المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17761 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
{افان مات او قتل انقلبتم على اعقابكم}
2024-11-24
العبرة من السابقين
2024-11-24
تدارك الذنوب
2024-11-24
الإصرار على الذنب
2024-11-24
معنى قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء
2024-11-24
مسألتان في طلب المغفرة من الله
2024-11-24

النفل الهجين
21-3-2017
في الهجو
22-03-2015
الله تعالى قادر
10-3-2019
الاتساع النصفي half-width
26-11-2019
الدودة الخضراء (دودة بنجر السكري) Spodoptera exigua
22-1-2016
Disconnection at e and d bonds : Cedrene Synthesis
4-2-2019


تفسير الاية (14-30) من سورة الرحمن  
  
3847   04:39 مساءً   التاريخ: 26-9-2017
المؤلف : اعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : ......
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الراء / سورة الرحمن /

قال تعالى : {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوفِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن : 14 - 30].

 

تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه  الآيات (1) :

 قال سبحانه عاطفا على ما تقدم من الأدلة على وحدانيته والإبانة عن نعمه على خلقه فقال {خلق الإنسان} يعني به آدم وقيل جميع البشر لأن أصلهم آدم (عليه السلام) {من صلصال} أي طين يابس وقيل حمأ منتن ويحتمل الوجهين جميعا لأنه كان حمأ مسنونا ثم صار يابسا {كالفخار} أي كالآجر والخزف {وخلق الجان} أي أبا الجن قال الحسن هو إبليس أبو الجن وهو مخلوق من لهب النار كما أن آدم (عليه السلام) مخلوق من طين {من مارج من نار} أي من نار مختلط أحمر وأسود وأبيض عن مجاهد وقيل المارج الصافي من لهب النار الذي لا دخان فيه {فبأي آلاء ربكما تكذبان} فبأي نعمه تكذبان أيها الثقلان أي أبان خلقكما من نفس واحدة ونقلكما من التراب والنار إلى الصورة التي أنتم عليها تكذبان.

 {رب المشرقين ورب المغربين} يعني مشرق الصيف ومشرق الشتاء ومغرب الصيف ومغرب الشتاء وقيل المراد بالمشرقين مشرق الشمس والقمر وبالمغربين مغرب الشمس والقمر بين سبحانه قدرته على تصريف الشمس والقمر ومن قدر على ذلك قدر على كل شيء {فبأي آلاء ربكما تكذبان مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان} ذكر سبحانه عظيم قدرته حيث خلق البحرين العذب والمالح يلتقيان ثم لا يختلط أحدهما بالآخر وهو قوله {بينهما برزخ} أي حاجز من قدرة الله فلا يبغي الملح على العذب فيفسده ولا العذب على الملح فيفسده ويختلط به ومعنى مرج أرسل عن ابن عباس وقيل المراد بالبحرين بحر السماء وبحر الأرض فإن في السماء بحرا يمسكه الله بقدرته ينزل منه المطر فيلتقيان في كل سنة وبينهما حاجز يمنع بحر السماء من النزول وبحر الأرض من الصعود عن ابن عباس والضحاك ومجاهد وقيل إنهما بحر فارس وبحر الروم عن الحسن وقتادة فإن آخر طرف هذا يتصل ب آخر طرف ذلك والبرزخ بينهما الجزائر وقيل مرج البحرين خلط طرفيهما عند التقائهما من غير أن يختلط جملتهما لا يبغيان أي لا يطلبان أن لا يختلطا(2).

 {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} اللؤلؤ كبار الدر والمرجان صغاره عن ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك وقيل المرجان خرز أحمر كالقضبان يخرج من البحر وهو السد عن عطاء الخراساني وأبي مالك وبه قال ابن مسعود لأنه قال حجر وإنما قال منهما وإنما يخرج من الملح دون العذب لأن الله سبحانه ذكرهما وجمعهما وهما بحر واحد فإذا خرج من أحدهما فقد خرج منهما عن الزجاج قال الكلبي وهو مثل قوله {وجعل القمر فيهن نورا} وإنما هو واحدة منهن وقوله {يا معشر الجن والإنس أ لم يأتكم رسل منكم} والرسل من الإنس دون الجن وقيل يخرج منهما أي من ماء السماء ومن ماء البحر فإن القطر إذا جاء من السماء تفتحت الأصداف فكان من ذلك القطر اللؤلؤ عن ابن عباس ولذلك حمل البحرين على بحر السماء وبحر الأرض وقيل إن العذب والملح يلتقيان فيكون العذب كاللقاح للملح ولا يخرج اللؤلؤ إلا من الموضع الذي يلتقى فيه الملح والعذب وذلك معروف عند الغواصين وقد روي عن سلمان الفارسي وسعيد بن جبير وسفيان الثوري أن البحرين علي وفاطمة (عليهما السلام) بينهما برزخ محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان الحسن والحسين (عليهما السلام) ولا غر وأن يكونا بحرين لسعة فضلهما وكثرة خيرهما فإن البحر إنما يسمى بحرا لسعته وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لفرس ركبه وأجراه فأحمده ((وجدته بحرا)) أي كثير المعاني الحميدة.

{وله الجوار} أي السفن الجارية في الماء تجري بأمر الله {المنشئات في البحر} أي المرفوعات وهي التي رفع خشبها بعضها على بعض وركب حتى ارتفعت وطالت وقيل هي المبتدءات للسير مرفعة القلاع قال مجاهد ما رفع له القلاع فهو منشأ وما لم ترفع قلاعه فليس بمنشأ والقلاع جمع قلع وهو شراع السفينة {كالأعلام} أي كالجبال قال مقاتل شبه السفن في البحر بالجبال في البر وقيل المنشئات بكسر الشين وهي أن ينشىء الموج بصدرها حيث تجري فيكون الأمواج كالأعلام من الله سبحانه على عباده بأن علمهم اتخاذ السفن ليركبوها وإن جعل الماء على صفة تجري السفن عليه لأجلها .

{كل من عليها فان} أي كل من على الأرض من حيوان فهو هالك يفنون ويخرجون من الوجود إلى العدم كنى عن الأرض وإن لم يجر لها ذكر كقول أهل المدينة ما بين لابتيها أي لابتي المدينة وإنما جاز ذلك لكونه معلوما {ويبقى وجه ربك} أي ويبقى ربك الظاهر بأدلته ظهور الإنسان بوجهه {ذو الجلال} أي العظمة والكبرياء واستحقاق الحمد والمدح بإحسانه الذي هو في أعلى مراتب الإحسان وإنعامه الذي هو أصل كل إنعام {والإكرام} يكرم أنبياءه وأولياءه بألطافه وإفضاله مع عظمته وجلاله وقيل معناه أنه أهل أن يعظم وينزه عما لا يليق بصفاته كما يقول الإنسان لغيره أنا أكرمك عن كذا وأجلك عنه كقوله أهل التقوى أي أهل أن يتقي وتقول العرب هذا وجه الرأي وهذا وجه التدبير بمعنى أنه الرأي والتدبير قال الأعشى :

وأول الحكم على وجهه *** ليس قضائي بالهوى الجائر

 أي قرر الحكم كما هو وقيل إن المراد بالوجه ما يتقرب به إلى الله تعالى وأنشد :

أستغفر الله ذنبا لست محصيه *** رب العباد إليه الوجه والعمل

ومتى قيل وأي نعمة في الفناء فالجواب أن النعمة فيه التسوية بين الخلق فيه وأيضا فإنه وصلة إلى الثواب وتنبيه على أن الدنيا لا تدوم وأيضا فإنه لطف للمكلف لأنه لو عجل الثواب لصار ملجأ إلى العمل ولم يستحق الثواب ففصل بين الثواب والعمل ليفعل الطاعة لحسنها فيستحق الثواب.

 {يسأله من في السماوات والأرض} أي لا يستغني عنه أهل السماوات والأرض فيسألونه حوائجهم عن قتادة وقيل يسأله أهل الأرض الرزق والمغفرة وتسأل الملائكة لهم أيضا الرزق والمغفرة عن مقاتل.

 {كل يوم هو في شأن} اختلف في معناه فقيل إن شأنه سبحانه إحياء قوم وإماتة آخرين وعافية قوم ومرض آخرين وغير ذلك من الإهلاك والإنجاء والحرمان والإعطاء والأمور الأخر التي لا تحصى وعن أبي الدرداء عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في قوله {كل يوم هو في شأن} قال من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين وعن ابن عباس أنه قال إن مما خلق الله تعالى لوحا من درة بيضاء دواته ياقوتة حمراء قلمه نور وكتابه نور ينظر الله فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء فذلك قوله {كل يوم هو في شأن} وقال مقاتل نزلت في اليهود حين قالوا إن الله لا يقضي يوم السبت شيئا وقيل إن الدهر كله عند الله يومان أحدهما مدة أيام الدنيا والآخر يوم القيامة فالشأن الذي هو فيه في اليوم الذي هو مدة الدنيا الاختبار بالأمر والنهي والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع وشأن يوم القيامة الجزاء والحساب والثواب والعقاب عن سفيان بن عيينة وقيل شأنه جل ذكره أن يخرج في كل يوم وليلة ثلاثة عساكر عسكرا من أصلاب الآباء إلى الأرحام وعسكرا من الأرحام إلى الدنيا وعسكرا من الدنيا إلى القبر ثم يرتحلون جميعا إلى الله تعالى وقيل شأنه إيصال المنافع إليك ودفع المضار عنك فلا تغفل عن طاعة من لا يغفل عن برك عن أبي سليمان الداراني .

______________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9 ، ص335-338.

2- وفي نسختين : ((ان يختلطا)).

تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه  الآيات (1) :

{خَلَقَ الإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ}  . المراد بالإنسان آدم أبو البشر ، والصلصال الطين اليابس غير المطبوخ ، فإذا طبخ فهو فخار . وفي ج 4 ص 474 جمعنا بين أربع آيات ، وهي {ولَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} - 26 الحجر . والآية 54 من سورة الفرقان {وهُو الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً} .

والآية 59 من سورة آل عمران {كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ} . والآية 2 من سورة الأنعام {هُو الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} . وأثبتنا انه لا طريق إلى معرفة أصل الإنسان إلا الوحي من خالق الإنسان ، وعند تفسير الآية 11 من سورة الأعراف ج 3 ص 305 فقرة {حول أصل الإنسان} أشرنا إلى الرد على نظرية (داروين) .

{وخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ} . قلنا مرات : نحن نؤمن بوجود الجن لأن الوحي أثبته ، والعقل لا ينفيه . وعند تفسير قوله تعالى : {والْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ} - 27 الحجر ج 4 ص 475 - قلنا : ان علماء الاختصاص اكتشفوا نوعا من الحشرات لا تحيا إلا بالهواء السام ، ونوعا آخر لا يحيا إلا في آبار البترول والمواد الملتهبة ، ومعنى هذا ان عناصر الكائنات الحية على أنواع ، منها من ماء ومنها من نار ، وأيضا منها في عالم الشهادة ومنها في عالم الغيب {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ} ؟ أبخلق الإنسان من صلصال كالفخار أم بخلق الجان من مارج من نار أم غيره ؟ . ومارج لهب بلا دخان . وأخشى ان يقول الذين يطبقون الوحي على العلم الحديث : ان هذا المارج يشير إلى اكتشاف الغاز والسبيرتو.

أما تعدد قوله تعالى : {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ} فهو لتعدد الأسباب الموجبة ، وهي النعم المسؤول عنها واختلاف أنواعها ، تماما كما تقول لمن تراكمت عليه أياديك : لقد أنقذتك من يد عدوك بعد ان تمكن منك ، وأعطيتك الأموال ، فبأيهما تكذّب ؟ وعلَّمت أولادك ، وبنيت لك دارا ، فبأيهما تكذّب ؟ . - إذن - فلا تكرار ولا تأكيد لشيء واحد .

{رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ ورَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} . المراد بالمشرقين والمغربين هنا مشرقا الشمس والقمر ومغرباهما ، وهذا المعنى هو المتبادر إلى الأذهان دون غيره . . وليس من شك ان أكثر الأحياء تحتاج إلى شروق الشمس والقمر وغروبهما ، بل قالوا :

ان الحياة لا تستقيم على الأرض إلا بذلك {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ} ؟ أبنعمة الشروق أم نعمة الغروب أم غيرها ؟

{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ } . تطلق كلمة بحر على الماء الكثير عذبا كان أم غير عذب ، والمراد بالبحرين هنا مياه البحار والأنهار ، ومرج أي التقى طرفاهما واختلطا ، والبرزخ الحاجز ، والمراد به هنا قدرة اللَّه تعالى ، ولا يبغيان أي لا يبغي أحدهما على الآخر ، فيغيره عما كان عليه . انظر تفسير قوله تعالى : {وهُو الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وحِجْراً مَحْجُوراً} - 53 الفرقان ج 5 ص 472 . . ولكل من البحار والأنهار منافع ومغانم لخلق اللَّه وعباده {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ }؟ أبنعمة البحار أم نعمة الأنهار أم غيرها ؟ .

{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ والْمَرْجانُ } . لقد حار أكثر المفسرين أو الكثير منهم في تفسير هذه الآية . ذلك بأنهم جزموا ان اللؤلؤ والمرجان لا يخرجان إلا من البحر المالح ، مع ان اللَّه سبحانه قال : {يَخْرُجُ مِنْهُمَا} . أي من العذب وغيره . .

وقد تمحلوا في التأويل والتخريج . . أما الرازي فقال : كيف يمكن الجزم بأن اللؤلؤ والمرجان لا يخرجان إلا من الماء المالح ، والذين قطعوا المفاوز وداروا البلاد قد خفيت عليهم الأمور الأرضية فكيف بما في قعر البحار ؟ وهب ان الغواصين ما أخرجوا اللؤلؤ إلا من المالح وما وجدوه إلا فيه ، لكن لا يلزم من هذا ان لا يوجد في غيره . . فظاهر كلام اللَّه أولى بالاعتبار من كلام الناس .

ونحن على هذا المنطق القويم ، ويؤيده قول الشيخ المراغي في تفسيره : (قد ثبت في الكشف الحديث ان اللؤلؤ كما يستخرج من البحر الملح يستخرج من البحر العذب ، وكذلك المرجان وان كان الغالب انه لا يستخرج إلا من الماء الملح {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ} أي فبأي هذه النعم تكذبان .

ونسب إلى الشيعة الإمامية انهم يعتقدون بأن المراد بالبحرين على وفاطمة ، وبالبرزخ محمد (صلى الله عليه واله وسلم) ، وباللؤلؤ والمرجان الحسن والحسين ، وأنا بوصفي الشيعي الإمامي أنفي هذه العقيدة عن الشيعة الإمامية على وجه الجزم والإطلاق وانهم يحرمون تفسير كتاب اللَّه تفسيرا باطنيا ، وإذا وجد منهم من يقول : المراد بالبحرين علي وفاطمة الخ فإنه لا يعبر إلا عن رأيه الخاص ، وقد جاء مثله في بعض تفاسير السنة ، من ذلك تفسير الدر المنثور للسيوطي الشافعي : {أخرج ابن مردويه عن ابن عباس ان البحرين علي وفاطمة ، والبرزخ النبي واللؤلؤ والمرجان الحسن والحسين ، وأيضا أخرج هذا عن أنس بن مالك). وأغرب من هذا ان إسماعيل حقي نقل في تفسيره روح البيان عن بعض العلماء : ان نصف الثمانية الذين أشار إليهم سبحانه بقوله : {ويَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ} هم أبو حنيفة والشافعي ومالك وابن حنبل .

{ولَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} . الجوار السفن ، والمنشآت المصنوعات أو المرتفعات ، والأعلام الجبال ، والمعنى ان السفن تجري في الماء بما ينفع الناس . وتقدم مثله في العديد من الآيات ، منها الآية 31 من سورة لقمان ج 6 ص 168 {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ }؟ أبخلقكم وخلق مواد السفينة أم بإجرائها في الماء أم غيره ؟ {كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ويَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والإِكْرامِ } . المراد بوجه اللَّه ذاته تعالى ، وهو، جلت عظمته ، حي بالذات كما هو موجود بالذات . . وكل ما هو موجود بالذات لا يفنى ولا يتغير ، وهو سبحانه مصدر الحياة وواهبها {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ } ؟ أبحلاله وعظمته أم بجوده وكرمه أم بغير ذلك من النعم .

اللَّه والإنسان وابن عربي :

لمحيي الدين ابن عربي في الجزء الرابع من الفتوحات كلام حول قوله تعالى :

{ذُو الْجَلالِ والإِكْرامِ} هذا توضيحه : انما عطف سبحانه الإكرام على الجلال لأن الإنسان إذا سمع وصف اللَّه بالجلال دون الإكرام تملَّكه اليأس والقنوط من الوصول إلى اللَّه تعالى لأنه لا يرى نفسه شيئا في جنب العظمة الإلهية . . فأزال سبحانه هذا الوهم عن الإنسان ، أزاله بعطف الإكرام على الجلال لأن الجمع بين هذين الوصفين معناه ان اللَّه وإن كان عظيما فإنه يكرم الإنسان وينظر إليه بعين العناية تفضلا منه وكرما ، ولما علم الإنسان بمكانته هذه عند اللَّه أحس بكرامته ، وشعر بأنه لولم يكن كريما لما اعتنى اللَّه به هذه العناية . . وزاد تعظيما للَّه لأنه علم بأنه عظيم عند اللَّه .

ونعطف على قول ابن عربي ان من أنكر وجود اللَّه فقد أسقط نفسه عن كل اعتبار ، وتنكّر لذاته وكرامته من حيث لا يريد لأنه أساء لمن أوجده وكرّمه واستحق منه العذاب {ومَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ} - 82 القصص .

{يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ والأَرْضِ }. المراد بالسؤال هنا الحاجة والافتقار ، والمعنى ان جميع الكائنات تفتقر إليه سبحانه في بقائها وفي جميع حالاتها كما تفتقر إليه في أصل وجودها ، وانه يمدها بالبقاء في كل لحظة بحيث لو تخلى عنها طرفة عين فما دونها لم تكن شيئا مذكورا {كُلَّ يَوْمٍ هُو فِي شَأْنٍ } . المراد باليوم هنا الوقت من غير تحديد ، والمعنى ما من كائن إلا وينتقل من حال إلى حال على مدى الأيام ، ولذا قيل : دوام الحال من المحال ، والكائن في جميع حالاته مفتقر إلى اللَّه تعالى ، فالقوي يفتقر إليه في بقاء قوته ، والضعيف مفتقر إليه لإزالة ضعفه . . وليس معنى هذا ان يقعد الإنسان عن السعي والعمل تاركا الأمر إلى اللَّه . . كلا ، فإن اللَّه سبحانه قد أمر بالسعي وحث عليه وهو القائل : {وأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى} - 39 النجم وإنما معناه ان يعمل الإنسان معتقدا ان وراءه قوة خفية تعينه على العمل وتمهد له سبيل النجاح }فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ} ؟ . أبما يمدكم به من العناية في كل آن أم بغيره من النعم ؟ .

______________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص207-210.

تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

قوله تعالى: {خلق الإنسان من صلصال كالفخار} الصلصال الطين اليابس الذي يتردد منه الصوت إذا وطىء، والفخار الخزف.

والمراد بالإنسان نوعه والمراد بخلقه من صلصال كالفخار انتهاء خلقه إليه، وقيل: المراد بالإنسان آدم (عليه السلام).

قوله تعالى: {وخلق الجان من مارج من نار} المارج هو اللهب الخالص من النار، وقيل: اللهب المختلط بسواد، والكلام في الجان كالكلام في الإنسان فالمراد به نوع الجن، وعدهم مخلوقين من النار باعتبار انتهاء خلقتهم إليها، وقيل: المراد بالجان أبو الجن.

قوله تعالى: {رب المشرقين ورب المغربين} المراد بالمشرقين مشرق الصيف ومشرق الشتاء، وبذلك تحصل الفصول الأربعة وتنتظم الأرزاق، وقيل: المراد بالمشرقين مشرق الشمس والقمر وبالمغربين مغرباهما.

قوله تعالى: {مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان}المرج الخلط والمرج الإرسال، يقال: مرجه أي خلطه ومرجه أي أرسله والمعنى الأول أظهر، والظاهر أن المراد بالبحرين العذب الفرات والملح الأجاج، قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر: 12].

وأمثل ما قيل في الآيتين أن المراد بالبحرين جنس البحر المالح الذي يغمر قريبا من ثلاثة أرباع الكرة الأرضية من البحار المحيطة، وغير المحيطة والبحر العذب المدخر في مخازن الأرض التي تنفجر الأرض عنها فتجري العيون والأنهار الكبيرة فتصب في البحر المالح، ولا يزالان يلتقيان، وبينهما حاجز وهو نفس المخازن الأرضية والمجاري يحجز البحر المالح أن يبغي على البحر العذب فيغشيه ويبدله بحرا مالحا وتبطل بذلك الحياة، ويحجز البحر العذب أن يزيد في الانصباب على البحر المالح فيبدله ماء عذبا فتبطل بذلك مصلحة ملوحته من تطهير الهواء وغيره.

ولا يزال البحر المالح يمد البحر العذب بالأمطار التي تأخذها منه السحب فتمطر على الأرض وتدخرها المخازن الأرضية والبحر العذب يمد البحر المالح بالانصباب عليه.

فمعنى الآيتين - والله أعلم - خلط البحرين العذب الفرات والملح الأجاج حال كونهما مستمرين في تلاقيهما بينهما حاجز لا يطغيان بأن يغمر أحدهما الآخر فيذهب بصفته من العذوبة والملوحة فيختل نظام الحياة والبقاء.

قوله تعالى: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان}أي من البحرين العذب والمالح جميعا وذلك من فوائدهما التي ينتفع بها الإنسان، وقد تقدم فيه الكلام في تفسير قوله تعالى: {وما يستوي البحران}الآية.

قوله تعالى: {وله الجوار المنشئات في البحر كالأعلام} الجواري جمع جارية وهي السفينة، والمنشئات اسم مفعول من الإنشاء وهو إحداث الشيء وتربيته، والأعلام جمع علم بفتحتين وهو الجبل.

وعد الجواري مملوكة له تعالى مع كونها من صنع الإنسان لأن الأسباب العاملة في إنشائها من خشب وحديد وسائر أجزائها التي تتركب منها والإنسان الذي يركبها وشعوره وفكره وإرادته كل ذلك مخلوق له ومملوك فما ينتجه عملها من ملكه.

فهو تعالى المنعم بها للإنسان ألهمه طريق صنعها والمنافع المترتبة عليها وسبيل الانتفاع بمنافعها الجمة.

قوله تعالى: {كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} ضمير {عليها} للأرض أي كل ذي شعور وعقل على الأرض سيفنى وفيه تسجيل الزوال والدثور على الثقلين.

وإنما أتى باللفظ الدال على أولي العقل - كل من عليها - ولم يقل: كل ما عليها كذلك لأن الكلام مسرود في السورة لتعداد نعمه وآلائه تعالى للثقلين في نشأتيهم الدنيا والآخرة.

وظهور قوله: {فإن} في الاستقبال كما يستفاد أيضا من السياق يعطي أن قوله: {كل من عليها فان} يشير إلى انقطاع أمد النشأة الدنيا وارتفاع حكمها بفناء من عليها وهم الثقلان وطلوع النشأة الأخرى عليهم، وكلاهما أعني فناء من عليها وطلوع نشأة الجزاء عليهم من النعم والآلاء لأن الحياة الدنيا حياة مقدمية لغرض الآخرة والانتقال من المقدمة إلى الغرض والغاية نعمة.

وبذلك يندفع قول من قال: أي نعمة في الفناء حتى يجعل من النعم ويعد من الآلاء.

ومحصل الجواب أن حقيقة هذا الفناء الرجوع إلى الله بالانتقال من الدنيا كما تفسره آيات كثيرة في كلامه تعالى وليس هو الفناء المطلق.

وقوله: {ويبقى وجه ربك} وجه الشيء ما يستقبل به غيره ويقصده به غيره، وهو فيه سبحانه صفاته الكريمة التي تتوسط بينه وبين خلقه فتنزل بها عليهم البركات من خلق وتدبير كالعلم والقدرة والسمع والبصر والرحمة والمغفرة والرزق وقد تقدم في تفسير سورة الأعراف كلام مبسوط في كون أسمائه وصفاته تعالى وسائط بينه وبين خلقه.

وقوله: {ذو الجلال والإكرام} في الجلال شيء من معنى الاعتلاء والترفع المعنوي على الغير فيناسب من الصفات ما فيه شائبة الدفع والمنع كالعلو والتعالي والعظمة والكبرياء والتكبر والإحاطة والعزة والغلبة.

ويبقى للإكرام من المعنى ما فيه نعت البهاء والحسن الذي يجذب الغير ويولهه كالعلم والقدرة والحياة والرحمة والجود والجمال والحسن ونحوها وتسمى صفات الجمال كما تسمى القسم الأول صفات الجلال وتسمى الأسماء أيضا على حسب ما فيها من صفات الجمال أو الجلال بأسماء الجمال أو الجلال.

فذو الجلال والإكرام اسم من الأسماء الحسنى جامع بمفهومه بين أسماء الجمال وأسماء الجلال جميعا.

والمسمى به بالحقيقة هو الذات المقدسة كما في قوله في آخر السورة: {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام} لكن أجرى في هذه الآية - ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام - على الوجه، وهو إما لكونه وصفا مقطوعا عن الوصفية للمدح، والتقدير هو ذو الجلال والإكرام، وإما لأن المراد بالوجه كما تقدم هو صفته الكريمة واسمه المقدس وإجراء الاسم على الاسم مآله إلى إجراء الاسم على الذات.

ومعنى الآية على تقدير أن يراد بالوجه ما يستقبل به الشيء غيره وهو الاسم - ومن المعلوم أن بقاء الاسم (2) فرع بقاء المسمى -: ويبقى ربك عز اسمه بما له من الجلال والإكرام من غير أن يؤثر فناؤهم فيه أثرا أو يغير منه شيئا.

وعلى تقدير أن يراد بالوجه ما يقصده به غيره ومصداقه كل ما ينتسب إليه تعالى فيكون مقصودا بنحو للمتوجه إليه كأنبيائه وأوليائه ودينه وثوابه وقربه وسائر ما هومن هذا القبيل فالمعنى: ويبقى بعد فناء أهل الدنيا ما هو عنده تعالى وهومن صقعه وناحيته كأنواع الجزاء والثواب والقرب منه، قال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96].

وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } [القصص: 88] من الكلام بعض ما لا يخلو من نفع في المقام.

قوله تعالى: {يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن} سؤالهم سؤال حاجة فهم في حاجة من جميع جهاتهم إليه تعالى متعلقوا الوجودات به متمسكون بذيل غناه وجوده، قال تعالى: {أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ} [فاطر: 15] ، وقال في هذا المعنى من السؤال: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } [إبراهيم: 34].

وقوله: {كل يوم هو في شأن} تنكير {شأن} للدلالة على التفرق والاختلاف فالمعنى: كل يوم هو تعالى في شأن غير ما في سابقه ولاحقه من الشأن فلا يتكرر فعل من أفعاله مرتين ولا يماثل شأن من شئونه شأنا آخر من جميع الجهات وإنما يفعل على غير مثال سابق وهو الإبداع، قال تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 117].

ومعنى ظرفية اليوم إحاطته تعالى في مقام الفعل على الأشياء فهو سبحانه في كل زمان وليس في زمان وفي كل مكان وليس في مكان ومع كل شيء ولا يداني شيئا.

_______________________

1- الميزان ، الطباطبائي ، ج19 ، ص88-91

2- المراد بالاسم ما يحكى عنه الاسم اللفظي دون اللفظ الحاكي.

تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه  الآيات (1) :

الصلصال وخلق الإنسان:

إنّ الله تعالى بعد ذكره للنعم السابقة والتي من جملتها (خَلق الإنسان)، يتعرّض في الآيات مورد البحث إلى شرح خاص حول خلق الإنس والجنّ كدليل على قدرته العظيمة، من جهة وموضع درس وعبرة للجميع من جهة اُخرى، فيقول سبحانه: {خلق الإنسان من صلصال كالفخار}.

«صلصال» في الأصل معناه (ذهاب ورجوع أو تردّد الصوت في الأجسام الصلبة) ثمّ اُطلقت الكلمة على الطين اليابس الذي يخرج صوتاً، كما تطلق (الصلصلة) على الماء المتبقّي في الوعاء، لأنّه يخرج صوتاً عند حركته في الوعاء.

ويفسّر البعض كلمة (صلصال) بمعنى الطين الخبيث الرائحة، إلاّ أنّ المعنى الأوّل هو الأشهر والأعرف.

«فخار» من مادّة (فخر) بمعنى الشخص الذي يفخر كثيراً، ولكون الأشخاص الذين يعيشون الفراغ في شخصياتهم ومعنوياتهم يكثرون الثرثرة و الإدّعاء عن أنفسهم، فإنّ هذه الكلمة تستعمل لكلّ إناء من الطين أو «الكوز»، وذلك بسبب الأصوات الكثيرة التي يولّدها(2).

ومن هنا يستفاد بوضوح من الآيات القرآنية المختلفة حول مبدأ خلق الإنسان، أنّه كان من التراب إبتداءً، قال تعالى: { فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج: 5] ثمّ خرج مع الماء وأصبح طيناً. {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} [الأنعام: 2] ثمّ أصبح بصورة طين خبيث الرائحة { إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 28] ثمّ أصبح مادّة في حالة لاصقة، {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ } [الصافات: 11] ومن ثمّ يتحوّل إلى حالة يابسة ويكون من (صلصال كالفخار) كما ذكر في الآية مورد البحث.

هذه المراحل كم تستغرق من الوقت؟ وكم هي المدّة التي يتوقّف فيها الإنسان في كلّ مرحلة من هذه المراحل؟، وفي أي ظروف تحدث هذه التطوّرات؟

هذه المسائل خفيت عن علمنا وإدراكنا، والله وحده هو العالم بها فقط.

ومن الواضح أنّ هذه التعابير تبيّن حقيقة ترتبط إرتباطاً وثيقاً مع الاُمور التربوية للإنسان، حيث أنّ المادّة الأوّلية في خلق الإنسان هي مادّة لا قيمة لها، ومن أحقر المواد على الأرض، إلاّ أنّ الله تعالى قد خلق من تلك المادّة الحقيرة مخلوقاً ذا شأن، بل يمثّل قمّة المخلوقات على وجه الأرض، حيث أنّ القيمة الواقعيّة للإنسان هي الروح الإلهية (النفخة الربّانية) فيه، والتي ذكرت في الآيات القرآنية الاُخرى (كما في سورة الحجر / 29) وذلك ليعرف الإنسان قيمته الحقيقيّة في عالم الوجود ويسير في طريق التكامل على بيّنة من أمره.

ثمّ يتطرّق سبحانه لخلق الجنّ حيث يقول: {وخلق الجانّ من مارج من نار}.

«مارج» في الأصل من (مرج) على وزن (مرض) بمعنى الإختلاط والمزج، والمقصود هنا إختلاط شعل النيران المختلفة، وذلك لأنّ النيران أحياناً تكون بألوان مختلفة الأحمر، الأصفر، الأزرق، وأخيراً اللون الأبيض.

ويقول البعض: إنّ معنى التحرّك موجود فيها أيضاً، وذلك من (أمرجت الدابة) يعني (تركت الحيوان في المرتع) لأنّ أحد معاني «المرج» هو المرتع.

ولكن كيف خلق الجنّ من هذه النيران المتعدّدة الألوان؟ هذا ما لم يعرف بصورة دقيقة، كما أنّ الخصوصيات الاُخرى عن هذا المخلوق، قد بيّنت لنا عن طريق الوحي الربّاني وكتاب الله الكريم، ولكن محدودية معلوماتنا لا تعني السماح لنا أبداً بإنكار هذه الحقائق أو تجاوزها، خاصّة بعد ما ثبتت عن طريق الوحي الإلهي.

(وسيكون لنا إن شاء الله شرح مفصّل حول خلق الجنّ وخصوصيات هذا المخلوق في تفسير سورة الجنّ).

وعلى كلّ حال، فإنّ أكثر الموجودات التي نتحدّث عنها هي: الماء والتراب والهواء والنار، سواء كانت هذه الموجودات عناصر بسيطة كما كان يعتقد القدماء، أو مركّبة كما يعتقد العلماء اليوم، ولكن على كلّ حال فإنّ مبدأ خلق الإنسان هو الماء والتراب، في حين أنّ مبدأ خلق الجنّ هو الهواء والنار، وهذا الإختلاف في مبدأ خلقة هذين الموجودين مصدر إختلافات كثيرة بين هذين المخلوقين.

وبعد أن تحدّث عن النعم التي كانت في بداية خلق الإنسان يكرّر تعالى قوله تعالى: {فبأي آلاء ربّكما تكذّبان}.

في الآية اللاحقة يستعرض نعمة اُخرى حيث يقول سبحانه: {ربّ المشرقين وربّ المغربين}.

بما أنّ الشمس في كلّ يوم تشرق من نقطة وتغرب من اُخرى، وبعدد أيّام السنة لها شروق وغروب، ولكن نظراً للحدّ الأكثر من الميل الشمالي للشمس والميل الجنوبي لها، ففي الحقيقة أنّ للشمس مشرقين ومغربين والبقيّة بينهما(3).

إنّ هذا النظام الذي هو سبب وجود الفصول الأربعة له فوائد وبركات كثيرة، ويؤكّد ويكمّل ما مرّ بنا في الآيات السابقة، وذلك لأنّ الحديث كان عن حساب سير الشمس والقمر، وكذلك عن وجود الميزان في خلق السماوات، وإجمالا فإنّه يبيّن النظام الدقيق للخلقة وحركة الأرض والقمر والشمس، وكذلك فإنّه يشير إلى النعم والبركات التي هي موضع إستفادة الإنسان.

ويرى البعض أنّ المقصود بالمشرقين والمغربين هو طلوع وغروب الشمس، وطلوع وغروب القمر ويعتبرون هذا هو المناسب لتفسير الآية الكريمة {والشمس والقمر بحسبان} إلاّ أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب، خصوصاً وأنّ الرّوايات الإسلامية قد أشارت إلى ذلك.

ومن جملة هذه الرّوايات حديث لأمير المؤمنين (عليه السلام) في تفسير هذه الآية حيث يقول: «إنّ مشرق الشتاء على حدة، ومشرق الصيف على حدّه، أما تعرف ذلك من قرب الشمس وبعدها؟»(4).

ويتّضح بذلك معنى قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج: 40] حيث يشير هنا إلى جميع مشارق ومغارب الشمس على طول أيّام السنة. في الوقت الذي تشير الآية مورد البحث إلى نهاية القوس الصعودي والنّزولي لها فقط.

وعلى كلّ حال فإنّ الله تعالى يؤكّد هذه النعمة بعد نعمة خلق الإنس والجنّ بقوله: {فبأي آلاء ربّكما تكذّبان}.

* * *

قال تعالى : {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن: 19 - 23]

البحار وذخائرها الثمينة:

إستمراراً لشرح النعم الإلهيّة يأتي الحديث هنا عن البحار، ولكن ليس عن خصوصيات البحار بصورة عامّة، بل عن كيفية خاصّة ومقاطع معيّنة منها تمثّل ظواهر عجيبة وآية على القدرة اللامتناهية للحقّ، بالإضافة إلى ما فيها من النعم التي هي موضع إستفادة البشرية.

يقول تعالى: (مرج البحرين يلتقيان) ولكن بين هذين البحرين المتلاقيين فاصل يمنع من طغيان وغلبة أحدهما على الآخر: (بينهما برزخ لا يبغيان).

مادّة (مرج) على وزن (فلج) بمعنى الإختلاط، أو إرسال الشيء وتركه، وهنا وردت بمعنى إرسال الشيء ووضعه جنباً إلى جنب بقرينة الآية: {بينهما برزخ لا يبغيان}.

المقصود من البحرين هما الماء العذب والماء المالح، وذلك بالإستدلال بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا } [الفرقان: 53].

والتساؤل هنا عن مكان هذين البحرين اللذين لا يمتزجان مع بعضهما، وما هو البرزخ الموجود بينهما؟ هناك كلام كثير بين المفسّرين حول هذه المسألة، إلاّ أنّ بعض التّفسيرات تدلّل على عدم إطّلاعهم على أوضاع البحار في ذلك الزمان، منها أنّهم ذكروا أنّ المقصود من البحرين هما (بحر فارس وبحر الروم) في الوقت الذي نعلم أنّ ماء هذين البحرين مالح، ولا يوجد بينهما برزخ.

أو قولهم: إنّ المقصود بذلك هو بحر السماء وبحر الأرض، والذي يكون الأوّل عذباً والثاني مالحاً، في الوقت الذي نعلم أيضاً بعدم وجود بحر في السماء باستثناء الغيوم والبخار التي يتبخّر من المحيطات.

وقالوا أيضاً: إنّ المقصود من البحر العذب هو المياه التي تحت الأرض والتي لا تختلط مع مياه البحار، والبرزخ الموجود بينهما هي جدران هذه الآبار.

في الوقت الذي نعلم أيضاً أنّ الماء الموجود تحت الأرض أقلّ من أن يشكل بحراً.

نعم إنّ جزئيات الماء المخفية بين طبقات التراب والرمل تتجمّع تدريجيّاً، وتخرج عندما يحفر بئر في نقطة معيّنة. وهي كميّة محدودة بالإضافة إلى عدم وجود اللؤلؤ والمرجان فيها.

إذاً ما هو المقصود من هذين البحرين؟

لقد أشرنا سابقاً إلى هذه الحقيقة في تفسير سورة الفرقان، وهي أنّ الأنهار العظيمة ذات المياه العذبة عندما تصبّ في البحار والمحيطات فإنّها تشكّل بحراً من الماء الحلو إلى جنب الساحل وتطرد الماء المالح إلى الخلف، والعجيب أنّ هذين الماءين لا يمتزجان مع بعضهما لمدّة طويلة بسبب إختلاف درجة الكثافة. وتلاحظ هذه المناظر بوضوح عند السفر بالطائرة في المناطق التي تكون فيها هذه الظاهرة، حيث المياه العذبة تمثّل بحراً منفصلا في داخل البحر المالح ومنفصلة عنها، وعندما تمتزج أطراف هذين البحرين فإنّ المياه العذبة الجديدة تأخذ مكانها بحيث أنّ هذين البحرين منفصلان على الدوام بشكل ملفت للنظر.

والظريف هنا ما يحصل في حالة (مدّ البحر) فبإرتفاع سطح المحيط إلى الأعلى، فإنّ المياه العذبة ترجع إلى الداخل دون أن تختلط مع المياه المالحة ـ باستثناء سنوات الجدب التي تنعدم فيها الأمطار ويشحّ الماء ـ وتغطّي قسماً من اليابسة، لذلك فكثيراً ما تستثمر هذه الحالة بإيجاد أنهار وقنوات في المناطق الساحلية حيث تسقى بهذه الطريقة الكثير من الأراضي الزراعية.

إنّ هذه الأنهر توجد ببركة وحركة (المدّ والجزر) الساحليتين وتأثيرهما على مياه هذه الأنهار التي تمتلىء وتفرغ مرّتين في كلّ يوم بالماء العذب، ممّا يتيح فرصة طيّبة لسقي مناطق واسعة من الأراضي الزراعية.

ويوجد تفسير رائع آخر لهذين البحرين، حيث قالوا: إنّ المقصود منهما يحتمل أن يكون ظاهرة (كلف استريم) والذي سيأتي شرحها في آخر هذه الآيات إن شاء الله.

ومرّة اُخرى يخاطب الله تعالى عباده في معرض حديثه عن هذه النعم حيث يسألهم سبحانه: {فبأي آلاء ربّكما تكذّبان}.

وإستمراراً لهذا الحديث يقول عزّوجلّ: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان فبأي آلاء ربّكما تكذّبان}.

اللؤلؤ والمرجان: وسيلتان للتجميل والزينة، ويستفاد منهما أيضاً في معالجة بعض الأمراض، كما أنّهما ثروة تجارية أيضاً ووسيلة جيّدة للربح الوفير، ولهذه الموارد اُشير إليهما كنعمتين إلهيتين للعباد.

أمّا «اللؤلؤ» فهو حبّة شفّافة ثمينة تنمو في داخل الصدف في أعماق البحار، وكلّما كبر حجمها زاد ثمنها، ولها إستعمالات واسعة في الطبّ، حيث كان الأطباء سابقاً يستحضرون منها بعض الأدوية التي تفيد في تقوية القلب والأعصاب، وعلاج أنواع الخفقان وتقوية الكبد وعلاج اليرقان، ومعالجة الخوف والوحشة، ورفع الرائحة النتنة من الفمّ، وكذلك الحصى في الكلية ولمثانة، ويستفاد منهما أيضاً في علاج بعض أمراض العين.

«المرجان»: فسّر البعض المرجان بأنّه اللؤلؤ الصغير، إلاّ أنّه في الحقيقة شيء آخر، فهو كائن حيّ يشبه الغصن الصغير للشجرة، وينشأ في أعماق البحار، وكان العلماء يتصوّرون لفترة زمنية أنّ هذه الشجرة نوع من أنواع النباتات، إلاّ أنّه اتّضح فيما بعد أنّه نوع من الحيوانات، بالرغم من أنّه يلتصق بالصخور الموجودة في أعماق البحر ويغطّي مساحات واسعة أحياناً وينمو تدريجيّاً بحيث يشكّل جزراً تعرف بالجزر المرجانية، وينمو المرجان غالباً في المياه الراكدة، ويصطاده الصيادون من سواحل البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسّط وفي مناطق اُخرى.

وأفضل أنواع المرجان الذي يستعمل للزينة هو المرجان ذو اللون الأحمر، وكلّما كان إحمراره أشدّ كانت قيمته أغلى وأثمن، وهو مادّة خصبة لتشبيهات الشعراء، كما أنّ أردأ أنواع المرجان هو المرجان الأبيض ويوجد بكثرة، وما بين النوعين هو المرجان الأسود.

وإضافة إلى إستعمال المرجان كحليّ وزينة، فإنّ له إستعمالات طبيّة حيث ذكروا له خواصاً كثيرة منها أنّه يصنع منه بعض الأدوية الخاصّة بتقوية القلب، وكذلك دفع سمّ الأفعى، وتقوية الأعصاب، ومعالجة الإسهال، ونزيف الرحم، وعلاج الصرع(5).

والنقطة الاُخرى التي يجدر بنا ذكرها هنا أنّ بعض المفسّرين صرّحوا بأنّ اللؤلؤ والمرجان ينشآن فقط في المياه المالحة، ممّا أوقعهم في إشكال في تفسير الآية {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} فذهبوا إلى أنّ المقصود هو أحدهما كما في الآية (31) من سورة الزخرف.

إلاّ أنّ مثل هذا التّفسير لا يدعمه دليل، حيث صرّح البعض بأنّ اللؤلؤ والمرجان يعيشان في الماء العذب والمالح على السواء.

وإستمراراً لهذا القسم من النعم الإلهيّة يشير سبحانه إلى موضوع (السفن) التي هي في الحقيقة أكبر وأهمّ وسيلة لنقل البشر وحمل الأمتعة في الماضي والحاضر، حيث يقول سبحانه: {وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام}.

«جوار»: جمع جارية، وهي وصف للسفن، وحذفت للإختصار لأنّ التركيز الأكثر كان على سير وحركة السفن، لذا إعتمد هذا الوصف.

كما تطلق جارية على (الأمة)، وذلك بسبب حركتها وسعيها في إنجاز الأعمال والخدمات، وتطلق أيضاً على الفتيات الشابّات وذلك لجريان النشاط فيهنّ.

«منشآت» جمع (منشأ) وهو إسم مفعول من (إنشاء) بمعنى إيجاد، والظريف هنا أنّه في الوقت الذي يعبّر عن «منشآت» والتي تحكي أنّها مصنوعة بواسطة الإنسان، يقول سبحانه (وله) أي لله تعالى وهو إشارة إلى أنّ جميع الخواص التي يستفاد منها في صناعة السفن، والتي منحها الله للبشر المخترعين لهذه الصناعة هي لله، وكذلك فانّه هو الذي أعطى خاصية السيولة لمياه البحر والقوّة للرياح، وأنّ الله تعالى هو الذي أوجد هذه الخواص في المواد المتعلّقة بالسفينة، وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم بالتسخير أيضاً، حيث يقول سبحانه: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} [إبراهيم: 32] .

وفسّر البعض «منشأ» من مادّة (إنشاء) بمعنى إرتفاع الشيء، وإعتبروها إشارة إلى أشرعة السفن التي تستخدم كقوّة في حركة السفينة، وذلك بسبب دفع الرياح لها.

«أعلام»: جمع (علم) على وزن (قلم)، بمعنى (جبل) بالرغم من أنّها في الأصل بمعنى (علامة وأثر) والذي يخبر عن شيء معيّن، ولأنّ الجبال تكون واضحة من بُعد فإنّه يعبّر عنها بـ (العلم) كما أنّ لفظة (عَلَمَ) تطلق أيضاً على «الراية».

وبهذا فإنّ القرآن الكريم نوّه هنا بالسفن الكبيرة التي تتحرّك على سطح المحيطات والبحار، وعلى خلاف ما يتصوّره البعض فانّ السفن الكبيرة لا تختّص بعصر الماكنة والبخار، بل لقد إستفاد اليونانيون وغيرهم من السفن الكبيرة في نقل قواتهم وجيوشهم.

ومرّة اُخرى يكرّر سبحانه هذا السؤال العميق المغزى بقوله تعالى: {فبأي آلاء ربّكما تكذّبان}.

وقوله تعالى : {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 26 - 30]

كلّ شيء هالك إلاّ وجهه:

إستمراراً لشرح النعم الإلهيّة، في هذه الآيات يضيف سبحانه قوله: {كلُّ من عليها فان} وهنا يتساءل كيف يكون الفناء نعمة إلهية؟

وللجواب على هذا السؤال نذكر ما يلي: يمكن ألاّ يكون المقصود بالفناء هنا هو الفناء المطلق، وإنّما هو الباب الذي يطلّ منه على عالم الآخرة، والجسر الذي لابدّ منه للوصول إلى دار الخلد، بلحاظ أنّ الدنيا بكلّ نعمها هي سجن المؤمن، والخروج منها هو التحرر من هذا السجن المظلم.

أوأنّ النعم الإلهيّة الكثيرة ـ المذكور سابقاً ـ يمكن أن تكون سبباً لغفلة البعض وإسرافهم فيها بأنواع الطعام والشراب والزينة والملابس والمراكب وغير ذلك. ممّا يستلزم تحذيراً إلهيّاً للإنسان، بأنّ هذه الدنيا ليست المستقرّ، فالحذر من التعلّق بها، ولابدّ من الإستفادة من هذه النعم في طاعة الله .. إنّ هذا التنبيه والتذكير بالرحيل عن هذه الدنيا هو نعمة عظيمة.

الضمير في (عليها) يرجع إلى الأرض التي ورد ذكرها في الآيات السابقة، بالإضافة إلى القرائن الاُخرى الموجودة، لذا فهو واضح.

كما أنّ المقصود (من عليها) هم الجنّ والإنس مع العلم أنّ بعض المفسّرين إحتملوا أنّ الحيوانات والكائنات الحيّة جميعاً مشمولة بهذا المعنى.

وبما أنّ كلمة (من) تستعمل غالباً للعاقل، لذا فالمعنى الأوّل هو الأنسب.

صحيح أنّ مسألة الفناء لا تنحصر بالإنس والجنّ فقط، ولا تختّص بالكائنات الموجودة على الأرض فحسب، حيث يصرّح القرآن الكريم بأنّ أهل السماء والأرض جميعاً يفنون، وذلك في قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] ولكن لمّا كان الحديث يدور حول أهل الأرض، لذا فهم المقصودون.

ويضيف في الآية اللاحقة قوله سبحانه: {ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام}.

«وجه» معناه اللغوي معروف وهو القسم الأمامي للشيء بحيث يواجهه الإنسان في الطرف المقابل، وإستعمالها بخصوص لفظ الجلالة يقصد به (الذات المقدّسة).

فسّر البعض (وجه ربّك) بمعنى الصفات الإلهية المقدّسة، التي عن طريقها تنزل نعم وبركات الله على الإنسان كالرحمة والمغفرة والعمل والقدرة.

ويحتمل أن يكون المقصود هي الأعمال التي تنجز من أجل الله، وبناءً على هذا فالجميع يفنى، والشيء الباقي هي الأعمال التي تنجز بإخلاص ولرضى الله تعالى ..

إلاّ أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب.

أمّا {ذو الجلال والإكرام} والذي هو وصف لـ (الوجه) فإنّه يشير إلى صفات الجمال والجلال لله سبحانه، لأنّ (ذو الجلال) تنبّئنا عن الصفات التي يكون الله أسمى وأجلّ منها (الصفات السلبية). وكلمة «الإكرام» تشير إلى الصفات التي تظهر حسن وقيمة الشيء، وهي الصفات الثبوتية لله سبحانه كعلمه وقدرته.

وبناءً على هذا فإنّ معنى الآية بصورة عامّة يصبح كالآتي: إنّ الباقي في هذا العالم هو الذات المقدّسة لله سبحانه، والتي تتّصف بالصفات الثبوتية والمنزّهة عن الصفات السلبية.

كما فسّر البعض أنّ (ذو الإكرام) هو إشارة إلى الألطاف والنعم الإلهية التي تفضّل الله بها وأكرمها لخاصّة أوليائه، ومن الممكن الجمع بين هذه المعاني المختلفة للآية أعلاه.

ونقرأ في حديث أنّ رجلا كان يصلّي في محضر الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث دعا الله سبحانه كذلك: «اللهمّ إنّي أسألك بأنّ لك الحمد لا إله إلاّ أنت المنّان، بديع السماوات والأرض، ذو الجلال والإكرام، يا حيّ يا قيّوم».

فقال الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)لأصحابه: «أتدرون بأي اسم دعا الله؟» فقالوا: الله ورسوله أعلم.

قال: «والذي نفسي بيده، لقد دعا الله بإسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى»(6).

ثمّ يخاطب الخلائق مرّة اُخرى: {فبأي آلاء ربّكما تكذّبان}.

ومضمون الآية اللاحقة في الحقيقة هي نتيجة للآيات السابقة، حيث يقول سبحانه: {يسأله من في السموات والأرض}.

ولماذا لا يكون كذلك في الوقت الذي يفنى الجميع ويبقى وحده سبحانه، وليس هذا في نهاية العالم فقط، وإنّما الآن أيضاً فانّ الكائنات فانية في مقابله وبقاءها مرتبط بمشيئته، وإذا أعرض بلطفه فسيتلاشى الكون بأجمعه، وعلى هذا فهل يوجد أحد سواه يطلب أهل السماوات والأرض قضاء حوائجهم منه ويسألونه تدبير شؤونهم؟!

التعبير بـ (يسأله) جاء بصيغة المضارع، وهو دليل على أنّ السؤال والطلب في الكائنات ومستمر من الذات الإلهيّة المقدّسة، والجميع يستلهمون من مبدأ فيضه، ولسان حالهم يطلب الوجود والبقاء وقضاء الحوائج، وهذا شأن الموجود الممكن الذي هو مرتبط بواجب الوجود ليس في الحدوث فقط. وإنّما في البقاء أيضاً.

ثمّ يضيف سبحانه: {كلّ يوم هو في شأن}.

نعم إنّ خلقه مستمر، وإجاباته لحاجات السائلين والمحتاجين لا تنقطع، كما أنّ إبداعاته مستمرّة فيجعل الأقوام يوماً في قوّة وقدرة، وفي يوم آخر يهلكهم، ويوماً يعطي السلامة والشباب، وفي يوم آخر الضعف والوهن، ويوماً يذهب الحزن والهمّ من القلوب وآخر يكون باعثاً له. وخلاصة الأمر أنّه في كلّ يوم ـ وطبقاً لحكمته ونظامه الأكمل ـ يخلق ظاهرة جديدة وخلقاً وأحداثاً جديدة.

والإلتفات إلى هذه الحقيقة من جهة يوضّح إحتياجاتنا المستمرّة لذاته المقدّسة، ومن جهة اُخرى فإنّه يذهب اليأس والقنوط من القلوب، ومن جهة ثالثة فإنّه يلوي الغرور ويكسر الغفلة في النفوس.

نعم، إنّه سبحانه له في كلّ يوم شأن وعمل.

وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين ذكروا قسماً من هذا المعنى الواسع تفسيراً للآية، إلاّ أنّ البعض ذكر في تفسيرها، أنّها مغفرة الذنوب، وذهاب الحزن، وإعزاز أقوام وإذلال آخرين فقط.

والبعض الآخر قال: إنّها مسألة الخلق والرزق والحياة والموت والعزّة والذلّة فقط.

والبعض الآخر عنون مسألة الخلق والموت بالنسبة للإنسان وقال: إنّ لله جيوشاً ثلاثة: جيش ينتقل من أصلاب الآباء إلى أرحام الاُمّهات، وجيش يخرج إلى عالم الدنيا من أرحام الاُمّهات، وجيش يساق من عالم الدنيا إلى القبور.

وكما قلنا فإنّ للآية مفهوماً واسعاً يشمل كلّ خلق جديد وخلقة جديدة، ويشمل كلّ تغيير وتحوّل في هذا العالم.

ونقرأ في رواية لأمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال في أحد خطبه: «الحمد لله الذي لا يموت ولا تنقضي عجائبه لأنّه كلّ يوم هو في شأن، من إحداث بديع لم يكن»(7).

ونقرأ في حديث آخر للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسيره الآية الكريمة: «من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرّج كرباً ويرفع قوماً ويضع آخرين»(8).

ولابدّ من الإنتباه لهذه النقطة أيضاً: إنّ المقصود من (يوم) هو ليس (النهار) في مقابل (الليل) بل يشمل الأحقاب المتزامنة، وكذلك الساعات واللحظات، ومفهومه أنّ الله المتعال في كلّ زمان في شأن وعمل.

كما أنّ البعض ذكروا شأناً نزولياً للآية، وهو أنّها نزلت ردّاً على قول اليهود الذين يعتقدون أنّ الله عزّوجلّ يعطّل كلّ الأعمال في يوم السبت، ولا يصدر أي حكم(9). فالقرآن الكريم يقول: إنّ خلق الله وتدبيره ليس له توقّف.

ومرّة اُخرى ـ بعد هذه النعم المستمرّة والإجابة لاحتياجات جميع خلقه من أهل السماوات والأرض يكرّر قوله سبحانه: {فبأي آلاء ربّكما تكذّبان}.

______________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج13 ، ص442-456.

2 ـ المفردات للراغب.

3 ـ توضيح: لما كان محور الأرض مائلا بالنسبة لسطح مدارها وبشكل زاوية بحدود 23 درجة، والأرض بهذه الصورة تدور حول الشمس، لذا فإنّ شروق الشمس وغروبها متغيّر دائماً أيضاً كما يبدو من 23 درجة والتي تمثّل أعظم الإنحراف باتّجاه الشمال (في بداية الصيف) إلى 23 درجة في قمّة الإنحراف باتّجاه الجنوب (بداية الشتاء)، ويسمّى المدار الأوّل لها مدار «رأس السرطان» والمدار الثاني مدار «رأس الجدي»، وهذان هما مشرقا ومغربا الشمس، وبقيّة المدارات في داخل هذين المدارين.

4 ـ تفسير نور الثقلين، ج5، ص190 (المقصود هو إرتفاع الشمس في السماء في فصل الصيف ونزولها في فصل الشتاء).

5 ـ دائرة المعارف فريد وجدي وكتب اُخرى.

6 ـ تفسير روح المعاني، ج27، ص95.

 

7 ـ اُصول الكافي مطابق نقل نور الثقلين، ج5، ص193.

8 ـ مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث، ونقل هذا الحديث أيضاً في روح المعاني من صحيح البخاري.

9 ـ مجمع البيان، ج9، ص202.




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .