أقرأ أيضاً
التاريخ: 25-9-2017
5375
التاريخ: 25-9-2017
6525
التاريخ: 25-9-2017
1912
التاريخ: 25-9-2017
4775
|
قال تعالى : {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات: 1 - 14].
قال تعالى :{والذاريات ذروا} روي أن ابن الكوا سأل أمير المؤمنين عليا (عليه السلام) وهو يخطب على المنبر فقال ما {الذاريات ذروا} قال الرياح قال {فالحاملات وقرا} قال السحاب قال {فالجاريات يسرا} قال السفن قال {فالمقسمات أمرا} قال الملائكة وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد فالذاريات الرياح تذرو التراب وهشيم النبت أي تفرقة {فالحاملات وقرا} السحاب تحمل ثقلا من الماء من بلد إلى بلد فتصير موقرة به والوقر بالكسر ثقل الحمل على ظهر أوفي(2) بطن والوقر ثقل الأذن {فالجاريات يسرا} السفن تجري ميسرة على الماء جريا سهلا إلى حيث سيرت وقيل هي السحاب تجري يسرا إلى حيث سيرها الله من البقاع وقيل هي النجوم السبعة السيارة الشمس والقمر وزحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد.
{فالمقسمات أمرا} الملائكة يقسمون الأمور بين الخلق على ما أمروا به أقسم الله تعالى بهذه الأشياء لكثرة ما فيها من المنافع للعباد ولم تضمنه من الدلالة على وحدانية الله تعالى وبدائع صنعه وقيل أن التقدير فيها القسم برب هذه الأشياء لأنه لا يجوز القسم إلا بالله عز اسمه وقال أبو جعفر وأبو عبد الله (عليه السلام) أنه لا يجوز لأحد أن يقسم إلا بالله تعالى والله سبحانه يقسم بما يشاء من خلقه.
ثم ذكر المقسم عليه فقال {إنما توعدون} أي من الثواب والعقاب والجنة والنار {لصادق} أي صدق لا بد من كونه فهو اسم وضع موضع المصدر وقيل معناه ذو صدق كقوله عيشة راضية {وإن الدين لواقع} أي إن الجزاء وقيل أن الحساب لكائن يوم القيامة ثم أنشأ قسما آخر فقال {والسماء ذات الحبك} أي ذات الطرائق الحسنة لكنا لا نرى تلك الحبك لبعدها عنا عن الحسن والضحاك وقيل ذات الخلق الحسن المستوي عن ابن عباس وقتادة وعكرمة والربيع وقيل ذات الحسن والزينة عن علي (عليه السلام).
وروى علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال قلت له أخبرني عن قول الله تعالى {والسماء ذات الحبك} فقال محبوكة إلى الأرض وشبك بين أصابعه فقلت كيف تكون محبوكة إلى الأرض والله تعالى يقول رفع السماوات بغير عمد فقال سبحان الله أ ليس يقول بغير عمد ترونها قلت بلى قال فثم عمد ولكن لا ترى فقلت فكيف ذلك جعلني الله فداك قال فبسط كفه اليسرى ثم وضع اليمني عليها فقال هذه أرض الدنيا والسماء الدنيا فوقها قبة والأرض الثانية فوق السماء الدنيا والسماء الثانية فوقها قبة والأرض الثالثة فوق السماء الثانية والسماء الثالثة فوقها قبة ثم هكذا إلى الأرض السابعة فوق السماء السادسة والسماء السابعة فوقها قبة وعرش الرحمن فوق السماء السابعة وهو قوله {خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن} وصاحب الأمر وهو النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) والوصي(3) علي بعده وهو على وجه الأرض وإنما يتنزل الأمر إليه من فوق من بين السماوات والأرضين قلت فما تحتنا إلا أرض واحدة قال وما تحتنا إلا أرض واحدة وإن الست لفوقنا.
{إنكم لفي قول مختلف} هذا جواب القسم أي إنكم يا أهل مكة في قول مختلف في قول محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) فبعضكم يقول شاعر وبعضكم يقول مجنون وفي القرآن يقولون أنه سحر وكهانة ورجز وما سطره الأولون وقيل معناه منكم مكذب بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) ومنكم مصدق به ومنكم شاك فيه وفائدته أن دليل الحق ظاهر فاطلبوا الحق بدليله وإلا هلكتم {يؤفك عنه من أفك} أي يصرف عن الإيمان به من صرف عن الخير أي المصروف عن الخيرات كلها من صرف عن هذا الدين وقيل معناه يؤفك عن الحق والصواب من أفك فدل ذكر القول المختلف على ذكر الحق فجازت الكناية عنه وقيل معناه يصرف عن هذا القول أي بسببه ومن أجله عن الإيمان من صرف فالهاء في عنه تعود إلى القول المختلف عن مجاهد فيكون الصارف لهم أنفسهم كما يقال فلان معجب بنفسه وأعجب بنفسه وكما يقال أين يذهب بك لمن يذهب في شغله وقيل أن الصارف لهم رؤساء البدع وأئمة الضلال لأن العامة تبع لهم.
{قتل الخراصون} أي لعن الكذابون يعني الذين يكذبون على الله وعلى رسوله وقيل معناه لعن المرتابون عن ابن عباس قال ابن الأنباري وإنما كان القتل بمعنى اللعنة هنا لأن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك ثم وصف سبحانه هؤلاء الكفار فقال {الذين هم في غمرة} أي في شبهة وغفلة غمرهم الجهل {ساهون} أي لاهون عما يجب عليهم وقيل هم في ضلالتهم متمادون عن ابن عباس وقيل في عمى مترددون عن قتادة وقيل أن أول مراتب الجهل السهو ثم الغفلة ثم الغمرة فتكون الغمرة عبارة عن المبالغة في الجهل أي هم في غاية الجهل ساهون عن الحق وعما يراد بهم.
{يسئلون أيان يوم الدين} أي متى وقت الجزاء إنكارا واستهزاء لا على وجه الاستفادة لمعرفته فأجيبوا بما يسوؤهم من الحق الذي لا محالة أنه نازل بهم فقيل {يوم هم على النار يفتنون} أي يكون هذا الجزاء في يوم يعذبون فيها ويحرقون بالنار وقال عكرمة أ لم تر أن الذهب إذا أدخل النار قيل فتن أي فهؤلاء يفتنون بالإحراق كما يفتن الذهب بإحراق الغش الذي فيه ويقول لهم خزنة النار {ذوقوا فتنتكم} أي عذابكم وحريقكم {هذا الذي كنتم به تستعجلون} في الدنيا تكذيبا به واستبعادا له فقد حصلتم الآن فيه وعرفتم صحته .
_______________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9 ، ص253-256.
2- وفي المخطوطة : او بطن .
3- وفي نسخة : الولي من بعده وفي نسخة : والوصي من بعده .
قال تعالى : { والذَّارِياتِ ذَرْواً فَالْحامِلاتِ وِقْراً فَالْجارِياتِ يُسْراً فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً} . في تفسير هذه الأوصاف الأربعة آراء ، يقول بعضها : المراد بالذاريات الرياح ، وبالحاملات السحاب ، وبالجاريات السفن ، وبالمقسمات الملائكة ، وأرجح الأقوال ان الأربعة بكاملها من أوصاف الرياح ، فهي ذاريات لأنها تذرو التراب وغيره ، قال تعالى : {هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ} - 45 الكهف . وأقسم سبحانه بالرياح للإشارة إلى منافعها ، ولأن للَّه أن يقسم بما شاء من خلقه . أنظر ج 6 ص 330 فقرة {اللَّه والقسم بخلقه} . الوصف الثاني {فَالْحامِلاتِ وِقْراً} بكسر الواو، وهو الحمل الثقيل ، والمراد هنا ان الرياح تحمل السحاب الثقال ، قال تعالى :
{وهُو الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} - 57 الأعراف . الوصف الثالث {فَالْجارِياتِ يُسْراً} تجري الرياح بيسر وسهولة ، وهي تحمل السحاب . الوصف الرابع {فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً} الرياح تفرق الأمطار على البلاد ، كما قال سبحانه في آية 57 من ( الأعراف ) : {سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} .
{ إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ } . هذا جواب قسم {والذَّارِياتِ} والمراد بما توعدون الإحياء بعد الموت ، وبالدين الحساب والجزاء ، والمعنى ان اللَّه يبعث من في القبور لا محالة ، وانه تعالى يجزي الإنسان بأعماله ، ان خيرا فخير ، وان شرا فشرّ {والسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ } بضم الحاء والباء ، وفي تفسيره أقوال أرجحها انه الخلق الحسن - بفتح الخاء - أي ان في خلق السماء إحكاما ونظاما وزينة وجمالا { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ } . الخطاب لمن كذّب الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) .
وأقوالهم كلها خلط واضطراب . . وكذب ووهم . . فمنها عن الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) :
انه مجنون إلى شاعر وساحر . وعن القرآن : انه أساطير إلى رجز من نظم محمد (صلى الله عليه واله وسلم) {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } أي يصرف عن الدين والحق من صرفه عنه الهوى والجهل ، ومثله تماما {لا يعمى عن ذلك إلا أعمى} .
{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} وهم الذين بيّنهم سبحانه بقوله : {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ} . غمرهم الجهل والضلال من فرع إلى قدم . . فوزعوا ظنونهم جزافا ومن غير أساس على الأرض والسماء ، وعلى البعث والجزاء ، وقالوا : للَّه شركاء من الأحجار ، وبنات من الجن والملائكة ، أما البعث فحديث خرافة {يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} ؟ يقولون ساخرين : متى يكون البعث والحساب ؟ فيجيبهم سبحانه : {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} . يكون البعث يوم يعرضون على جهنم ويحرقون فيها . ويقال : فتنت الشيء أي أحرقته بالنار ليخرج ما فيه من الغش ، وتقول ملائكة العذاب للمجرمين : { ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} .
هذا هو العذاب الذي تعجلتم به ، وسخرتم بالأمس منه . . فكيف رأيتم طعمه ومذاقه ؟ .
-_____________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص142-143.
كانت الدعوة النبوية تدعو الوثنية إلى توحيد الربوبية وإن الله تعالى هو ربهم ورب كل شيء، وكانت الدعوة من طريق الإنذار والتبشير وخاصة بالإنذار وكان الإنذار بعذاب الله في الدنيا للمكذبين عذاب الاستئصال، وفي الآخرة بالعذاب الخالد يوم القيامة وهو العمدة في نجاح الدعوة إذ لولا الحساب والجزاء يوم القيامة كان الإيمان بالوحدانية والنبوة لغى لا أثر له.
والمشركون باتخاذهم آلهة دون الله سبحانه شددوا الإنكار لأصول التوحيد والنبوة والمعاد، وكانوا يتعنتون بإنكار المعاد والإصرار على نفيه والاستهزاء به من أي طريق ممكن لما يرون أن في بطلانه بطلان الأصلين الآخرين.
والسورة تذكر المعاد وإنكارهم له فتبدأ به وتختم عليه لكن لا من حيث نفسه كما جرى عليه الكلام في مواضع من كلامه بل من حيث إنه يوم الجزاء وإن الله الذي وعدهم به هو ربهم وهو الذي وعدهم به ووعده صدق لا ريب فيه.
ولذلك لما انساق الكلام إلى الاحتجاج عليه احتجت بأدلة التوحيد من آيات الأرض والسماء والأنفس وما عاقب الله به الأمم الماضين إثر دعوتهم إلى التوحيد وتكذيبهم لرسله، وليس إلا ليثبت بها التوحيد فيثبت به يوم الجزاء الذي وعده الله والله لا يخلف الميعاد وأخبرت به الدعوة النبوية فيندفع بذلك إنكارهم للجزاء وقد توسلوا بذلك إلى إبطال دين التوحيد ورسالة الرسول لصيرورة الإيمان به لغوا لا أثر له كما تقدمت الإشارة إليه.
والسورة مكية لشهادة سياق آياتها عليه ولم يختلف في ذلك أحد، ومن غرر آياتها قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}.
والفصل الذي أوردناه من الآيات مفتتح الكلام يذكر فيه أن الجزاء الذي وعدوه صدق وإنكارهم له وتعنتهم بذلك تخرص ثم يصف يوم الجزاء وحال المتقين والمنكرين فيه.
قوله تعالى: {والذاريات ذروا فالحاملات وقرا فالجاريات يسرا فالمقسمات أمرا} الذاريات جمع الذارية من قولهم: ذرت الريح التراب تذروه ذروا إذا أطارته والوقر بالكسر فالسكون ثقل الحمل في الظهر أوفي البطن.
وفي الآيات إقسام بعد إقسام يفيد التأكيد بعد التأكيد للمقسم عليه وهو الجزاء على الأعمال فقوله: {والذاريات ذروا} إقسام بالرياح المثيرة للتراب، وقوله: {فالحاملات وقرا} بالفاء المفيدة للتأخير والترتيب معطوف على الذاريات وإقسام بالسحب الحاملة لثقل الماء، وقوله: {فالجاريات يسرا} عطف عليه وإقسام بالسفن الجارية في البحار بيسر وسهولة.
وقوله: {فالمقسمات أمرا} عطف على ما سبقه وإقسام بالملائكة الذين يعملون بأمره فيقسمونه باختلاف مقاماتهم فإن أمر ذي العرش بالخلق والتدبير واحد فإذا حمله طائفة من الملائكة على اختلاف أعمالهم انشعب الأمر وتقسم بتقسمهم ثم إذا حمله طائفة هي دون الطائفة الأولى تقسم ثانيا بتقسمهم وهكذا حتى ينتهي إلى الملائكة المباشرين للحوادث الكونية الجزئية فينقسم بانقسامها ويتكثر بتكثرها.
والآيات الأربع - كما ترى - تشير إلى عامة التدبير حيث ذكرت أنموذجا مما يدبر به الأمر في البر وهو الذاريات ذروا، وأنموذجا مما يدبر به الأمر في البحر وهو الجاريات يسرا و أنموذجا مما يدبر به الأمر في الجو وهو الحاملات وقرا، وتمم الجميع بالملائكة الذين هم وسائد التدبير وهم المقسمات أمرا.
فالآيات في معنى أن يقال: أقسم بعامة الأسباب التي يتمم بها أمر التدبير في العالم أن كذا كذا، وقد ورد من طرق الخاصة والعامة عن علي عليه أفضل السلام تفسير الآيات الأربع بما تقدم.
وعن الفخر الرازي في التفسير الكبير، أن الأقرب حمل الآيات الأربع جميعا على الرياح فإنها كما تذرو التراب ذروا تحمل السحب الثقال وتجري في الجو بيسر وتقسم السحب على الأقطار من الأرض.
والحق أن ما استقربه بعيد، وما تقدم من المعنى أبلغ مما ذكره.
قوله تعالى: {إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع} {ما} موصولة، والضمير العائد إليها محذوف أي الذين توعدونه، أو مصدرية، و{توعدون} من الوعد كما يؤيده قوله: {وإن الدين لواقع} الشامل لمطلق الجزاء، وقيل: من الإيعاد كما يؤيده قوله: { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45].
وعد الوعد صادقا من المجاز في النسبة كما في قوله: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ } [الحاقة: 21] أو الصادق بمعنى ذو صدق كما قيل بمثله في قوله: {في عيشة راضية} والدين الجزاء.
وكيف كان فقوله: {إنما توعدون لصادق} جواب القسم، وقوله: {وإن الدين لواقع} معطوف عليه بمنزلة التفسير، والمعنى أقسم بكذا وكذا أن الذي توعدونه – وهو الذي يعدهم القرآن أو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أنزل إليه - من يوم البعث وأن الله سيجزيهم فيه بأعمالهم إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا لصادق، وإن الجزاء لواقع.
قوله تعالى: {والسماء ذات الحبك} الحبك بمعنى الحسن والزينة، وبمعنى الخلق المستوي، ويأتي جمعا لحبيكة أو حباك بمعنى الطريقة كالطرائق التي تظهر على الماء إذا تثنى وتكسر من مرور الرياح عليه.
والمعنى على الأول: أقسم بالسماء ذات الحسن والزينة نظير قوله تعالى: { إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات: 6] ، وعلى الثاني: أقسم بالسماء ذات الخلق المستوي نظير قوله: { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47] من السورة وعلى الثالث أقسم بالسماء ذات الطرائق نظير قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} [المؤمنون: 17].
ولعل المعنى الثالث أظهر لمناسبته لجواب القسم الذي هو اختلاف الناس والتشتت طرائقهم كما أن الأقسام السابقة: {والذاريات ذروا} إلخ كانت مشتركة في معنى الجري والسير مناسبة لجوابها: {إنما توعدون} إلخ المتضمن لمعنى الرجوع إلى الله والسير إليه.
قوله تعالى: {إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك} القول المختلف ما يتناقض ويدفع بعضه بعضا وحيث إن الكلام في إثبات صدق القرآن أو الدعوة أو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما وعدهم من أمر البعث والجزاء فالمراد بالقول المختلف - على الأقرب - قولهم المختلف في أمر القرآن لغرض إنكار ما يثبته فتارة يقولون: إنه سحر والجائي به ساحر، وتارة يقولون: زجر والجائي به مجنون، وتارة يقولون: إلقاء شياطين الجن والجائي به كاهن، وتارة يقولون: شعر والجائي به شاعر، وتارة أنه افتراء، وتارة يقولون إنما يعلمه بشر، وتارة يقولون: أساطير الأولين اكتتبها.
وقوله: {يؤفك عنه من أفك} الإفك الصرف، وضمير {عنه} إلى الكتاب من حيث اشتماله على وعد البعث والجزاء، والمعنى: يصرف عن القرآن من صرف، وقيل: الضمير للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمعنى: يصرف عن الإيمان به من صرف، وقد عرفت أن المعنى السابق أوفق للسياق وإن كان مآل المعنيين واحدا.
وحكي عن بعضهم أن ضمير {عنه} لما توعدون أو للدين أقسم تعالى أولا بالذاريات وغيرها على أن البعث والجزاء حق ثم أقسم بالسماء على أنهم في قول مختلف في وقوعه فمنهم شاك ومنهم جاحد ثم قال تعالى: يؤفك عن الإقرار بأمر البعث والجزاء من هو مأفوك.
وهذا الوجه قريب من الوجه السابق.
وعن بعضهم: أن الضمير لقول مختلف و{عن} للتعليل كما في قوله تعالى: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} [هود: 53] فيكون الجملة صفة لقول والمعنى: أنكم لفي قول مختلف يؤفك بسببه من أفك، وهو وجه حسن.
وقيل: الضمير في {أنكم} للمسلم والكافر جميعا فيكون المراد بالقول المختلف قول المسلمين بوقوع البعث والجزاء وقول الكفار بعدم الوقوع.
ولعل السياق لا يلائمه وقيل: بعض وجوه أخر رديئة لا جدوى في التعرض له.
قوله تعالى: {قتل الخراصون الذين هم في غمرة ساهون يسألون أيان يوم الدين} أصل الخرص القول بالظن والتخمين من غير علم، ولكون القول بغير علم في خطر من الكذب يسمى الكذاب خراصا، والأشبه أن يكون المراد بالخراصين في الآية القوالين من غير علم ودليل وهم الخائضون في أمر البعث والجزاء المنكرون له بغير علم.
وفي قوله: {قتل الخراصون} دعاء عليهم بالقتل وهو كناية عن نوع من الطرد والحرمان من الفلاح وإليه يئول قول من فسره باللعن.
وقوله: {الذين هم في غمرة ساهون} الغمرة - كما ذكر الراغب - معظم الماء الساتر لمقرها، وجعل مثلا للجهالة التي تغمر صاحبها، والمراد بالسهو- كما قيل - مطلق الغفلة.
ومعنى الآية وهي تصف الخراصين: الذين هم في جهالة أحاطت بهم غافلون عن حقيقة ما أخبروا به.
وقوله: {يسألون أيان يوم الدين} ضمير الجمع للخراصين قول قالوه على طريق الاستعجال استهزاء كقولهم: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يس: 48].
والسؤال بأيان - الموضوعة للسؤال عن زمان مدخولها - عن يوم الدين وهو ظاهر في الزمان إنما هو بعناية أن يوم الدين لكونه موعودا ملحق بالزمانيات فيسأل عنه كما يسأل عن الزمانيات بأيان ومتى كما يقال: متى يوم العيد لكونه ذا شأن ملحقا لذلك بالزمانيات كذا قيل.
ويمكن أن يكون من التوسع في معنى الظرفية بأن يعد أوصاف الظرف الخاصة به ظرفا توسعا فيكون السؤال عن زمان الزمان سؤالا عن أنه بعد أي زمان أو قبل أي زمان؟ كما يقال: متى يوم العيد؟ فيجاب بأنه بعد عشرة أيام مثلا أو قبل يوم كذا، وهو توسع جار في العرف غير مختص بكلام العرب، وفي القرآن منه شيء كثير.
قوله تعالى: {يوم هم على النار يفتنون} ضمير الجمع للخراصين، والفتن في الأصل إدخال الذهب النار ليظهر جودته ثم استعمل في مطلق الإحراق والتعذيب، والظرف متعلق بفعل محذوف أو مبتدأ، والآية جواب عن سؤالهم عدل فيه عن بيان وقت يوم الدين إلى بيان صفته والإشارة إلى حالهم فيه لما أن وقته من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله قال تعالى: {لا يجليها لوقتها إلا هو}.
وتقدير الآية ومعناها: يقع يوم الدين أوهو واقع يوم هم أي الخراصون في النار يعذبون أو يحرقون.
قوله تعالى: {ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون} حكاية خطاب منه تعالى أومن الملائكة بأمره للخراصين وهم يفتنون على النار يومئذ.
والمعنى: يقال لهم ذوقوا العذاب الذي يخصكم.
هذا العذاب هو الذي كنتم تستعجلون به إذ تقولون استعجالا واستهزاء: أيان يوم الدين.
___________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج18 ، ص296-300.
قسماً بالأعاصير والسُحُب الذاريات:
هذه السورة هي الثانية بعد سورة «الصافات» التي تبدأ بالقسم المتكرّر، القسم العميق والباعث على التفكّر، القسم الذي يوقظ الإنسان ويمنحه الوعي والإطّلاع!
وكثير من سور القرآن التي سنواجهها ـ في المستقبل إن شاء الله ـ بالبحث والتّفسير ـ هي على هذه الشاكلة .. والطريف في الأمر أنّ هذا القسم غالباً ما يوطِّىءُ للمعاد، سوى بعض المواطن التي يمهّد فيها للتوحيد والمسائل المتعلّقة به.
كما أنّ ممّا يلفت النظر أنّ هذا القسم يرتبط محتواه بمحتوى يوم القيامة والنشور .. وهو يتابع بظرافة ورونق خاصّ هذا البحث المهمّ من جوانب متعدّدة:
والحقيقة أنّ كلّ قسم في القرآن هو بنفسه ـ وإن كثرت الأقسام ـ أو الأيمان ـ وجه من وجوه إعجاز القرآن هذا الكتاب السماوي، وهومن أجمل جوانبه وأبهاها وسيأتي تفصيل كلّ ذلك في موقعه.
وفي مستهلّ السورة يقسم الله سبحانه بخمسة أشياء مختلفة، وقد جاء القسم بأربعة أشياء متوالية سرداً وجاء القسم بخامسها فرداً.
فيقول الله في البداية: (والذاريات ذرواً)(2) أي قسماً بالرياح التي تحمل السحب في السماء وتذروا البذور على الأرض في كلّ مكان ...
ثمّ يضيف: (فالحاملات وقراً)(3) قسماً بالسحب التي تحمل أمطاراً ثقيلة معها ..
(فالجاريات يُسراً)(4) «والجاريات هنا هي السفن» أي قسماً بالسفن التي تجري في الأنهار العظيمة والبحار الشاسعة بيسر وسهولة ..
(فالمقسمات أمراً) «والمقسمات «هنا» معناها الملائكة الذين يقسّمون الاُمور.
ونقرأ حديثاً نقله كثير من المفسّرين ذيل هذه الآية أنّ «ابن الكوا»(5) سأل مرّة علياً (عليه السلام) وهو على المنبر خطيباً: ما {الذاريات ذرواً}؟ فقال (عليه السلام): هي الرياح.
فقال: {فالحاملات وقراً} فأجاب (عليه السلام): هي السحاب.
فقال: {فالجاريات يسراً} فقال (عليه السلام): هي السُفن.
فقال: {فالمقسمات أمراً} فقال: الملائكة.
ومع هذه الحال فهناك تفاسير اُخر يمكن ضمّها إلى هذا التّفسير، منها أنّ المراد بـ «الجاريات» هي الأنهار التي تجري بماء المزن و«المقسمات أمراً» هي الأرزاق التي تقسّم بواسطة الملائكة عن طريق الزراعة.
وعلى هذا فإنّ الكلام عن الرياح ثمّ الغيوم وبعدها الأنهار وأخيراً نمو النباتات في الأرض يتناسب تناسباً قريباً مع مسألة المعاد، لأنّنا نعرف أنّ واحداً من أدلّة إمكان المعاد هو إحياء الأرض الميتة بنزول الغيث وقد ذكر ذلك عدّة مرّات في القرآن بأساليب مختلفة.
كما يردّ هذا الإحتمال أيضاً: وهو أنّ هذه الأوصاف الأربعة جميعها للرياح ـ الرياح المولّدة للسُحب، والرياح التي تحملها على متونها، والرياح التي تجري بها إلى كلّ جانب، والرياح التي تنثر وتقسّم قطرات الغيثِ لكلّ جهة(6)!.
ومع ملاحظة أنّ هذه التعبيرات الواردة في الآيات جميعها جامعة وكليّة فيمكن أن تحمل المعاني آنفة الذكر كلّها، إلاّ أنّ التّفسير الأساس هو التّفسير الأوّل.
وهنا ينقدح هذا السؤال .. وهو:
إذا كان المراد من «المقسمات» هو الملائكة فماذا تقسم الملائكة؟!
نجيب على هذا السؤال أنّ تقسيم العمل هنا لعلّه راجع إلى كلّ التدبير في العالم بحيث أنّ جماعات من الملائكة مأمورة بتدبير اُموره، كما يحتمل أنّها مأمورة بتدبير الأرزاق، أو تقسيم قطرات الغيث على المناطق المتعدّدة في الأرض(7).
وبعد ذكر هذه الأقسام الأربعة التي تبيّن أهميّة الموضوع الذي يليها يقول القرآن: {إنّما توعدون لصادق}(8).
ومرّة اُخرى لمزيد التأكيد يضيف قائلا: {وإنّ الدين لواقع} الدين: هنا معناه الجزاء كما جاء بهذا المعنى في قوله تعالى: {مالك يوم الدين}: أي يوم الجزاء.
وأساساً فإنّ واحداً من أسماء يوم القيامة هو «يوم الدين» و«يوم الجزاء» ويتّضح من ذلك أنّ المراد من الوعود الواقعة «هنا» هي ما يوعدون عن يوم القيامة وما يتعلّق بها من حساب وثواب وعقاب وجنّة ونار وسائر الاُمور المتعلّقة بالمعاد، فعلى هذا تكون الجملة الاُولى شاملة لجميع الوعود، والجملة الثانية تأكيد آخر على مسألة الجزاء.
وبعد عدّة جمل اُخر سيأتي الكلام على يوم الدين، وكما أشرنا آنفاً فإنّ الأقسام الواردة في بداية السورة لها علاقة وتناسب بيّن مع نتيجة هذه الأقسام! لأنّ حركة الرياح ونزول الغيث ونتيجة لكلّ ذلك فإنّ حياة الأرض بعد موتها بنفسها مشهد من مشاهد القيامة والمعاد يبدو في هذه الدنيا.
قال بعض المفسّرين إنّ (ما توعدون) يحمل معنى واسعاً يشمل جميع الوعود الإلهيّة المتعلّقة بيوم القيامة والدنيا وتقسيم الأرزاق ومجازاة المجرمين في هذه الدنيا والدار الآخرة وإنتصار المؤمنين الصالحين، فالآية (22) من هذه السورة ذاتها التي تقول: {وفي السماء رزقكم وما توعدون} يمكن أن تكون تأكيداً أو تأييداً لهذا المعنى، وحيث أنّ لفظ الآية مطلق فلا تبعد هذه العمومية.
وعلى كلّ حال فإنّ الوعود الإلهية جميعها صادقة لأنّ خلف الوعد إمّا ناشىء عن الجهل أو العجز! .. الجهل الباعث على تغيير فكر الواعد، والعجز المانع من الوفاء به، إلاّ أنّ الله العالم والقادر لا تتخلّف وعوده أبداً .. تعالى الله عن ذلك!
وقوله تعالى : {وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ( 7 ) إِنَّكُمْ لَفِى قَوْل مُّخْتَلِف ( 8 ) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ( 9 ) قُتِلَ الْخَرَّصُونَ ( 10 ) الَّذِينَ هُمْ فِى غَمْرَة سَاهُونَ( 11 ) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ( 12 ) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ( 13 ) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِى كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ }
والسّماء ذات الحُبك:
تبدأ هذه الآيات كالآيات المتقدّمة بالقسم وتتحدّث عن إختلاف الكفّار وجدلهم حول يوم الجزاء والقيامة ومسائل اُخر متعدّدة من بينها شخصية النّبي (محمّد) ومسألة التوحيد.
فتقول الآيات في البداية: قسماً بالسماء ذات الخطوط والتعرّجات الجميلة: {والسماء ذات الحبك}.
وفي اللغة معان كثيرة لكلمة «الحبك» على زنة «كتب» وهي جمع «حباك» على وزن ـ كتاب ـ .
من ضمن هذه المعاني الطرق والتعاريج التي تبدو على الرمل نتيجة للرياح أو التي تبدو على صفحة الماء أو على السُحب في السماء!
كما تطلق الحبُك على الشعر المجعّد.
وقد تُفسّر الحبك بالزينة والجمال!
كذلك تأتي بمعنى الشكل الموزون والرتيب.
والجذر الأصلي لها «حبْك» ومعناه هو الشدّ والإحكام(9)!
ويبدو أنّ جميع هذه المعاني تعود إلى معنى واحد وهي التجاعيد والتعاريج الجميلة التي تظهر على صفحات الرمل في الصحراء أو صفحات الماء أو التجاعيد في الشعر أو السُحب في السماء.
وأمّا تطبيق هذا المعنى على السماء ووصفها بها (والسماء ذات الحبك) هو إمّا لنجومها ذات المجاميع المختلفة وصورها الفلكية «تطلق على مجموعات النجوم الثابتة التي لها شكل خاصّ بالصورة الفلكية»!
وإمّا للأمواج الجميلة التي ترتسم في السحب وقد تكون جميلة إلى درجة بحيث تحدق العين فيها لفترة طويلة!
أو لمجرّاتها العظيمة التي تبدو وكأنّها تجاعيد الشعر على صفحة السماء، وخاصّة صورها التي التقطت «بالتلسكوب» إذ تشبه هذه الصور التجاعيد في الشعر تماماً.
فعلى هذا يكون معنى (والسماء ذات الحبك) أنّ القرآن يقسم بالسماء ومجراتها العظيمة التي لم تكتشفها يومئذ العيون الحادّة ببصرها ولا علم الإنسان يومئذ أيضاً.
ومع ملاحظة أنّ الجمع بين المعاني المتقدّمة ممكن ولا منافاة فيه فيحتمل أن تكون هذه المعاني كلّها مجتمعة في القسم، ونقرأ في الآية (17) من سورة «المؤمنون» أيضاً قوله تعالى: {ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق}(10).
كما يجدر الإلتفات إلى أنّ الجذر الأصلي للحبك يمكن أن يكون إشارة إلى إستحكام السماء وإرتباط الكرات بعضها ببعض كالكواكب السيارة والمجموعة أو المنظومة الشمسية التي ترتبط بقرص الشمس.
أمّا الآية التالية فهي جواب للقسم وبيان لما وقع عليه القسم إذ تقول مؤكّدة: {إنّكم لفي قول مختلف}.
فدائماً أنتم تتناقضون في الكلام، وكأنّ هذا التناقض في كلامكم دليل على أنّه لا أساس لكلامكم أبداً.
ففي مسألة المعاد تقولون أحياناً: لا نصدّق أبداً أن نعود أحياء بعد أن تصير عظامنا رميماً.
وتارةً تقولون نحن نشكّ في هذه القضيّة ونتردّد!
وتارةً تضيفون أن هاتوا آباءنا وأسلافنا من قبورهم ليشهدوا أنّ بعد الموت قيامةً ونشوراً لنقبل بما تقولون!
وتقولون في شأن النّبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) تارةً بأنّه شاعر، أو بأنّه ساحر، وتارةً تقولون أنّه لمجنون، وتارةً تقولون إنّما يعلمه بشر فهو مُعَلَّم!!
كما تقولون في شأن القرآن بأنّه: أساطير الأوّلين تارةً، أو تقولون بأنّه شعر، وتارةً تسمّونه سحراً، وحيناً آخر تقولون أنّه كذب إفتراه وأعانه عليه قوم آخرون! .. الخ.
فقسماً بحُبكِ السماء وتجاعيدها إنّ كلامكم مختلف ومليء بالتناقض، ولوكان لكلامكم أساس لكنتم على الأقل تقفون عند موضوع خاصّ ومطلب معيّن ولما تحوّلتم منه كلّ يوم إلى موضوع آخر!
وهذا التعبير في الحقيقة إنّما هو إستدلال على بطلان إدّعاء المخالفين في شأن التوحيد والمعاد والنّبي والقرآن «وإن كان إعتماد هذه الآيات في الأساس على مسألة المعاد كما تدلّ عليه القرينة في الآيات التالية»!.
ونعرف أنّه يُستند دائماً لكشف كذب المدّعين الكذبة سواءً في المسائل القضائية أو المسائل الاُخرى على تناقض كلامهم وتضادّه، فكذلك القرآن يعوّل على هذا الموضوع تماماً!
وفي الآية التالية يبيّن القرآن علّة الإنحراف عن الحقّ فيقول: {يؤفك عنه من اُفِك} أي يؤفك عن الإيمان بالقيامة والبعث كلّ مخالف للحقّ! وإلاّ فإنّ دلائل الحياة بعد الموت واضحة وجليّة!
وينبغي الإلتفات إلى أنّ تعبير الآية عامّ ومغلق، وترجمتها الحرفية هي «ليصرف عنه من هو مصروف».
لأنّ «الإفك» في الأصل يطلق على صرف الشيء، فلذا يطلق على الكذب الذي فيه تأثير إنحرافي بأنّه إفك، كما يطلق على الرياح المختلفة بأنّها «المؤتفكات».
ولكن مع ملاحظة أنّ الكلام كان في الآيات المتقدّمة على المعاد والقيامة، فمن المعلوم أنّ المراد الأصلي من الإنحراف والأفك هنا هو الإنحراف عن هذه العقيدة .. كما أنّه حيث كان الكلام في الآية المتقدّمة عن إختلاف كلام الكفّار وتناقضهم فيعلم أنّ المراد هنا من الآية هم اُولئك المنحرفون عن الإيمان بالمعاد الذين انحرفوا عن مسير الدليل العقلي والمنطق السليم الباحث عن الحقّ!
وبالطبع لا مانع أن يكون المراد من «الإفك» هنا هو الإنحراف عن قبول الحقّ أيّاً كان نوعه، سواءً كان هذا الإنحراف عن القرآن أم التوحيد أو النبوّة أو المعاد «ومن هذا القبيل مسألة ولاية الأئمّة المعصومين الواردة في بعض الرّوايات» ولكن مسألة القيامة والمعاد على كلّ حال التي هي الموضوع الأصلي داخلة فيه قطعاً.
وفي الآية التالية ذمّ شديد للكاذبين وتهديد لتخرصّاتهم إذ تقول: {قتل الخرّاصون}.
و«الخرّاص» من مادّة «خَرْص» ـ على زنة دَرس ـ ومعناه في الأصل كلّ كلام يقال تخميناً أوظنّاً، وحيث أنّ مثل هذا الكلام غالباً ما يكون كذباً فقد إستعملت هذه الكلمة في الكذب أيضاً .. فيكون المعنى من «الخراصون» هو: اُولئك الذين يطلقون كلمات عارية من الصحّة ولا أساس لها، والمراد منها هنا ـ بقرينة الآيات التالية ـ هو: اُولئك الذين يحكمون أو يقضون في شأن القيامة والمعاد بكلام لا أساس له بعيد عن المنطق.
على كلّ حال، فإنّ هذا التعبير هو في شكل دعاء عليهم .. دعاء يدلّ على أنّهم «موجودات» تستحقّ الفناء والقتل، فعدمهم خير من وجودهم!
كما فسّر بعضهم «القتل» هنا بالطرد واللعن والمحروميّة عن رحمة الله.
ومن هنا يمكن أن يستفاد من هذا الحكم الكلّي أيضاً أنّ القضاء بلا دليل ولا مدرك أو مستند بيّن بل على الظنّ والحدس هو عمل يسوق إلى الضلال ويستحقّ اللعن والعذاب.
ثمّ يعرّف القرآن هؤلاء الخراصين الكذبة فيقول: {الذين هم في غمرة ساهون}.
«الغمرة» في الأصل معناها الماء الغزير الذي يغطّي محلا ما .. ثمّ إستعملت على الجهل السحيق الذي يغطّي عقل الشخص!
وكلمة «ساهون» جمع لـ «ساه» وهي مشتقّة من «السهو» والمراد بها هنا الغفلة.
وقال بعضهم إنّ الجهل على مراحل. فالاُولى هي «السهو والإشتباه»، ثمّ «الغفلة» وبعدها «الغمرة».
فيكون المعنى بناءً على هذا أنّهم ابتدوا من مرحلة السهو، ثمّ انساقوا إلى مرحلة الغفلة، ولما استمرّوا وواصلوا في هذا الطريق غرقوا في الجهل تماماً، والجمع بين هذين التعبيرين «السهو» و«الغمرة» في هذه الآية لعلّه إشارة إلى بداية هذه الحركة ونهايتها.
فعلى هذا يكون المراد من كلمة «الخراصون» هم الغارقون في جهلهم وكلّ يوم يتذرّعون بحجّة واهية فراراً من الحقّ.
ولذلك فهم دائماً: {يسألون أيّان يوم الدين}.
جملة «يسألون» والفعل للمضارع يدلّ على أنّهم يثيرون هذا السؤال أيّان يوم الدين؟! باستمرار ... على أنّه ينبغي أن يكون يوم القيامة وموعده مخفياً. ليحتمل كلّ أحد أنّه محتمل الوقوع في كلّ أيّ زمان، ويحصل منه الأثر التربوي للإيمان بيوم القيامة الذي هو بناء الشخصية والإستعداد الدائم.
وهذا الكلام يشبه تماماً كلام المريض إذ يسأل طبيبه مثلا: متى يكون آخر عمري ويكرّر عليه السؤال بإستمرار، فكلّ أحد يعدّ هذا السؤال هذراً ويقول: المهمّ أن تعرف أنّ الموت حقّ لتعالج نفسك ولئلاّ تبتلى بالموت السريع.
إلاّ أنّهم لم يكن لهم من هدف سوى الإستهزاء أو التذرّع بالحجج الواهية ولم يكن سؤالهم عن تاريخ يوم القيامة وزمانه بحقّ!
إلاّ أنّه ومع هذه الحال فإنّ القرآن يردّ عليهم مجيباً بلغة شديدة ويعنّفهم {يوم هم على النار يفتنون}.
وعندئذ يقال لهم هنالك: {ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون} والفتنة في الأصل إختبار الذهب في موقد النار ليمتاز الخالص من غيره، ومن هنا فقد استعملت «الفتنة» على أيّ نوع كان من أنواع الإمتحان أوالإختبار، كما إستعملت على دخول الإنسان النار، كما تستعمل في البلاء والعذاب وعدم الراحة كما تشير إليه الآية محل البحث هنا.
__________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ،ج13 ، ص197-204.
2 ـ الذاريات: جمع الذارية ومعناها الريح التي تحمل معها الأشياء وتنشرها في الفضاء.
3 ـ الوقر ـ على زنة الفِكر ـ معناه ذو الوزن الثقيل كما يأتي معنى ثقل السمع والوقار ثقل الحركات والحلم والهدوء أيضاً.
4 ـ الجاريات جمع جارية، ومعناها هنا السفن كما تأتي بمعنى الأنهار لجريانها وقد ورد قوله تعالى: (فيها عين جارية) في الآية (12) من سورة الغاشية كما تطلق الجارية على الشمس لجريها في السماء، وتطلق الجارية أيضاً على الفتاة لأنّ نشاط الشباب يجري في كيانها.
5 ـ كان يدعى بعبدالله، وكان من المنافقين في زمان الإمام علي، وأشدّ أعدائه وكان يزعم أنّه من أصحابه إلاّ أنّه كان يتآمر عليه ..
6 ـ أشار إلى هذا المعنى تفسير الفخر الرازي، ج28، ص195.
7 ـ ينبغي الإلتفات إلى أنّ الواو في (والذاريات) هي للقسم، إلاّ أنّ الفاء في الآيات التي تليها عاطفة وهي تحمل مفهوم
القسم كما أنّها في الوقت ذاته بمثابة علاقة ورباط بين الأقسام الأربعة هنا ..
8 ـ ينبغي الإلتفات إلى أنّ «ما» هنا اسم موصول، وهو اسم لأنّ وخبرها لصادق.
9 ـ يراجع «لسان العرب» والمفردات للراغب مادّة الحبك.
10 ـ هناك شرح مفصّل في تفسير هذه الآية فراجعه في سورة «المؤمنون».
|
|
مخاطر عدم علاج ارتفاع ضغط الدم
|
|
|
|
|
اختراق جديد في علاج سرطان البروستات العدواني
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|