أقرأ أيضاً
التاريخ: 25-9-2017
4861
التاريخ: 25-9-2017
5460
التاريخ: 25-9-2017
1965
التاريخ: 25-9-2017
6583
|
قال تعالى : {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَو مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُو الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ } [الذاريات: 47 - 60].
{والسماء بنيناها بأيد} تقديره وبنينا السماء بنيناها بقوة عن ابن عباس ومجاهد وابن زيد وقتادة أي خلقناها ورفعناها على حسن نظامها {وإنا لموسعون} أي قادرون على خلق ما هو أعظم منها عن ابن عباس وقيل معناه وإنا لموسعون الرزق على الخلق بالمطر عن الحسن وقيل معناه وإنا لذو سعة لخلقنا أي قادرون على رزقهم لا نعجز عنه فالموسع ذو الوسع والسعة أي الغني والجدة {والأرض فرشناها} أي وفرشنا الأرض فرشناها أي بسطناها {فنعم الماهدون} نحن إذ فعلنا ذلك للمنافع ومصالح العباد لا لجر نفع ولا لدفع ضرر {ومن كل شيء خلقنا زوجين} أي وخلقنا من كل شيء صنفين مثل الليل والنهار والأرض والسماء والشمس والقمر والجن والإنس والبر والبحر والنور والظلمة عن الحسن ومجاهد وقيل الزوجين الذكر والأنثى عن ابن زيد {لعلكم تذكرون} أي لكي تعلموا أن خالق الأزواج واحد فرد لا يشبهه شيء.
{ففروا إلى الله} أي فاهربوا من عقاب الله إلى رحمته وثوابه بإخلاص العبادة له وقيل ففروا إلى الله بترك جميع ما يشغلكم عن طاعته ويقطعكم عما أمركم به وقيل معناه حجوا عن الصادق (عليه السلام) {إني لكم منه} أي من الله {نذير} مخوف من عقابه {مبين} لكم ما أرسلت به {ولا تجعلوا مع الله إلها آخر} أي لا تعبدوا معه معبودا آخر من الأصنام والأوثان {إني لكم منه نذير مبين} والوجه في تكريره أن الثاني منعقد بغير ما انعقد به الأول إذ تقديره إني لكم منه نذير في الامتناع من جعل إله آخر معه وتقدير الأول إني لكم منه نذير في ترك القرار إليه بطاعته فهو كقولك أنذرك أن تكفر بالله أنذرك أن تتعرض لسخط الله والنذير المخبر بما يحذر منه وهو يقتضي المبالغة والمنذر صفة جارية على الفعل والمبين الذي يأتي ببيان الحق من الباطل.
ثم قال {كذلك} أي الأمر كذلك وهو أنه {ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون} أي لم يأت الذين من قبلهم يعني كفار مكة من الأمم رسول إلا قالوا ساحر محتال بالحيل اللطيفة أو مجنون به جنون فهو مغطى على عقله بما لا يتوجه للإدراك به ثم قال سبحانه {أ تواصوا به} أي أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب والاستفهام للتوبيخ {بل هم قوم طاغون} معناه لم يتواصوا بذلك لكنهم طاغون طغوا في معصية الله وحملهم الطغيان فيما أعطيتهم ووسعت عليهم على تكذيب أنبيائي ثم قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) {فتول عنهم} أي فأعرض عنهم يا محمد فقد بلغت وأنذرت وهو قوله {فما أنت بملوم} أي في كفرهم وجحودهم بل اللائمة والذم عليهم من حيث لا يقبلون ما تدعوهم إليه قال المفسرون لما نزلت هذه الآية حزن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) والمؤمنون وظنوا أن الوحي قد انقطع وأن العذاب قد حل حتى نزلت الآية الثانية وروي بالإسناد عن مجاهد قال خرج علي بن أبي طالب (عليه السلام) مغتما مشتملا في قميصه فقال لما نزلت {فتول عنهم فما أنت بملوم} لم يبق أحد منا إلا أيقن بالهلكة حين قيل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) {فتول عنهم} فلما نزل {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} طابت نفوسنا ومعناه عظ بالقرآن من آمن من قومك فإن الذكر تنفعهم عن الكلبي.
{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} أي لم أخلق الجن والإنس إلا لعبادتي والمعنى لعبادتهم إياي عن الربيع فإذا عبدوني استحقوا الثواب وقيل إلا لآمرهم وأنهاهم وأطلب منهم العبادة عن مجاهد واللام لام الغرض والمراد أن الغرض في خلقهم تعريضهم للثواب وذلك لا يحصل إلا بأداء العبادات فصار كأنه سبحانه خلقهم للعبادة أنه إذا لم يعبده قوم لم يبطل الغرض ويكون كمن هيأ طعاما لقوم ودعاهم ليأكلوه فحضروا ولم يأكله بعضهم فإنه لا ينسب إلى السفه ويصح غرضه فإن الأكل موقوف على اختيار الغير وكذلك المسألة فإن الله إذا أزاح علل المكلفين من القدرة والآلة والألطاف وأمرهم بعبادته فمن خالف فقد أتي من قبل نفسه لا من قبله سبحانه وقيل معناه إلا ليقروا بالعبودية طوعا وكرها عن ابن عباس.
{ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون} هذا نفي الإيهام عن خلقهم لعبادته أن يكون ذلك لعائدة نفع يعود عليه تعالى فبين أنه لعائدة النفع على الخلق دونه تعالى لاستحالة النفع عليه لأنه غني لنفسه فلا يحتاج إلى غيره وكل الخلق يحتاج إليه وقيل معناه ما أريد أن يرزقوا أحدا من خلقي ولا أن يرزقوا أنفسهم وما أريد أن يطعموا أحدا من خلقي وإنما أسند الإطعام إلى نفسه لأن الخلق كلهم عيال الله ومن أطعم عيال أحد فقد أطعمه {إن الله هو الرزاق} لعباده وللخلائق كلهم فلا يحتاج إلى معين {ذو القوة} أي ذو القدرة {المتين} أي القوي الذي يستحيل عليه العجز والضعف إذ هو القادر لنفسه يقال متن متانة فهومتين إذا قوي {فإن للذين ظلموا} أنفسهم بالكفر والمعاصي {ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم} أي نصيبا من العذاب مثل نصيب أصحابهم الذين هلكوا نحو قوم نوح وعاد وثمود {فلا يستعجلون} بإنزال العذاب عليهم فإنهم لا يفوتون {فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون} هذا يدل على أنهم أخروا إلى يوم القيامة والويل كلمة تقولها العرب لكل من وقع في الهلكة .
_______________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9 ، ص267- 269.
{ والسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وإِنَّا لَمُوسِعُونَ } . قال بعض المفسرين : المراد بموسعين ان اللَّه يوسع الرزق على خلقه بالمطر . . والمعنى الذي يتفق مع الواقع ومدلول الآية
معا أن يكون المراد بالسماء هنا المعنى الظاهر من كلمة السماء وهو الفضاء الواسع الرحب بما فيه من النجوم وغيرها . والمراد بموسعين ان اللَّه سبحانه يزيد الفضاء اتساعا باستمرار وعلى مدى الأيام ، قال أهل الاختصاص : ان الفضاء يتمدد بين المجرات باستمرار ، وان حجم الفضاء العالمي الآن يبلغ نحو عشرة أضعاف حجمه منذ بداية تمدده . . ويقول {سير جينز} : يبلغ متوسط البعد بين المجرات بعضها مع بعض نحو مليون ونصف من السنين الضوئية مع العلم ان الضوء يقطع 6 ملايين مليون من الأميال في سنة واحدة . . ويقول {كامو} : انه قد علم بواسطة المراصد الكبرى ان بين النجوم مسافات سحيقة تقدر بنحو خمسمائة مليون سنة ضوئية ، وانه قد أحصى من المجرات نحو مائة مليون مجرة ، وانه يحتمل وجود مجرات أخرى على مسافات أبعد . ( التكامل في الإسلام لأحمد أمين العراقي ج 3 ص 67 طبعة أولى ) .
ونحن لا نتحمس لتطبيق القرآن على العلم الحديث للمحاذير التي ذكرناها في ج 1 ص 38 . . ولكن لا نجد مفرا من القول : ان هذه الآية الكريمة أصدق شاهد على ان معجزة محمد بن عبد اللَّه ( صلى الله عليه واله وسلم ) هي المعجزة الأبدية الوحيدة من بين معاجز الأنبياء أجمعين ، وانها تزداد رسوخا ووضوحا كلما تقدم العلم خطوة إلى الأمام .
{والأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ} . مهد وهيأ سبحانه الأرض للإنسان ، وبسط فيها يده ليبني ويعمل للحياة والخير ، لا للشر والدمار ، أطلق يده ليعمل واشترط عليه أن يكف الأذى عن أخيه الإنسان ، لا ليلقي بالصواريخ وقنابل النابالم على مدارس الأطفال ودور الحضانة ، ومستشفيات المرضى ومصانع العمال ، وعلى كل من ينشد الحرية ، ويرفض العبودية إلا للَّه وحده .
{ومِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} . يدل ظاهر الآية على أن اللَّه سبحانه خلق في كل جنس من الكائنات زوجين ذكرا وأنثى ، سواء أكان إنسانا أم حيوانا أو نباتا أم جمادا لأن كلمة كل شيء تعم الجميع . . ولا ندري هل اكتشف العلماء هذه الحقيقة أوانهم ما زالوا في طريق الوصول إليها ؟ والذي قرأناه من أقوال العلماء في هذا الباب ان ما من ذرة في الكون إلا وهي مؤلفة
من كهيرب موجب وسالب أي انها تحتوي على عنصر يجذب وآخر يدفع ، فهل تنطبق الآية على ذلك ؟ .
{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} . وكل من كف الأذى عن غيره ، وصدق في أقواله وأخلص للحق والعدل في أفعاله فقد فر من الباطل إلى الحق ، ومن الضلال إلى الهدى ، وعمل بما أمر اللَّه ، أراد ذلك أولم يرد . اما الكاذب الخائن فهو أعدى أعداء اللَّه ، وان هلَّل وكبّر ، وتعبد وتصدق .
{ولا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} . والشرك أشكال ، منه عبادة الأصنام ، ونسبة الولد إلى اللَّه . . . ومنه أيضا التلوّن في الدين والعمل لحساب أعداء اللَّه والإنسانية باسم الإسلام وصالح المسلمين .
{كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَو مَجْنُونٌ } .
قال لك المكذبون يا محمد تماما مثل ما قال الأولون لأنبيائهم ، وما حظك في ذلك بأدنى من حظهم {أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ} . غريب أن يتشابه الأولون والآخرون في تكذيب المحقين والمصلحين . . . هل اجتمعوا وتواصوا بذلك كلا ، ما اجتمعوا ، ولا رأى أو قلد بعضهم بعضا ، وإنما جمعهم عداء الباطل للحق ، والجهل للعلم {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ} لا تذهب نفسك حسرات على كفرهم وطغيانهم يا محمد فما أنت بمسؤول عن دينهم ولا عن أقوالهم وأفعالهم {وذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} . لا مهمة لك يا محمد إلا ان تبلغ القرآن وتعظ به جميع الناس ، وإذا لم ينتفع بالموعظة من أصر على الكفر والفساد فينتفع بها من يبحث عن الحق ليؤمن به ويعمل بموجبه .
{ وما خَلَقْتُ الْجِنَّ والإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} . وعبادة اللَّه وحده تعني التحرر من عبادة الإنسان للإنسان ، ومن عبادة المال والجاه ، وجميع الأهواء والشهوات ، وان لا يخضع إلا للحق والعدل ، وأيضا تعني الجهاد لنصرة الحق وأهله ، والعمل لخير الدنيا والآخرة ، وما من ريب ان من سلك هذه السبل أدت به إلى دار السلام ، وعلى هذا تكون الغاية من خلق الجن والإنس ان يحيوا حياة طيبة دائمة في دار اللَّه وجواره شريطة ان يتحرروا من العبودية بشتى أنواعها ، ويعملوا صالحا ، ومن أهمل وقصّر فلا يلومنّ إلا نفسه ، وما ربك بظلام للعبيد . وتكلمنا مفصلا عن ذلك في ج 6 ص 171 فقرة (لما ذا خلق اللَّه الإنسان ؟) .
وتسأل : وما ذا تصنع بالحديث القدسي : (كنت كنزا مخفيا فأردت ان أعرف فخلقت الخلق فبي عرفوني) فإنه يدل بوضوح على ان الغاية من الخلق هي معرفة اللَّه ؟ .
الجواب : ان هذا الحديث يتفق تماما مع التفسير الذي ذكرناه لأن من عرف اللَّه حق المعرفة استغنى بعبادته عن عبادة الناس والجاه والمال ، وعمل لمرضاته وجنته .
{ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} . وكأنه تعالى علوا كبيرا يقول : ما خلقت الخلق لأستغلهم في مصانعي وحقولي ، ولا لأتخذ منهم سوقا لتصريف سلعي وبضائعي ، ولا لأحارب بهم من يزاحمني على الاستغلال والاحتكار ، كلا ان اللَّه غني عن العالمين ، وانما خلقتهم ليعملوا يدا واحدة لخيرهم أجمعين ، ويجاهدوا من يحاول الاعتداء على حريتهم وكرامتهم ، وينتهب أموالهم وأرضهم وديارهم { إِنَّ اللَّهً هُو الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} . ومعنى اللَّه هو الرزاق انه تعالى خلق الأرض للإنسان معاشا ، وزوده بجميع الأدوات التي تمكنه من استثمارها من أجل حياته كالعقل والقوة والسمع والبصر ، وقال له : اعمل لدنياك وآخرتك ، ولا تعتد ان اللَّه لا يحب المعتدين ، تماما كما لو أعطيت ولدك مالا ، وقلت له :
تاجر به لمعاشك ، وكن أمينا في معاملتك .
{فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ} . المراد بالظالمين هنا الطغاة المترفون الذين كذّبوا رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله وسلم ) والمعنى ان نصيب هؤلاء من العذاب تماما كنصيب الأمم السابقة الذين كذبوا الرسل{ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ} العذاب الذي هو نازل بهم لا محالة . . . وما أقرب اليوم من الغد { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} به ويستعجلون مجيئه . . . فكم من مستعجل أمرا ودّ - حين مجيئه - انه لم يكن .
___________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص156-159.
قوله تعالى: {والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون} رجوع إلى السياق السابق في قوله: {وفي الأرض آيات للموقنين} إلخ، والأيد القدرة والنعمة، وعلى كل من المعنيين يتعين لقوله: {وإنا لموسعون} ما يناسبه من المعنى.
فالمعنى على الأول: والسماء بنيناها بقدرة لا يوصف قدرها وإنا لذووا سعة في القدرة لا يعجزها شيء، وعلى الثاني: والسماء بنيناها مقارنا بناؤها لنعمة لا تقدر بقدر وإنا لذووا سعة وغنى لا تنفد خزائننا بالإعطاء والرزق نرزق من السماء من نشاء فنوسع الرزق كيف نشاء.
ومن المحتمل أن يكون {موسعون} من أوسع في النفقة أي كثرها فيكون المراد توسعة خلق السماء كما تميل إليه الأبحاث الرياضية اليوم.
قوله تعالى: {والأرض فرشناها فنعم الماهدون} الفرش البسط وكذا المهد أي والأرض بسطناها وسطحناها لتستقروا عليها وتسكنوها فنعم الباسطون نحن، وهذا الفرش والبسط لا ينافي كروية الأرض.
قوله تعالى: {ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون} الزوجان المتقابلان يتم أحدهما بالآخر: فاعل ومنفعل كالذكر والأنثى، وقيل: المراد مطلق المتقابلات كالذكر والأنثى والسماء والأرض والليل والنهار والبر والبحر والإنس والجن وقيل: الذكر والأنثى.
وقوله: {لعلكم تذكرون} أي تتذكرون أن خالقها منزه عن الزوج والشريك واحد موحد.
قوله تعالى: {ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين} في الآيتين تفريع على ما تقدم من الحجج على وحدانيته في الربوبية والألوهية، وفيها قصص عدة من الأمم الماضين كفروا بالله ورسله فانتهى بهم ذلك إلى عذاب الاستئصال.
فالمراد بالفرار إلى الله الانقطاع إليه من الكفر والعقاب الذي يستتبعه، بالإيمان به تعالى وحده واتخاذه إلها معبودا لا شريك له.
وقوله: {ولا تجعلوا مع الله إلها آخر} كالتفسير لقوله: {ففروا إلى الله} أي المراد بالإيمان به الإيمان به وحده لا شريك له في الألوهية و المعبودية.
وقد كرر قوله: {إني لكم منه نذير مبين} لتأكيد الإنذار، والآيتان محكيتان عن لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
مختتم السورة وفيه إرجاع الكلام إلى ما في مفتتحها من إنكارهم للبعث الموعود ومقابلتهم الرسالة بقول مختلف ثم إيعادهم باليوم الموعود.
قوله تعالى: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون} أي الأمر كذلك، فقوله: {كذلك} كالتلخيص لما تقدم من إنكارهم واختلافهم في القول.
وقوله: {ما أتى الذين من قبلهم} إلخ، بيان للمشبه.
قوله تعالى: {أ تواصوا به بل هم قوم طاغون} التواصي إيصاء القوم بعضهم بعضا بأمر، وضمير {به} للقول، والاستفهام للتعجيب، والمعنى: هل وصى بعض هذه الأمم بعضا - هل السابق وصي اللاحق؟ - على هذا القول؟ لا بل هم قوم طاغون يدعوهم إلى هذا القول طغيانهم.
قوله تعالى: {فتول عنهم فما أنت بملوم} تفريع على طغيانهم واستكبارهم وإصرارهم على العناد واللجاج، فالمعنى: فإذا كان كذلك ولم يجيبوك إلا بمثل قولهم ساحر أو مجنون ولم يزدهم دعوتك إلا عنادا فأعرض عنهم ولا تجادلهم على الحق فما أنت بملوم فقد أريت المحجة وأتممت الحجة.
قوله تعالى: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} تفريع على الأمر بالتولي عنهم فهو أمر بالتذكير بعد النهي عن الجدال معهم، والمعنى: واستمر على التذكير والعظة فذكر كما كنت تذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين بخلاف الاحتجاج والجدال مع أولئك الطاغين فإنه لا ينفعهم شيئا ولا يزيدهم إلا طغيانا وكفرا.
قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} فيه التفات من سياق التكلم بالغير إلى التكلم وحده لأن الأفعال المذكورة سابقا المنسوبة إليه تعالى كالخلق وإرسال الرسل وإنزال العذاب كل ذلك مما يقبل توسيط الوسائط كالملائكة وسائر الأسباب بخلاف الغرض من الخلق والإيجاد فإنه أمر يختص بالله سبحانه لا يشاركه فيه أحد.
وقوله: {إلا ليعبدون} استثناء من النفي لا ريب في ظهوره في أن للخلقة غرضا وأن الغرض العبادة بمعنى كونهم عابدين لله لا كونه معبودا فقد قال: ليعبدون ولم يقل: لأعبد أو لأكون معبودا لهم.
على أن الغرض كيفما كان أمر يستكمل به صاحب الغرض ويرتفع به حاجته والله سبحانه لا نقص فيه ولا حاجة له حتى يستكمل به ويرتفع به حاجته، ومن جهة أخرى الفعل الذي لا ينتهي إلى غرض لفاعله لغو سفهي ويستنتج منه أن له سبحانه في فعله غرضا هو ذاته لا غرض خارج منه، وأن لفعله غرضا يعود إلى نفس الفعل وهو كمال للفعل لا لفاعله، فالعبادة غرض لخلقة الإنسان وكمال عائد إليه هي وما يتبعها من الآثار كالرحمة والمغفرة وغير ذلك، ولوكان للعبادة غرض كالمعرفة الحاصلة بها والخلوص لله كان هو الغرض الأقصى والعبادة غرضا متوسطا.
فإن قلت: ما ذكرته من حمل اللام في {ليعبدون} على الغرض يعارضه قوله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } [هود: 118، 119] ، وقوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأعراف: 179] ، فإن ظاهر الآية الأولى كون الغرض من الخلقة الاختلاف، وظاهر الثانية كون الغرض من خلق كثير من الجن والإنس دخول جهنم فلا محيص عن رفع اليد من حمل اللام على الغرض وحملها على الغاية.
قلت: أما الآية الأولى فالإشارة فيها إلى الرحمة دون الاختلاف، وأما الآية الثانية فاللام فيها للغرض لكنه غرض تبعي وبالقصد الثاني لا غرض أصلي وبالقصد الأول وقد تقدم إشباع الكلام في تفسير الآيتين.
فإن قلت: لوكان اللام في {ليعبدون} للغرض كانت العبادة غرضه تعالى المراد من الخلقة، ومن المحال أن يتخلف مراده تعالى عن إرادته لكن من المعلوم المشاهد عيانا أن كثيرا منهم لا يعبدونه تعالى وهذا نعم الدليل على أن اللام في الآية ليست للغرض أو أنها للغرض لكن المراد بالعبادة العبادة التكوينية كما في قوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44].
أو أن المراد بخلقهم للعبادة خلقهم على وجه صالح لأن يعبدوا الله بجعلهم ذوي اختيار وعقل واستطاعة، وتنزيل الصلاحية والاستعداد منزلة الفعلية مجاز شائع كما يقال: خلق البقر للحرث، والدار للسكنى.
قلت: الإشكال مبني على كون اللام في الجن والإنس للاستغراق فيكون تخلف الغرض في بعض الأفراد منافيا له وتخلفا من الغرض، والظاهر أن اللام فيهما للجنس دون الاستغراق فوجود العبادة في النوع في الجملة تحقق للغرض لا يضره تخلفه في بعض الأفراد نعم لو ارتفعت العبادة عن جميع الأفراد كان ذلك بطلانا للغرض، ولله سبحانه في النوع غرض كما أن له في الفرد غرضا.
وأما حمل العبادة على العبادة التكوينية فيضعفه أنها شأن عامة المخلوقات لا موجب لتخصيصه بالجن والإنس مضافا إلى أن السياق سياق توبيخ الكفار على ترك عبادة الله التشريعية وتهديدهم على إنكار البعث والحساب والجزاء وذلك متعلق بالعبادة التشريعية دون التكوينية.
وأما حمل العبادة على الصلوح والاستعداد بأن يكون الغرض من خلق الجن والإنس كونهما بحيث يصلحان للعبادة ويستعدان لها أو لتعلق الأمر والنهي العباديين فيضعفه أن من البين أن الصلوح والاستعداد إنما يتعلق به الطلب لأجل الفعلية التي يتعلق به الصلوح والاستعداد فلوكان الغرض المطلوب من خلقهما كونهما بحيث يصلحان للعبادة أو لتعلق الأمر والنهي العباديين فقد تعلق الغرض أولا بفعلية عبادتهما ثم بالصلوح والاستعداد لمكان المقدمية.
ففي حمل العبادة على الصلوح والاستعداد اعتراف بكون الغرض من الخلق أولا وبالذات نفس العبادة ثم الصلوح والاستعداد فيعود الإشكال لوكان هناك إشكال.
فالحق أن اللام في {الجن والإنس} للجنس دون الاستغراق، والمراد بالعبادة نفسها دون الصلوح والاستعداد، ولوكان المراد هو الصلوح والاستعداد للعبادة لكان ذلك غرضا أدنى مطلوبا لأجل غرض أعلى هو العبادة كما أن نفس العبادة بمعنى ما يأتي به العبد من الأعمال بالجوارح من قيام وركوع وسجود ونحوها غرض مطلوب لأجل غرض آخر هو المثول بين يدي رب العالمين بذلة العبودية وفقر المملوكية المحضة قبال العزة المطلقة والغنى المحض كما ربما استفيد من قوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ } [الفرقان: 77] ، حيث بدل العبادة دعاء.
فحقيقة العبادة نصب العبد نفسه في مقام الذلة والعبودية وتوجيه وجهه إلى مقام ربه، وهذا هو مراد من فسر العبادة بالمعرفة يعني المعرفة الحاصلة بالعبادة.
فحقيقة العبادة هي الغرض الأقصى من الخلقة وهي أن ينقطع العبد عن نفسه وعن كل شيء ويذكر ربه.
هذا ما يعطيه التدبر في قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} ولعل تقديم الجن على الإنس لسبق خلقهم على خلق الإنس قال تعالى: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ } [الحجر: 27] ، والعبادة هي غرض الفعل أي كمال عائد إليه لا إلى الفاعل على ما تقدم.
ويظهر من القصر في الآية بالنفي والاستثناء أن لا عناية لله بمن لا يعبده كما يفيده أيضا قوله: {قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم}.
قوله تعالى: {ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون} الإطعام إعطاء الطعام ليطعم ويؤكل قال تعالى: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء: 79] ، وقال: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} [قريش: 4] ، فيكون ذكر الإطعام بعد الرزق من قبيل ذكر الخاص بعد العام لتعلق عناية خاصة به وهي أن التغذي أوسع حوائج الإنسان وغيره و أخسها لكونه مسبوقا بالجوع وملحوقا بالدفع.
وقيل: المراد بالرزق رزق العباد والمعنى: ما أريد منهم أن يرزقوا عبادي الذين أرزقهم وما أريد أن يطعموني نفسي.
وقيل: المراد بالإطعام تقديم الطعام إليه كما يقدم العبد الطعام إلى سيده والخادم إلى مخدومه فيكون المراد بالرزق تحصيل أصل الرزق وبالإطعام تقديم ما حصلوه والمعنى: ما أريد منهم رزقا يحصلونه لي فأرتزق به وما أريد منهم أن يقدموا إلى ما أرتزق به وأطعمه.
قوله تعالى: {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} تعليل لقوله: {ما أريد منهم من رزق} إلخ، والالتفات في الآية من التكلم وحده إلى الغيبة لإنهاء التعليل إلى اسم الجلالة الذي منه يبتدىء كل شيء وإليه يرجع كأنه قال: ما أريد منهم رزقا لأني أنا الرزاق لأني أنا الله تبارك اسمه.
والتعبير بالرزاق - اسم مبالغة - وكان الظاهر أن يقال: إن الله هو الرزاق للإشارة إلى أنه تعالى إذا كان رازقا وحده كان رزاقا لكثرة من يرزقه فالآية نظير قوله: {وما أنا بظلام للعبيد}.
وذو القوة من أسمائه تعالى بمعنى القوي لكنه أبلغ من القوي، والمتين أيضا من أسمائه تعالى بمعنى القوي.
والتعبير بالأسماء الثلاثة للدلالة على انحصار الرزق فيه تعالى وأنه لا يأخذه ضعف في إيصال الرزق إلى المرتزقين على كثرتهم.
قوله تعالى: {فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون} الذنوب النصيب، والاستعجال طلب العجلة والحث عليها، والآية متفرعة على قوله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} بلازم معناه.
والمعنى: فإذا كان هؤلاء الظالمون لا يعبدون الله ولا عناية له بهم ولا سعادة من قبله تشملهم فإن لهم نصيبا من العذاب مثل نصيب أصحابهم من الأمم الماضية الهالكة فلا يطلبوا مني أن أعجل لهم العذاب ولا يقولوا متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، وأيان يوم الدين.
وفي الآية التفات من الغيبة إلى التكلم وحده وهو في الحقيقة رجوع من سياق الغيبة الذي في قوله: {إن الله هو الرزاق} إلخ، إلى التكلم وحده الذي في قوله: {وما خلقت} إلخ، لتفرع الكلام عليه.
قوله تعالى: {فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون} تفريع على قوله: {فإن للذين ظلموا ذنوبا} إلخ، وتنبيه على أن هذا الذنوب محقق لهم يوم القيامة وإن أمكن أن يجعل لهم بعضه، وهو يوم ليس لهم فيه إلا الويل والهلاك وهو يومهم الموعود.
وفي تبديل قوله في الآية السابقة للذين ظلموا من قوله في هذه الآية: {للذين كفروا} تنبيه على أن المراد بالظلم ظلم الكفر.
____________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج18 ، ص311-317.
والسماء بنيناها بأيد وإنّا لموسعون :
مرّة اُخرى تتحدّث هذه الآيات عن موضوع آيات عظمة الله في عالم الخلق، وهي في الحقيقة تتمّة لما ورد في الآيتين (20) و21) من هذه السورة في شأن آياته في الأرض وفي نفس «الإنسان» ووجوده ـ وهي ضمناً دليل على قدرة الله على المعاد والحياة فتقول أوّلا: {والسماء بنيناها بأيد وإنّا لموسعون والأرض فرشناها فنعم الماهدون}.
«الأيد» على وزن الصيد، معناه القدرة والقوّة ـ وقد تكرّر هذا المعنى في آيات القرآن المجيد، وهو هنا بمعنى قدرة الله المطلقة العظيمة في خلق السماوات!
ودلائل هذه القدرة العظيمة واضحة جليّة في عظمة السماوات ونظامها الخاصّ الحاكم عليها أيضاً(2).
وهناك كلام بين المفسّرين في المراد من {وإنّا لموسعون}:
فقال بعضهم معناه توسعة الرزق من قِبَلِ الله على العباد بواسطة نزول الغيث، وقال بعضهم معناه توسعة الرزق من جميع الجهات، وقال بعضهم معناه غنى الله وعدم حاجته، لأنّ خزائنه من السعة بحيث لا تنفذ ولا تنقص مهما كان عطاؤه!
إلاّ أنّه مع ملاحظة موضوع خلق السماء في الجملة السابقة ومع الأخذ بنظر الإعتبار ما إكتشفه العلماء من اتّساع العالم عن طريق المشاهدات الحسّية المؤيّدة، يمكن الوقوف على معنى أكثر لطافةً لهذه الآية، وهو أنّ الله خلق السماوات ويوسعها دائماً.
والعلم الحديث
[المعاصر] يقول ليست الكرة الأرضية وحدها تتضخّم وتثقل على أثر جذب المواد السماوية تدريجاً، بل السماء أيضاً في اتّساع دائم، أي أنّ بعض النجوم المستقرّة في المجرّات تبتعد عن مركز مجرّاتها بسرعة هائلة حتّى أنّ هذه السرعة لها أثرها في الإتّساع في كثير من المواقع!.
ونقرأ في كتاب «حدود النجوم» بقلم الكاتب «فِرد هويل»: أنّ أقصى سرعة لإبتعاد النجوم عن مركزها حتّى الآن 66 ألف كيلومتر في الثانية، والمجرّات التي هي أبعد منها ـ في نظرنا ـ ومض نورها قليل جدّاً حتّى أنّه من الصعب تحديد سرعتها، والصور الملتقطة من السماء تدلّ على أهميّة هذا الكشف وأنّ الفاصلة ما بين هذه المجرّات تتّسع أكثر من المجرّات القريبة منّا بسرعة(3).
ثمّ يتحدّث المؤلّف عن سرعة هذه المجرّات «السنبلة و الأكليل والشجاع وغيرها» فيبيّن سرعتها العجيبة المذهلة في هذا الكتاب(4).
ولنصغ إلى بعض العبارات للاُستاذ «جان الدر» إذ يقول:
«إنّ أحدث وأدقّ تقدير طول الأمواج التي تبثّها النجوم يكشف الستار عن وجه حقيقة عجيبة ومحيّرة أي أنّها تكشف لنا أنّ مجموع النجوم التي يحويها العالم تبتعد عن مركزها بسرعة دائماً وكلّما كانت الفاصلة بينها وبين مركزها إزدادت سرعتها.
فكأنّ جميع النجوم كانت مجتمعة في هذا المركز ثمّ تفرّقت عنه مجاميع كبيرة من النجوم واتّجه كلّ منها إلى اتّجاه خاصّ».
ويستنتج العلماء من ذلك أنّ العالم كانت له نقطة بداية وشروع(5).
ويقول «جورج جاموف» في كتاب خلق العالم في هذا الصدد «إنّ فضاء العالم المتشكّل من ملياردات المجرّات في حالة إنبساط سريعة، والحقيقة هي أنّ عالمنا ليس في حالة من السكون، بل إنبساطه مقطوع به .. والإذعان إلى أنّ عالمنا منبسط يهيؤ المفتاح لخزينة أسرار معرفة العالم لأنّه إذا كان العالم الآن في حالة الإنبساط فيلزم أن يكون في زمان ما في حالة إنقباض شديد(6).
وليس العلماء المذكورون آنفاً يعترفون بهذه الحقيقة فحسب .. فإنّ هناك آخرين ذكروا هذا المعنى في كتاباتهم ويجرّنا نقل كلماتهم إلى الإطالة.
وممّا يستجلب النظر أنّ التعبير بـ (إنّا لموسعون) دالّة على الدوام والإستمرار، فهي جملة إسمية ذات إسم فاعل، كما أنّها تدلّ على أنّ هذا الإتّساع موجود دائماً وكان ولا يزال، وهذا يؤيّد تماماً ما وصل إليه العلم الحديث أنّ جميع النجوم والمجرّات كانت مجتمعة في البداية في مركز واحد «بوزن خاصّ له ثقل خارق» ثمّ إنفجرت إنفجاراً عظيماً مثيراً (مرعباً) وعلى أثر ذلك تلاشت أجزاء العالم وظهرت بصورة كرات وهي بسرعتها في حالة الإتّساع والإبتعاد (عن المركز).
وأمّا التعبير الوارد في شأن خلق الأرض (فنعم الماهدون) ففي كلمة «ماهدون» لطافة تدلّ على أنّ الله مهّد الأرض بجميع وسائل الراحة للإنسان، لأنّ «الماهد» مأخوذ من المهد، ومعناه ما يعدّ للطفل من الفراش أو أي محل للإستراحة، فمثل هذا المحل ينبغي أن يكون هادئاً محفوظاً ليّناً دافئاً مطمئناً، وجميع هذه الاُمور متوفّرة في الأرض!.
وبأمر الله أضحت الحجارة ليّنة وتبدلّت إلى تراب هذا من جهة، وصلابة الجبال وقشر الأرض القوي من جهة ثانية جعلت الأرض تقاوم الجزر والمدّ، ومن جهة ثالثة فإنّ الغلاف الجوّي المحيط بالأرض يخفّف من وطأة حرارة الشمس ويحفظها وهو بمثابة اللحاف لها كما أنّه يصدّ النيازك والأحجار العظيمة التي تهوي من السماء إلى الأرض فيمنعها من النفوذ إليها فتتلاشى عنده وتتحوّل رماداً.
وهكذا فإنّ الله هيّأ جميع وسائل الراحة لإستقبال الإنسان الذي هو ضيف الله في هذه الكرة الأرضية.
وبعد خلق السماء والأرض تصل النوبة إلى خلق الموجودات المختلفة في السماء والأرض وأنواع النباتات والحيوانات فتقول الآية التالية في هذا الشأن {ومن كلّ شيء خلقنا زوجين لعلّكم تذكرون}.
ويعتقد كثير من المفسّرين أنّ كلمة «الزوجين» هنا معناها الأصناف المختلفة وأنّ الآية تشير إلى أصناف الموجودات المختلفة في هذا العالم التي تبدو على شكل زوج زوج كالليل والنهار، والنور والظلمة، والبحر واليابسة، والشمس والقمر، والذكر والاُنثى وغيرها.
إلاّ أنّه كما ذكرنا سابقاً ذيل الآيات المشابهة لهذه الآيات أيضاً أنّ الزوجية في مثل هذه الآيات يمكن أن تكون إشارة إلى معنى أدقّ، لأنّ كلمة «الزوج» تطلق عادةً على جنسي الذكر والاُنثى، سواءً في عالم الحيوانات أو النباتات، وإذا ما توسّعنا في إستعمال هذه الكلمة فإنّها ستشمل جميع الطاقات الموجبة والسالبة (- و+) ومع ملاحظة ما جاء في القرآن (ومن كلّ شيء) ويشمل جميع الموجودات لا الموجودات الحيّة فحسب. فيمكنها أن تشير إلى هذه الحقيقة وهي أنّ جميع أشياء العالم مخلوقة من ذرّات موجبة وسالبة، ومن المسلّم به هذا اليوم من الناحية العلمية أنّ الذرّات مؤلّفة من أجزاء مختلفة، منها ما يحمل طاقة سالبة تدعى بالألكترون، ومنها ما يحمل طاقة موجبة وتدعى بالبروتون.
فبناءً على ذلك لا داعي أن نفسّر الشيء بالحيوان أو النبات حتماً أو أنّ نفسّر الزوج بمعنى الصنف «لمزيد الإيضاح ذكرنا شرحاً مفصّلا ذيل الآية 7 من سورة الشعراء» وينبغي الإلتفات أنّه في الوقت ذاته يمكن الجمع بين التّفسيرين.
وجملة (لعلّكم تذكّرون) ـ تشير إلى أنّ الزوجية والتعدّد في جميع أشياء العالم تذكّر الإنسان بأنّ الله خالق هذا العالم واحد أحد، لأنّ التثنية والتعدّد من خصائص المخلوقات.
وقد جاءت الإشارة إلى هذا المعنى في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) إذ قال: «بمضادته بين الأشياء عُرف أن لا ضدّ له وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له، ضاد النور بالظلمة، واليبس باللبل والخشن باللين، والصرد بالحرور مؤلّفاً بين متعادياتها مفرقاً بين متدانياتها دالّة بتفريقها على مفرقها، وبتأليفها على مؤلّفها وذلك قوله: (ومن كلّ شيء خلقنا زوجين لعلّكم تذكّرون)»(7).
ويضيف القرآن في الآية التالية مستنتجاً ممّا تقدّم من الأبحاث التوحيدية قائلا: {ففرّوا إلى الله إنّي لكم منه نذير مبين}.
والتعبير بـ «الفرار» هنا تعبير لطيف وبليغ، لأنّ الفرار يطلق في ما إذا واجه الإنسان موجوداً أوحادثاً مخيفاً من جهة، وهومن جهة اُخرى يعرف مكاناً يلتجىء إليه فيُسرع من مكان المواجهة إلى ذلك المكان ويلتجىء إلى نقطة الأمن والأمان .. فالآية تقول: فرّوا من عقيدة الشرك الموحشة وعبادة الأصنام إلى التوحيد الخالص الذي هو منطقة الأمن والأمان الواقعي.
ففرّوا من عذاب الله وتوجّهوا نحو رحمته!
فرّوا من عصيانه وعناده وتوسّلوا بالتوبة إليه.
والخلاصة: فرّوا من السيّئات والقبائح وعدم الإيمان وظلمة الجهل والعذاب الدائم والتجأوا إلى رحمة الحقّ وسعادته الأبدية.
ولمزيد التأكيد، يستند القرآن إلى وحدانية العبادة لله الأحد فيقول: {ولا تجعلوا مع الله إلهاً آخر}.
ويحتمل أنّ الآية السابقة ـ تدعو إلى أصل الإيمان بالله! وهذه الآية تدعو إلى وحدانية ذاته المقدّسة فيكون تكرار جملة: «إنّي لكم منه نذير مبين» في المورد الأوّل على أنّه إنذار على ترك الإيمان بالله، وفي المورد الآخر إنذار على الشرك وعبادة الأصنام، وهكذا فإنّ كلّ جملة وإن تكرّرت تشير إلى موضوع مستقلّ!
وجاء في بعض الرّوايات عن الإمام الصادق أنّ المراد من قوله: (ففرّوا إلى الله) هو الحجّ وزيارة بيت الله(8) وواضح أنّ المراد هنا ذكر مصداق واحد من المصاديق الواضحة للفرار إلى الله، لأنّ الحجّ يعرّف الإنسان حقيقة التوحيد والتوبة والإنابة إلى الله ويمنحه الإلتجاء إلى ألطاف الله سبحانه.
وقوله تعالى : {كَذَلِكَ مَآ أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُول إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَو مَجْنُونٌ ( 52 ) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ( 53 ) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُوم ( 54 ) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ }
إنّ الذكرى تنفع المؤمنين:
قرأنا في الآية 39 من هذه السورة أنّ فرعون اتّهم موسى (عليه السلام) عندما دعاه إلى الله وترك الظلم أنّه ساحر أو مجنون، فهذا الإتّهام ورد على لسان المشركين في زمان النّبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً إذ اتّهموه بمثل ما اتّهم فرعون موسى وقد عزّ ذلك على المؤمنين الأوائل والقلائل كما كان يؤلم روح النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
فالآيات محلّ البحث ومن أجل تسلية النّبي والمؤمنين تقول: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلاّ قالوا ساحر أو مجنون}(9).
كانوا يتّهمون الرسل السابقين بأنّهم سحرة لأنّهم لم يجدوا جواباً منطقياً لمعاجزهم الباهرة، وكانوا يخاطبون رسولهم بأنّه «مجنون» .. لأنّه لم يكن على غرارهم ومتلوّناً بلون المحيط ولم يستسلم للاُمور الماديّة.
فبناءً على ذلك لا تحزن ولا تكترث وواصل المسير بالصبر والإستقامة، لأنّ مثل هذه الكلمات قيلت في أمثالك يارسول الله من رجال الحقّ وأهله.
ثمّ يضيف القرآن هل أنّ هذه الأقوام الكافرة تواصت فيما بينها على توجيه هذه التّهمة إلى جميع الأنبياء: (أتواصوا به)؟!
وكان عملهم هذا إلى درجة من الإنسجام، وكأنّهم إجتمعوا في مجلس ـ في ما وراء التاريخ ـ وتشاوروا وتواصوا على أن يتّهموا الأنبياء عامّةً بالسحر والجنون ليخفّفوا من وطأة نفوذهم في نفوس الناس!
ولعلّ كلاًّ منهم كان يريد أن يمضي من هذه الدنيا ويوصي أبناءه وأحبابه بذلك!
ويعقّب القرآن على ذلك قائلا: {بل هم قوم طاغون}(10).
وهذه هي إفرازات روح الطغيان حيث يتوسّلون بكلّ كذب واتّهام لإخراج أهل الحقّ من الساحة، وحيث أنّ الأنبياء يأتون الناس بالمعجزات فإنّ خير ما يلصقونه بهم من التّهم أن يَسِموهم بالسحر أو الجنون، فبناءً على ذلك يكون عامل «وحدة عملهم» هذا هي الروحية الخبيثة والطاغية الواحدة لهم.
ولمزيد التسرّي عن قلب النّبي وتسليته يضيف القرآن: {فتولّ عنهم}.
وكن مطمئناً بأنّك قد أدّيت ما عليك من التبليغ والرسالة {فما أنت بملوم}.
وإذا لم يستجب اُولئك للحقّ فلا تحزن فهناك قلوب متعطّشة له جديرة بحمله وهي في إنتظاره.
وهذه الجملة في الحقيقة تذكر بالآيات السابقة التي تدلّ على أنّ النّبي كان يتحرّق لقومه حتّى يؤمنوا ويتأثّر غاية التأثّر لعدم إيمانهم حتّى كاد يهلك نفسه من أجلهم.
كما تشير الآية (6) من سورة الكهف حيث نقرأ فيها: {فلعلّك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً}.
.. وبالطبع فإنّ القائد الحقّ ينبغي أن يكون كذلك.
قال المفسّرون: لمّا نزلت هذه الآية حزن النّبي والمؤمنون لأنّهم تصوّروا أنّ هذا آخر الكلام في شأن المشركين وأنّ وحي السماء قد إنقطع ويوشك أن يحيق بهم العذاب .. إلاّ أنّه لم تمض فترة قصيرة حتّى نزلت الآية بعدها لتأمر النّبي بالتذكير: {وذكّر فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين}(11).
فكان أن أحسّ الجميع بالإطمئنان!
والآية تشير إلى أنّ هناك قلوباً مهيّأة تنتظر كلامك يارسول الله وتبليغك .. فإذا ما عاند جماعة ونهضوا بوجه الحقّ مخالفين، فإنّ هناك جماعةً آخرين تتوق إلى الحقّ من أعماق قلوبهم وأرواحهم ويؤثّر فيها كلامك اللّين!
وقوله تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( 56 ) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْق وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ( 57 ) إِنَّ اللهَ هُو الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}:
هدفُ خلقِ الإنسان من وجهة نظرِ القرآن:
من أهمّ الأسئلة التي تختلج في خاطر كلّ إنسان هو لِمَ خُلِقنا؟! وما الهدف من خلق الناس والمجيىء إلى هذه الدنيا؟!
فالآيات آنفة الذكر تجيب على هذا السؤال المهم والعام بتعابير موجزة ذات معنى غزير، وتكمّل البحث الوارد في آخر آية من الآيات المتقدّمة حول تذكير المؤمنين، لأنّ ذلك من أهمّ الاُصول التي ينبغي على النّبي أن يتابعها .. كما توضّح ـ ضمناً ـ معنى الفرار إلى الله الوارد في الآيات السابقة.
تقول الآيات حاكيةً عن الله سبحانه: {وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون}.
وأنّه غير مفتقر إلى أيّ منهم أبداً {ما اُريد منهم من رزق وما اُريد أن يطعمون} بل إنّ الله تعالى هو الذي يرزق عباده ومخلوقاته .. {إنّ الله هو الرزّاق ذو القوّة المتين}.
فهذه الآيات التي هي في منتهى الوجازة والإختصار تكشف ستاراً عن الحقيقة التي يطلبها الجميع ويريدون معرفتها وتجعلنا أمام الهدف العظيم.
توضيح ذلك :
لا شكّ أنّ كلّ فرد عاقل وحكيم حين يقوم بعمل فإنّما يهدف من وراء عمله إلى هدف معيّن، وحيث أنّ الله أعلم من جميع مخلوقاته وأعرفهم بالحكمة، بل لا ينبغي قياسه بأي أحد، فينقدح هذا السؤال وهو لِمَ خلق الله الإنسان؟! هل كان يشعر بنقص فإرتفع بخلق الإنسان؟! هل كان محتاجاً إلى شيء فإرتفع الإحتياج بخلقنا؟
ولكنّنا نعلم أنّ وجوده كامل من كلّ الجهات {ولا محدود في اللاّ محدود} وهو غني بالذات!
إذاً، فطبقاً للمقدّمة الاُولى يجب القبول على أنّه كان له هدف، وطبقاً للمقدّمة الثانية ـ ينبغي القبول أنّ هدفه من خلق الإنسان ليس شيئاً يعود إلى ذاته المقدّسة.
فالنتيجة ينبغي أن يبحث عن هذا الهدف خارج ذاته، هذا الهدف يعود للمخلوقين أنفسهم وأساس كمالهم .. هذا من جانب!
ومن جانب آخر ورد في القرآن تعابير كثيرة مختلفة في شأن خلق الإنسان والهدف منه!
فنقرأ في إحدى آياته: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] وهنا يبيّن مسألة الإمتحان للإنسان وحسن العمل على أنّه هدف {من أهداف خلق الإنسان}.
وجاء في آية اُخرى {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] .
وهنا يبيّن القرآن أنّ علمنا بعلم الله وقدرته هو الهدف من خلق السماوات والأرض (وما بينهما).
ونقرأ في آية اُخرى {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } [هود: 118، 119] .
وطبقاً لهاتين الآيتين فالهدف من خلق الإنسان هو رحمة الله.
والآيات محلّ البحث تستند إلى مسألة العبوديّة فحسب، وتعبّر عنها بصراحة بأنّها الهدف النهائي من خلق الجنّ والإنس!
وبقليل من التأمّل في مفهوم هذه الآيات وما شابهها نرى أنّه لا تضادّ ولا إختلاف بين هذه الآيات، ففي الحقيقة بعضها هدف مقدّمي، وبعضها هدف متوسّط، وبعضها هدف نهائي، وبعضها نتيجة!.
فالهدف الأصلي هو «العبودية» وهوما اُشير في هذه الآيات محلّ البحث، أمّا العلم والإمتحان وأمثالهما فهي أهداف ضمن مسير العبودية لله، ورحمة الله الواسعة نتيجة العبودية لله.
وهكذا يتّضح أنّنا خلقنا لعبادة الله، لكن المهمّ أن نعرف ما هي حقيقة هذه العبادة؟!
فهل المراد منها أداء المراسم أو المناسك (اليومية) وأمثالها كالركوع والسجود والقيام والصلاة والصوم، أوهو حقيقة وراء هذه الاُمور وإن كادت العبادة الرسميّة كلّها أيضاً واجدة للأهميّة!؟
وللإجابة على هذا السؤال ينبغي معرفة معنى كلمة «العبد» والعبودية وتحليلهما!
«العبد»: لغةً هو الإنسان المتعلّق بمولاه وصاحبه من قرنه إلى قدمه!.. وإرادته تابعة لإرادته وما يطلب ويبتغيه تبع لطلب سيّده وإبتغائه، فلا يملك في قباله شيئاً وليس له أن يقصّر في طاعته.
وبتعبير آخر: إنّ العبودية ـ كما تبيّن معناها كتب اللغة ـ هي إظهار منتهى الخضوع للمعبود، ولذلك فالمعبود الوحيد الذي له حقّ العبادة على الآخرين هو الذي بذل منتهى الإنعام والإكرام، وليس ذلك سوى الله سبحانه!
فبناءً على ذلك فالعبودية هي قمّة التكامل وأوجُ بلوغ الإنسان وإقترابه من الله! والعبودية منتهى التسليم لذاته المقدّسة!
والعبودية هي الطاعة بلا قيد ولا شرط والإمتثال للأوامر الإلهية في جميع المجالات!.
وأخيراً فإنّ العبودية الكاملة هي أن لا يفكّر الإنسان بغير معبوده الواقعي أي الكمال المطلق، ولا يسير إلاّ في منهجه اللاحب وأن ينسى سواه حتّى (نفسه وشخصه).
وهذا هو الهدف النهائي من خلق البشر الذي أعدّ الله له الإمتحان والإختبار لنيله، ومنح الإنسان العلم والمعرفة، وجعل نتيجة كلّ ذلك فيض رحمته للإنسان.
وقوله تعالى : {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَبِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ( 59 ) فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِى يُوعَدُونَ}:
هؤلاء يشاركون أصحابهم في عذاب الله:
الآيتان آنفتا الذكر اللتان هما آخر سورة الذاريات، وهما في الحقيقة نوع من الإستنتاج للآيات المختلفة الواردة في السورة ذاتها ولا سيّما الآيات التي تتحدّث عن الاُمم السالفة كقوم فرعون وقوم لوط وثمود وعاد، وكذلك الآيات السابقة التي كانت تتحدّث عن الهدف من الخلق والإيجاد.
فالآية الاُولى تقول أنّه بعد أن أصبح معلوماً أنّ هؤلاء المشركين قد إنحرفوا عن الهدف الحقيقي للخلقة، فليعلموا أنّ لهم قسطاً وافراً من العذاب الإلهي كما كان للأقوام السالفة: {فإنّ للذين ظلموا ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون}(12)..
ويقولوا إن كان عذاب الله حقّاً فلِمَ لا يصيبنا؟!
والتعبير بـ «الظلم» في شأن هذه الجماعة هو لأنّ الشرك والكفر من أكبر الظلم، ولأنّ حقيقة الظلم هي وضع الشيء في غير موضعه المناسب، ومن المعلوم أنّ عبادة الأصنام مكان عبادة الله تعدّ أهمّ مصداق للظلم، ولذلك فهم يستحقّون العاقبة التي نالها الأقدمون من المشركين.
«الذنوب»: ـ على وزن قبول ـ في الأصل معناه «الفرس التي لها ذنب طويل»، كما تطلق الكلمة ذاتها على الدلو الكبير التي لها ذنب.
وكان العرب في السابق ينزحون ماء البئر بواسطة الحيوانات بأن يهيّؤا دلاءً عظيمة متّصلة بحبال تعين على سحب الدلاء المملوءة بالماء.
وحيث كانت هذه الدلاء تقسّم أحياناً على الجماعات حول البئر، فتنال كلّ مجموعة دلواً أو أكثر، فقد استعملت هذه الكلمة بمعنى النصيب والسهم أيضاً، وهي في الآية محل البحث بهذا المعنى أيضاً، غاية ما في الأمر أنّها هنا تشير إلى السهم الكبير(13).
وهل المراد من هذه الكلمة في هذه الآية التهديد بعذاب الدنيا أو عذاب الآخرة؟ قال جماعة من المفسّرين بالمعنى الأوّل، وقال آخرون بالمعنى الثاني.
ونرى أنّ القرائن تدلّ على أنّ هذا العذاب هو العذاب الدنيوي، لأنّ العجلة لدى بعض الكفّار هي أنّهم كانوا يقولون للنبي: متى هذا الوعد .. وأين عذاب الله .. ولِمَ لا يأتينا .. الخ. فمن الواضح أنّه إشارة إلى عذاب الدنيا(14) هذا أوّلا.
وثانياً إنّ التعبير بـ {مثل ذنوب أصحابهم} الظاهر أنّه إشارة إلى عاقبة الاُمم المتقدّم ذكرها في هذه السورة كقوم لوط وقوم فرعون وعاد وثمود الذين نال كلاًّ منهم نوع من العذاب في الدنيا وهلكوا به جميعاً.
وهنا ينقدح هذا السؤال، وهو إذا كانت الآية تشير إلى عذاب الدنيا فلِمَ لا يتحقّق الوعد الإلهي في شأنهم؟!
وهذا السؤال له جوابان:
1 ـ إنّ هذا الوعد تحقّق في شأن كثير منهم كأبي جهل وجماعة آخرين في غزوة بدر وغيرها.
2 ـ نزول العذاب على جميعهم مشروط بعدم الرجوع نحو الله وعدم التوبة من الشرك، ولمّا آمن معظمهم في فتح مكّة .. فإنّ هذا الشرط أصبح منتفياً فلم ينزل عذاب الله.
وفي الآية الأخيرة إستكمال لعذاب الدنيا بعذاب الآخرة إذ تقول: (فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون).
وكما أنّ هذه السورة بُدئت بمسألة المعاد والقيامة، فإنّها إنتهت بالتأكيد عليها كذلك(15)!.
كلمة «الويل» تستعمل في لغة العرب عندما يقع فرد ما أو أفراد في الهلاك .. كما تعني العذاب والشقاء، وقال بعضهم في الويل معنى أشدّ من العذاب.
وكلمات الويل والويس والويح تستعمل في لغة العرب لإظهار التأسّف والتأثّر، غاية ما في الأمر .. تستعمل كلمة «ويل» لمن يعمل أعمالا قبيحة، أمّا «ويس» فتستعمل في مقام التحقير، وكلمة «ويح» تستعمل في موضع الترحّم.
قال بعضهم أنّ «وَيْلا» بئر من آبار جهنّم أو باب من أبوابها، غير أنّ مراد القائلين لا يعني بأنّ هذه الكلمة جاءت في اللغة بهذا المعنى فحسب، بل هي في الحقيقة بيان لمصداق من المصاديق.
وقد إستعملت هذه الكلمة في القرآن بكثرة، منها في شأن الكفّار والمشركين والكاذبين والمكذّبين والمجرمين والمطفّفين والمصلّين الذين هم عن صلاتهم ساهون، إلاّ أنّ أكثر إستعمالها في القرآن في شأن المكذّبين، وقد تكرّرت الآية (ويل يومئذ للمكذّبين) في سورة المرسلات وحدها عشر مرّات!.
_________________
1- الامثل ناصر مكارم الشيرازي ، ج13،ص235-255.
2 ـ وقع خطأ أو إشتباه عند بعض المفسّرين وغيرهم هنا وينبغي التنويه إليه.
أ ـ قال بعض المفسّرين أنّ للأيد «معنيين»: «القدرة» و«النعمة» مع أنّ الأيد تعني القدرة لغةً. إلاّ أنّ اليد تُجمع على أيدي وجمع جمعها أياد تأتي بمعنى القدرة والنعمة، وقد ذكرنا المعنيين أيضاً في الآية (17) من سورة ص تبعاً للمرحوم الطبرسي صاحب مجمع البيان ونصحّحه هنا ..
ب ـ جاء في المعجم المفهرس لمحمّد فؤاد عبدالباقي ذكر اليد في الآية محلّ البحث بيائيين (أييد) ويظهر أنّ هذا الإشتباه ناشىء من بعض الرسم في كتابة المصاحف وإلاّ فإنّ المفسّرين ذكروا معنى القدرة لليد.
3 ـ حدود النجوم، ص338 إلى ص340.
4 ـ المصدر السابق.
5 ـ بداية العالم ونهايته، الصفحات 74 ـ 77 بتلخيص.
6 ـ المصدر السابق.
7 ـ توحيد الصدوق طبقاً لما ورد في نور الثقلين، ج5، ص130، ح49.
8 ـ نقل في تفسير نور الثقلين في هذا الصدد بضعة أحاديث عن الإمامين الباقر والصادق الجزء الخامس ص130 ـ 131.
9 ـ كذلك خبر لمبتدأ محذوف وتقدير الكلام: الأمر كذلك.
10 ـ بل في الآية الآنفة للأضراب.
11 ـ مجمع البيان، ج9، ص161.
12 ـ الفعل فلا يستعجلون مجزوم بلا الناهية كما هو واضح، والنون هنا للوقاية وقد كسرت للدلالة على أنّ ياء المتكلّم محذوفة لفظاً أو رسماً ومقدرة معنىً ..
13 ـ يقول بعض الشعراء العرب:
لنا ذنوب ولكم ذنوب *** فإن أبيتم فلنا القليب.
تفسير الميزان ، ج9 ، ذيل الاية مورد البحث.
14 ـ تراجع الآيتان (57) و58) من سورة الأنعام، والآية (72) من سورة النمل وأمثالها، وهذا التعبير في القرآن قد يستعمل في شأن القيامة أيضاً.
15 ـ يرى بعض المفسّرين أنّ هذه الآية تشير إلى عذاب الدنيا. مع أنّ مثل هذا التعبير في القرآن يكون ليوم القيامة غالباً ..
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|