أقرأ أيضاً
التاريخ: 23-8-2017
196
التاريخ: 2-9-2017
262
|
تغير مجال الاستعمال
وذلك هو ما يسمي «بالمجاز» ، وقد تحدثنا عنه آنقاً، ولم يبق إلا أن نشير إلي أن هذا النقل من مجال إلي آخر سواء كان عن عمد أو عن غير عمد، له مبرراته ودوافعه التي تتلخص في الأحوال الآتية:
أ- توضيح الدلالة:
وجعل الصورة الذهنية من الجلاء والصقل بحيث لا تترك مجالا للوهم أو الشك. ويكون هذا عادة حين تنتقل الدلالة المجردة إلي مجال الدلالات المحسوسة الملموسة. وهي عملية أشبه بتحميض الصور الشمسية لتوضيح معالمها. فبعد أن كانت الدلالة لا تدرك إلا إدراكا عقلياً بعيداً عن الحواس أصبحت مما يري ويسمع ويلمس ويشم، وسهل علي الأذهان القاصرة أن نفهم مدلولها، و أن تبين حدودها ومعالها، بعد أن كانت مجرد فكرة عقلية قد يضل الذهن في حدودها.
وتلك عملية تصويرية يلجأ إليها الأدباء، والموهوبون من أهل الفن، لتحلية الصورة الذهنية وصقلها أمام قرائهم ، والمطلعين علي إنتاجهم الفني فالرسام والمصور حين يعبر لنا يريشته وألوانه عن بعض المعاني المجردة: كالحنان أو الحقد أو الصبر أو البخل أو الطموح، يتخير لنا صوراً نراها ونكاد نلمسها، ولايزال يبرز من معالمها بحسن ألوانه حتي يصبح المجرد محسوساً ملموساً.
وكذلك الأديب أو الشاعر حين يريد أن يوضح سيطرة البخل أو الطموح علي انسان ما، قد يلجأ إلي الدلالات المحسوسة يلتمس منها وسائل الإيضاح والتجلية حتي يتم له ما يبغي من قوة التأثير في عواطفنا، والانفعال بنصوص أدبا أو شعره. فالشاعر الذي أراد أن يصف لنا كيف قضي علي «ضغن » أقربائه وحسدهم له فقال:
وذي رحم قامت أظفار ضغنه بحلمي عنه وهو ليس له حلم
قد استعان علي تجلية «الضغن» بصورة بشعة لحيوان له أضفار ومخالب مخيفة. تلك عملية فنية عاطفية أكثر منها عقلية، وللشعور الفني فيها كل الأثر، وليس للعقل أو التفكير الفلسفي مساهمة تذكر في مثل هذا النقل. فلا يكاد الفيلسوف يحاول في تفكيره نقل الدلالة المجردة من مجالها إلي مجال المحسوسات. وكأنما قد أحس في
ص123
نفسه القدرة علي فهم تلك الدلالات المجردة، وتحديد معالمها دون الاستعانة بالملموس المحسوس.
وأوضع ما تكون تلك العملية فيما يسمي بالكنايات الأدبية كأن يكني عن «الكرم» بكثرة الرماد، و عن «التذلل» بإراقة ماء الوجه ...الخ.
فنقل الدلالة المجردة إلي المجال المحسوس مما يمهر فيه الأدباء والشعراء وأصحاب الخيال، وهو كثير الورود في الأدب العربي، وهو الذي يستحق أن يسمي بالمجاز البلاغي.
ب- رقي الحياة العقلية:
يجمع الباحثون (1) في نشأة الدلالة علي أنها بدأت بالمحسوسات، ثم تطورت إلي الدلالات المجردة بتطور العقل الإنساني ورقيه. فكما ارتقي التفكير العقلي جنح إلي استخراج الدلالات المجردة وتوليدها والاعتماد عليها في الاستعمال. وهنا نلحظ أن الدلالة تنتقل من مجال المحسوس إلي مجال الدلالات المجردة، ويمكن تسمية هذه الظاهرة بالمجاز أيضاً، ولكنها ليست ذلك المجاز البلاغي الذي يعمد إليه أهل الفن والأدب، فلا يكاد يثير دهشة أو غرابة في ذهن السامع، فليس المراد منه إثارة العاطفة أو انفعال النفس، بل هدفه الأساسي الاستعانة علي التعبير عن العقليات والمعاني المجردة.
فهو لهذا يعد مرحلة تاريخية متميزة لتطور الدلالة عند الأمم، في حين أن المجاز البلاغي لا يتوقف وجوده أو شيوعه علي تطور العصور التاريخية، بل يتوقف علي ما يشيع بين الناس من جنوح إلي العاطفة والخيال، أو من حذة في المزاج والانفعال النفسي في عصر من العصور.
ويتم انتقال الدلالة من المحال المحسوس إلي المجال المجرد يتم عادة في صورة تدريجية، وتظل الدلالتان سائدتين جنبا إلي جنب زمنا ما، خلاله قد تستعمل الدلالة المحسوسة، فلا تثير دهشة أو غرابة، وتستعمل في نفس الوقت الدلالة المجردة فلا يدهش لها أحد وليست إحداهما حينئذ بأحق وأولي بالأصالة من الأخرى، حتي يمكن أن تعد إحدى الدلالتين مما يسمي بالحقيقة، والأخرى مما يسمي بالمجاز، إذ لا مجاز ولا حقيقة بينهما في مثل هذه الحال.
ص124
ثم قد تنزوي الدلالة المحسوسة في ركن صغير من أركان الدلالة الأصلية، ونعثر عليها حينئذ في بعض النصوص القديمة المتحجرة، أو الأمثال في صورة نفس اللفظ أو بعض مشتقاته وقد تندثر الدلالة المحسوسة، ويصعب حينئذ الاستدلال علي أصلها.
فاذا عرفنا مثلا أن المعاجم العربية نقص علي أن «الرطانة» هي الإبل مجتمعة، وطبيعي أن يصدر عنها حينئذ أصوات مبهمة يشبه بعضها بعضاً، ولا تكاد الأذان تميز منها لفظاً أو ما يشبه اللفظ، ولا جملة أو ما يشبه الجملة، تصورنا لهذا أنه من الممكن أن تنتقل هذه الدلالة إلي التعبير عن كل كلام مبهم بلغة أجنبية لا يستبين منه السامع شيئاً، وأن تصبح «الرطانة» ذات دلالة جديدة مجردة هي علي حسب ما جاء في قاموس الفيروزآبادي: «الكلام بالأعجمية».
وقد مره عهد علي لفظة «الرطانة» كانت نستعمل فيه لهاتين الدلالتين ، وبنسبة تكاد تكون واحدة. ثم كان أن كثر شيوع الدلالة المجردة ولم نعد نري «الرطانة» بالمعني المحسوس، أي الإبل مجتمعة مع رفاقها، إلا كقطعة متحفية في ثنايا المعاجم العربية القديمة.
وقولنا إن «الرطانة» بمعني الكلام بالأعجمية قد انحدرت من «الرطانة» بمعني الكلام بالأعجمية قد انحدرت من «الرطانة» بمعني الإبل مجتمعة، لا يعدو أن يكون فرضاً ترجيحه الصلة الملحوظة بين الدلالتين. وليس لدينا أدلة قاطعة علي هذه الصلة تؤكد لنا هذا الفرض بما لايدع مجالا للشك؛ لأن تاريخ الألفاظ غامض، والملابسات التاريخية في تطور دلالاتها قد نسبت، وأصبح من العسير الاستدلال عليها. فليست الألفاظ ملوكا أو حكاماً ليعني الناس بتاريخها، أو ليؤرخوا مراحل تطورها. ولهذا لا نغالي فنسلك مسلك الاشتقاقيين من الربط بين الدلالات لمجرد الاشتراك في لفظ من الألفاظ. لأن الاشتراك في اللفظ قد لا تكون له أية أصالة، بل هو مجرد مصادفة نشأت عن قالت لنا المعاجم إن لكلمة «السفاهة» دلالتين هما:
(1)حفة الحلم أو الجهل.
(2) وصف للطعنة حين يسرع منها الدم ويجف، فليس من الضروري أن تربط بين الدلالتين ، وأن نجعل إحداهما أصلا والآخر فرعا له. فمن الممكن أن «السفاهة» التي هي وصف معين للطعنة كانت لها صورة أخرى تختلف في حرف أو أكثر، وأنها تطورت صوتيا لسبب ما، فأخذت هذه الصورة التي تصادف أن
ص125
ماثلت كلمة «السفاهة» بمعني الحمق. فمن يدري لعله كان في قديم الزمان كلمتان مختلفتان في البنية والمعي هما: السفاهة بمعني الحمق، و«الزباهة» بمعني الطعنه التي يجف دمها، ثم تطورت «السفاهة» صوتيا، وأصبح لها صورة جديدة هي «السفاهة» ، فكان الربط بين الدلالتين من أجل هذا التطور الصوتي.
وتبدو مغالاة الاشتقاقيين حين يربطون بين الدلالات لمجرد الاشتراك في الحروف الأصلية، أو المادة الأصلية للاشتقاق. فعندهم مثلا أن «إبليس» مشتق من «أبلس» ، و «جهنم» مشتقة من «التجهم» !! وعندهم كذلك أن «الخيل » من الخيلاء، وأن رحم المرأة من الرحمة.
أما المحدثون من اللغويين فيلتزمون موقفاً معتدلا في الربط بين الدلالات حين يكون الاشتراك في الصورة غير نام، فيقولون مثلا: إذا كان لابد من الربط بين «الخيل والخيلاء» فمن الواجب اعتبار كلمة «الخيل» هي الأصل، وأن دلالتها المحسوسة هي التي ولدت لنا بعد ذلك دلالة مجردة في صورة «الخيلاء» ، وكذلك الواجب اعتبار كلمة «الرحم« هي الأصل وأن دلالته المحسوسة قد تطورت إلي دلالة مجردة هي ما نألفه في كلمة «الرحمة».
ومع أن المحدثين ينادون بوجوب الحيطة والحذر والاعتدال في الربط بين الدلالات، لا يشكون في أن كثيراً جداً من الألفاظ التي تعبر عن دلالات مجردة قد انحدرت إلينا من دلالات محسوسة؛ ويكفي أن نستعرض ما جاء في المعاجم العربية من كلمات مثل [الحقد، المدح، القلق، النفاق، الشجاعة، الكره، الضغينة، المداهنة، الشؤم، التفاؤل، الذكاء،؛ الأفن، المجد].
ليتضح لنا أن بعضها إن لم يكن كلها قد انحدرت عن دلالات محسوسة:
الحقد: حقد المطر احتبس، وحقدت الناقة امتلأت شحما!
المدح: مدحت الأرض والخاصرة اتسعتا!
القلق: الحركة والاضطراب ، ومن هنا حاء الانزعاج!
النفاق: قالوا إنه من نافقاء اليربوع!!
الشجاعة: الأشجع هو الأسد، والشجع هو الطول!
الكره: الكريهة الأرض الغليظة الصلبة أو الحرب!
الضغينة: ضغن الجمل إبطه؟ فهل كان حقدهم تحت آباطهم؟!
ص126
المداهنة: هل تمت المداهنة بمعني النفاق إلي «الدهن» بصلة ما؟
الشؤم: ضد اليمن ، والسود من الإبل، فهل هو شؤم لأنه يتصل بناحية اليسار المشئومة لدي العرب، أو لسوا لونه كالإبل السوداء؟!
التفاؤل: الفئال ككتاب لعبة الصبيان يخبئون الشيء في التراب، ثم يقتسمونه ويقولون في أيها هو؟
الذكاء : ذكت النار اشتد لهبا!
الأفن: قلة اللبن، فهل منه جاء الأفن بمعني السنه؟!
المجد: من معانيه امتلاء بطن الدابة من العلف. وليس النقل بين الدلالات مقصوراً علي ما تقدم من نقل الدلالة المجردة إلي مجال المحسوسات أو العكس، بل قد يتم بين المحسوسات بعضها مع بعض لصلة بين الدلالتين في المكانية أو الزمانية، أو اشتراك في جزء كبير من الدلالة، فهناك ألفاظ كثيرة لوحظ تطورها في الدلالة؛ فانتقل كل منها من دلالته إلي دلالة أخري تشترك معها في المكان مثل «الذقن» حين تستعمل في خطاب الناس بمعني «اللحية» ، ومثل «الشنب» حين يطلقونه علي الشارب مع أنه يريق الأسنان، ومثل «السماء» التي تروي المعاجم أن من معانيها السحاب والمطر.
أو تشترك معها في الزما مثل «الشتاء» بمعني المطر في خطاب المصريين وكلامهم.
كذلك حين تطلع علي ما ورد في قاموس الفيروزآبادي من حديثه عن كلمة «العشاء» نري أنه لم يكد يحدده بوقت معين، ونشعر من النص القاموسي أن «العشاء» قد تأرجحت دلالتها بين ثلاثة أزمنة متصلة من اليوم إذ يقول: [إن العشاء أول الظلام، أو المغرب إلي العتمة، أو من زوال الشمس إلي طلوع الفجر]. فلعل «العشاء» في الأصل كانت مخصصة لزمن من هذه الأزمنة، ثم انتقلت دلالتها في بيئات عربية مختلفة إلي الزمنين الآخرين للتقارب في الناحية الزمانية.
أو تشترك الدلالتان في بعض المعني مثل «النبيل» حين يستعمل بمعني «الشريف» أو العكس، رغم أن «النبل» هو «النجابة» ، والشرف هو «العلو» .
ومثل «النبيه» حين يستعمل في خطاب الناس بمعني «الذكي» رغم أن النباهة هي الشهرة؛ وكذلك حين يستعملون «الشجرة» مكان «النخلة» أو العكس؛ وحين
ص127
يستعملون «الطير» بمعني «الدبان»
والألفاظ التي تشترك في بعضي المعني. تشبه عادة بالدوائر المتقاطعة التي تشترك في أجزاء متفاوتة من سطوحها، والتي يجعلها الاستعمال في دوران مستمر علي الألسنة. وهي في دورانها و حركتها قد يتصادف أن إحداها تنطبق علي أخري تمام الانطباق، ويصبح للدلالة الواحدة لفظان، أو بعبارة أخري يقال حينئذ إن إحدى الكلمات قد انتقلت من مجالها إلي مجال آخر، واتخذت دلالة جديدة تمت للدلالة السابقة ببعض الصلة.
وأوضح ما تكون هذه الظاهرة في الصفات والنعوت التي تتضمن عادة دلالات مجردة غير واضحه المعالم والحدود في أذهان كثير من الناس.
وكان العربي يعبر عن الشيء الفريد الذي لا نظير له بكلمة «اليتيم» ويعبر عن «الأزرق» بكلمة الأخضر فيقول في وصف الأمواج: «متي لجج حصر لهن نئيج» ف وبعبر عن العيون الخضر بالعيون الزرق.
ولذلك جاء تفا معظم الكلمات التي قيل عنها إنها مترادفة في صورة صفات ونعوت فإذا قال صاحب جواهر الألفاظ إن [الدنيء. اللئيم، الخسيس، الزنيم، المهين، الوتح ف الوضيع. الضعيف. الخامل. الساقط. الرذل. النذل] (2) كلها بمعني واحد تصورنا دنها كلمات تشترك في جزئ كبير من المعني، وإن تفاوت هذا الجزء الذي تشترك فيه. وهي لهذا تشبه الدوائر المتقاطعة التي يحركها الاستعمال في دوران مستمر، حتي يتصادف أن تنطبق إحداها علي أخري تمام الانطباق، وهنا يكون الترادف الحقيقي بمعناه العلمي الدقيق.
ص128
عنيئا إذن في الحديث عن نقل الدلالة من مجال إلي آخر أن نتذكر كل ماتقده ، وأن نتذكر معه ذلك النقل المتعمد الذي تتطلبه مستحدثات الحياة من منشآت و مخترعات جديدة كنقل [السيارة والقاطرة والقطار] من مجالها القديم إلي محال حديث دعت إليه الحضارة ومستلزماتها.
ص129
_______________
(1) Language by Bloomtield. P. 429.
(2) جواهر الألفاظ لقدامة بن جعفر ص 38.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|