أقرأ أيضاً
التاريخ: 13-10-2014
1675
التاريخ: 26-02-2015
19151
التاريخ: 2024-09-02
230
التاريخ: 24-04-2015
1514
|
يقدّم الفكر القرآني للإمام الخميني عددا من المداخل تتكامل فيما بينها للتدليل على الحاجة إلى التفسير والحث عليه ، نختار منها ما يلي :
أ- القراءة المتدبرة.
ب- البعد العلمي والنظري .
ج- نيل مقاصد القرآن .
د- حق المتعمقين .
أ- القراءة المتدبرة
لقد انطلق القرآن من شعار اقرأ : «كانت القراءة هو ما
أوصت به أوّل آية نزلت على النبي» (1) ، وحثّ
على التعلم منذ البداية : «إنّ أوّل آية نزلت على الرسول الأكرم بحسب الرواية والتاريخ
، هي آية : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ، فهذه
أوّل آية تلاها جبرائيل على الرسول الأكرم بحسب النقل ، حيث تم الحث ومنذ البداية
من خلال قوله : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي
خَلَقَ} [العلق : 1] على القراءة والتعلّم» (2).
هذا من حيث المنطلق العام في المنهج الإسلامي العلمي.
أمّا بشأن القرآن خاصة فللإمام كلام مستفيض في الكشف عن تأكيد الإسلام على مزاولة
القراءة المتدبرة والحث على معرفة معاني القرآن وأسراره ، منها قوله : «أحد وصايا
الرسول الأكرم صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وصيته بتلاوة القرآن». إنّ فهمنا القاصر
لا يستوعب فضل تلاوة القرآن وحفظه والتمسك به وتعلمه والمداومة عليه ومزاولته والتدبر
في معانيه وأسراره ، فذلك كلّه ممّا يتخطى حدود فهمنا القاصر. ثمّ إنّ ما جاء عن
أهل بيت العصمة عليهم السّلام بهذا الخصوص لا يمكن استنفاده في هذه الأوراق ، لذا
سنقتصر على بعضه.
في «الكافي» بإسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام ، قال
: «القرآن عهد اللّه إلى خلقه ، فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده ، وأن
يقرأ منه في كلّ يوم خمسين آية» (3).
وبإسناده عن الزهري ، قال : سمعت علي بن الحسين عليهما
السّلام يقول : «آيات القرآن خزائن ، فكلّما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر ما
فيها» (4).
ما يستفاد من هذين الحديثين هو مدح التدبر في الآيات والتفكر
في معانيها ، وإنّ عملية التدبر في الآيات الإلهية المحكمة والتفكر بها ، وفهم
المعارف والحكم والتوحيد منها هو غير التفسير بالرأي المنهي عنه ، الذي يلتجئ
إليه أصحاب الرأي والأهواء الفاسدة ، بدون التمسك بأهل بيت الوحي المختصين بمخاطبة
الكلام الإلهي ، كما ثبت ذلك في محله ممّا لا يناسب تفصيله في هذا المقام.
يكفينا في هذا الشأن قول اللّه تعالى : {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ
أَقْفَالُهَا} [محمد : 24]. كما وردت في الأخبار أحاديث كثيرة تأمر
بالرجوع إلى القرآن وتحث بالتدبر في معانيه ، حتّى نقل عن الإمام أمير المؤمنين
عليه السّلام ، قوله : «ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر (5)» (6).
في الفكر القرآني للإمام ، المطلوب أن يتحول التدبر في
القرآن والتفكير في معانيه إلى ملكة ، حتّى تنفتح على الإنسان أبواب الرحمة ، وتتوالى
عليه المعاني ، ويكون القرآن له شفاء. بمعنى أنّ التفكير ممدوح في نفسه ، لكن
المقصود أن يتحول إلى وسيلة لبلوغ مقاصد الكتاب.
يكتب الإمام في فصل خاص عن فريضة التفكير القرآني : «من
الآداب المهمة الاخرى لقراءة القرآن التفكّر. والمقصود من التفكّر هو أن يبحث عن
المقصد والمقصود من الآيات الشريفة» (7). وسيأتي
أنّ الإمام يعدّ الوظيفة الأساسية للمفسر هو الكشف عن مقاصد القرآن ، حتّى اشتهر
عنه قوله : «عند ما يعرّفنا المفسر المقصد من النزول يكون مفسرا ، لا سبب
النزول» (8). عندئذ يكون من الطبيعي أن
تحتاج عملية التفكير بالقرآن وتدبره إلى التفسير بوصفه كاشفا عن المقصد والمقصود
من الآيات ، والتفكير إنّما يرمي بلوغ هذه المقاصد.
يكتب الإمام في الفصل المذكور نفسه من كتاب «آداب
الصلاة» : «و قد كثرت الدعوة إلى التفكر وتمجيده وتحسينه في القرآن الشريف ، قال
تعالى :
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ
الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}
[النحل : 44]. في هذه الآية مدح عظيم للتفكر ، لأنّ احتمال التفكر قد جعل غاية
لإنزال الكتاب السماوي العظيم والصحيفة النورية الجليلة ، وهذا من شدة الاعتناء به
حيث أنّ مجرد احتماله صار موجبا لهذه الكرامة العظيمة.
قال تعالى في آية اخرى : {فَاقْصُصِ
الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف : 176]. إنّ الآيات في
هذا القبيل أو ما يقرب منه كثيرة ، كذلك كثيرة هي الروايات الحاثّة على التفكّر.
فقد روي عن الرسول الخاتم صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه لما نزلت الآية الشريفة
: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ ...} [آل عمران : 190]
إلى آخرها ، قال صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : «ويل لمن قرأها ولم يتفكّر فيها».
الأساس في هذا الباب أن يفهم الإنسان ما هو التفكر
الممدوح ، وإلّا لا شك في أنّ التفكّر ممدوح في القرآن والحديث. وأحسن التعبير عنه
ما جاء عن الخواجة عبد اللّه الأنصاري قدّس سرّه ، في قوله : اعلم أنّ التفكر تلمس
البصيرة لاستدراك البغية» (9).
تنتهي هذه الفقرة إلى حصيلة تفيد أنّ التدبر في القرآن والتفكير
في معانيه يمليان الحاجة إلى التفسير من جهتين؛ من جهة أنّ التدبر يمر بالتفسير
بوصفه أحد مقدماته أو سبيل من سبل تحققه ، وكذلك من جهة أنّ الغاية المنشودة
للتفكّر هي معرفة المقصود القرآني ، ومعرفة مقصد الكتاب هي الوظيفة العامة التي
ينبغي للتفسير أن ينهض بها حسبما يرى الإمام.
على أنّ ما ينبغي تأكيده أنّ الإمام لا يحصر عملية
التدبّر بالقرآن والتفكير به في نطاق الممارسة التفسيرية وحدها ، إنّما يدخل
التفسير بالشروط التي يرتئيها الإمام له في مقدمات التدبّر أو يكون سبيلا من سبله.
في المقابل تتسع عملية التفكير كحالة وجودية عند الإنسان
لتشمل القرآن وغير القرآن ، لأنّ التفكير مفتاح كلّ معرفة ومن ثمّ فهو لا يقتصر
على المعرفة التفسيرية وحدها. يكتب الإمام : «اعلم أنّ للتفكر فضيلة كبيرة ، وأنّ
التفكّر مفتاح أبواب المعارف ومفتاح خزائن الكمالات والعلوم ، وهو مقدمة حتمية
لازمة للسلوك الإنساني ، لذلك ثمّ في القرآن الشريف والأحاديث الكريمة تعظيم بليغ
لشأوه وتمجيد كامل له» (10).
ب- البعد العلمي والنظري
يركّز الإمام في عدد من كتاباته وأحاديثه على ما ينطوي
عليه النص القرآني من بعد علمي وعمق نظري ، وعلى الظاهر والباطن ليتحدث تبعا لذلك
عن تعدد مراتب فهم القرآن ، كما يشير إلى مسألة المحكم والمتشابه والتأويل ووجود
الرمز ، لتأتي محصلة ذلك تأكيدا لعمليتي التفسير والتأويل وضرورة وجود مرجعية
بشروط ومؤهلات محددة لممارستهما.
في أحد نصوصه يكتب الإمام : «في القرآن أيضا ضربان من
الآيات ، أحدهما الآيات العملية التي ينبغي للجماهير أن تعمل بها ويتعين تطبيقها
في البلد.
و الثاني الآيات العلمية التي ليس لها هذه الصفة. ما
دامت الأحاديث والآيات التي تنتمي إلى الصنف الأوّل تتسم بالعمومية وقد جاءت من
أجل التطبيق ، فلا بد أن تكون على مستوى الفهم العام ، من دون أن يكون ثمّ منفذ
فيها إلى التأويل.
من الطبيعي أن يوضع القانون الذي جاء لبلد معين ، بصيغة
بحيث يفهمه أهالي ذلك البلد. أجل ، من الممكن أن تحتاج عملية توضيح القانون وتفصيله
إلى علماء ، بيد أنّ ذلك غير التأويل. أمّا الآيات والأحاديث التي ترتبط بالعلميات
ولا تنطوي على بعد عملي ، فليس من اللازم على المتكلم أن يتكلم بها على نحو يفهمه
الجميع ، بل لا يمكن بيان هذه الامور على مستوى الفهم الجماهيري العام» (11).
يوضّح الإمام هذا المعنى بمثال عرفي ، حين يضيف : «على
سبيل المثال لو أراد أحد الأطباء أن يكتب نسخة دواء لأهالي بلد معين يرتبط بحفظ
الصحة ، فلا مناص من أن يكتب بصيغة يفهمها الجمهور ، لأنّ هذه النسخة مطلوبة من
أجل العمل. لكن لو أراد أن يؤلّف كتابا علميا فلا يستطيع أن يكتبه بصيغة بحيث
يفهمه جميع الناس. فالكتاب الذي يرتكز إلى مجموعة من القواعد العلمية الدقيقة جدا
لا بدّ أن يكون لمجموعة خاصة من العلماء ، ولا يحق للآخرين التدخل في ذلك ، وإذا
ما كانوا عقلاء فلا يعترضون على المؤلف ، بقولهم : لم لا تكتب هذا الكتاب بصيغة
يفهمها الحمالون وباعة الأقمشة!» (12).
ينعطف بعد ذلك سماحته إلى التمييز بين مستوى الفهم العام
وبين مستوى الاختصاص ، من خلال النص التالي : «ما جاء في القرآن والحديث من قوانين
عملية لعامة الناس ، قد تمّ بيانه على نحو يفهمه الناس ، لكن علوم القرآن والحديث
لا يستطيع أن يفهمها كلّ إنسان ، كما أنّها لم تأت إلى الجميع ، بل هي رمز بين
المتكلم وجماعة خاصة ، تماما كما أنّ للدولة بعض البرقيات الرمزية التي ليس من
مصلحة البلد أن يكشف عنها ، بل لا تعرف عنها شيئا حتّى دائرة البريد نفسها ، فكذلك
في القرآن مثل هذه الرموز» (13).
على هذا ينتهي الإمام إلى ضرورة وجود المرجعية المختصّة
التي يحق لها أن تمارس مهام التفسير والتأويل على ما بين الاثنين من فرق بحيث لا
يجوز لأي أحد أن يلج هذه الدائرة من دون تأهيل. يكتب سماحته : «أجل ، لا ينبغي
لكلّ من هبّ ودبّ أن يتدخل في علوم القرآن والحديث ، والقرآن والحديث قد نهيا أيضا
عن مثل هذه التصرفات الجاهلة» (14). لقد كان
الإمام يرد في هذه النصوص على «حكمي زاده» مؤلف كتيّب «أسرار عمرها ألف عام» عبر
كتابه «كشف الأسرار» (15). والحقيقة أنّ هذا
الاتجاه الذي يمارس دوره تحت صيحات التجديد ويسارع إلى الإنكار الكلي بمجرد أن
يواجه إشكالا في الجزء- هذا على تقدير صحة الإشكال- لا يزال يعيش بين المسلمين في
جميع بلادهم.
لقد تمثّلت إحدى أبرز مشكلات هذا الاتجاه ولا تزال
بفقدانه للمعرفة المتخصصة فيما يتحدث به وعنه ، ومن ثمّ اضطراب معاييره ، من دون
أن يوفر لنفسه الرؤية الكاملة المتخصصة بالموضوع.
إذا ما قلت لهذا التيار إنّ القرآن مفهوم يبادر فورا
لإنكار التفسير ودوره ، وإذا ما واجه إشكالا في آية سارع للتعميم وحتّى الإنكار.
يواجه الإمام هذا التيار من موقع الإقرار بالمعرفة
المتخصصة على مستوى التفسير والتأويل ، ثمّ يتخطى ذلك كله إلى أنّ حركة الإنسانية
المفكّرة مع كلّ الشوط الذي قطعته ، وبرغم ما بلغه العلم الإنساني من رقي ، لا
تزال عاجزة عن إدراك أسرار الوجود من حولها ، فكيف باستنفاد كلمات اللّه : {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي
لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا
بِمِثْلِهِ مَدَدًا } [الكهف : 109].
يصف الإمام بعض مزالق هذا الاتجاه نتيجة جهله وإنكاره
للمعرفة القرآنية المتخصصة تفسيرا وتأويلا : «على هذا ينبغي أن نسقط القرآن عن
الاعتبار لمجرد أنّك لا تفهم بعض آياته وأنّها لا تتسق مع عقلك الناقص ، كما هو
الحال في كلام جميع الموجودات وتسبيحها ، وكلام النملة والهدهد ، وإحياء الموتى
على يد إبراهيم وعيسى ، وإحياء عزير وحماره وأمثال ذلك!
فإذن ، يتحتم على ضوء كلامك إمّا الإغضاء عن القرآن أو
أن يتم الاعتراف بأنّ العلم البشري ناقص ومحدود ، ليس له اطلاع على نواميس
الكائنات وأسرار الموجودات. وفي هذا العصر ، عصر العلم حيث شهد رقيا متزايدا لا
تزال مئات الوف أسرار العالم مجهولة ، حيث يعيش العالم بانتظار أن يأتي علماء كبار
كي يكشفوا عن بعض تلك الأسرار» (16).
الحصيلة أنّ في القرآن بعدا علميا وعمقا نظريا يملي
الحاجة إلى التفسير.
هذا الأمر لا يتناقض مع مقولات مرت للإمام وغيره من أنّ
القرآن جاء للجميع أو يفهمه الجميع ، إذ التعارض مرفوع على ضوء تعدد مراتب الفهم وامتدادها
بين حدّ أدنى يشتمل على الظهور اللفظي والمعاني المباشرة وبين حد أقصى ، كما يرتفع
على ضوء تكوّن القرآن من ظاهر وباطن كما سيجيء تفصيل ذلك لاحقا. على أنّه يستشف من
نصوص الإمام في هذا المضمار نتائج اخرى ، أهمها اثنتان :
الاولى : إنّ ابتعاد
المسلمين عن عصر نزول القرآن وتفشي ضرب من الأمية الفكرية والعلمية إزاء معارف
الدين عامة ومعارف القرآن خاصة ، يملي تصدي فئة للتفسير واختصاصه به ، من دون أن
يعني ذلك حصر الإفادة من القرآن ومعانيه عن طريق التفسير والمفسّرين وحده.
الثانية : ينم نص
الإمام الأخير عن الإشارة إلى ضرب من التفاعل بين كتاب التدوين (القرآن) ، وكتاب
التكوين (العالم). فكلّ كلمة جديدة تبرز في نطاق التكوين ، وكلّ خطوة تتحرك بها
الإنسانية على هذا الصعيد تعمق من وعي الإنسان في إدراك كتاب التدوين والغور في
معانيه (17) ، على الأقل في الجانب الذي
يرتبط بالمعرفة الآفاقية ومجالات التشريع وتدبير الحياة ، بل حتّى على صعيد
المعرفة الأنفسية.
هذا المعنى الذي يومض إليه النص الأخير للإمام ، يحتم
وجود فئة مختصّة تنهض بالمهمة وتمارسها على ضوء قواعد محددة ، ولا ريب أنّ التفسير
والمفسّرين هما أبرز مصداق على هذا الصعيد.
على أنّه يمكن أن نضيف إلى هاتين النتيجتين ازدهار
تيارات معاصرة تهجم على القرآن وكتب الحديث وما يرتبط بهما من مصنفات ، بمؤهلات
علمية متواضعة حتّى أنّ بعضها يفتقر للمعلومات العادية العامة في هذا المجال ، مع
أنّ : «فهم الأخبار وكتب العلماء يتطلب جهودا عظيمة. فتلك ليست كتب قصة ورواية
حتّى يتم الرجوع إليها وفهم شيء منها مزاجيا وكيفما كان. إنّ رجوعك [الخطاب إلى
مؤلف كتاب : أسرار عمرها ألف عام] إلى تلك الكتب هو تماما كرجوع الفلاح إلى
الفلسفة العالية ، أو مطالعة الحمامي للرياضيات العالية. إنّ فهم الكتب العلمية
يحتاج إلى التخصص» (18).
ترى هل يشذ القرآن عن القاعدة المذكورة في السطر الأخير
من النص أم أنّ شأن القرآن أقل من بقية كتب العلوم ومصنفات العلماء؟ ثمّ أ ليس
التفسير كمرجعية متخصصة ، تعمل في إطار قواعد وضوابط ، يمكنه أن يسهم في الحد من
هذه النزعات وما تثيره من اضطرابات وما تجرّ إليه من مزالق خطيرة على وعي المسلمين
لا سيّما الشباب؟
من الأمانة أن نكرر الإشارة ثانية إلى أنّ الإمام لا
يؤمن بأنّ معرفة القرآن تنحصر بالتفسير والمفسّرين ، لكن في النهاية لا بدّ وأن
تخضع أي معرفة- مهما كان سبيلها- إلى مقاييسها وضوابطها المعروفة. على أنّ إيمانه
بطرق معرفيّة اخرى لا يعني إلغاءه للتفسير وتنكّره له ، إنّما هدفه أن يميّز بين
التفسير وما هو خارج عن موضوعه لكي لا يتحول التفسير إلى سلطة تلغي الطرق الاخرى وتغلق
بقية أبواب معرفة القرآن ما خلا باب التفسير. فالتفسير ضرورة لكن على قدر موضوعه.
ج- نيل مقاصد القرآن
ملخص نظرية الإمام على هذا الصعيد أنّ القرآن يحتوي على
مقاصد ينبغي أن يكون هناك من يكشف عنها أو يبينها للآخرين إذا كانت مكشوفة ، ويشتغل
بعرضها وإيضاح تفاصيلها وبيان معانيها وما تدل عليه. وهذا ما ينهض به التفسير ، لأنّ
: «معنى تفسير الكتاب بشكل عام هو شرح مقاصد ذلك الكتاب ، وأهم ما فيه هو بيان
منظور صاحب الكتاب» (19).
إذن فالتفسير ضرورة تمليها الحاجة إلى شرح مقاصد القرآن
والتعريف بها ، على حسب الطاقة البشرية ، وإلّا فإنّ بلوغ الذروة في معرفة المقصد
وفهمه مختصّ بأهله. يقول الإمام : «للقرآن الكريم إشارات لطيفة جدا ، لكن لأنّه
جاء للعموم فقد قيل بصيغة بحيث يدركه الخواص كما يدركه عامة الناس أيضا. إنّ
القرآن الكريم مركز جميع ضروب العرفان ، ومبدأ كلّ المعارف ، بيد أنّ فهمه مشكل.
إنّ الذين فهموه هم : «من خوطب به» والأشخاص الذين اتصلوا برسول اللّه. فأولئك
يعرفون ما هي القضية ، وأولئك يعملون مقاصد الأنبياء. إنّهم يعرفون المقصد ، أمّا
نحن فبعيدون عنه ومهجورون. لكن حسنا ، إنّ عنايات الحقّ تعالى كثيرة ، فنحن
المهجورون يقبل منا على قدرنا ، لذا ينبغي أن نسعى صوب القرآن بحسب وسعنا؛ نسعى
إليه في العمل والعلم والأخلاق وفي بقية الامور ، وإذا ما سعينا [صوب القرآن ومقاصده]
بهذا المقدار فهناك جنات عدن» (20).
تنتهي هذه النقطة إلى أنّ للقرآن مقاصد ينبغي التوجّه
صوبها ، ومن المفروض أنّ التفسير هو الذي ينهض بهذه المهمة ، أو هو في الأقل أحد
السبل المؤدية إلى ذلك.
د- حق المتعمّقين
لا يختص القرآن وما فيه بقوم أو بعصر ، بل هو كتاب جميع
العصور : «إنّ اللّه هو مصدر القانون الإسلامي ، واللّه محيط بكلّ شيء وبجميع
العصور [و من ثمّ] فإنّ القرآن كتاب لجميع العصور» (21).
ثمّ إنّ : «القرآن مشتمل على جميع المعارف ، وكلّ ما
يحتاج إليه البشر» (22).
على ضوء هاتين المقدمتين يكون بمقدور الإنسانية في كلّ
عصر أن تستفيد من القرآن وتنهل من معارفه على قدر وسعها واستعدادها. بيد أنّ ذلك
لا يمنع الإسلام من تأكيد حق خاص للمتعمقين في آخر الزمان على وفق الإيمان بنظرية
تكامل الإنسانية ونضجها وسيرها على خط متصاعد على هذا المسار.
في كتابه «الأربعون حديثا» يخصّص الإمام الحديث الثاني
عشر لفضيلة التفكير والتفكّر ولمراتبه وضروبه ، ليشير في الأثناء إلى أحد
المرتكزات النقلية التي تسند فكرة المتعمقين في آخر الزمان ، حين يكتب : سئل علي
بن الحسين عليهما السّلام عن التوحيد ، فقال : «إنّ اللّه عزّ وجلّ علم أنّه يكون
في آخر الزمان أقوام متعمقون ، فأنزل اللّه تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ والآيات
من سورة الحديد إلى قوله : وهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فمن رام وراء ذلك فقد
هلك» (23). إذا ، يتضح أنّ هذه الآيات التي
تتضمن التوحيد وتنزيه الحقّ ، والبعث ورجوع الموجودات ، قد نزلت للمتعمقين وذوي
التفكير العميق» (24).
إنّ الرغبة في بلوغ العمق تستحث الإنسان على التفكير ، والتدبر
بآيات اللّه ، والاستعانة بذوي النظر الثاقب والتأهيل العلمي الرفيع ، وبتعبير
الإمام : «من الواضح أنّ هذا الحديث الشريف هو في مقام الحث على التعمق والترغيب
بالتفكر في هذه الآيات الشريفة. لكن لكلّ علم أهل ، ولكلّ ميدان فارس. فلا يحسبن
إنسان أنّه يستطيع بفكره أو على أساس الظهور العرفي استيعاب آيات التوحيد ، سواء أ
كانت في سورة «التوحيد» المباركة أو في هذه الآيات الشريفة أو آيات القرآن
الاخرى» (25).
لقد أشار الإمام إلى المعنى ذاته في كتاب آخر من كتبه هو
«آداب الصلاة» ، وعقّب على الحديث الشريف ، بقوله : «يتضح من هذا الحديث الشريف
أنّ فهم هذه الآيات الشريفة وهذه السورة المباركة ، هو حق المتعمقين وذوي الأنظار
الدقيقة ، وأنّ دقائق التوحيد والمعرفة وسرائرها مطوية فيها ، وأنّ الحقّ تعالى
أنزل لطائف العلوم الإلهية إلى أهلها» (26).
على هذا الضوء يتضح أنّ لحقيقة القرآن ومعارفه عمقا
علميا يستدعي المتعمقين للنفوذ إلى عالم القرآن والصيرورة في دائرته.
إنّ الرحلة إلى العمق ومقاربة مقاصد القرآن العالية ، وإن
كانت أوسع مدى من التفسير لا سيّما في نزعته الظاهرية التي تجمد على مدلولات
الألفاظ والمعاني السطحية وأوائل المفهومات ، وتقف عند أفق الفهم العرفي والعامي ،
إلّا أنّها تمرّ بالتفسير كمحطة من المحطات ، وتستدعي وجود مرجعية علمية مسئولة
على هذا الصعيد ، خاصة إذا أخذنا الأطوار الأرقى في التفسير التي تتخطى التفسير
اللغوي والمدلولات المباشرة لتنفذ إلى ما وراء المعاني الظاهرة ، كما هو الحال في
التفسير الحكمي والعرفاني على نحو أخص.
على هذا الأساس نفهم تحذير الإمام المتكرر من الجمود على
التفسير السطحي ، ودعوته إلى مسايرة معاني القرآن ولطائفه على مستوى مدارات
تفسيرية أرقى. يكتب عند الحديث عن المتعمقين وتفسير آيات التوحيد ، محذرا من
النزعة العامية ورافضا فرض سلطتها كمرجعية عليا للتفسير ، ما نصه : «إنّ من لا حظّ
له من سرائر التوحيد والمعارف الإلهية ، لا حق له في إبداء النظر بهذه الآيات ، كما
لا يحق له أن يقصر هذه الآيات ويحملها على المعاني العامية السوقية التي
يفهمها» (27).
كما يرفض الاتجاه القشري ذاته ويحذر من نصب مرجعيته المتمركزة
من حول فهمه الخاص ومحض الظهور العرفي ، عند ما يتحدث عن الموضوع نفسه في كتابه
«الأربعين» ، وهو يقول : «فلا يحسبن- إنسان- أنّه يستطيع بفكره أو على أساس الظهور
العرفي استيعاب آيات التوحيد ... أو آيات القرآن الاخرى. الأمر نفسه ينطبق على
الأخبار الشريفة وخطب الأئمة عليهم السّلام وأدعيتهم ومناجاتهم المشحونة بالمعارف.
إنّ هذا التصور هو وهم ساذج ، ووسوسة شيطانية ، وهو كمين نصبه قاطع طريق الإنسانية
(الشيطان) لكي يصد الإنسان عن المعارف ، ويغلق عليه أبواب الحكمة والمعرفة ، ويتركه
تائها في وادي الحيرة والضلالة» (28).
لا يخفي الإمام ميله إلى التفسير العرفاني وإن كان لا
يجمد عليه ، ولا يراه في تعارض مع اتجاهات التفسير الاخرى ، إنّما يراه طورا أرقى
يأتي من بعدها ، إلّا أنّه يسجل دون لبس في واحد من كتبه المبكّرة التي يعود تأريخ
تأليفها إلى عام 1358 هـ/ 1939 م ، بأنّ ما يعنيه ليس تسويق الفلسفة أو العرفان والدعوة
إليهما ، بل المهم لديه فتح الطريق إلى معارف القرآن وأهل البيت ، حيث يضيف في
تتمة النص السابق : «يشهد اللّه- وكفى به شهيدا- أنّ ما أقصده من هذا الكلام ليس
ترويج سوق الفلسفة الرسمية أو العرفان الرسمي ، بل المقصود أن ينعطف إخواني
المؤمنين خاصة أهل العلم بقدر نحو معارف أهل البيت عليهم السّلام ، ونحو القرآن وأن
لا يغفلوا عنها. فالأساس في بعثة الرسل وإنزال الكتب يكمن في المقصد الشريف
المتمثل بمعرفة اللّه ، ففي ظل هذا المقصد تتحقق تمام السعادة الدنيوية والأخروية»(29).
__________________
(1)- صحيفه امام 13 : 448.
(2)- صحيفه امام 14 : 389.
(3)- الكافي 2 : 609/ 1.
(4)- نفس المصدر : 609/ 2.
(5)- المحجة البيضاء 2 : 237 ، بحار الأنوار 89 : 211/
4.
(6)- شرح چهل حديث : 497.
(7)- آداب الصلاة : 203.
(8)- نفس المصدر : 193.
(9)- الآداب المعنوية للصلاة : 350 ، مع تصرف في إعادة
الصياغة.
(10)- شرح چهل حديث : 191.
(11)- كشف الأسرار : 321- 322.
(12)- نفس المصدر : 322.
(13)- نفس المصدر.
(14)- نفس المصدر : 323.
(15)- عن طبيعة الدوافع التي أملت على الإمام تأليف هذا
الكتاب ، والأجواء التي سادت المناخات الثقافية والاجتماعية في إيران بعد طرد
الحلفاء لرضا خان عن العرش ، وما أدت إليه من ازدهار التيار القومي الذي يدعو إلى
فصل إيران عن الإسلام ، عن ذلك كله ، ينظر : - مجلة كيهان انديشه ، العدد 29 : 162
فما بعد ، كشف الأسرار وزمينه پيدايش آن (كشف الأسرار وأرضية انبثاقه).
(16)- كشف الأسرار : 324.
(17)- ينظر على هذا الصعيد : رسالت قرآن : 16.
(18)- كشف الأسرار : 131.
(19)- آداب الصلاة : 192.
(20)- صحيفه امام 19 : 438.
(21)- نفس المصدر 8 : 171.
(22)- نفس المصدر 20 : 249.
(23)- الكافي 1 : 91/ 3.
(24)- شرح چهل حديث : 194.
(25)- نفس المصدر : 659- 660.
(26)- الآداب المعنوية للصلاة : 466.
(27)- نفس المصدر.
(28)- شرح چهل حديث : 659-660.
(29)- نفس المصدر : 660.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|