمهيدا لمضمون الآيات التالية ولا يخلو ذيلها من لحن شديد يرتبط بما في الآيات التالية من الذم والتهديد.
قوله تعالى: {أ لم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه} إلى آخر الآية سياق الآيات يدل على أن قوما من المنافقين والذين في قلوبهم مرض من المؤمنين كانوا قد أشاعوا بينهم النجوى محادة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين يتناجون بينهم بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وليؤذوا بذلك المؤمنين ويحزنون وكانوا يصرون على ذلك من غير أن ينتهوا بنهي فنزلت الآيات.
فقوله: {أ لم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه} ذم وتوبيخ غيابي لهم، وقد خاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يخاطبهم أنفسهم مبالغة في تحقير أمرهم وإبعادا لهم عن شرف المخاطبة.
والمعنى: أ لم تنظر إلى الذين نهوا عن التناجي بينهم بما يغم المؤمنين ويحزنهم ثم يعودون إلى التناجي الذي نهوا عنه عود بعد عودة، وفي التعبير بقوله: {يعودون} دلالة على الاستمرار، وفي العدول عن ضمير النجوى إلى الموصول والصلة حيث قيل: {يعودون لما نهوا عنه} ولم يقل يعودون إليها دلالة على سبب الذم والتوبيخ ومساءة العود لأنها أمر منهي عنه.
وقوله: {يتناجون بالإثم والعدوان ومعصيت الرسول} المقابلة بين الأمور الثلاثة: الإثم والعدوان ومعصية الرسول تفيد أن المراد بالإثم هو العمل الذي له أثر سيىء لا يتعدى نفس عامله كشرب الخمر والميسر وترك الصلاة مما يتعلق من المعاصي بحقوق الله، والعدوان هو العمل الذي فيه تجاوز إلى الغير مما يتضرر به الناس ويتأذون مما يتعلق من المعاصي بحقوق الناس، والقسمان أعني الإثم والعدوان جميعا من معصية الله، ومعصية الرسول مخالفته في الأمور التي هي جائزة في نفسها لا أمر ولا نهي من الله فيها لكن الرسول أمر بها أو نهى عنها لمصلحة الأمة بما له ولاية أمورهم والنبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم كما نهاهم عن النجوى وإن لم يشتمل على معصية.
كان ما تقدم من قوله: {الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه} ذما وتوبيخا لهم على نفس نجواهم بما أنها منهي عنها مع الغض عن كونها بمعصية أو غيرها: وهذا الفصل أعني قوله: {ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول} ذم وتوبيخ لهم بما يشتمل عليه تناجيهم من المعصية بأنواعها وهؤلاء القوم هم المنافقون ومرضى القلوب كانوا يكثرون من النجوى بينهم ليغتم بها المؤمنون ويحزنوا ويتأذوا.
وقيل: المنافقون واليهود كان يناجي بعضهم بعضا ليحزنوا المؤمنين ويلقوا بينهم الوحشة والفزع ويوهنوا عزمهم لكن في شمول قوله: {الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه} لليهود خفاء.
وقوله: {وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله} فإن الله حياه بالتسليم وشرع له ذلك تحية من عند الله مباركة طيبة وهم كانوا يحيونه بغيره.
قالوا: هؤلاء هم اليهود كانوا إذا أتوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قالوا: السام عليك - والسام هو الموت - وهم يوهمون أنهم يقولون: السلام عليك، ولا يخلو من شيء فإن الضمير في {جاءوك} و{حيوك} للموصول في قوله: {الذين نهوا عن النجوى} وقد عرفت أن في شموله لليهود خفاء.
وقوله: {ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول} معطوف على {حيوك} أوحال وظاهره أن ذلك منهم من حديث النفس مضمرين ذلك في قلوبهم، وهو تحضيض بداعي الطعن والتهكم فيكون من المنافقين إنكارا لرسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على طريق الكناية والمعنى: أنهم يحيونك بما لم يحيك به الله وهم يحدثون أنفسهم بدلالة قولهم ذلك - ولولا يعذبهم الله به - على أنك لست برسول من الله ولو كنت رسوله لعذبهم بقولهم.
وقيل: المراد بقوله: {ويقولون في أنفسهم} يقولون فيما بينهم بتحديث بعض منهم لبعض ولا يخلو من بعد.
وقد رد الله عليهم احتجاجهم بقولهم: {لولا يعذبنا الله بما نقول} بقوله: {حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير} أي إنهم مخطئون في نفيهم العذاب فهم معذبون بما أعد لهم من العذاب وهو جهنم التي يدخلونها ويقاسون حرها وكفى بها عذابا لهم.
وكان المنافقين ومن يلحق بهم لما لم ينتهوا بهذه المناهي والتشديدات نزل قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب: 60، 61].
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصيت الرسول} إلخ، لا يخلو سياق الآيات من دلالة على أن الآية نزلت في رفع الخطر وقد خوطب فيها المؤمنون فأجيز لهم النجوى واشترط عليهم أن لا يكون تناجيا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وأن يكون تناجيا بالبر والتقوى والبر وهو التوسع في فعل الخير يقابل العدوان، والتقوى مقابل الإثم ثم أكد الكلام بالأمر بمطلق التقوى بإنذارهم بالحشر بقوله: {واتقوا الله الذي إليه تحشرون}.
قوله تعالى: {إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله} إلخ، المراد بالنجوى - على ما يفيده السياق – هو النجوى الدائرة في تلك الأيام بين المنافقين ومرضى القلوب وهي من الشيطان فإنه الذي يزينها في قلوبهم ليتوسل بها إلى حزنهم ويشوش قلوبهم ليوهمهم أنها في نائبة حلت بهم وبلية أصابتهم.
ثم طيب الله سبحانه قلوب المؤمنين بتذكيرهم أن الأمر إلى الله سبحانه وأن الشيطان أو التناجي لا يضرهم شيئا إلا بإذن الله فليتوكلوا عليه ولا يخافوا ضره وقد نص سبحانه في قوله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] إنه يكفي من توكل عليه، واستنهضهم على التوكل بأنه من لوازم إيمان المؤمن فإن يكونوا مؤمنين فليتوكلوا عليه فهو يكفيهم.
وهذا معنى قوله: {وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون}.
___________________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج19 ، ص159-165.
اُولئك أعداء الله:
إذا كانت آخر جملة في الآيات السابقة تحثّ الجميع بضرورة الإلتزام بالحدود الإلهيّة وعدم تجاوزها، فإنّ الآيات مورد البحث لا تتحدّث عن الأشخاص الذين تجاوزوا حدود الله فحسب، بل عن الذين حاربوا الله ورسوله، وتوضّح عاقبتهم ومصيرهم في هذه الدنيا والعالم الآخر كذلك.
يقول سبحانه في البداية: {إنّ الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم}.
«يحادون» من مادّة (محادة) بمعنى الحرب المسلّحة والإستفادة من الحديد وتقال أيضاً للحرب غير المسلّحة.
وقال البعض: إنّ (المحادّة) في الأصل بمعنى الممانعة من مادّة (حدّ) والتي تجيء بمعنى المانع بين شيئين، ولذلك يقال للحارس (حداد)، والمعنيان من حيث النتيجة متقاربان بالرغم من أنّهما مأخوذان من أصلين مختلفين.
«كبتوا» من مادّة (كبت) على وزن (ثبت) بمعنى المنع بذلّة، و(كبتوا) إشارة إلى أنّ الله تعالى يجعل جزاء المحاربين لله ورسوله الذلّة والهوان ويمنعهم من لطفه الشامل(2).
وهذا التعبير شبيه ما ورد في الآية (114) من سورة البقرة التي تتحدّث عن الأشخاص الذين يمنعون الناس من المساجد وعبادة الله سبحانه، ويحاربون مبدأ الحقّ حيث يقول سبحانه: {لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب أليم}.
أو كما ورد في الآية (33) من سورة المائدة في الحديث عن مصير الأشخاص الذين يحاربون الله ورسوله ويفسدون في الأرض حيث يقول: {ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم}.
ثمّ يضيف الباري سبحانه: {وقد أنزلنا آيات بيّنات}.
وبناءً على هذا فقد تمّت الحجّة بشكل كامل، ولم يبق عذر، وحجّة للمخالفة، ومع ذلك فإن خالفوا، فلابدّ من أن يجازوا، ليس في هذه الدنيا فحسب، بل في القيامة: {وللكافرين عذاب مهين}.
وبهذه الصورة فقد اُشير إلى عذابهم الدنيوي في الجملة السابقة، وفي هذه الجملة إلى العذاب الاُخروي، والشاهد على هذا المعنى في الآية الكريمة التالية: {كما كبت الذين من قبلهم} كما أنّ الآية اللاحقة تؤكّد هذا المعنى أيضاً.
وعلى كلّ حال فإنّ هذا التهديد الإلهي للأشخاص الذين يقفون بوجه الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والقرآن الكريم قد تحقّق، حيث واجهوا الذلّة والإنكسار في غزوة بدر وخيبر والخندق وغير ذلك، وأخيراً في فتح مكّة حيث كسرت شوكتهم وأُحبط كيدهم بإنتصار الإسلام في كلّ مكان.
والآية اللاحقة تتحدّث عن إستعراض زمان وقوع العذاب الاُخروي عليهم حيث يقول عزّوجلّ: {يوم يبعثهم الله جميعاً فينبّئهم بما عملوا}(3) نعم {أحصاه الله ونسوه).
ولذا فعندما تقدّم لهم صحيفة أعمالهم يصرخون: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا } [الكهف: 49].
وهذا بحدّ ذاته عذاب مؤلم، لأنّ الله تعالى يذكّرهم بذنوبهم المنسيّة ويفضحهم في مشهد الحشر أمام الخلائق.
وفي نهاية الآية يقول الباريء سبحانه: {والله على كلّ شيء شهيد}.
وهذه في الحقيقة بمثابة الدليل على ما ورد في الجملة السابقة، فانّ حضور الله سبحانه في كلّ مكان وفي كلّ زمان وفي الداخل والخارج، يوجب ألاّ يحصي أعمالنا ـ فقط ـ بل نيّاتنا وعقائدنا، وفي ذلك اليوم الكبير الذي هو «يوم البروز» يعرف كلّ شيء. ولكي يعلم الإنسان السبب في صعوبة الجزاء الإلهي.
ولتأكيد حضور الله سبحانه في كلّ مكان وعلمه بكلّ شيء ينتقل الحديث إلى مسألة «النجوى» حيث يقول سبحانه: {ألم تر أنّ الله يعلم ما في السماوات}.
بالرغم من أنّ المخاطب في هذه الآية هو الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ أنّ المقصود هو عموم الناس(4)، ومقدّمة لبيان مسألة النجوى.
ثمّ يضيف تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلاّ هو رابعهم، ولا خمسة إلاّ هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلاّ هو معهم أين ما كانوا ثمّ ينّبئهم بما عملوا يوم القيامة إنّ الله بكلّ شيء عليم)(5).
نلاحظ هنا عدّة نقاط تستحقّ الإنتباه:
1 ـ «النجوى» و«النجاة» في الأصل بمعنى المكان المرتفع الذي إنفصل عن أطرافه وجوانبه بسبب إرتفاعه، ولأنّ الإنسان إذا أراد التكتم على حديثه يعتزل في مكان بعيد عن الآخرين، أو بلحاظ أنّ المتحدّث بالنجوى يريد أن ينجي أسراره من الكشف ويبعدها عن تناول أسماع الآخرين.
2 ـ يرى البعض أنّ «النجوى» يجب أن تكون بين ثلاثة أشخاص أو أكثر، وإذا كانت بين شخصين فيقال لها (سرار) على وزن (سِتار) إلاّ أنّ هذا خلاف ظاهر الآية، لأنّ الجملة: {ولا أدنى من ذلك) تشير إلى أقلّ من ثلاثة أشخاص ـ أي شخصين ـ ومن الطبيعي أنّه إذا تناجى شخصان فلابدّ من أن يكون شخص ثالث قريب منهما، وإلاّ فلا ضرورة للنجوى. إلاّ أنّ ذلك لا يرتبط بما ذكرنا.
3 ـ والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا هي أنّ الآية أعلاه تحدّثت في البداية عن نجوى ثلاثة، ومن ثمّ عن نجوى خمسة، ولم يرد الكلام عن نجوى أربعة أشخاص والتي هي بين المرتبتين (ثلاثة وخمسة)، وبالرغم من أنّ كلّ ذلك جاء من باب
المثال، إلاّ أنّ بعض المفسّرين ذكروا له وجوهاً مختلفة، وأنسبها أنّ المقصود بذلك رعاية الفصاحة في الكلام وعدم التكرار، لأنّه إذا قال تعالى (كلّ ثلاثة أشخاص يتناجون فإنّ الله رابعهم، وكلّ أربعة أشخاص يتناجون فإنّ الله خامسهم) فإنّ العدد (أربعة) يتكرّر هنا، وهذا بعيد عن البلاغة. وقال البعض: إنّ هذه الآيات نزلت حول مجموعة من المنافقين الذين كان عددهم نفس العدد المذكور.
4 ـ المقصود من أنّ «الله» رابعهم أو سادسهم هو أنّ الله عزّوجلّ موجود حاضر وناظر في كلّ مكان وعالم بكلّ شيء، وإلاّ فإنّ ذاته المقدّسة لا مكان لها، ولا يوصف بالعدد أبداً، ووحدانيّته أيضاً ليست وحدة عدديّة، بل بمعنى أنّه لا شبيه له، ولا نظير ولا مثيل.
5 ـ وجدير بالذكر أنّ الحديث في ذيل الآية يتجاوز النجوى، حيث تؤكّد الآية أنّ الله مع الإنسان في كلّ مكان، وسوف يُطلع الإنسان على أعماله يوم القيامة .. وتنتهي الآية بالإحاطة العلمية لله سبحانه، كما ابتدأت بالإحاطة العلمية بالنسبة لكلّ شيء.
6 ـ نقل بعض المفسّرين أنّ سبب نزول الآية، ما ورد عن ابن عبّاس أنّه قال: إنّ الآية نزلت حول ثلاثة أشخاص، هم (ربيعة وحبيب وصفوان) كانوا يتحدّثون مع بعضهم، وقال أحدهم للآخر: هل يعلم الله ما نقول؟ قال الثاني: قسم يعلمه وقسم لا يعلمه. وقال الثالث: إذا كان يعلم قسماً منه فإنّه يعلم جميعه، فنزلت الآية وأعلنت أنّ الله تعالى حاضر في كلّ نجوى وفي كلّ مكان في الأرض وفي السماء، كي يتّضح خطأ الغافلين عمي القلوب(6).
وقوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة: 8 - 10].
النجوى من الشيطان:
البحث في هذه الآيات هو إستمرار لأبحاث النجوى السابقة، يقول سبحانه: {ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثمّ يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرّسول}.
ويستفاد من هذه الآية بصورة جليّة أنّ المنافقين واليهود قد نهوا من قبل ومنعوا من النجوى التي تولّد سوء الظنّ عند الآخرين وتسبّب لهم القلق، إلاّ أنّهم لم يعيروا أي إهتمام لمثل هذا التحذير، والأدهى من ذلك أنّ نجواهم كانت تدور حول إرتكاب الذنوب ومخالفة أوامر الله ورسوله.
والفرق بين «الإثم» و«العصيان» و«معصية الرّسول»، هو أنّ «الإثم» يشمل الذنوب التي لها جانب فردي كشرب الخمر، أمّا «العدوان» فإنّها تعني التجاوز على حقوق الآخرين، وأمّا «معصية الرّسول» فإنّها ترتبط بالاُمور والتعليمات التي تصدر من شخص الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) باعتباره رئيساً للدولة الإسلامية، ويتصدّى لمصالح المجتمع الإسلامي. وبناءً على هذا فإنّهم يطرحون في نجواهم كلّ عمل مخالف، وهو أعمّ من الأعمال التي تكون مرتبطة بهم أو بالآخرين أو الحكومة الإسلامية وشخص الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
والتعبير بـ (يعودون) و(يتناجون) جاء هنا بصيغة مضارع، حيث يوضّح لنا أنّ هذا العمل يتكرّر بإستمرار، وقصدهم به إزعاج المؤمنين.
وعلى كلّ حال، فالآية جاءت بعنوان إخبار غيبي يكشف مخالفاتهم ويظهر خطّهم المنحرف.
وإستمراراً لهذا الحديث فإنّ القرآن الكريم يشير إلى مورد آخر من أعمال التجاوز والمخالفة للمنافقين واليهود، حيث يقول تعالى: {وإذا جاؤك حيّوك بما لم يحيّك به الله}.
«حيّوك» من مادّة (تحية) مأخوذة في الأصل من الحياة بمعنى الدعاء بالسلام والحياة الاُخرى، والمقصود بالتحية الإلهية في هذه الآية هو: (السلام عليكم) أو(سلام الله عليك) والتي وردت نماذج منها في الآيات القرآنية عن الأنبياء وأصحاب الجنّة، ومن جملتها قوله تعالى: {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ } [الصافات: 181] .
وأمّا التحيّة التي لم يحيّ بها الله، ولم يكن قد سمح بها هي جملة: (أسام عليك).
ويحتمل أيضاً أن تكون التحية المقصودة بالآية الكريمة هي تحيّة الجاهلية حيث كانوا يقولون: (أنعم صباحاً) و(أنعم مساءً) وذلك بدون أن يتوجّهوا بكلامهم إلى الله سبحانه ويطلبون منه السلامة والخير للطرف الآخر.
هذا الأمر مع أنّه كان سائداً في الجاهلية، إلاّ أنّ تحريمه غير ثابت، وتفسير الآية أعلاه له بعيد.
ثمّ يضيف تعالى أنّ هؤلاء لم يرتكبوا مثل هذه الذنوب العظيمة فقط بل كانوا مغرورين متعالين وكأنّهم سكارى فيقول عزّوجلّ: {ويقولون في أنفسهم لولا يعذّبنا الله بما نقول} وبهذه الصورة فإنّهم قد أثبتوا عدم إيمانهم بنبوّة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)وكذلك عدم إيمانهم بالإحاطة العلمية لله سبحانه.
وبجملة قصيرة يرد عليهم القرآن الكريم: {حسبهم جهنّم يصلونها فبئس المصير}.
والطبيعي أنّ هذا الكلام لا ينفي عذابهم الدنيوي، بل يؤكّد القرآن على أنّه لولم يكن لهؤلاء سوى عذاب جهنّم، فإنّه سيكفيهم وسيرون جزاء كلّ أعمالهم دفعة واحدة في نار جهنّم.
ولأنّ النجوى قد تكون بين المؤمنين أحياناً وذلك للضرورة أو لبعض الميول، لذا فإنّ الآية اللاحقة تخاطب المؤمنين ستكون مناجاتهم في مأمن من التلوّث بذنوب اليهود والمنافقين حيث يقول الباريء عزّوجلّ: {يا أيّها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرّسول، وتناجوا بالبرّ والتقوى واتّقوا الله الذي إليه تحشرون}.
يستفاد من هذا التعبير ـ بصورة واضحة ـ أنّ النجوى إذا كانت بين المؤمنين فيجب أن تكون بعيدة عن السوء وما يثير قلق الآخرين، ولابدّ أن يكون مسارها التواصي بالخير والحسنى، وبهذه الصورة فلا مانع منها.
ولكن كلّما كانت النجوى بين أشخاص كاليهود والمنافقين الذين يهدفون إلى إيذاء المؤمنين، فنفس هذا العمل حرام وقبيح، فكيف الحال إذا كانت نجواهم شيطانية وتآمرية، ولذلك فإنّ القرآن يحذّر منها أشدّ تحذير في آخر آية مورد للبحث، حيث يقول تعالى: {إنّما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا} ولكن يجب أن يعلموا أنّ الشيطان لا يستطيع إلحاق الضرر بأحد إلاّ أن يأذن الله بذلك {وليس بضارّهم شيئاً إلاّ بإذن الله}.
ذلك لأنّ كلّ مؤثّر في عالم الوجود يكون تأثيره بأمر الله حتّى إحراق النار وقطع السيف.
{وعلى الله فليتوكّل المؤمنون} إذ أنّهم ـ بالروح التوكّلية على الله، وبالإعتماد عليه سبحانه ـ يستطيعون أن ينتصروا على جميع هذه المشاكل، ويفسدوا خطط أتباع الشيطان، ويفشلوا مؤامراته.
_______________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج14 ،ص 18-26.
2 ـ فسّر بعض المفسّرين (كبتوا) بمعنى اللعنة، ولأنّ اللعنة من قبل الله تعالى القادر على كلّ شيء دليل على تحقيقها، فالنتيجة هي الذلّة والهوان لهذه المجموعة في الدنيا، إلاّ أنّ ظاهر تعبير الآية أنّها جملة خبريّة وليست إنشائية.
3 ـ يوم ظرف ومتعلّق بالكافرين أو بالمهيمن، والإحتمال الأوّل أنسب، وإختاره كثير من
المفسّرين. وإحتمال البعض انّ المتعلّق مقدّر بمعنى (اذكر) مستبعد.
4 ـ «ألم تر»: من مادّة (رؤية) في الأصل بمعنى المشاهدة الحسيّة، إلاّ أنّها في كثير من الموارد جاءت بمعنى الشهود القلبي والعلم والمعرفة.
5 ـ «نجوى» بالرغم من أنّها مصدر إلاّ أنّها جاءت هنا اسم فاعل، أي من قبيل (زيد عادل).
6 ـ التفسير الكبير، ج29، ص265.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|