أقرأ أيضاً
التاريخ: 23-8-2017
195
التاريخ: 2-9-2017
262
|
الاستعمال
ذلك لأن الألفاظ لم تخلق لتحبس في خزائن من الزجاج أو البلور، فيزاها الناس من وراء تلك الخزائن، ثم يكتفون بتلك الرؤية العابرة !! ولو أنها كانت كذلك لبقيت علي حالها جيلا بعد جيل دون تغير أو تحول، ولكنها وجدت ليتداولها الناس، وليتبادلوا بها في حياتهم الاجتماعية، كما يتبادلون بالعملة والسلع. غير أن التبادل بها يكون عن طريق الأذهان والنفوس تلك التي تتباين بين أفراد الجيل الواحد والبيئة الواحدة، في التجربة والذكاء، وتتشكل وتتكيف الدلالة تبعاً لها. و مع اشتراك الناس في ناحيتها المركزية تراهم يختلفون في حدودها الهامشية وفي ظلالها، وما يكتنفها.من ظروف وملابلات تتغير كل يوم، وتتنوع يتنوع التجارب والأحداث. فإذا ورثتها الأجبال الناشئة واتخذتها أيضاً للتعامل والتبادل لم ترنها علي حالها الأولي، بل تر.. ها مع بعض الانحراف في الدلالة، ثم يتضخم ذلك الانحراف علي توالي الأجيال.
ص104
وأوضح عناصر هذا العامل الرئيسي يمكن تلخيصها فيما بلي:
1- سوء الفهم:
وتلك تجربة قد يمر بها كل منا، حين يسمع اللفظ للمرة الأولي فيسئ فهمه، ويوحي إلي ذهنه دلالة غريبة لاتكاد تمت إلي ما في ذهن المتكلم بأية صلة. ثم قد لا تتاح لهذا السامع فرض أخري لتصحيح خطئه ويبقي اللفظ في ذهنه مرتبطا بتلك الدلالة الجديدة. وليس من غير الشائع أن تتم هذه الظاهرة بين عدد من الأفراد كلهم يسيئون فهم الدلالة بطريقة واحدة، ويتجهون في فهمها اتجاها واحداً، مما يساعد علي تطور اللفظ تطوراً مفاجئاً يرثه الجيل الناشئ ويركن إليه. ورب إشارة من يد في أثناء الكلام، أو غمزة من عين، أو أي حادث طارئ عارض يكتنف الكلام، فيؤثر في دلالة اللفظ ... ينحرف به عن مسراه المألوف نحو آخر بعيد عنه كل البعد رغم أن تلك الإشارة، أو ذلك الحادث لم يكن مقصوداً متعمداً، ولم يكن مما تتطلبه الدلالة للإيضاح أو البيان، بل إن المصادفة البحتة هي التي ربطت بينهما، فأدت إلي ذلك التطور أو التفسير في الفهم.
ويتم مثل هذا التغير الفجاني عادة في البيئات البدائية، وحيث الان زال بين أفراد الجيل الناشئ وجيل الكبار. ثم تسود تلك الدلالة الجديدة، ويجير الدارس في شأنها، فلا يستطيع لها تعليلا، ولا يقدر علي الكشف عن ظروفها. وليس من الضروري حينئذ أن تندثر الدلالة الأصلية، أو أن تفني من الوجود بل قد تبقي جنباً إلي جنب مع تلك الدلالة الجديدة، ويخيل للناس بعد ذلك أن للفظ دلالتين مستقلتين، وأنه من الممكن استعماله في هذا أو في تلك. وهنا يفشأ في اللغة ما يسمي بالمشترك اللفظي في صورته الأصلية الحقة.
وبغير أن تسلم بإمكان وقوع هذا الانحراف الفجائي، لا نستطيع تفسير تلك الألفاظ العربية الكثيرة التي نري كلا منها يعبر عن دلالات متباينة لاارتباط بينها ولا وجه شبه. فحين تؤكد لنا المعاجم العربيه أن كلمة «الأرض» تعني الكوكب المعروف، وتعني أيضاً «الزكام»، وحين يقال لنا إن كلمة «اليث» هي الأسد وهي أيضاً «العنكبوت» ، لانكاد نجد تفسيراً معقولا إلا بالالتجارء إلي تلك الطفرة الدلالية.
وقد يروي للفظ الواحد عدة دلالات يتناولها الشعراء أو الناظمون، فيجمعون بينها في أبيات من الشعر، ويستدلون بها علي بعد تلك الدلالات المتباينة بعضها عن بعض. فكلمة «الغروب» مفردة أو جمعاً ذات دلالات ثلاث جمعها بعض الناظمين
ص104
في قوله:
يا ويح قلبي من دواعي الهوي إذ رحل الجيران عند الغروب
أتبعتهم طرفي وقد آزموا ودمعِ عيني كفيض الغروب
بانوا وفيهم طفلة حرة تفتر عن مثل أقاحي الغروب
فالغروب في البيت الأول لوفت المغرب، وفي الثاني الدلاء جمع دلو، وفي الثالث للوهاد المنخفضة.
وكثيراً ما يساعد علي حدوث هذه الطفرة الدلالية أن اللفظ قد يكون قليل الشيوع، أو يقتصر استعماله علي أساليب معينة، ولا يقع في تجارب كثيرة، فتصاب دلالته بشئ من الغموض، ويصبح أكثر تعرضاً إلي الانحراف في الدلالة من الألفاظ الأخرى.
وليس سوء الفهم في الحقيقة إلا نتيجة تلك العملية الذهنية التي تسمي بالقياس الخاطئ ، والتي تلازم كلا منافي مراحل الحياة، فقد تتم بين الأطفال كما تتم بين الكبار. ذلك لأننا كثيراً ما نعتمد في فهم ما نسمع أو نقرأ من ألفاظ جديدة علي ما سبق لنا سماعه واختزانه من ذخيرة لفظية، وما سبتي أن تلقيناه عن طريق المشافهة، وما تعلمناه من لغة أهلينا. فيقوم كل منا باستنباط الجديد علي أساس القديم، ولا يلجأ في استنباطه إلي غيره من الناس بل يحاول الكشف عنه بنفسه، لأن تجارب الحياة كثيرة جداً ومتشعبة جداً، وليس من الممكن أن تتاح الفرصة للفرد ليتلقي أو يشافه غيره في كل تجربة، وليس من الممكن أن يجد المرء في كل ظرف من يساعده علي الفهم ويوضح له الدلالة. ولذلك لا يري مفراً في بعض الظروف من الاعتماد علي نفسه، ومن القيام بتلك العملية الذهنية القياسية ، فيقيس ما لم يعرف علي ما عرف من قبل وبستنبط علي أساس هذا القياس، فيصيب في الستنباطه حينا ويعمل إلي الدلالة الصحيحة، ويخطئ حبنا آخر فيستخرج دلالة جديدة قد تصادف الشيوع والذيوع بين الناس. ولا يتوقف المرء عن الكلام بكل جديد قبل سماعه من غيره وقبل تلقيه عنه، بل تحتم عليه ضرورة الاتصال بمجتمعه، والتعاون مع أفراده، أن يتكلم وأن يظل يتكلم ما بقيت فيه الحياة.
فالأطفال وهم يعبثون بألاعيبهم قد يقابلون جزءاً من أجزاء إحدي اللعب ويرون أهميته، ويدركون وظيفته، وهم مع هذا لم يسمعوا له اسماً، ولم يلقنوا له
ص105
لفظاً. وهنا نراهم لاينصرفون عن لعبهم بغية السؤال عن هذا الاسم، ولا يترددون في استنباط اسم له غير المألوف لدي أهليهم فيسمون «الفرملة» مثلا بالوقافة، ويقال حينئذ إن عملية ذهنية قد تمت فأنتجت ذلك القياس الخاطئ ، وأنتجت معه لفظا لم يسمعه الطفل ممن حوله، بل استخرجه بنفسه قياساً علي ما سمع وعرف من قبل.
وكذلك الكبير قد يجلس وحده يقرأ في كتاب ما، ثم تصادفه كلمة لم يسمعها من قبل فيحاول استنباط دلالتها، وقد يصيب، وفد يخطئ. وليس بين الناس من يتحرج في استنباط الدلالات، أو يجلس إلي القراءة وعن يمينه معجم من المعاجم وعن يساره أستاذ عالم مطلع. ليستعين بهذا أو بذاك في كل ما يعنّ له من ألفاظ جديدة !!.
ويفسر لنا القياس الخاطئ تلك الأخطاء التي نشهدها بين الطلاب والتلاميذ، حين نراهم ينحرفون بمعني كلمة «العتيد» إلي معني «العتيق»، و حين يظنون أن «المستشفي» أو «الرأس» كلمة مؤنثة.
2- بلي الألفاظ:
أما العنصر الثاني للاستعمال فنراه حين بصيب اللفظ بعض التغير في الصورة ويعادف بعد ذلك أن يشبه لفظاً آخر في صورته، فتختلط الدلالتان، ويصبح اللفظ مما يسمي بالمشترك اللفظي. فتطور «السين» في كلمة مثل «السغب» إلي حرف مناظر لها في المخرج والهمس «كالتاء» ينتج لنا صورة جديدة للكلمة تمائل تمام المماثلة كلمة أخري موجودة فعلا وتعني «الدون والوسخ» وهي كلمة «التغب» . ويترتب علي هذا التطور الصوتي تطور دلالي هو أن يصبح للفظ الواحد أكثر من دلالة واحدة.
دعنا نتجول قليلا مع كلمة «القماش» المألوفة لنا إلا « والتي تحل من نفوسنا محل الاحترام والاهتمام لاسيما حين نفسبها إلي الحرير أو الصوف ونقول الأقمشة الحريرية والأقمشة الصوفية !! هذه الكلمة نبحث عنها في معجم الفير وزيادي فلا نراه يذكر لها من المعاني إلا «القماش أراذل الناس، والقماش ما وقع علي الأرض من فتات الأشياء» !! غير أن الجوهري يذكر أيضاً أن من معاني «القماش» متاع البيت؟!
و يا ما كانت دلالة هذه الكلمة علي حسب ما جاء في المعاجم العربية القديمة، فإننا
ص106
لا ندري كيف تطورت تلك الدلالة حتي صارت علي النحو المألوف لنا الآن. وإذا صح ما يرويه بعض الدارسين (1) للألفاظ الدخيلة من أن هذه الكلمة مأخوذة من كلمة فارسية هي «كماش» بمعني نسيج من قطن خشن، تكون الكلمة العربية الأصلية قد نطقت قافها «جافا أو كافا» لسبب أو لآخر، فأشبهت الكلمة الفارسية، وانصرفت دلالتها إلي الدلالة الفارسية بمعني النسيج.
كذلك أغلب الظن أن الذي ساعد كلمة «الخيشوم» التي تعني الأنف إلي أن تتطور فتصير في لهجات الكلام الآن بمعني «الغم» أن صورتها قد أصابها بعض البلي فاختصرت إلي «الخشم».
فكثيراً ما تتطور صور الكلمات، ويترتب علي هذا التطور تغير أو تطور في الدلالة. وقد يصل التطور في الصورة مداه، فتندثر الكلمة وتفني من الاستعمال، لاسيما إذا كانت قصيرة البنية. وبهذا يحدثنا فندريس فيؤكد لنا أن كلمة «....» اللاتينية التي معناها «الغم» قد اندثرت من اللغات الأوربية الحديثة التي انحدرت عن اللغة اللاتينية(2) .
3- الابتذال
العنصر الثالث للاستعمال هو «الابتذال» الذي يصيب بعض الألفاظ في كل لغة من اللغات لأسباب منها السياسي و منها الاجتماعي ومنها العاطفي.
أ- فنحن حين نتذكر أن بعض الظروف السياسية، قد تتطلب الحظ من ألقاب ورتب اجتماعية ندرك السبب في انزواء بعض الألفاظ التي تعبر عنها من اللغة. ولعل أقرب مثل لهذا هو إلغاء الألقاب والرتب في مصر، فاثروت كلمات مثل (باشا، بك، أفندي)، و غيرها من ألقاب تركية مرت بها تطورات في دلالتها، وانحط قدرها علي توالي الأيام، وصارت كلمة «أفندي» في آخر عهدها ذات قدر تافه، وأصبحت أقل الرتب بعد أن كان لها خلال القرن التاسع عشر مركز هام و مكان مرموق.
ويحدثنا بعض الباحثين عن كلمة «الوزير» العربية التي أصبحت
ص107
في الإسبانية لا تعني أكثر من «الشرطي» ، وفي الإيطالية «مساعد عشماوي» (3) .
ومثل هذا يمكن أن يقال عن كلمة «الحاجب« التي كانت تعني في الدولة الأندلسية «رئيس الوزراء» ، ثم صارت علي النحو المألوف الآن.
ويترتب علي هذا الابتذال عادة أن تنحط الدلالة، أو أن تنزوي الكلمة وتندثر، قلا تجري علي الألسنة، ولا ترد في الاستعمال. وكان بعض علماء العربية يشيرون في ثنايا كتبهم إلي هذا الابتذال إشارة عابرة لدي الحديث عن بعض الألفاظ دون عنايه بظروفه أو أسبابه، كأن يقولوا مثلا إن كلمة «خش» بمعني «دخل» كلمة مبتذلة رغم أنها عربية صحيحة. وقد اكتفوا بتتبع بعض الألفاظ التي جرت كثيراً علي ألسن العامة والجهلة أو السفلة من القوم ووصفوها بهذا الوصف.
ب- ولعل أوضح الأسباب في ابتذال بعض الألفاظ، تلك التي تتصل بالناحية النفسية العاطفية، وذلك كأن يكون اللفظ قبيح الدلالة ، أو يتصل بالقذارة والدنس، أو يرتبط بالغريزة الجنسية. فهنا نلحظ أن كل اللغات تفقد بعضاً من ألفاظها التي تعبر عن هذه النواحي، فتندثر تلك الألفاظ أو تنزوي، ويحل محلها لفظ آخر أقل وضوحاً في دلالته، وأكثر غموضاً أو تعمية.
فالشتائم والسباب ألفاظ شاء لها القدر أن تكتنف بظروف اجتماعية جعلت منها ألفاظاً قبيحة الدلالة، بغيضة إلي السمع واللسان. ولذلك كثيراً ما تتعرض للانزواء أو الاندثار.
وكذلك الألفاظ التي ترتبط بالقدارة والنجس نظل علي شيوعها حيناً من الدهر، بعده تصبح مبتذلة، وتنزوى أو تندثر من الاستعمال. حد مثلا كلمة «البريور» التي أصحت الآن قبيحة مبتذلة، والتي انزوت في استعمالها ، فلا نكاد نسمعها إلا بين العامة، أو الوسط الخاص حيث نزول الكلفة بين المرء ولداته، وفي مجال الفكاهة والدعابة بصفة خاصة. هذه الكلمة إذا صح أنها انحدرت عن الكلمة العربية الصحيحة التي نرد في المعاجم وهي [البربور بمعنى الحشيش من البر، والبربرة صوت الماعز وكثرة الكلام والجلبة والصياح] ، أقول إذا صح أنها انحدرت من هذه الدلالة لوحه الشبه بين المخاط والبر المجشوش، ولأنه يصدر من الأنف مع صوت كصوت المشاعر، أو عند كثرة الكلام والصياح، تكون الكلمة حينئذ قد أصابها من سوء الحظ ما أصابها،
ص108
فاشتهرت أولا في المعني العامي المألوف ، ثم ابتذلت لكثرة الاستعمال، وأصبحنا نستعيض عنها بكلمة أخري هي المحاظ. ولعل فيما ورد بمعجم الفير وزبادي من قولهة: [والبرابير طعام يتخذ من فريك السنبل والحليب] ما يؤيد أن الدلالة العامية المألوفة لهذا اللفظ قد انحدرت عن اصل عربي ثم ابتذلت.
و كذلك حين يقارن بين كلمتين عربيتين بمعني واحد هما [المدة والصديد] تري أن الأولي أصبحت الأن مبتذلة، وأو شكت علي الانزواء من الاستعمال، ويحل محلها الآن كلمة «الصديد» التي لاترال تحتفظ بقدر من الاحترام والاحتشام في الوسط الاجتماعي.
ومن الألفاظ الدائمة التطور والتغير في دلالتها تلك التي تشير إلي التبول والبرز فلا يكاد اللفظ منها يشيع حتي يمجه الذوق الاجتماعي، وتأباه الآداب
العامة فيستعض عنه بآخر من نفس اللغة أو من لغة أجنبية. ويكفي لتوضيح هذا أن نستعرض الألفاظ الآنية:
الكنيف، الششمة (كلمة فارسية) ، الكرسي، المستراح، بيت الراحة، بيت الأدب، المرحاض، الكابنيه (كلمة أوربية).
فإذا عرضت اللغات للناحية الجنسية وما يتصل بها رأينا التطور الدلالي أسرع، وشهدنا أن الكناية والتعمية مطلوبة مستحبة. فلأعضاء التناسل في كل لغة كلمات مبتذلة وأخري محترمة، وللعملية الجنسية في كل لغة كلمات مفضوحة ينفر منها الناس، وأخري معماة مكنية يقبلون عليها.
وكذلك كل مايتعلق بالزنا أو هتك العرض أو العربدة، بل بلغ الأمر ببعض اللغات أن أصبحت تكنى عن أسماء الزوجة، وعن الملابس الداخلية للإنسان، مما هو معروف شائع. وقد كني القرآن الكريم عن العملية الجنسية بألفاظ كريمة هي: السر، الحرث، والإفضاء، والمباشرة، والملامسة، والدخول، الرفث: «نساؤكم حرث لكم» ، (من نسائكم اللاتي دخلتم بهن) «أولا مستم النساء» ، «أجل لكم ليلة الصيام الرفث إلي نسائكم» ، «فالآن باشروهن في المضاجع» ، «و كيف تأخذونه وقد أنضي بعضكم إلي بعض» ، «ولكن لا تواعدوهن سراً» ، «فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا».
وتكنى عنها العامة بالنوم، والاستحمام، والاجتماع، وأصبحوا يتحاشون كلمة «النكاح» التي لم تكن تعني سوي الزواج. ثم ارتبطت في أذهان العامة
ص109
بالعملية الجنسية ارتباطاً وثيقاً، وقد كانت لاتستعمل فيها إلا عن طريق الكناية المقبولة لدي العرب القدماء.
ج- ومن أوضع الألفاظ التي ..ستبين منها الضعف الإنساني تلك التي تتصل من قريب أو بعيد «بالموت والأمراض»، أو بالأشباح والعالم الروحي.
فهي ألفاظ تثير الخوف والملع في نفوس البشر، فينفرون من سماعها. ويتفادون ذكرها، فراراً مما تبعثه في الأذهان من كوارث أو مصائب أو آلام.
و تتعرض الألفاظ التي تعبر عن هذه النواحي إلي التغير الدائم ، والتطور السريع، فمنها ما يندئر غير تارك بعده اثراً، ومنها ما ينزوي ويصبح نادر الاستعمال. وفي كلتا الحالتين نري الناس يستعيضون عن تلك الألفاظ بأخري تحت إليها بسبب من الأسباب، وتعبر عن نفس الدلالات في أناة ورفق لا يفزع منها السامع أو يتشاهم ، لأنها تنطي الدلالة بغلالة رقيقة تقلل من وضوحها، وتحد من تأثيرها في الأذهان.
وتقوي هذه الظاهرة في البيئات البدائية، حيث يلعب التفاؤل والتشاؤم والتطير دورا خطيرا في حياة الناس، ولكن أثرها يبدو في كل لغة، وفي كل مكان أو زمان.
فكلمة «الهلاك» لم تكن تعني في الاشتقاق السامي القديم سسوي مجرد «الذهاب» ، ولا تزال تحتفظ بهذه الدلالة في اللغة العبرية، ولكنها في العربية تطورت وحلت محل «الموت» التي اكتسبت فدرا كبيرا من فوة الدلالة ووضوحها حتي أصبح من الضروري البحث عن غيرها فكان أن وحدت كلمة «الذهاب» التي كني بها عن الموت، كما وجد ذلك الاستعمال المعروف «نوفي» ، أو «فاضت روحه» ، أو «انتهي» ، أو غير ذلك من ألفاظ أقل شيوعا وأقل أثرا في النفوس.
وليس منا من لا يعلم مسلك الناس في الأرياف إزاء أسماء الأمراض وتكفيتهم عنها بأخري خيرة الدلالة، فالحميَّ لديهم قد تسمي «بالمبروكة» أو لا يكون لها اسم معين، بل يسكتفي بالإشارة إليها بذلك التعبير السامي «اللي ما تتسمي»!
ولأسماء العفاريت والجن والشياطين رموز أخري مكنية أو معماة، ولأسماء الهوام والحشرات السامة كمنايات تشير إليها إشارة بعيدة تفاديا لشرها و سمومها.
وسرّ كل تلك التكنية أو التعمية هو ما استقر في ذهن الإنسان منذ القدم من الربط بين اللفظ ومدلوله ربطاً وثيقاً، حتي إنه يعتقد أن مجرد ذكر الموت يستحضر الموت، وأن النطق بلفظ الحية يدعوها من جحرها، فتنهش من ناداها أو ذكر اسمها.
ص110
قد سيطرت تلك العقيدة علي عقول كثير من أبناء الأمم البدائية، حتي أصبحوا لا يفرقون بين الشئ واسمه، ويتصورون أن المرء يتكون من الجسم والروح والاسم.
وقد حدثنا كثير من المغامرين الدين اتصوا بتالك الأمم البدائية ودرسوا عاداتهم وتقاليدهم عن أمور غريبة عجيبة يؤمنون بها، وكثير منهاي عزي إلي ذلك الربط الوثيق بين اللفظ وللدلول. ... بعض هؤلاء القوم يأبي الفرد منهم أن يطلع أجنبياً علي ...سمه حشية أن يمتلك جزءا من كيانه فيتغلب عليه. ولاتزال آثار تلك العقائد القديمة سائدة في بعض بيئاتنا حين يستعان باسم الأم و اسم الشخص في السحر وارقي رغبة في النيل منه أو السيطرة عليه (4) .
وليس تفادي الأسماء أو تحاشيها مقصوراً علي الشعور بالخوف منها أو الاشمئزاز من ذكرها، بل قد يكون أحياناً للهيبه وشدة الاحترام، وذلك حين بتحاشي الصغير ذكر اسم أبيه أو معلمه أو رئيسه ويكني عنه بكلمة أخري وقد بلغ هذا الاحترام والإجلال لدي بعض الأمم أن أصبح ذكر اسم الرب أو الإله محظوراً محرما. فاليهود لا ينطقون باسم الرب «يهوفا» ، ويستعيضون عنه بكلمة أخري معناها «السيد» هي «أدناي» كلما عرضت لهم كلمة «يهوفا» في أثناء القراءة أو الترتيل.
ويترتب علي كل ما تقدم أن ألفاظاً تحل محل أخري، وأن بعض كلمات اللغة تكتسب دلالات جديدة، وتفتقل إلي مجال غير الذي عرفت به وشاعت فيه. وتتم تلك العملية التطورية في الدلالات في صورة تدريجية تستغرق زمناً طويلا. وليس المسئول عنها فرداً بعينه، بل تعزي إلي المجتمع في البيئة اللغوية.
ص111
_________________
(1) الفس طوبيا المنيسي الحلبي اللبنائي في كتابه تفسير الألفاظ الدخيلة في اللغة العربية سنة 932.
(2) اللغة ص 272 .
(3) The Story of Language. P. 147.
(4) راجع فندريس في كتابه «اللغة» ص 247، 280 . وكذلك جسبرسن في كنايه ص 184 Markind, Nation & individual.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|