أقرأ أيضاً
التاريخ: 20-9-2017
1833
التاريخ: 20-9-2017
1788
التاريخ: 5-2-2018
2803
التاريخ: 5-2-2018
11777
|
قال تعالى : {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُو الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُو الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 1 - 4]
{يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض} أي ينزهه سبحانه كل شيء ويشهد له بالوحدانية والربوبية بما ركب فيها من بدائع الحكمة وعجائب الصنعة الدالة على أنه قادر عالم حي قديم سميع بصير حكيم لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء وإنما قال مرة سبح ومرة يسبح إشارة إلى دوام تنزيهه في الماضي والمستقبل {الملك} أي القادر على تصريف الأشياء {القدوس} أي المستحق للتعظيم الطاهر عن كل نقص {العزيز} القادر الذي لا يمتنع عليه شيء {الحكيم} العالم الذي يضع الأشياء موضعها {هو الذي بعث في الأميين} يعني العرب وكانت أمة أمية لا تكتب ولا تقرأ ولم يبعث إليهم نبي عن مجاهد وقتادة وقيل يعني أهل مكة لأن مكة تسمى أم القرى.
{رسولا منهم} يعني محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) نسبه نسبهم وهومن جنسهم كما قال لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ووجه النعمة في أنه جعل النبوة في أمي موافقته لما تقدمت البشارة به في كتب الأنبياء السالفة ولأنه أبعد من توهم الاستعانة على ما أتى به من الحكمة بالحكم التي تلاها والكتب التي قرأها وأقرب إلى العلم بأن ما يخبرهم به من إخبار الأمم الماضية والقرون الخالية على وفق ما في كتبهم ليس ذلك إلا بالوحي {يتلو عليهم آياته} أي يقرأ عليهم القرآن المشتمل على الحلال والحرام والحجج والأحكام {ويزكيهم} أي ويطهرهم من الكفر والذنوب ويدعوهم إلى ما يصيرون به أزكياء {ويعلمهم الكتاب والحكمة} الكتاب القرآن والحكمة الشرائع وقيل إن الحكمة تعم الكتاب والسنة وكل ما أراده الله تعالى فإن الحكمة هي العلم الذي يعمل عليه فيما يجتبي أو يجتنب من أمور الدين والدنيا.
{وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} معناه وما كانوا من قبل بعثه إليهم إلا في عدول عن الحق وذهاب عن الدين بين ظاهر {وآخرين منهم} أي ويعلم آخرين من المؤمنين {لما يلحقوا بهم} وهم كل من بعد الصحابة إلى يوم القيامة فإن الله سبحانه بعث النبي إليهم وشريعته تلزمهم وإن لم يلحقوا بزمان الصحابة عن مجاهد وابن زيد وقيل هم الأعاجم ومن لا يتكلم بلغة العرب فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) مبعوث إلى من شاهده وإلى كل من بعدهم من العرب والعجم عن ابن عمر وسعيد بن جبير وروي ذلك عن أبي جعفر (عليه السلام) وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قرأ هذه الآية فقيل له من هؤلاء فوضع يده على كتف سلمان وقال لوكان الإيمان في الثريا لنالته رجال من هؤلاء وعلى هذا فإنما قال منهم لأنهم إذا أسلموا صاروا منهم فإن المسلمين كلهم يد واحدة على من سواهم وأمة واحدة وإن اختلف أجناسهم كما قال سبحانه والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ومن لم يؤمن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فإنهم ليسوا ممن عناهم الله تعالى بقوله {وآخرين منهم} وإن كان مبعوثا إليهم بالدعوة لقوله سبحانه {ويزكيهم ويعلمهم} ومن لم يؤمن فليس ممن زكاه وعلمه القرآن والسنة وقيل إن قوله {لما يلحقوا بهم} يعني في الفضل والسابقة فإن التابعين لا يدركون شأن السابقين من الصحابة وخيار المؤمنين.
{وهو العزيز} الذي لا يغالب {الحكيم} في جميع أفعاله {ذلك فضل الله} يعني النبوة التي خص الله بها رسوله عن مقاتل {يؤتيه} أي يعطيه {من يشاء} بحسب ما يعلمه من صلاحه للبعثة وتحمل أعباء الرسالة {والله ذو الفضل العظيم} ذو المن العظيم على خلقه ببعث محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) وروى محمد بن أبي عمير عن هشام بن سالم يرفعه قال جاء الفقراء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقالوا يا رسول الله إن للأغنياء ما يتصدقون وليس لنا ما نتصدق ولهم ما يحجون وليس لنا ما نحج ولهم ما يعتقون وليس لنا ما نعتق فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم) ((من كبر الله مائة مرة كان أفضل من عتق رقبة ومن سبح الله مائة مرة كان أفضل من مائة فرس في سبيل الله يسرجها ويلجمها ومن هلل الله مائة مرة كان أفضل الناس عملا في ذلك اليوم إلا من زاد فبلغ ذلك الأغنياء فقالوه فرجع الفقراء إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقالوا يا رسول الله قد بلغ الأغنياء ما قلت فصنعوه فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم) {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)).
____________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص6-8.
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وما فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} .
كل ما في الكون يدل على وحدانية اللَّه وقدرته ، وهذا تسبيح وتمجيد بالطبع ، والملك المسيطر ، والقدوس المنزه عما لا يليق ، والعزيز الذي لا يقهر ، والحكيم في جميع تصرفاته . وتقدم مثله في أول سورة الحديد والحشر والصف .
{هُو الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} . المراد بالرسول محمد (صلى الله عليه واله وسلم) وبالأميين العرب ، ووصفهم سبحانه بالأميين لأن أكثرهم آنذاك كانوا لا يقرؤن ولا يكتبون . وذهب البعض إلى ان المراد بالأميين هنا أهل مكة لأن {أم القرى} من أسمائها ، ويردّ هذا القول أولا : ان المتبادر إلى الافهام من هذه الكلمة عدم القراءة والكتابة . ثانيا : قوله تعالى : {ومِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ} - 78 البقرة والقرآن يفسر بعضه بعضا . ثالثا : قول الرسول الأعظم(صلى الله عليه واله وسلم) : {نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب} . وقال بعض أهل الكتاب : ان قوله تعالى :
{بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} يدل ان محمدا نبي العرب خاصة . وقد أجبنا عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية 92 من سورة الأنعام ج 3 ص 225 وعند تفسير الآية 40 من سورة الأحزاب ج 6 ص 225 فقرة (لما ذا ختمت النبوة بمحمد .
ثم حدد سبحانه مفهوم رسالة نبيه الكريم بما يلي :
1 - {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ} . يبلغهم رسالات ربه التي تسير بهم على طريق الحياة والنجاة .
2 - {ويُزَكِّيهِمْ} يطهر نفوسهم من الشرك ، وعقولهم من الجهل ، وأعمالهم من القبائح والآثام .
3 - {ويُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ} . ينقلهم من ظلمات العمى والجهل إلى نور العلم والهداية بتعاليمه التي تمجد العلم ، وتنبذ الخرافات ، وترتكز على العقل والفطرة البشرية .
4 - {والْحِكْمَةَ} . وكل ما يهدي إلى الخير في العقيدة والسلوك فهو حكمة .
قال ابن عربي : {الحكمة صفة يحكم بها ولا يحكم عليها} أي تعلو ولا يعلى عليها .
والخلاصة ان رسالة محمد(صلى الله عليه واله وسلم) رسالة إنسانية عامة تخاطب الناس بخطاب العقل ، وتحاسبهم بحسابه ، والصفة الهامة التي امتاز بها الإسلام عن سائر الأديان انه يرحب بكل دراسة موضوعية منصفة عن أي مبدأ من مبادئه وحكم من أحكامه دون استثناء{وإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} من الشرك والجهل والظلم والحقد ، وما إلى ذلك من القبائح والرذائل .
{وآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} . المراد بالآخرين كل من دخل في الإسلام بعد محمد(صلى الله عليه واله وسلم) إلى يوم القيامة عربيا كان أم غير عربي ، والمعنى ان محمدا هو نبي الرحمة لجميع الأجيال : ودعوته عامة للناس أجمعين ، وقد آمن بها العرب في عهده ، ويؤمن بها الأجيال المتتابعة من سائر الأمم إلى يوم يبعثون{وهُو الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . وبعزته وقدرته أعز الإسلام ونشره في شرق الأرض وغربها ، وبحكمته تعالى اختار محمدا لرسالته العامة الشاملة {ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ واللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} . ذلك إشارة إلى ان محمدا فضل من اللَّه ورحمة للإنسانية جمعاء ، ومثله : {وما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ} - 107 الأنبياء .
______________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص322-323.
غرض السورة هو الحث البالغ على الاهتمام بأمر صلاة الجمعة والقيام بواجب أمرها فهي من شعائر الله المعظمة التي في تعظيمها والاهتمام بأمرها صلاح أخراهم ودنياهم، وقد سلك تعالى إلى بيان أمره بافتتاح الكلام بتسبيحه والثناء عليه بما من على قوم أميين برسول منهم أمي يتلو عليهم آياته ويزكيهم بصالحات الأعمال والزاكيات من الأخلاق ويعلمهم الكتاب والحكمة فيحملهم كتاب الله ومعارف دينه أحسن التحميل هم ومن يلحق بهم أو يخلفهم من بعدهم من المؤمنين فليحملوا ذلك أحسن الحمل، وليحذروا أن يكونوا كاليهود حملوا التوراة ثم لم يحملوا معارفها وأحكامها فكانوا مثل الحمار يحمل أسفارا.
ثم تخلص إلى الأمر بترك البيع والسعي إلى ذكر الله إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة، وقرعهم على ترك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قائما يخطب والانفضاض والانسلال إلى التجارة واللهو، وذلك آية عدم تحملهم ما حملوا من معارف كتاب الله وأحكام، والسورة مدنية.
قوله تعالى: {يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم} التسبيح تنزيه الشيء ونسبته إلى الطهارة والنزاهة من العيوب والنقائص، والتعبير بالمضارع للدلالة على الاستمرار، والملك هو الاختصاص بالحكم في نظام المجتمع، والقدوس مبالغة في القدس وهو النزاهة والطهارة، والعزيز هو الذي لا يغلبه غالب، والحكيم هو المتقن فعله فلا يفعل عن جهل أو جزاف.
وفي الآية توطئة وتمهيد برهاني لما يتضمنه قوله: {هو الذي بعث} إلخ، من بعثة الرسول لتكميل الناس وإسعادهم وهدايتهم بعد إذ كانوا في ضلال مبين.
وذلك أنه تعالى يسبحه وينزهه الموجودات السماوية والأرضية بما عندهم من النقص الذي هو متممه والحاجة التي هو قاضيها فما من نقيصة أو حاجة إلا وهو المرجو في تمامها وقضائها فهو المسبح المنزه عن كل نقص وحاجة فله أن يحكم في نظام التكوين بين خلقه بما شاء، وفي نظام التشريع في عباده بما أراد، كيف لا؟ وهو ملك له أن يحكم في أهل مملكته وعليهم أن يطيعوه.
وإذا حكم وشرع بينهم دينا لم يكن ذلك منه لحاجة إلى تعبيدهم ونقص فيه يتممه بعبادتهم لأنه قدوس منزه عن كل نقص وحاجة.
ثم إذا حكم وشرع وبلغه إياهم عن غنى منه ودعاهم إليه بوساطة رسله فلم يستجيبوا دعوته وتمردوا عن طاعته لم يكن ذلك تعجيزا منهم له تعالى لأنه العزيز لا يغلبه فيما يريده غالب.
ثم إن الذي حكم وشرعه من الدين بما أنه الملك القدوس العزيز ليس يذهب لغى لا أثر له لأنه حكيم على الإطلاق لا يفعل ما يفعل إلا لمصلحة ولا يريد منهم ما يريد إلا لنفع يعود إليهم وخير ينالونه فيستقيم به حالهم في دنياهم وأخراهم.
وبالجملة فتشريعه الدين وإنزاله الكتاب ببعث رسول يبلغهم ذلك بتلاوة آياته، ويزكيهم ويعلمهم من منه تعالى وفضل كما قال: {هو الذي بعث} إلخ.
قوله تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم} إلخ، الأميون جمع أمي وهو الذي لا يقرأ ولا يكتب، والمراد بهم - كما قيل - العرب لقلة من كان منهم يقرأ ويكتب وقد كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم أي من جنسهم وهو غير كونه مرسلا إليهم فقد كان منهم وكان مرسلا إلى الناس كافة.
واحتمل أن يكون المراد بالأميين غير أهل الكتاب كما قال اليهود - على ما حكى الله عنهم -: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75].
وفيه أنه لا يناسب قوله في ذيل الآية: {يتلوا عليهم آياته} إلخ، فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يخص غير العرب وغير أهل الكتاب بشيء من الدعوة لم يلقه إليهم.
واحتمل أن يكون المراد بالأميين أهل مكة لكونهم يسمونها أم القرى.
وفيه أنه لا يناسب كون السورة مدنية لإيهامه كون ضمير {يزكيهم ويعلمهم} راجعا إلى المهاجرين ومن أسلم من أهل مكة بعد الفتح وأخلافهم وهو بعيد من مذاق القرآن.
ولا منافاة بين كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأميين مبعوثا فيهم وبين كونه مبعوثا إليهم وإلى غيرهم وهو ظاهر، وتلاوته عليهم آياته وتزكيته وتعليمه لهم الكتاب والحكمة لنزوله بلغتهم وهو أول مراحل دعوته ولذا لما استقرت الدعوة بعض الاستقرار أخذ (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعو اليهود والنصارى والمجوس وكاتب العظماء والملوك.
وكذا دعوة إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) على ما حكى الله تعالى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ } [البقرة: 128، 129] ، تشمل جميع آل إسماعيل من عرب مضر أعم من أهل مكة وغيرهم، ولا ينافي كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) مبعوثا إليهم وإلى غيرهم.
وقوله: {يتلوا عليهم آياته} أي آيات كتابه مع كونه أميا.
صفة للرسول.
وقوله: {ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} التزكية تفعيل من الزكاة بمعنى النمو الصالح الذي يلازم الخير والبركة فتزكيته لهم تنميته لهم نماء صالحا بتعويدهم الأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة فيكملون بذلك في إنسانيتهم فيستقيم حالهم في دنياهم وآخرتهم يعيشون سعداء ويموتون سعداء.
وتعليم الكتاب بيان ألفاظ آياته وتفسير ما أشكل من ذلك، ويقابله تعليم الحكمة وهي المعارف الحقيقية التي يتضمنها القرآن، والتعبير عن القرآن تارة بالآيات وتارة بالكتاب للدلالة على أنه بكل من هذه العناوين نعمة يمتن بها - كما قيل -.
وقد قدم التزكية هاهنا على تعليم الكتاب والحكمة بخلاف ما في دعوة إبراهيم (عليه السلام) لأن هذه الآية تصف تربيته (صلى الله عليه وآله وسلم) لمؤمني أمته، والتزكية مقدمة في مقام التربية على تعليم العلوم الحقة والمعارف الحقيقية وأما ما في دعوة إبراهيم (عليه السلام) فإنها دعاء وسؤال أن يتحقق في ذريته هذه الزكاة والعلم بالكتاب والحكمة، والعلوم والمعارف أقدم مرتبة وأرفع درجة في مرحلة التحقق والاتصاف من الزكاة الراجعة إلى الأعمال والأخلاق.
وقوله: {وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} {إن} مخففة من الثقيلة والمراد أنهم كانوا من قبل بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في ضلال مبين، والآية تحميد بعد تسبيح ومسوقة للامتنان كما سيأتي.
قوله تعالى: {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم} عطف على الأميين وضمير {منهم} راجع إليهم و{من} للتبعيض والمعنى: بعث في الأميين وفي آخرين منهم لم يلحقوا بهم بعد وهو العزيز الذي لا يغلب في إرادته الحكيم الذي لا يلغو ولا يجازف في فعله.
قوله تعالى: {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} الإشارة بذلك إلى بعث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) - وقد فخم أمره بالإشارة البعيدة - فهو(صلى الله عليه وآله وسلم) المخصوص بالفضل، والمعنى: ذلك البعث وكونه يتلو آيات الله ويزكي الناس ويعلمهم الكتاب والحكمة من فضل الله وعطائه يعطيه من تعلقت به مشيته وقد شاء أن يعطيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والله ذو الفضل العظيم كذا قال المفسرون.
ومن الممكن أن تكون الإشارة بذلك إلى البعث بما له من النسبة إلى أطرافه من المرسل والمرسل إليهم، والمعنى: ذلك البعث من فضل الله يؤتيه من يشاء وقد شاء أن يخص بهذا الفضل محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) فاختاره رسولا، وأمته فاختارهم لذلك فجعله منهم وأرسله إليهم.
والآية والآيتان قبلها أعني قوله: {هو الذي بعث - إلى قوله - العظيم} مسوقة سوق الامتنان.
_____________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج19 ، ص232-235.
الهدف من بعثة الرسول :
تبدأ هذه السورة كذلك بالتسبيح لله عز وجل ، وتشير إلى بعض صفات الجمال والجلال والأسماء الحسنى لله . ويعتبر ذلك في الحقيقة مقدمة للأبحاث القادمة ، حيث يقول تعالى : {يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض} حيث يسبحونه بلسان الحال والقال وينزهونه عن جميع العيوب والنقائض {الملك القدوس العزيز الحكيم} .
وبناء على ذلك تشير الآية أولا إلى ( المالكية والحاكمية المطلقة ) ، ثم (تنزهه من أي نوع من الظلم والنقص) وذلك لارتباط اسم الملوك بأنواع المظالم والمآسي ، فجاءت كلمة (قدوس) لتنفي كل ذلك عنه جل شأنه .
ومن جانب آخر فالآية تركز على ركنين أساسيين من أركان الحكومة هما (القدرة) و(العلم) وسنرى أن هذه الصفات ترتبط بشكل مباشر بالأبحاث القادمة لهذه السورة .
ونشير هنا إلى أن ذكر صفات الحق تعالى في الآيات القرآنية المختلفة جاءت ضمن نظام وترتيب وحساب خاص .
وكنا قد تعرضنا سابقا لتسبيح كافة المخلوقات(2) .
وبعد هذه الإشارة الخاطفة ذات المعنى العظيم لمسألة التوحيد وصفات الله ، يتحدث القرآن عن بعثة الرسول والهدف من هذه الرسالة العظيمة المرتبطة بالعزيز الحكيم القدوس . حيث يقول : {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته} .
وذلك من أجل أن يطهرهم من كل أشكال الشرك والكفر والانحراف والفساد {ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} .
ومن الملفت للنظر أن بعثة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه الخصوصيات التي لا يمكن تفسيرها إلا عن طريق الإعجاز ، تعتبر هي الأخرى إشارة إلى عظمته عز وجل ودليل على وجوده إذ يقول : {هو الذي بعث في الأميين رسولا} . . . وأبدع هذاالموجود العظيم بين أولئك الأميين . .
(الأميين) جمع(أمي) وهو الذي لا يعرف القراءة والكتابة (ونسبته إلى الام باعتبار أنه لم يتلق تعليما في معهد أو مدرسة غير مدرسة الام) .
وقال البعض : إن المقصود بها أهل مكة ، لأن مكة كانت تسمى (بأم القرى) ، ولكنه بعيد .
قال بعض المفسرين : إن المقصود بها (أمة العرب) مقابل اليهود وغيرهم ، واعتبروا الآية(75) من سورة آل عمران شاهدة على هذا المعنى حيث يقول : {قالوا ليس علينا في الأميين} سبيل وذلك باعتبار أن اليهود كانوا يعتبرون أنفسهم أهل الكتاب وهم أهل القراءة والكتابة ، بينما كان العرب على العكس من ذلك . ولكن التفسير الأول أنسب(3) .
والجدير بالذكر أن الآية تؤكد على أن نبي الإسلام بعث من بين هؤلاء الأميين الذين لم يتلقوا ثقافة وتعليما وذلك لبيان عظمة الرسالة وذكر الدليل على حقانيتها ، لأن من المحال أن يكون هذا القرآن العظيم وبذلك المحتوى العميق وليد فكر بشري وفي ذلك المحيط الجاهلي ومن شخص أمي أيضا ، بل هو نور أشرق في الظلمات ، ودوحة خضراء في قلب الصحراء ، وهي بحد ذاتها معجزة باهرة وسندا قاطعا على حقانيته . . .
ولخصت الآية الهدف من بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في ثلاثة أمور ، جاء أحدها
كمقدمة وهو تلاوة الآيات عليهم ، بينما شكل الأمران الآخران أي(تهذيب وتزكية النفس) و(تعليمهم الكتاب والحكمة) الهدف النهائي الكبير .
نعم ، جاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ليعطي الإنسانية ويعلمها العلم والأخلاق ، لتستطيع بهذين الجناحين (جناح العلم وجناح الأخلاق) أن تحلق في عالم السعادة وتطوي مسيرها إلى الله لتنال القرب منه .
والجدير بالملاحظة اننا نجد بعض الآيات القرآنية تذكر (التزكية) قبل (التعليم) بينما تقدم آيات أخرى (التعليم) على ( التزكية ) . ففي ثلاثة من الموارد الأربعة التي ذكر فيها ( التزكية )و(التعليم) تقدمت التزكية على التعليم بينما تقدم التعليم في المورد الرابع .
وفي الوقت الذي يشار في هذا التعبير إلى التأثير المتبادل لهذين العنصرين(الأخلاق وليدة العلم ، كما أن العلم وليد الأخلاق) تظهر أيضا أصالة التربية ومدى الاهتمام بها . علما أن المقصود بالعلم العلوم الحقيقية لا العلوم التي اصطلح عليها بأنها علم وألبست ثوب العلم .
ويمكن أن يكون الفرق بين (الكتاب ) و( الحكمة) هو أن الأول إشارة إلى القرآن والثاني إشارة إلى سنة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) .
ويمكن أيضا أن يكون (الكتاب) إشارة إلى أصل العقائد والأحكام الإسلامية ، والثانية إشارة إلى فلسفتها وأسرارها .
ومن النقاط الجديرة بالملاحظة - كذلك - أن الحكمة تعني المنع بقصد الإصلاح ، ولهذا يقال للجام الفرس (حكمة) لأنه يمنعها ويجعلها تسير في مسارها الصحيح ، وبناء على ذلك فإن مفهوم هذه الدلائل عقلي ، ومن هنا يتضح أن ذكر الكتاب والحكمة بشكل مترادف يراد منه التنبيه إلى مصدرين مهمين من مصادر المعرفة (الوحي) و(العقل) .
بعبارة أخرى : إن الأحكام السماوية وتعاليم الإسلام رغم أنها نابعة من الوحي الإلهي غير أنها يمكن تعقلها وإدراكها بالعقل ( المقصود كليات الأحكام) .
وتعبير ( الضلال المبين ) إشارة مختصرة معبرة إلى سابقة العرب وماضيهم الجاهلي في عبادة الأصنام . وأي ضلال أوضح وأسوأ من هذا الضلال الذي يعبد فيه الناس أحجارا وأخشابا يصنعونها بأنفسهم ويلجؤون إليها لحل مشاكلهم وإنقاذهم من المعضلات .
يدفنون بناتهم وهن أحياء ثم يتفاخرون بكل بساطة بهذا العمل قائلين : إننا لم ندع ناموسنا وعرضنا يقع بيد الأجانب .
كانت صلاتهم ودعاؤهم عبارة عن تصفيق وصياح إلى جانب الكعبة ، وحتى النساء كن يطفن حول الكعبة وهن عراة تماما ، ويحسبون ذلك عبادة .
كانت تسيطر على أفكارهم مجموعة من الخرافات والأوهام ، وكانوا يتفخرون ويتباهون بالحرب ونزف الدماء والإغارة على بعضهم البعض . المرأة كانت تعد بضاعة لا قيمة لها عندهم ، يلعبون عليها القمار ، ويحرمونها من أبسط الحقوق الإنسانية . كانوا يتوارثون العداوة والبغضاء ، ولهذا أصبحت الحروب وإراقة الدماء أمرا عاديا لديهم .
نعم لقد جاء الرسول وأنقذهم - ببركة الكتاب والحكمة من هذا الضلال والتخبط وزكاهم وعلمهم . وحقا إن تربية وتغيير مثل هذا المجتمع الضال يعتبر أحد الأدلة على عظمة الإسلام ومعاجز نبينا العظيمة .
ولكن لم يكن الرسول مبعوثا لهذا المجتمع الأمي فقط ، بل كانت دعوته عامة لجميع الناس ، فقد جاء في الآية التالية {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم}(4).
نعم ، إن الأقوام الآخرين الذين جاؤوا بعد أصحاب الرسول ليتربوا في مدرسة الرسول{صلى الله عليه وآله وسلم} ويغترفوا من معين القرآن الصافي والسنة المحمدية ، كانوا - أيضا - مشمولين بهذه الدعوة العظيمة .
بناء على ذلك تكون الآية أعلاه شاملة لجميع الأقوام الذين يأتون بعد أصحاب الرسول من العرب والعجم . جاء في الحديث أن الرسول بعد أن تلا هذه الآية سئل من هؤلاء ؟ فأشار الرسول إلى سلمان وقال : (( لوكان الإيمان في الثريا لنالته رجال من هؤلاء)) (5) .
وجاء في آخر الآية : وهو العزيز الحكيم .
بعد أن يشير إلى هذه النعمة الكبيرة - أي نعمة بعث نبي الإسلام الأكرم وبرنامجه التعليمي والتربوي - يضيف قائلا : {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} .
وهذه الآية في الحقيقة كالآية - 164 - في سورة آل عمران التي تقول : {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} .
وقد احتمل بعضهم جملة ذلك فضل الله إشارة إلى أصل مقام النبوة الذي يعطيه الله لمن يكون لائقا به ، غير أن التفسير الأول أنسب ، مع أنه يمكن الجمع بين التفسيرين بأن يقال : إن قيادة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كانت نعمة للأمة كما أن مقام النبوة نعمة عظيمة لشخص الرسول الكريم .
ولا نجد حاجة إلى القول بأن تعبير {من يشاء} لا يعني أن الله ينزل رحمته وبركاته بدون حساب وبلا سبب ، بل إن المشيئة هنا مرادفة للحكمة كما وصف الباري نفسه في بداية السورة بأنه العزيز الحكيم .
يقول الإمام أمير المؤمنين{عليه السلام} في معنى هذا الفضل الإلهي : ( فانظروا إلى مواقع نعم الله عليهم حيث بعث إليهم رسولا ، فعقد بملته طاعتهم وجمع على دعوته ألفتهم ، كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها ، وأسالت لهم جداول نعيمها ، والتفت الملة بهم في عوائد بركتها ، فأصبحوا في نعمتها غرقين . وفي خضرة عيشها فكهين)(6) .
__________________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج14 ، ص181-185.
2- راجع الى تفسيرنا هذا ، ذيل الاية 44 من سورة الاسراء ، وذيل الاية 41 من سورة النور.
3- لقد شرحنا معنى كلمة ((الأمي) في ذيل الاية 157 من سورة الاعراف.
4 – (آخرين) عطف على{أميين} وضمير منهم متعلق ب {المؤمنين} كما يفهم من سياق الآيات . واحتمل بعضهم أنه معطوف على ضمير {يعلمهم} . ولكن المعنى الأول أنسب .
5 - أورده الطبرسي في(مجمع البيان) والطباطبائي في(الميزان) والسيوطي في(الدر المنثور) والزمخشري في الكشاف ، والقرطبي ، والمراغي في تفسيرهما ، وسيد قطب في تفسيره (في ظلال القرآن) في ذيل الآية مورد البحث ، وهو في الأصل من (صحيح البخاري) .
6- نهج البلاغة ، الخطبة 192.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|