المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17639 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
زكاة الذهب والفضة
2024-11-05
ماشية اللحم في الولايات المتحدة الأمريكية
2024-11-05
أوجه الاستعانة بالخبير
2024-11-05
زكاة البقر
2024-11-05
الحالات التي لا يقبل فيها الإثبات بشهادة الشهود
2024-11-05
إجراءات المعاينة
2024-11-05

الصبر
18-8-2016
خصوصية في طعام أنزل من السماء
6-03-2015
هل قاتل محمّد بن الحنفية مع الإمام الحسين ؟ وإن لم يقاتل فأين كان ؟ ولم لم يقاتل معه ؟
2024-10-23
الجبل الراسخ
18-8-2018
نبي الله نوح عليه السلام‏ يعاتب ربه
13-12-2015
الإِمدادات الإِلهية
21-10-2014


تفسير الاية (7-15) من سورة الجاثية  
  
303   01:12 مساءً   التاريخ: 12-5-2017
المؤلف : اعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : ......
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الجيم / سورة الجاثية /


قال تعالى : {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ  } [الجاثية: 7 - 13].

 

تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه  الآيات (1) :

{ويل لكل أفاك أثيم} الأفاك الفعال من الإفك وهو الكذب ويطلق ذلك على من يكثر كذبه أو يعظم كذبه وإن كان في خبر واحد ككذب مسيلمة في ادعاء النبوة والأثيم ذو الإثم وهو صاحب المعصية التي يستحق بها العقاب والويل كلمة وعيد يتلقى بها الكفار وقيل هو واد سائل من صديد جهنم ثم وصف سبحانه الأفاك الأثيم بقوله {يسمع آيات الله تتلى عليه} أي يسمع آيات القرآن التي فيها الحجة تقرأ عليه {ثم يصر مستكبرا} أي يقيم على كفره وباطله متعظما عند نفسه عن الانقياد للحق {كأن لم يسمعها} أصلا في عدم القبول لها والاعتبار بها {فبشره بعذاب أليم} أي مؤلم {وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا} أي وإذا علم هذا الأفاك الأثيم من حججنا وأدلتنا شيئا استهزأ بها ليري العوام أنه لا حقيقة لها كما فعله أبو جهل حين سمع قوله إن شجرة الزقوم طعام الأثيم أوكما فعله النضر بن الحارث حين كان يقابل القرآن بأحاديث الفرس {أولئك لهم عذاب مهين} أي مذل مخز مع ما فيه من الألم {من ورائهم جهنم} أي من وراء ما هم فيه من التعزز بالمال والدنيا جهنم ومعناه قدامهم ومن بين أيديهم كقوله وكان وراءهم ملك ووراء اسم يقع على القدام والخلف فيما توارى عنك فهو وراؤك خلفك كان أو أمامك {ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا} أي لا يغني عنهم ما حصلوا وجمعوه من المال والولد شيئا من عذاب الله تعالى {ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء} من الآلهة التي عبدوها لتكون شفعاءهم عند الله {ولهم} مع ذلك {عذاب عظيم} .

ثم قال سبحانه {هذا هدى} أي هذا القرآن الذي تلوناه والحديث الذي ذكرناه هدى أي دلالة موصلة إلى الفرق بين الحق والباطل من أمور الدين والدنيا {والذين كفروا ب آيات ربهم} وجحدوها {لهم عذاب من رجز أليم} مر معناه ثم نبه سبحانه خلقه على وجه الدلالة على توحيده فقال {الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره} أي جعله على هيئته(2) لتجري السفن فيه {ولتبتغوا من فضله} أي ولتطلبوا بركوبه في أسفاركم من الأرباح بالتجارات {ولعلكم تشكرون} له هذه النعمة {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض} أي سخر لكم مع ذلك معاشر الخلق ما في السماوات من الشمس والقمر والنجوم والمطر والثلج والبرد وما في الأرض من الدواب والأشجار والنبات والأثمار والأنهار ومعنى تسخيرها لنا أنه تعالى خلقها جميعا لانتفاعنا بها فهي مسخرة لنا من حيث أنا ننتفع بها على الوجه الذي نريده.

وقوله {جميعا منه} قال ابن عباس أي كل ذلك رحمة منه لكم قال الزجاج كل ذلك منه تفضل وإحسان ويحسن الوقف على قوله {جميعا} ثم يقول منه أي ذلك التسخير منه لا من غيره فهو فضله وإحسانه وروي عن ابن عباس وعبد الله بن عمر والجحدري أنهم قرءوا منة منصوبة ومنونة وعلى هذا فيكون من باب تبسمت وميض البرق فكأنه قال من عليهم منة وروي عن سلمة أنه قرأ منة بالرفع وعلى هذا فيكون خبر مبتدأ محذوف أي ذلك منة أو هو منة أو يكون على معنى سخر لكم ذلك منة.

 {إن في ذلك لآيات} أي دلالات {لقوم يتفكرون} ثم خاطب سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال {قل} يا محمد {للذين آمنوا يغفروا} هذا جواب أمر محذوف دل عليه الكلام وتقديره قل لهم اغفروا يغفروا فصار قل لهم على هذا الوجه يغني عنه عن علي بن عيسى وقيل معناه قل للذين آمنوا اغفروا ولكنه شبه بالشرط والجزاء كقوله قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة عن الفراء وقيل يغفروا تقديره يا هؤلاء اغفروا فحذف المنادي كقوله ألا يا اسجدوا لله وقول الشاعر : ((ألا يا أسلمي ذات الدماليج والعقد))(3).  {للذين لا يرجون أيام الله} أي لا يخافون عذاب الله إذا نالوكم بالأذى والمكروه ولا يرجون ثوابه بالكف عنكم وقد مر تفسير أيام الله عند قوله وذكرهم بأيام الله ومعنى يغفروا هاهنا يتركوا مجازاتهم على أذاهم ولا يكافئوهم ليتولى الله مجازاتهم {ليجزي قوما بما كانوا يكسبون} بيان هذا الجزاء في الآية التي تليها وهو قوله {من عمل صالحا} أي طاعة وخيرا وبرا {فلنفسه} لأن ثواب ذلك يعود عليه {ومن أساء فعليها} أي فوبال إساءته على نفسه {ثم إلى ربكم ترجعون} يوم القيامة أي إلى حيث لا يملك أحد النفع والضر والنهي والأمر غيره سبحانه فيجازي كل إنسان على قدر عمله .

________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9 ، ص122-125.

2- وفي نسخة على هيئة تجري السفن فيه ، وفي اخرى على هيئة لتجري .. والاول هو الصواب .

3- جمع الدملوج : حلي يلبس في المعصم . والعقد : القلادة .

تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه  الآيات (1) :

{ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ وإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً } . بعد ان وضع سبحانه أمام العقل الدلائل الحسية المفيدة للجزم واليقين بوجوده تعالى ، وقال : من لم يؤمن بها فلن يؤمن بأي دليل غيرها - بعد هذا هدد وتوعد من لا يتدبر هذه الدلائل ، وينتفع بها ، وأسماه بالأفاك الأثيم ، وتوعده بالعذاب الأليم ، ووصفه بمعاندة الحق وتجاهله تعاليا وتعاظما ، وانه لم يكتف بذلك حتى سخر منه واستهزأ به . . . ولا فرق في يوم الحساب بين هذا الكافر الساخر من الحق وأهله ، وبين من آمن به قولا لا فعلا ، وبالنظر لا بالعمل ، قال تعالى : {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [الأنفال: 21] الأنفال أي لا يقبلون ولا يعملون .

وقال الإمام علي ( عليه السلام ) : البصير من سمع فتفكر ، ونظر فأبصر ، وانتفع بالعبر .

{أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ ولا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً ولا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ ولَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ} . أولئك إشارة إلى كل أفاك أثيم ، والمراد بما كسبوا ، أموالهم وأولادهم وجاههم . وبما اتخذوا ، أصنامهم وأوثانهم ، والمعنى ان الذين استكبروا على الحق وسخروا منه مصيرهم إلى جهنم يصلونها وبئس المهاد ، ولا ينجيهم من عذابها صنم ولا ولد ولا جاه ولا مال { هذا هُدىً } . هذا إشارة إلى القرآن ، وما من شك انه هدى لمن ائتم به ، وقوة لمن اعتمد عليه { والَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ } .

المراد بالآيات هنا الدلائل الكونية على وجود اللَّه وعظمته ، والعذاب والرجز والأليم كلمات مترادفة أو متقاربة المعنى ، والغرض من التكرار تأكيد العذاب اللائق بالأفاك الأثيم الذي يستعلي على الحق ويسخر منه .

{اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ ولِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . ان فضل اللَّه تعالى في البر والبحر والجو، ومن نعمه تعالى في البحر اللحم والملح والأحجار الكريمة والمواصلات والنزهة والرياضة وغير ذلك ، وتقدم مثله في العديد من الآيات ، منها الآية 66 من سورة الاسراء ج 5 ص 65 والآية 46 من سورة الروم وغيرهما .

{ وسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وما فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } . في هذا العالم الواسع منافع وطاقات لا يبلغها الإحصاء ، وبالرغم من تقدم العلم في عصرنا فإن ما خفي عنه أكثر مما استبان له من تلك الطاقات ، ولكن اللَّه سبحانه زود الإنسان بالاستعداد التام لاكتشاف كل ما في الكون من قوى وإمكانات والاستفادة بها لو اتجه اتجاها علميا إنسانيا ، لا تجاريا ، وبذل جهدا أكثر وأطول . . . وتجدر الإشارة إلى ان كلمة {جَمِيعاً} تومئ إلى ان في الإنسان من المؤهلات ما يستطيع معها الوصول إلى القمر وغيره من الكواكب .

انظر ج 6 ص 101 فقرة (القرآن والفكر) . وتقدم مثله في الآية 20 من سورة لقمان .

{قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ } . المراد بأيام اللَّه هنا أيام نقمته وعذابه ، والذين لا يرجونها هم مشركو العرب . وقد أمر سبحانه نبيه الكريم أن يدعو المؤمنين إلى الصفح عمن أساء إليهم ، ويدفعوه بالتي هي أحسن ، واللَّه سبحانه يتولى حساب المسئ وجزاءه { مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ ومَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } . المعنى واضح . وتقدم نظيره في الآية 104 من سورة الانعام ، وبالحرف الواحد في الآية 46 من سورة فصلت .

______________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7، ص21-22.

 

تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

قوله تعالى: {ويل لكل أفاك أثيم} الويل والهلاك، والأفاك مبالغة من الإفك وهو الكذب، والأثيم من الإثم بمعنى المعصية والمعنى: ليكن الهلاك على كل كذاب ذي معصية.

قوله تعالى: {يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها} إلخ صفة لكل أفاك أثيم، و{ثم} للتراخي الرتبي وتفيد معنى الاستبعاد، والإصرار على الفعل ملازمته وعدم الانفكاك عنه.

والمعنى: يسمع آيات الله - وهي آيات القرآن - تقرأ عليه ثم يلازم الكفر والحال أنه مستكبر لا يتواضع للحق كأن لم يسمع تلك الآيات فبشره بعذاب أليم.

قوله تعالى: {وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا} إلخ، ظاهر السياق أن ضمير {اتخذها} للآيات، وجعل الهزء متعلقا بالآيات دون ما علم منها يفيد كمال جهله، والمعنى: وإذا علم ذلك الأفاك الأثيم المصر المستكبر بعض آياتنا استهزأ بآياتنا جميعا.

وقوله: {أولئك لهم عذاب مهين} أي مذل مخز، وتوصيف العذاب بالإهانة مقابلة لاستكبارهم واستهزائهم، والإشارة بأولئك إلى كل أفاك، وقيل في الآية بوجوه أخر أعرضنا عنها لعدم الجدوى فيها.

قوله تعالى: {من ورائهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء} إلخ، لما كانوا مشتغلين بالدنيا معرضين عن الحق غير ملتفتين إلى تبعات أعمالهم جعلت جهنم وراءهم مع أنها قدامهم وهم سائرون نحوها متوجهون إليها.

وقيل: وراءهم بمعنى قدامهم قال في المجمع،: وراء اسم يقع على القدام والخلف فما توارى عنك فهو وراءك خلفك كان أو أمامك.

انتهى وفي قوله: {من ورائهم جهنم} قضاء حتم.

وقوله: {ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا} المراد بما كسبوا ما حصلوه في الدنيا من مال ونحوه، وتنكير {شيئا} للتحقير أي ولا يغني عنهم يوم الحساب ما كسبوه من مال وجاه وأنصار في الدنيا شيئا يسيرا حقيرا.

وقوله: {ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء{ {ما} مصدرية والمراد بالأولياء أرباب الأصنام الذين اتخذوهم أربابا آلهة وزعموا أنهم لهم شفعاء أو الأصنام.

وقوله: {ولهم عذاب عظيم} تأكيد لوعيدهم وقد أوعدهم الله سبحانه أولا بقوله: {ويل لكل أفاك} إلخ، وثانيا بقوله: {فبشره بعذاب أليم} وثالثا بقوله: {أولئك لهم عذاب مهين{ ورابعا بقوله: {من ورائهم جهنم} إلخ، وخامسا بقوله: {ولهم عذاب عظيم}، ووصف عذابهم في خلالها بأنه أليم مهين عظيم.

قوله تعالى: {هذا هدى والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم} الإشارة بقوله: {هذا هدى} إلى القرآن ووصفه بالهدى للمبالغة نحو زيد عدل والرجز - كما قيل - أشد العذاب وأصله الاضطراب.

والآية في مقام الرد لما رموا به القرآن وعدوه مهانا بالهزء والسخرية وخلاصة وعيد من كفر بآياته.

قوله تعالى: {الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره} إلخ، لما ذكر سبحانه حال الأفاكين من الاستكبار عن الإيمان بالآيات إذا تليت عليهم والاستهزاء بما علموا منها وأوعدهم أبلغ الإيعاد بأشد العذاب رجع إليهم بخطاب الجميع ممن يؤمن ويكفر، وذكر بعض آيات ربوبيته التي فيها من عظيم عليهم وليس في وسعهم إنكارها فذكر أولا تسخير البحر لهم ثم ما في السماوات والأرض جميعا ففيها آيات لا يكفر بها إلا من انسلخ عن الفطرة الإنسانية ونسي التفكر الذي هومن أجلى خواص الإنسان.

فقوله: {الله الذي سخر لكم البحر} اللام في {لكم} للغاية أي سخر لأجلكم البحر بأن خلقه على نحو يحمل الفلك ويقبل أن تجري فيه فينتفع به الإنسان، ويمكن أن تكون للتعدية فيكون الإنسان يسخر البحر بإذن الله.

وقوله: {لتجري الفلك فيه بأمره} غاية لتسخير البحر، وجريان الفلك فيه بأمره، هو إيجاد الجريان بكلمة كن فآثار الأشياء كنفس الأشياء منسوبة إليه تعالى وقوله: {ولتبتغوا من فضله} أي ولتطلبوا بركوبه عطيته تعالى وهو رزقه.

وقوله: {ولعلكم تشكرون} أي رجاء أن تشكروه تعالى قبال هذه النعمة التي هي تسخير البحر.

قوله تعالى: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه} إلخ، هذا من الترقي بعطف العام على الخاص، والكلام في {لكم} كالكلام في مثله في الآية السابقة، وقوله: {جميعا} تأكيد لما في السماوات والأرض أوحال منه.

وقوله: {سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا} معنى تسخيرها للإنسان أن أجزاء العالم المشهود تجري على نظام واحد يحكم فيها ويربط بعضها ببعض ويربط الجميع بالإنسان فينتفع في حياته من علويها وسفليها ولا يزال المجتمع البشري يتوسع في الانتفاع بها والاستفادة من توسيطها والتوسل بشتاتها في الحصول على مزايا الحياة فالكل مسخر له.

وقوله: {منه} من للابتداء، والضمير لله تعالى وهو حال مما في السماوات والأرض، والمعنى: سخر لكم ما في السماوات والأرض جميعا حال كونه مبتدأ منه حاصلا من عنده فذوات الأشياء تبتدىء منه بإيجاده لها من غير مثال سابق وكذلك خواصها وآثارها بخلقه ومن خواصها وآثارها ارتباط بعضها ببعض وهو النظام الجاري فيها المرتبط بالإنسان قال تعالى: { اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } [الروم: 11] ، وقال: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} [البروج: 13].

وقد ذكروا لقوله: {منه} معاني أخر لا يخلو شيء منها عن التكلف تركنا التعرض لها.

وقوله: {إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} وجه تعلقها بالتفكر ظاهر.

ولما ذكر آيات الوحدانية وأشار فيها بعض الإشارة إلى المعاد وكذا إلى النبوة في ضمن ذكر تنزيل الكتاب وإيعاد المستكبرين المستهزءين به ذكر في هذه الآيات تشريع الشريعة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتوسل إلى ذلك بمقدمتين تربطانه بما تقدم من الكلام إحداهما دعوة المؤمنين إلى أن يكفوا عن التعرض لحال الكفار الذين لا يرجون أيام الله فإن الله مجازيهم لأن الأعمال مسئول عنها صالحة أو طالحة، وهذا هو السبب لتشريع الشريعة، والثانية: أن إنزال الكتاب والحكم والنبوة ليس ببدع فقد آتى الله بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة وآتاهم البينات التي لا يبقى معها في دين الله ريب لمرتاب إلا أن علماءهم اختلفوا فيه بغيا منهم وسيقضي الله بينهم.

ثم ذكر سبحانه تشريع الشريعة له وأمره باتباعها ونهاه عن اتباع أهواء الجاهلين.

قوله تعالى: {قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله} إلخ، أمر منه تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأمر المؤمنين أن يغفروا للكفار فيصير تقدير الآية: قل لهم: اغفروا يغفروا فهي كقوله تعالى: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ } [إبراهيم: 31].

والآية مكية واقعة في سياق الآيات السابقة الواصفة لحال المستكبرين المستهزءين بآيات الله المهددة لهم بأشد العذاب وكان المؤمنين بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا إذا رأوا هؤلاء المستهزءين يبالغون في طعنهم وإهانتهم للنبي واستهزائهم بآيات الله لم يتمالكوا أنفسهم دون أن يدافعوا عن كتاب الله ومن أرسله به ويدعوهم إلى رفض ما هم فيه والإيمان مع كونهم ممن حقت عليهم كلمة العذاب كما هو ظاهر الآيات السابقة، فأمر الله سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأمرهم بالعفو والصفح عنهم وعدم التعرض لحالهم فإن وبال أعمالهم سيلحق بهم وجزاء ما كسبوه سينالهم.

وعلى هذا فالمراد بالمغفرة في قوله: {قل للذين آمنوا يغفروا} الصفح والإعراض عنهم بترك مخاصمتهم ومجادلتهم، والمراد بالذين لا يرجون أيام الله هم الذين ذكروا في الآيات السابقة فإنهم لا يتوقعون لله أياما لا حكم فيها ولا ملك إلا له تعالى كيوم الموت والبرزخ ويوم القيامة ويوم عذاب الاستئصال.

وقوله: {ليجزي قوما بما كانوا يكسبون} تعليل للأمر بالمغفرة أو للأمر بالأمر بالمغفرة ومحصله ليصفحوا عنهم ولا يتعرضوا لهم، فلا حاجة إلى ذلك لأن الله سيجزيهم بما كانوا يكسبون فتكون الآية نظيرة قوله: { وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا } [المزمل: 11، 12] ، وقوله: { ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91] وقوله: { فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الزخرف: 83] ، وقوله: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [الزخرف: 89] .

ومعنى الآية: مر الذين آمنوا أن يعفوا ويصفحوا عن أولئك المستكبرين المستهزءين بآيات الله الذين لا يتوقعون أيام الله ليجزيهم الله بما كانوا يكسبون ويوم الجزاء يوم من أيامه أي ليصفحوا عن هؤلاء المنكرين لأيام الله حتى يجزيهم بأعمالهم في يوم من أيامه.

وفي قوله: {ليجزي قوما} وضع الظاهر موضع الضمير، وكان مقتضى الظاهر أن يقال: ليجزيهم، والنكتة فيه مع كون {قوما} نكرة غير موصوفة تحقير أمرهم وعدم العناية بشأنهم كأنهم قوم منكرون لا يعرف شخصهم ولا يهتم بشيء من أمرهم.

وبما تقدم من تقرير معنى الآية تتصل الآية وما بعدها بما قبلها وتندفع الإشكالات التي أوردوها عليها واهتموا بالجواب عنها، ويظهر فساد المعاني المختلفة التي ذكروها لها ومن أراد الاطلاع عليها فليراجع المطولات.

قوله تعالى: {من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون} في موضع التعليل لقوله: {ليجزي قوما} إلخ، ولذا لم يعطف وليس من الاستئناف في شيء.

ومحصل المعنى: ليجزيهم الله بما كسبوا فإن الأعمال لا تذهب سدى وبلا أثر بل من عمل صالحا انتفع به ومن أساء العمل تضرر به ثم إلى ربكم ترجعون فيجزيكم حسب أعمالكم إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا.

_____________________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج18،ص131-135.

تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه  الآيات (1) :

ويل لكلّ أفاك أثيم:

رسمت الآيات السابقة صورة عن فريق يسمعون كلام الله مدعماً بمختلف أدلة التوحيد والمواعظ والإرشاد، فلا يترك أثراً في قلوبهم القاسية.

أمّا هذه الآيات فتتناول بالتفصيل عواقب أعمال هذا الفريق، فتقول: أوّلاً: {ويل لكل أفاك أثيم}.

«الأفاك» صيغة مبالغة، وهي تعني الشخص الذي يكثر الكذب جدّاً، وتقال أحياناً لمن يكذب كذبة عظيمة حتى وإن لم يكثر من الكذب.

و«الأثيم» من مادة إثم، أي المجرم والعاصي، وتعطي أيضاً صفة المبالغة.

ويتّضح من هذه الآية جيداً أنّ الذين يقفون موقف الخصم العنيد المتعصب أمام آيات الله سبحانه هم الذين غمرت المعصية كيانهم، فانغمسوا في الذنوب والآثام والكذب، لا أُولئك الصادقون الطاهرون، فإنّهم يذعنون لها لطهارتهم ونقاء سريرتهم.

ثمّ تشير الآية التالية إلى كيفية اتخاذهم لموضع الخصام هذا، فتقول: {يسمع آيات الله تتلى عليه ثمّ يصر مستكبراً كأن لم يسمعها}(2) ولهذا فإنّه بحكم تلوثه بالذنب والكذب، والغرور والكبر والعجب، يمر كأن لم يسمع كلّ هذه الآيات، وكأنه أصم أو أنّه يعتبر نفسه كذلك، كما ورد لك في الآية (7) من سورة لقمان: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا } [لقمان: 7].

وتهدده الآية في نهايتها بالعذاب الشديد، فتقول: {فبشره بعذاب أليم} فكما أنّه آذى قلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين وآلمهم، فإنّنا سنبتليه بعذاب أليم أيضاً، لأنّ عذاب القيامة تجسم لأعمال البشر في الحياة الدنيا.

وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين ذكر سبب نزول لهذه الآية والآية التي تليها، واعتبروهما إشارة إلى أبي جهل أو النظر بن الحارث، ذلك أنّهم كانوا قد جمعوا قصصاً وأساطير من العجم ليلهوا بها الناس ويصرفوهم عن دين الحق.

لكن من الواضح أنّ هذه الآية لا تختص بهم، بل ولا بمشركي العرب أيضاً، فهي تشمل كلّ المجرمين الكاذبين المستكبرين في كلّ عصر وزمان، وكلّ الذين يصرون كأن لم يسمعوا آيات الله سبحانه ونداءات الأنبياء وكلمات الأئمّة والعظماء، لأنّها لا تنسجم مع شهواتهم وميولهم ورغباتهم المنحرفة، ولا تؤيد أفكارهم الشيطانية، ولا توافق عاداتهم الخاطئة وأعرافهم البالية وتقاليدهم العمياء.

نعم، بشّر كلّ أولئك بالعذاب الأليم.

ولما كان العذاب لا ينسجم مع البشارة، فإنّ هذا التعبير ورد من باب السخرية والإستهزاء.

ثمّ تضيف الآية التي بعدها: {وإذا علم من آياتنا شيئاً اتخذها هزواً}(3).

في الحقيقة، توجد لدى هؤلاء الجاهلين الأنانيين حالتان:

الأولى: أنّهم غالباً ما يسمعون آيات الله فلا يعبؤون بها، ويمرون عليها دون اهتمام وتعظيم، فكأنّهم لم يسمعوها أيضاً.

والأُخرى: أنّهم إذا سمعوها وأرادوا أن يهتموا بها، فليس لهم من رد فعل إزاءها إلاّ الاستهزاء والسخرية. وكلهم مشتركون في هاتين الحالتين، فمرّة هذه، وأُخرى تلك، وبناء على هذا فلا تعارض بين هذه الآية والتي قبلها.

والطريف أنّها تقول أوّلاً: {وإذا علم من آياتنا شيئاً} ثمّ لا تقول: إنّه يستهزيء فيما بعد بما علم، بل تقول: إنّه يتخذ كلّ آياتنا هزواً، سواء التي علمها والتي لم يعلمها، وغاية الجهل أن ينكر الإنسان شيئاً أو يستهزيء به وهو لم يفهمه أصلاً، وهذا خير دليل على عناد أُولئك وتعصبهم.

ثمّ تصف الآية عقاب هؤلاء في النهاية فتقول: {أُولئك لهم عذاب مهين} ولم لا يكون الأمر كذلك، فإنّ هؤلاء كانوا يريدون أن يضفوا على أنفسهم الهيبة والعزة والمكانة الإجتماعية من خلال الإستهزاء بآيات الله سبحانه، إلاّ أنّ الله تعالى سيجعل عقابهم تحقيرهم ومذلتهم وهوانهم، ويبتليهم بعذاب القيامة المهين المذل، فيسحبون على وجوههم مصفَّدين مكبَّلين ثمّ يرمون على تلك الحال في جهنم، ويلاحقهم مع ذلك تقريع ملائكة العذاب وسخريتهم.

ومن هنا يتّضح لماذا وصف العذاب بالأليم في الآية السابقة، وبالمهين هنا، وبالعظيم في الآية التالية، فكلّ منها يناسب نوعية جرم هؤلاء وكيفيته.

وتوضح الآية التالية العذاب المهين، فتقول: (من ورائهم جهنّم).

إن التعبير بالوراء مع أنّ جهنّم أمامهم وسيصلونها في المستقبل، يمكن أن يكون ناظراً إلى أنّ هؤلاء قد أقبلوا على الدنيا ونبذوا الآخرة والعذاب وراء ظهورهم، وهو تعبير مألوف، إذ يقال للإنسان إذا لم يهتم بأمر، تركه وراء ظهره، والقرآن الكريم يقول: { إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان: 27].

وقال جمع من المفسّرين أيضاً: إنّ كلمة (وراء) من مادة المواراة، وتقال لكلّ شيء خفي على الإنسان وحجب عنه، سواء كان خلفه ولا يراه، أم أمامه لكنّه بعيد لا يراه، وعلى هذا فإنّ لكلمة (وراء) معنى جامعاً يطلق على مصداقين متضادين(4).

وليس ببعيد إذا قلنا: إنّ التعبير بالوراء إشارة إلى مسألة العلة والمعلول، فمثلاً نقول: إذا تناولت الغذاء الفلاني غير الجيد فستمرض بعد ذلك، أي إنّ تناول الغذاء يكون علة لذلك المرض، وهنا أيضاً تكون أعمال هؤلاء علة لعذاب الجحيم المهين.

وعلى أية حال، فإنّ الآية تضيف مواصلةً الحديث أنّ هؤلاء إن كانوا يظنون أنّ أموالهم الطائلة وآلهتهم التي ابتدعوها ستحل شيئاً من أثقالهم، وأنّها ستغني عنهم من الله شيئاً، فإنّهم قد وقعوا في اشتباه عظيم، حيث: {ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئاً ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء}.

ولما لم يكن هناك سبيل نجاة وفرار من هذا المصير، فإنّ هؤلاء يجب أن يبقوا في عذاب الله ونار غضبه: {ولهم عذاب عظيم}.

ولقد استصغر هؤلاء آيات الله سبحانه، ولذلك سيعظم الله عذابهم، وقد اغتر هؤلاء وتفاخروا فألقاهم الله في العذاب الأليم!

إن هذا العذاب عظيم من كلّ الجهات، فهو عظيم في خلوده، وشدته، وباقترانه بالتحقير والإهانة، وعظيم في نفوذه إلى نخاع وقلوب المجرمين..

نعم.. إنّ الذنب العظيم، أمام الله العظيم، لا يكون جزاؤه إلاّ العذاب العظيم.

كل شيء مسخر للإنسان:

مواصلة للبحوث التي وردت في الآيات السابقة حول عظمة آيات الله، تتناول هذه الآيات نفس الموضوع، فتقول: (هذا هدى) فهو يميز بين الحق والباطل، ويضيء حياة الإنسان، ويأخذ بيد سالكي طريق الحق ليوصلهم إلى هدفهم ومنزلهم المقصود، لكن: (والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم).

«الرجز» يعني الإضطراب والاهتزاز وعدم الانتظار، كما يقول الراغب في مفرداته، وتقول العرب: رجز البعير إذا تقاربت خطواته واضطرب لضعف فيه.

وتطلق هذه الكلمة أيضاً على مرض الطاعون والابتلاءات الصعبة، أو العواصف الثلجية الشديدة، والوساوس الشيطانية وأمثال ذلك، لأنّ كلّ هذه الأُمور تبعث على الإضطراب والتزلزل وعدم الانتظام والانضباط، وإنّما يقال لأشعار الحرب (رجز) لأنّها مقاطع قصيرة متقاربة، أو لأنّها تلقي الرعب والاضطراب بين صفوف الأعداء.

ثمّ تحول زمام الحديث إلى بحث التوحيد الذي مرّ ذكره في الآيات الأولى لهذه السورة، فتعطي المشركين دروساً بليغة مؤثرة في توحيد الله سبحانه ومعرفته.

فتارة تدغدغ عواطفهم، وتقول: {الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون}.

من الذي أودع في مادة السفن الأصلية خاصية الطفو على الماء وعدم الغطس؟ ومن الذي جعل الماء فراشاً ناعماً حركتها حتى استطاعت أن تسير فيه بكلّ سهولة ويسر؟ ومن الذي أمر الرياح أن تمرّ على سطح المحيطات بصورة منتظمة لتحرك السفن وتسيرها؟ أو يحل قوّة البخار محل الهواء ليزيد من سرعة هذه السفن العظيمة؟

نحن نعلم أنّ أكبر وسائط نقل الإنسان وأهمها في الماضي والحاضر هي السفن الصغيرة والكبيرة، والتي تنقل على مدار السنة ملايين البشر، وأكثر من ذلك البضائع التجارية من أقصى نقاط العالم إلى المناطق المختلفة، وقد تكون السفن أحياناً بسعة مدينة صغيرة، وسكانها بعدد سكانها، وهي مجهزة بمختلف الوسائل والأموال.

حقاً لولم تكن هذه القوى الثلاث، أفيكون بمقدور الإنسان أن يحل مشاكل حمله ونقله بواسطة المراكب العادية البسيطة؟ حتى هذه المراكب والوسائط البسيطة هي بحدّ ذاتها من نعمه سبحانه، وهي فعالة في مجالها.

والطريف أنّ الآية (32) من سورة إبراهيم تقول: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ } [إبراهيم: 32] أمّا هنا فإنّ الآية تقول: {سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه} لأنّ التأكيد هناك كان على تسخير البحار، ولذلك اتبعتها بقولها: (وسخر لكم الأنهار)أمّا هنا فإن الآية ناظرة إلى تسخير الفلك، وعلى أية حال، فإنّهما معاً مسخران للإنسان بأمر الله سبحانه، وهما في خدمته.

إنّ الهدف من هذا التسخير هو أن تبتغوا من فضل الله، وهذا التعبير يأتي عادة في مورد التجارة والنشاطات الإقتصادية، ومن الطبيعي أنّ نقل المسافرين من مكان الى آخر في ضمن هذا التسخير.

والهدف من الإستفادة من فضل الله هو إثارة حس الشكر لدى البشر، لتعبئة عواطفهم لأداء شكر المنعم، وبعد ذلك يسيرون في طريق معرفة الله سبحانه.

كلمة «الفلك» ـ وكما قلنا سابقاً ـ تستعمل للمفرد والجمع.

ولمزيد من التفصيل حول تسخير البحار والفلك، ومنافعها وبركاتها، راجعوا ذيل الآية (14) سورة النحل.

بعد بيان السفن التي لها تماس مباشر بحياة البشر اليومية، تطرقت الآية التي بعدها إلى مسألة تسخير سائر الموجودات بصورة عامة، فتقول: {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه}.

فقد كرّمكم إلى درجة أنّ سخر لكم كلّ موجودات العالم، وجعلها في خدمتكم ولتأمين مصالحكم ومنافعكم، فالشمس والقمر، والرياح والمطر، والجبال والوديان، والغابات والصحاري، والنباتات والحيوانات، والمعادن والمنابع الغنية التي تحت الأرض، وبالجملة فإنّه أمر كلّ هذه الموجودات أن تكون في خدمتكم، ومطيعة لأمركم، ومنفذة لإرادتكم، لتتمتعوا بنعمه ومواهبه سبحانه، ولا تذهلوا في سكرة الغفلة عنه.

ومما يستحق الإنتباه أنّه يقول: {جميعاً منه}(5) فإذا كانت كلّ النعم منه، وهو خالقها وربها ومدبرها جميعاً، فلماذا يعرض الإنسان عنه ويلجأ إلى غيره، ويتسكع على أعتاب المخلوقات الضعيفة، ويبقى في غفلة وذهول عن المنعم الحقيقي عليه؟ ولذلك تضيف الآية في النهاية: {إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}.

لقد كانت الآية السابقة تلامس عاطفة الإنسان وتحاول إثارتها، وهنا تحاول هذه الآية تحريك عقل الإنسان وفكره، فما أعظم رحمة ربّنا سبحانه!! إنّه يتحدث مع عباده بكلّ لسان وأسلوب يمكن أن يطبع أثره، فمرّة بحديث القلب، وأُخرى بلسان الفكر، والهدف واحد من كلّ ذلك، ألا وهو إيقاظ الغافلين ودفعهم إلى سلوك السبيل القويم.

وقد أوردنا بحثاً مفصلاً حول تسخير مختلف موجودات العالم في ذيل الآيات 31 ـ 33 من سورة إبراهيم.

ثمّ تطرقت الآية التالية إلى ذكر قانون أخلاقي يحدد كيفية التعامل مع الكفار لتكمل أبحاثها المنطقية السابقة عن هذا الطريق، فحولت الخطاب إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وقالت: (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيّام الله}.

فمن الممكن أن تكون معاملة هؤلاء قاسية، وتعبيراتهم خشنة غير مؤدبة، وألفاظهم بذيئة، وذلك لبعدهم عن مبادئ الإيمان وأسس التربية الإلهية، غير أنّ عليكم أن تقابلوهم بكلّ رحابة صدر لئلا يصروا على كفرهم ويزيدوا في تعصبهم، فتبعد المسافة بينهم وبين الحق.

إنّ حسن الخلق والصفح ورحابة الصدر يقلل من ضغوط هؤلاء وعدائهم من جهة، كما أنّه يمكن أن يكون عاملاً لجذبهم إلى الإيمان وإقبالهم عليه.

وقد ورد نظير هذا الأمر الأخلاقي كثيراً في القرآن الكريم كقوله تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 89]

إنّ التصلب في التعامل مع الجاهلين والإصرار على عقوبتهم لا يثمر في العادة، بل إن تجاهلهم والإعتزاز بالنفس أمامهم هو الأُسلوب الناجح في إيقاظهم، وهو عامل مؤثر في هدايتهم.

وليس هذا قانوناً عاماً بالطبع، إذ لا يمكن إنكار وجود حالات لا يمكن معالجتها ومواجهتها إلاّ بالغلظة والشدّة، غير أنّها قليلة.

والنكتة الأُخرى هنا أنّ كلّ الأيّام هي أيّام الله، إلاّ أنّ (أيّام الله) قد أُطلقت على أيّام خاصّة، للدلالة على عظمتها وأهميتها.

لقد ورد هذا التعبير في موضعين من القرآن المجيد: أحدهما في هذه الآية، والآخر في سورة إبراهيم، وله هناك معنىً أوسع وأشمل.

وقد فسّرت «أيّام» في الرّوايات الإسلامية بتفاسير مختلفة، ومن جملتها ما ورد في تفسير علي بن إبراهيم بأنّ أيّام الله ثلاثة: يوم قيام المهدي، ويوم الموت، ويوم القيامة(6).

ونقرأ في حديث آخر عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلّم): «أيام الله نعماؤه وبلاؤه ببلائه»(7).

وعلى أية حال، فإنّ هذا التعبير يبين أهمية يوم القيامة، يوم تجلي حاكمية الله تعالى على كلّ فرد، وعلى كلّ شيء، وهو يوم العدل والقانون والمحكمة الكبرى.

لكن، ومن أجل أنّ لا يستغل مثل هؤلاء الأفراد هذا الصفح الجميل والعفو والتسامي، فقد أضافت الآية: (ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون).

لقد اعتبر بعض المفسّرين هذه الجملة تهديداً للكفار والمجرمين، في حين أنّ البعض الآخر اعتبرها بشارة للمؤمنين لهذا العفو والصفح. لكن لا مانع من أن تكون تهديداً لتلك الفئة من جانب، وبشارة لهذه الجماعة من جانب آخر، كما أشير إلى هذا المعنى في الآية التالية أيضاً.

تقول الآية: {من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ثمّ إلى ربّكم ترجعون}.

إن هذا التعبير الذي ورد في القرآن الكريم مراراً، وبعبارات مختلفة، يشكل جواباً لمن يقول: ماذا يضر عصياننا الله تعالى، وما تنفعه طاعتنا؟ ولماذا هذا الإصرار على طاعة أوامره والإنتهاء عن معاصيه؟

فتقول هذه الآيات: إنّ كلّ ضرر ذلك وكلّ نفعه يعود عليكم، فأنتم الذين تسلكون مراقي الكمال في ظل الأعمال الصالحة، وتحلقون إلى سماء قرب الله عزَّ وجلّ، كما أنّكم أنتم الذين تهوون إلى الحضيض نتيجة ارتكابكم الآثام والمعاصي، فتبتعدون عن الله عزَّ وجلَّ وتستحقون بذلك اللعنة الأبدية.

إن كلّ أمور التكليف، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب تهدف إلى هذا المراد السامي، ولذلك يقرر القرآن الحكيم {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان: 12].

ويقول في موضع آخر: { فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [الزمر: 41]

ونقرأ في موضع ثالث: {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [فاطر: 18] .

وخلاصة القول: إنّ أمثال هذه التعابير تبين حقيقة أنّ دعوة الداعين إلى الله سبحانه خدمة للبشر في جميع أبعادها، وليست خدمة لله الغني عن كلّ شيء، ولا لأنبيائه الذين أجرهم على الله فقط.

إنّ الانتباه إلى هذه الحقيقة يعدّ عاملاً مهماً في السير نحو طاعة الله سبحانه، والإبتعاد عن معصيته.

__________________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج12، ص494-502.

2 ـ يمكن أن تكون عبادة (يسمع آيات الله) جملة مستأنفة، أوهي وصف آخر لـ (كل).

3 ـ ينبغي الإلتفات إلى أنّ ضمير (اتخذها) لا يعود على (شيئاً)، بل على (آياتنا).

4 ـ قال البعض أيضاً: إنّ كلمة (وراء) إنّ أضيفت إلى الفاعل أعطت معنى الوراء، وإن

أضيفت إلى المفعول أعطت معنى الأمام. روح البيان، المجلد 8، صفحة 439. لكن لا دليل

على هذا المدعى.

5 ـ ثمّة احتمالات عديدة في إعراب (جميعاً منه) وتركيبها، فقد احتمل الزمخشري في الكشاف

احتمالين: الأول: إنّ (جميعاً منه) حال لـ(ما في السموات وما في الأرض) أي إنّها جميعاً

مسخرة لكم لكنّها منه سبحانه. والآخر: إنّه خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: هي منه جميعاً.

واحتمل البعض أيضاً أن تكون تأكيداً لـ (ما في السموات وما في الأرض).

6 ـ تفسير نور الثقلين، المجلد 2، صفحة 526.

7 ـ المصدر السابق.

 




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .