أقرأ أيضاً
التاريخ: 19-10-2017
8205
التاريخ: 28-2-2017
8029
التاريخ: 17-10-2017
2762
التاريخ: 17-10-2017
9639
|
قال تعالى : {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة : 5] .
بين سبحانه في هذه الآية ما يحل من الأطعمة والأنكحة ، إتماما لما تقدم فقال : {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} وقد مر معناه ، هذا يقتضي تحليل كل مستطاب من الأطعمة إلا ما قام الدليل على تحريمه {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} اختلف في الطعام المذكور في الآية ، فقيل : المراد به ذبائح أهل الكتاب ، عن أكثر المفسرين ، وأكثر الفقهاء ، وبه قال جماعة من أصحابنا . ثم اختلفوا ، فمنهم من قال : أراد به ذباحة كل كتابي ممن أنزل عليه التوراة والإنجيل ، ومن دخل في ملتهم ، ودان بدينهم ، عن ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، وسعيد بن المسيب ، والشعبي ، وعطا ، وقتادة . وأجازوا ذبائح نصارى بني تغلب ، ومنهم من قال : عنى به من أنزلت التوراة والإنجيل عليهم ، أو كان من أبنائهم . فأما من كان دخيلا فيهم من سائر الأمم ، ودان بدينهم ، فلا تحل ذبائحهم ، حكى ذلك الربيع ، عن الشافعي . وحرم ذبائح بني تغلب من النصارى ، ورووا ذلك عن علي عليه السلام ، وسعيد بن جبير .
وقيل : المراد بطعام الذين أوتوا الكتاب ذبائحهم ، وغيرها من الأطعمة ، عن أبي الدرداء ، وعن ابن عباس ، وإبراهيم ، وقتادة ، والسدي ، والضحاك ، ومجاهد ، وبه قال الطبري ، والجبائي ، والبلخي ، وغيرهم ، وقيل : إنه مختص بالحبوب ، وما لا يحتاج فيه إلى التذكية ، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام ، وبه قال جماعة من الزيدية . فأما ذبائحهم فلا تحل {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} معناه :
وطعامكم يحل لكم أن تطعموهم {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} معناه : وأحل لكم العقد على المحصنات أي : العفائف من المؤمنات ، عن الحسن ، والشعبي ، وإبراهيم . وقيل : أراد الحرائر ، عن مجاهد ، واختاره أبو علي . فعلى هذا القول لا تدخل الإماء في الإباحة مع القدرة على طول الحرة .
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وهم اليهود والنصارى .
واختلف في معناه فقيل : هن العفائف حرائر كن ، أو إماء حربيات كن ، أو ذميات ، عن مجاهد ، والحسن ، والشعبي ، وغيرهم . وقيل : هن الحرائر ، ذميات كن أو حربيات ، وقال أصحابنا : لا يجوز عقد نكاح الدوام على الكتابية ، لقوله تعالى {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} ، ولقوله {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} ، وأولوا هذه الآية بأن المراد بالمحصنات من الذين أوتوا الكتاب : اللاتي أسلمن منهن ، والمراد بالمحصنات من المؤمنات اللاتي كن في الأصل مؤمنات ، بأن ولدن على الإسلام ، وذلك أن قوما كانوا يتحرجون من العقد على من أسلمت عن كفر ، فبين سبحانه أنه لا حرج في ذلك ، فلهذا أفردهن بالذكر ، حكى ذلك أبو القاسم البلخي .
قالوا : ويجوز أن يكون مخصوصا أيضا بنكاح المتعة ، وملك اليمين ، فإن عندنا يجوز وطؤهن بكلا الوجهين ، على أنه قد روى أبو الجارود ، عن أبي جعفر عليه السلام أنه منسوخ بقوله {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} ، وبقوله {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} ، وقوله {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي : مهورهن ، وهو عوض الاستمتاع بهن ، عن ابن عباس ، وغيره {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} يعني :
أعفاء غير زانين بكل فاجرة ، وهو منصوب على الحال {وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} أي :
ولا متفردين ببغية واحدة خادنها وخادنته ، اتخذها لنفسه صديقة يفجر بها . وقد مر معنى الإحصان ، والسفاح ، والأخدان ، في سورة النساء {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ} أي : ومن يجحد ما أمر الله بالإقرار به ، والتصديق له ، من توحيد الله ، وعدله ، ونبوة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم {فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} الذي عمله ، واعتقده قربة إلى الله تعالى ، وإنما تحبط الأعمال بأن لا يستحق عليها ثواب {وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أي :
الهالكين . وقيل : المعني بقوله : {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ} : أهل الكتاب ، ويكون معناه : ومن يمتنع عن الإيمان ، ولم يؤمن . وفي قوله : {فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} ، هنا ، دلالة على أن حبوط الأعمال لا يترتب على ثبوت الثواب ، فإن الكافر لا يكون له عمل قد ثبت عليه ثواب ، وإنما يكون له عمل في الظاهر ، لولا كفره ، لكان يستحق الثواب عليه ، فعبر سبحانه عن هذا العمل ، بأنه حبط فهو حقيقة معناه .
____________________________
1 . تفسير مجمع البيان ، ج3 ، ص 279-281 .
{ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ } . اختلف السنة والشيعة في المعنى المراد بطعام أهل الكتاب ، وهم اليهود والنصارى ، فقال السنة : المراد به ذبائحهم ، نقل هذا عنهم صاحب تفسير المنار ، وهذه عبارته بالحرف : « فسر الجمهور الطعام هنا بالذبائح ، لأن غيرها حلال بقاعدة أصل الحل » .
وذهب أكثر فقهاء الشيعة إلى نجاسة أهل الكتاب ، وحرموا طعامهم وشرابهم ، حتى الخبز والماء الذي باشروه ، وفسروا الطعام في الآية بالحبوب .
أما نحن فنرى طهارة أهل الكتاب (2) ، وقد صرحنا بذلك مع الدليل في الجزء الأول من فقه الإمام جعفر الصادق ، وعلى هذا كثير من المراجع الكبار ، منهم السيد الحكيم والسيد الخوئي الذي أسرّ برأيه لمن يثق به . أما قول من قال :
الكتابي متنجس لا نجس فهو تلاعب بالألفاظ ، لأن الأشياء في الشريعة على قسمين : طاهر ونجس ، ولا ثالث . . أجل قد تعرض النجاسة للطاهر ، ثم تزول بالتطهير ، ولو كانت لازمة له لكان نجسا ، لا متنجسا .
أما تفسير الطعام بالحبوب خاصة فبعيد كل البعد عن فصاحة القرآن وبلاغته ، فقد استعمل الطعام لصيد البحر ، ولا حبوب في البحر ، قال تعالى : {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ} [المائدة - 96] . واستعمله في الماء ، وبين الماء والحبوب ما بين السائل والجامد ، قال عز من قائل : {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي ومَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة - 249] . واستعمله في شتى المأكولات : فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} [الأحزاب - 53] . وهل يجرؤ واحد على تفسيره بإذا أكلتم الشعير - مثلا - فانتشروا ؟ . . وإذا تجرأ على مثل هذا التفسير فمن أي نوع يكون ؟ . . بل استعمل سبحانه الطعام في اللحم : { قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ} [الأنعام - 145] .
ومن أجل هذا نقول بأن ذبائح أهل الكتاب حلال ، مع العلم بتوافر الشرائط من الاستقبال والتسمية وقطع الأوداج الأربعة ، وهذا هو الفرق بين ذبيحة الكتابي ، وذبيحة المسلم ، فذبيحة الأول تحرم إلا إذا علمت بأنه استقبل وسمى وقطع الأوداج الأربعة مع استقرار الحياة في الحيوان قبل الذبح ، وذبيحة الثاني تحل إلا إذا علمت بأنه أخل بما أوجبه الشرع . وصرحنا بذلك مع الدليل في الجزء الرابع من فقه الإمام جعفر الصادق ، وفيه روايات صحيحة عن أهل البيت ( عليه السلام ) . وعمل بها الشهيد الثاني والصدوق وابن أبي عقيل وابن الجنيد .
قال صاحب مجمع البيان عند تفسير هذه الآية : « عن أكثر المفسرين ، وأكثر الفقهاء ان المراد بالطعام في الآية ذبائح أهل الكتاب ، وبه قال جماعة من أصحابنا » أي من علماء الشيعة الذين يعتد بأقوالهم .
{ والْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ والْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ولا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ } . المراد بالإحصان في الألفاظ الثلاث العفة ، وبالأجور المهور ، والمسافحون هم الذين يرتكبون الزنا جهرا ، ومتخذوا الأخدان يرتكبونه سرا ، وقيّد إتيان الأجور بعدم الزنا المشار إليه بمحصنين غير مسافحين - للإشعار بأن ما يدفعه الرجل للمرأة من المال يجب أن يكون مهرا للنكاح الشرعي ، لا أجرا للسفاح ، ومحصل المعنى ان اللَّه قد أحل نكاح العفيفات المسلمات والكتابيات ، وعلى من ينكحهن أن يدفع لهن ما جرى عليه الاتفاق من المال مهرا شرعيا ، لا بدلا عن الزنا .
واتفق فقهاء المذاهب على أن المسلم لا يحل له أن يتزوج بمن لا تدين بشيء إطلاقا ، ولا بمن تعبد الأوثان والنيران ، وما إليها ، واختلفوا في زواج الكتابية ، أي النصرانية واليهودية ، فقال أصحاب المذاهب الأربعة السنية : يجوز ، واستدلوا بهذه الآية ، واختلف فقهاء الشيعة بين مجيز ومانع ومفصل بين الزواج الدائم والمنقطع ، فأجاز الثاني ، ومنع الأول .
ونحن مع القائلين بالجواز مطلقا ، ومستندنا أولا : الأدلة الدالة على إباحة الزواج بوجه عام . ثانيا : قوله تعالى : { والْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ } .
ثالثا : الروايات الكثيرة عن أهل البيت ( عليه السلام ) ، وذكرها صاحب الوسائل والجواهر ، ووصفها هذا بالمستفيضة ، أي بلغت حدا من الكثرة يقرب من التواتر ، ونقلنا بعضها في الجزء الخامس من فقه الإمام جعفر الصادق .
وتسأل : وما أنت صانع بقوله تعالى : {ولا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} .
وقوله : { ولا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ } ؟
الجواب : المشركات غير الكتابيات بدليل عطف المشركين على أهل الكتاب في الآية الأولى من سورة البينة : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ والْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } . أما قوله : {ولا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ } فغير صريح في الزواج ، لأن الإمساك بالعصم كما يكنى به عن الزواج يكنى به عن غير الزواج أيضا ، قال صاحب المسالك : « ان الآية ليست صريحة في إرادة النكاح ، ولا فيما هو أعم منه » .
{ ومَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ } .
بعد أن ذكر سبحانه طرفا من أحكامه وحلاله وحرامه قال : من سمع وأطاع فهو المؤمن حقا ، وعمله مقبول ، وعليّ أجره وثوابه ، ومن جحد أحكامي وشريعتي فهو الكافر الخاسر ، فالمراد بالإيمان هنا نفس الأحكام التي يجب الإيمان بها ، من باب اطلاق المصدر على المفعول ، كإطلاق الخلق على المخلوق ، والأكل على المأكول ، أما الإحباط فقد تكلمنا عنه مفصلا عند تفسير الآية 217 من سورة البقرة ج 1 ص 326 .
________________________
1. تفسير الكاشف ، ج3 ، ص 18-20 .
2. وأخيرا أفتى بطهارتهم السيد الحكيم المرجع الكبير للطائفة الإسلامية الشيعية .
قوله تعالى : { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ } إعادة ذكر حل الطيبات مع ذكره في الآية السابقة ، وتصديره بقوله : { الْيَوْمَ } للدلالة على الامتنان منه تعالى على المؤمنين بإحلال طعام أهل الكتاب والمحصنات من نسائهم للمؤمنين .
وكان ضم قوله : { أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ } إلى قوله : { وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ } (إلخ) من قبيل ضم المقطوع به إلى المشكوك فيه لإيجاد الطمأنينة في نفس المخاطب وإزالة ما فيه من القلق والاضطراب كقول السيد لخادمه : لك جميع ما ملكتكه وزيادة هي كذا وكذا فإنه إذا ارتاب في تحقق ما يعده سيده من الإعطاء شفع ما يشك فيه بما يقطع به ليزول عن نفسه أذى الريب إلى راحة العلم ، ومن هذا الباب يوجه قوله تعالى : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ } : ( يونس : 26 ) وقوله تعالى : { لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ } : ( ق : 35 ) .
فكان نفوس المؤمنين لا تسكن عن اضطراب الريب في أمر حل طعام أهل الكتاب لهم بعد ما كانوا يشاهدون التشديد التام في معاشرتهم ومخالطتهم ومساسهم وولايتهم حتى ضم إلى حديث حل طعامهم أمر حل الطيبات بقول مطلق ففهموا منه أن طعامهم من سنخ سائر الطيبات المحللة فسكن بذلك طيش نفوسهم ، واطمأنت قلوبهم وكذلك القول في قوله : { وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } . وأما قوله : { وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ } فالظاهر أنه كلام واحد ذو مفاد واحد ، إذ من المعلوم أن قوله : { وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ } ليس في مقام تشريع حكم الحل لأهل الكتاب ، وتوجيه التكليف إليهم وإن قلنا بكون الكفار مكلفين بالفروع الدينية كالأصول ، فإنهم غير مؤمنين بالله ورسوله وبما جاء به رسوله ولا هم يسمعون ولا هم يقبلون ، وليس من دأب القرآن أن يوجه خطابا أو يذكر حكما إذا استظهر من المقام أن الخطاب معه يكون لغوا والتكليم معه يذهب سدى. اللهم إلا إذا أصلح ذلك بشيء من فنون التكليم كالالتفات من خطاب الناس إلى خطاب النبي ونحو ذلك كقوله : { قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ } : ( آل عمران : 64 ) وقوله : { قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً } : ( إسراء : 93 ) إلى غير ذلك من الآيات .
وبالجملة ليس المراد بقوله : { وَطَعامُ الَّذِينَ } ، بيان حل طعام أهل الكتاب للمسلمين حكما مستقلا وحل طعام المسلمين لأهل الكتاب حكما مستقلا آخر ، بل بيان حكم واحد وهو ثبوت الحل وارتفاع الحرمة عن الطعام ، فلا منع في البين حتى يتعلق بأحد الطرفين نظير قوله تعالى : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } : ( الممتحنة : 10 ) أي لا حل في البين حتى يتعلق بأحد الطرفين .
ثم إن الطعام بحسب أصل اللغة كل ما يقتات به ويطعم لكن قيل : إن المراد به البر وسائر الحبوب ففي لسان العرب : وأهل الحجاز إذا أطلقوا اللفظ بالطعام عنوا به البر خاصة . قال : وقال الخليل : العالي في كلام العرب أن الطعام هو البر خاصة ، انتهى .
وهو الذي يظهر من كلام ابن الأثير في النهاية ، ولهذا ورد في أكثر الروايات المروية عن أئمة أهل البيت عليه السلام : أن المراد بالطعام في الآية هو البر وسائر الحبوب إلا ما في بعض الروايات مما يظهر به معنى آخر وسيجيء الكلام فيه في البحث الروائي الآتي .
وعلى أي حال لا يشمل هذا الحل ما لا يقبل التذكية من طعامهم كلحم الخنزير ، أو يقبلها من ذبائحهم لكنهم لم يذكوها كالذي لم يهل به لله ، ولم يذك تذكية إسلامية فإن الله سبحانه عد هذه المحرمات المذكورة في آيات التحريم ـ وهي الآي الأربع التي في سور البقرة والمائدة والأنعام والنحل ـ رجسا وفسقا وإثما كما بيناه فيما مر ، وحاشاه سبحانه أن يحل ما سماه رجسا أو فسقا أو إثما امتنانا بمثل قوله { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ } .
على أن هذه المحرمات بعينها واقعة قبيل هذه الآية في نفس السورة ، وليس لأحد أن يقول في مثل المورد بالنسخ وهو ظاهر ، وخاصة في مثل سورة المائدة التي ورد فيها أنها ناسخة غير منسوخة .
قوله تعالى : { وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } ، الإتيان في متعلق الحكم بالوصف أعني ما في قوله : { الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ } من غير أن يقال : من اليهود والنصارى مثلا أو يقال : من أهل الكتاب ، لا يخلو من إشعار بالعلية واللسان لسان الامتنان ، والمقام مقام التخفيف والتسهيل ، فالمعنى : أنا نمتن عليكم بالتخفيف والتسهيل في رفع حرمة الازدواج بين رجالكم والمحصنات من نساء أهل الكتاب لكونهم أقرب إليكم من سائر الطوائف غير المسلمة ، وهم أوتوا الكتاب وأذعنوا بالتوحيد والرسالة بخلاف المشركين والوثنيين المنكرين للنبوة ، ويشعر بما ذكرنا أيضا تقييد قوله : { أُوتُوا الْكِتابَ } بقوله : { مِنْ قَبْلِكُمْ } فإن فيه إشعارا واضحا بالخطط والمزج والتشريك .
وكيف كان لما كانت الآية واقعة موقع الامتنان والتخفيف لم تقبل النسخ بمثل قوله تعالى : { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } : ( البقرة : 221 ) وقوله تعالى : { وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ } : ( الممتحنة : 10 ) وهو ظاهر .
على أن الآية الأولى واقعة في سورة البقرة ، وهي أول سورة مفصلة نزلت بالمدينة قبل المائدة : وكذا الآية الثانية واقعة في سورة الممتحنة ، وقد نزلت بالمدينة قبل الفتح ، فهي أيضا قبل المائدة نزولا ، ولا وجه لنسخ السابق للاحق مضافا إلى ما ورد : أن المائدة آخر ما نزلت على النبي صلى الله عليه وآله فنسخت ما قبلها ، ولم ينسخها شيء .
على أنك قد عرفت في الكلام على قوله تعالى : { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } : الآية ( البقرة : 221 ) في الجزء الثاني من الكتاب أن الآيتين أعني آية البقرة وآية الممتحنة أجنبيتان من الدلالة على حرمة نكاح الكتابية.
ولو قيل بدلالة آية الممتحنة بوجه على التحريم كما يدل على سبق المنع الشرعي ورود آية المائدة في مقام الامتنان والتخفيف ـ ولا امتنان ولا تخفيف لو لم يسبق منع ـ كانت آية المائدة هي الناسخة لآية الممتحنة لا بالعكس لأن النسخ شأن المتأخر ، وسيأتي في البحث الروائي كلام في الآية الثانية.
ثم المراد بالمحصنات في الآية : العفائف وهو أحد معان الإحصان ، وذلك أن قوله : { وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ } ، يدل على أن المراد بالمحصنات غير ذوات الأزواج وهو ظاهر ، ثم الجمع بين المحصنات من أهل الكتاب والمؤمنات على ما مر من توضيح معناها يقضي بأن المراد بالمحصنات في الموضعين معنى واحد ، وليس هو الإحصان بمعنى الإسلام لمكان قوله : ( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) ، وليس المراد بالمحصنات الحرائر فإن الامتنان المفهوم من الآية لا يلائم تخصيص الحل بالحرائر دون الإماء ، فلم يبق من معاني الإحصان إلا العفة فتعين أن المراد بالمحصنات العفائف.
وبعد ذلك كله إنما تصرح الآية بتشريع حل المحصنات من أهل الكتاب للمؤمنين من غير تقييد بدوام أو انقطاع إلا ما ذكره من اشتراط الأجر وكون التمتع بنحو الإحصان لا بنحو المسافحة واتخاذ الأخدان ، فينتج أن الذي أحل للمؤمنين منهن أن يكون على طريق النكاح عن مهر وأجر دون السفاح ، من غير شرط آخر من نكاح دوام أو انقطاع ، وقد تقدم في قوله تعالى : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ } : الآية ( النساء : 24 ) في الجزء الرابع من الكتاب أن المتعة نكاح كالنكاح الدائم ، وللبحث بقايا تطلب من علم الفقه .
قوله تعالى : { إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ } الآية في مساق قوله تعالى في آيات محرمات النكاح : { وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ } : ( النساء : 24 ) والجملة قرينة على كون المراد بالآية بيان حلية التزوج بالمحصنات من أهل الكتاب من غير شمول منها لملك اليمين .
قوله تعالى : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ } الكفر في الأصل هو الستر فتحقق مفهومه يتوقف على أمر ثابت يقع عليه الستر كما أن الحجاب لا يكون حجابا إلا إذا كان هناك محجوب فالكفر يستدعي مكفورا به ثابتا كالكفر بنعمة الله والكفر بآيات الله والكفر بالله ورسوله واليوم الآخر.
فالكفر بالإيمان يقتضي وجود إيمان ثابت ، وليس المراد به المعنى المصدري من الإيمان بل معنى اسم المصدر وهو الأثر الحاصل والصفة الثابتة في قلب المؤمن أعني الاعتقادات الحقة التي هي منشأ الأعمال الصالحة ، فيئول معنى الكفر بالإيمان إلى ترك العمل بما يعلم أنه حق كتولي المشركين ، والاختلاط بهم ، والشركة في أعمالهم مع العلم بحقية الإسلام ، وترك الأركان الدينية من الصلاة والزكاة والصوم والحج مع العلم بثبوتها أركانا للدين .
فهذا هو المراد من الكفر بالإيمان لكن هاهنا نكتة وهي أن الكفر لما كان سترا وستر الأمور الثابتة لا يصدق بحسب ما يسبق إلى الذهن إلا مع المداومة والمزاولة فالكفر بالإيمان إنما يصدق إذا ترك الإنسان العمل بما يقتضيه إيمانه ، ويتعلق به علمه ، ودام عليه ، وأما إذا ستر مرة أو مرتين من غير أن يدوم عليه فلا يصدق عليه الكفر وإنما هو فسق أتى به .
ومن هنا يظهر أن المراد بقوله : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ } هو المداومة والاستمرار عليه وإن كان عبر بالفعل دون الوصف. فتارك الاتباع لما حق عنده من الحق ، وثبت عنده من أركان الدين كافر بالإيمان ، حابط العمل كما قال تعالى : { فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } .
فالآية تنطبق على قوله تعالى : { وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ } : ( الأعراف : 147 ) فوصفهم باتخاذ سبيل الغي وترك سبيل الرشد بعد رؤيتهما وهي العلم بهما ثم بدل ذلك بتوصيفهم بتكذيب الآيات ، والآية إنما تكون آية بعد العلم بدلالتها ، ثم فسره بتكذيب الآخرة لما أن الآخرة لو لم تكذب منع العلم بها عن ترك الحق ، ثم أخبر بحبط أعمالهم .
ونظير ذلك قوله تعالى : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً } : ( الكهف : 105 ) وانطباق الآيات على مورد الكفر بالإيمان بالمعنى الذي تقدم بيانه ظاهر.
وبالتأمل فيما ذكرنا يظهر وجه اتصال الجملة أعني قوله : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } ، بما قبله فالجملة متممة للبيان السابق ، وهي في مقام التحذير عن الخطر الذي يمكن أن يتوجه إلى المؤمنين بالتساهل في أمر الله ، والاسترسال مع الكفار فإن الله سبحانه إنما أحل طعام أهل الكتاب والمحصنات من نسائهم للمؤمنين ليكون ذلك تسهيلا وتخفيفا منه لهم ، وذريعة إلى انتشار كلمة التقوى ، وسراية الأخلاق الطاهرة الإسلامية من المسلمين المتخلقين بها إلى غيرهم ، فيكون داعية إلى العلم النافع ، وباعثة نحو العمل الصالح .
فهذا هو الغرض من التشريع لا لأن يتخذ ذلك وسيلة إلى السقوط في مهابط الهوى ، والإصعاد في أودية الهوسات ، والاسترسال في حبهن والغرام بهن ، والتوله في جمالهن ، فيكن قدوة تتسلط بذلك أخلاقهن وأخلاق قومهن على أخلاق المسلمين ، ويغلب فسادهن على صلاحهم ، ثم يكون البلوى ويرجع المؤمنون إلى أعقابهم القهقرى ، ومآل ذلك عود هذه المنة الإلهية فتنة ومحنة مهلكة ، وصيرورة هذا التخفيف الذي هو نعمة نقمة .
فحذر الله المؤمنين بعد بيان حلية طعامهم والمحصنات من نسائهم أن لا يسترسلوا في التنعم بهذه النعمة استرسالا يؤدي إلى الكفر بالإيمان ، وترك أركان الدين ، والإعراض عن الحق فإن ذلك يوجب حبط العمل ، وينجر إلى خسران السعي في الآخرة .
واعلم أن للمفسرين في هذه الآية أعني قوله : { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ } ( إلى آخر الآية ) خوضا عظيما ردهم إلى تفاسير عجيبة لا يحتملها ظاهر اللفظ ، وينافيها سياق الآية كقول بعضهم : إن قوله : { أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ } يعني من الطعام كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي ، وقول بعضهم : إن قوله : { وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ } أي بمقتضى الأصل الأولي لم يحرمه الله عليكم قط ، وإن اللحوم من الحل وإن لم يذكوها إلا بما عندهم من التذكية ، وقول بعضهم : إن المراد بقوله : { وَطَعامُ الَّذِينَ } هو مؤاكلتهم ، وقول بعضهم : إن المراد بقوله : { وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } بيان الحلية بحسب الأصل من غير أن يكون محرما قبل ذلك بل قوله تعالى : { وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ } : ( النساء : 24 ) كاف في إحلالهن ، وقول بعضهم : إن المراد بقوله : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } التحذير عن رد ما في صدر الآية من قضية حل طعام أهل الكتاب والمحصنات من نسائهم .
فهذه وأمثالها معان احتملوها ، وهي بين ما لا يخلو من مجازفة وتحكم كتقييد قوله : { الْيَوْمَ أُحِلَّ } ، بما تقدم من غير دليل عليه وبين ما يدفعه ظاهر السياق من التقييد باليوم والامتنان والتخفيف وغير ذلك مما تقدم بيانه والبيان السابق الذي استظهرنا فيه باعتبار ظواهر الآيات الكريمة كاف في إبطالها وإبانة وجه الفساد فيها .
وأما كون آية : { وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ } دالة على حل نكاح الكتابية فظاهر البطلان لظهور كون الآية في مقام بيان محرمات النساء ومحللاتهن بحسب طبقات النسب والسبب لا بحسب طبقات الأديان والمذاهب .
__________________________
1. تفسير الميزان ، ج5 ، ص 174-179 .
حكم طعام أهل الكتاب وحكم الزّواج بهم :
تناولت هذه الآية ، التي جاءت مكملة للآيات السابقة ، نوعا آخر من الغذاء الحلال ، فبيّنت أنّ كل غذاء طاهر حلال ، وإن غذاء أهل الكتاب حلال للمسلمين ، وغذاء المسلمين حلال لأهل الكتاب ، وحيث قالت الآية : {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ...}.
وتشتمل هذه الآية الكريمة على أمور نجلب الالتفات إليها ، وهي :
١ـ إنّ المراد بكلمة «اليوم» الواردة في هذه الآية هو يوم «عرفة» بناء على ما اعتقده بعض المفسّرين ، وقد ذهب مفسرون آخرون إلى أنّ المراد هو اليوم الذي تلا فتح خيبر ـ ولا يبعد ـ أن يكون هو نفس «يوم غدير خم» الذي تحقق فيه النصر الكامل للمسلمين على الكفار (وسنتناول هذا الموضوع بالشرح قريبا) .
٢ـ لقد تناولت هذه الآية قضية تحليل الطيبات مع أنّها كانت حلالا قبل نزول الآية والهدف من ذلك هو أن تكون هذه القضية مقدمة لبيان حكم «طعام أهل الكتاب» .
٣ـ ما هو المقصود بـ «طعام أهل الكتاب» الذي اعتبرته الآية حلالا على المسلمين ؟
يعتقد أغلب مفسّري علماء السنة أن «طعام أهل الكتاب» يشمل كل أنواع الطعام ، سواء كان من لحوم الحيوانات المذبوحة بأيدي أهل الكتاب أنفسهم أو غير ذلك من الطعام ، بينما تعتقد الأغلبية الساحقة من مفسّري الشيعة وفقهائهم أنّ المقصود من «طعام أهل الكتاب» هو غير اللحوم المذبوحة بأيدي أهل الكتاب ، إلّا أن هناك القليل من علماء الشيعة ـ أيضا ـ ممن يقولون بصحة النظرية الأولى التي اتبعها أهل السنة.
وتؤكد رأي غالبية الشيعة ـ في هذا المجال ـ الروايات العديدة الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام .
فقد جاء في تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصّادق عليه السلام أنّه قال في هذه الآية : «عني بطعامهم ها هنا الحبوب والفاكهة غير الذبائح التي يذبحون ، فإنه لا يذكرون اسم الله عليها» .
ووردت روايات عديدة أخرى في هذا المجال في الجزء السادس عشر من كتاب وسائل الشيعة في الباب ٥١ من أبواب الأطعمة والأشربة ، في الصفحة ٣٧١.
وبالإمعان في الآيات السابقة يتبيّن أن التّفسير الثّاني ذهبت إليه الأكثرية من مفسّري الشيعة وفقهائهم (تفسير الطعام بغير الذبيحة) هو أقرب إلى الحقيقة من التّفسير الأوّل .
وذلك ـ كما أوضح الإمام الصّادق عليه السلام في الرواية التي أوردناها أعلاه ـ لأنّ أهل الكتاب لا يراعون الشروط الإسلامية في ذبائحهم ، فهم لا يذكرون اسم الله على الذبيحة ، ولا يوجهونها صوب القبلة أثناء ذبحها ، كما أنّهم لا يلتزمون برعاية الشروط الأخرى ـ فهل يعقل أن تحرم الآية السابقة ـ وبصورة صريحة ـ لحم الحيوان المذبوح بهذه الطريقة ، وتأتي آية أخرى بضدها لتحلله ؟!
وترد على الذهن في هذا المجال أسئلة نلخصها فيما يلي :
١ ـ لو كان المقصود بالطعام سائر الأغذية ما عدا لحوم ذبائح أهل الكتاب ، فإنّ هذه الأغذية كانت حلالا من قبل ، ولا فرق بين وجودها في أيدي أهل الكتاب أو غيرهم ، فهل كان شراء الحبوب والغلات من أهل الكتاب قبل نزول هذه الآية شيئا مخالفا للشرع ، في حين أن المسلمين كانوا دائما يتعاطون مع أهل الكتاب شراء وبيع هذه الأشياء ؟!
إذا توجهنا إلى نقطة أساسية في الآية الكريمة ، يتوضح لنا بجلاء جواب هذا السؤال ، فالآية الأخيرة ـ هذه ـ نزلت في زمن كان للإسلام فيه السلطة الكاملة على شبه الجزيرة العربية وقد أثبت الإسلام وجوده في كل الساحات والميادين على طول هذه الجزيرة وعرضها ، بحيث أنّ أعداء الإسلام قد تملكهم اليأس التام لعجزهم عن دحر المسلمين ، ولذلك اقتضت الضرورة ـ في مثل هذا الظرف المناسب للمسلمين ـ أن ترفع القيود والحدود التي كانت مفروضة قبل هذا في مجال مخالطة المسلمين لغيرهم ، حيث كانت هذه القيود تحول دون تزاور المسلمين مع الغير.
لذلك نزلت هذه الآية الكريمة وأعلنت تخفيف قيود التعامل والمعاشرة مع أهل الكتاب، بعد أن ترسخت قواعد وأساس الحكومة الإسلامية ، ولم يعد هناك ما يخشى منه من جانب غير المسلمين ، فسمحت الآية بالتزاور بين المسلمين وغيرهم ، وأحلت طعام بعضهم لبعض كما أحلت التزواج فيها بينهم (ولكن على أساس الشروط التي سنبيّنها) .
جدير بالقول أنّ الذين لا يرون طهارة أهل الكتاب يشترطون أن يكون طعامهم خاليا من الرطوبة أو البلل ، وإذا كان الطعام رطبا يشترط أن لا تكون أيادي أهل الكتاب قد مسته لكي يستطيع المسلمين تناول هذا الطعام ، كما يرى هؤلاء عدم جواز تناول طعام أهل الكتاب إن لم تتوفر الشروط المذكورة فيه.
إلّا أنّ مجموعة أخرى من العلماء الذين يرون طهارة أهل الكتاب ، لا يجدون بأسا في تناول الطعام مع أهل الكتاب والحلول ضيفا عليهم ، شرط أن لا يكون طعامهم من لحوم ذبائحهم وأن يحصل اليقين من براءته من نجاسة عرضية (كأن يكون قد تنجس باختلاطه أو ملامسته للخمرة أو الجعة «ماء العشير») .
وخلاصة القول : إنّ الآية ـ موضوع البحث ـ جاءت لترفع الحدود والقيود السابقة الخاصّة بمعاشرة أهل الكتاب ، والدليل على ذلك هو إشارة الآية لإباحة طعام المسلمين لأهل الكتاب ، أي السماح للمسلمين باستضافتهم ، كما تتطرق الآية بعد ذلك مباشرة إلى حكم التزاوج بين المسلمين وأهل الكتاب (أي الزواج بنساء أهل الكتاب) .
وبديهي أنّ النظام الذي يمتلك السيطرة الكاملة على أوضاع المجتمع ، هو وحده القادر على إصدار مثل هذا الحكم لمصلحة أتباعه دون أن يساوره أي قلق بسبب الأعداء ، وقد ظهرت هذه الحالة في الحقيقة في يوم غدير خم ، أو في يوم عرفة في حجّة الوداع كما اعتقده البعض ، أو بعد فتح خيبر ، مع أن يوم غدير خم هو الأقرب إلى هذا الموضوع.
أورد صاحب تفسير المنار في كتابه اعتراضا آخر في تفسير هذه الآية ، حيث يقول بأنّ كلمة «طعام» وردت في كثير من آيات القرآن بمعنى كل أنواع الطعام ، وهي تشمل اللحوم أيضا ، فكيف يمكن تقييد الآية بالحبوب والفواكه وأمثالها ؟ ، ثمّ يقول بأنّه طرح هذا الاعتراض في مجلس كان يضم جمعا من الشيعة فلم يجب أحد عليه.
وباعتقادنا نحن أنّ جواب اعتراض صاحب كتاب المنار واضح ، فنحن لا ننكر أنّ لفظة «طعام» تحمل مفهوما واسعا ، إلّا أنّ ما ورد في الآيات السابقة ، كبيان أنواع اللحوم المحرمة ـ وبالأخص لحوم الحيوانات التي لم يذكر اسم الله عليها لدى ذبحها ـ إنّما يخصص هذا المفهوم الواسع ويحدد كلمة «طعام» في الآية بغير اللحوم ، ولا ينكر أحد أن كل عام أو مطلق قابل للتخصيص والتقييد ، كما نعلم أنّ أهل الكتاب لا يلتزمون بذكر اسم الله على ذبائحهم ، ناهيك على أنّهم لا يراعون ـ أيضا ـ الشروط الواردة في السنّة في مجال الذبح .
وجاء في كتاب «كنز العرفان» حول تفسير هذه الآية اعتراض آخر خلاصته أن كلمة «طيبات» لها مفهوم واسع ، وهي «عامّة» بحسب الاصطلاح ، بينما جملة {وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ} خاصّة ، وطبيعي أنّ ذكر الخاص بعد العام يجب أن يكون لسبب ، ولكن السبب في هذا المجال غير واضح ، ثمّ يرجو صاحب الكتاب من الله أن يحل له هذه المعضلة العلمية (2) .
إنّ جواب هذا الاعتراض يتّضح أيضا ممّا قلناه سابقا بأنّ الآية إنّما جاءت بعبارة {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ} كمقدمة من أجل بيان رفع القيود في التقارب مع أهل الكتاب ، فالحقيقة أنّ الآية تقول بأنّ كل شيء طيب هو حلال للمسلمين ، وبناء على هذا فإن طعام أهل الكتاب (إذ كان طيبا وطاهرا) هو حلال أيضا للمسلمين ـ وأن الحدود والقيود التي كانت تقف حائلا دون تقارب المسلمين مع أهل الكتاب قد رفعت أو خففت في هذا اليوم بعد الانتصارات التي أحرزها المسلمون فيه ، (فليمعن النظر في هذا) .
حكم الزّواج بغير المسلمات :
بعد أن بيّنت هذه الآية حلية طعام أهل الكتاب تحدثت عن الزواج بالنساء المحصنات من المسلمات ومن أهل الكتاب ، فقالت بأنّ المسلمين يستطيعون الزّواج بالنساء المحصنات من المسلمات ومن أهل الكتاب ، شرط أن يدفعوا لهن مهورهن ، حيث تقول الآية : {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ...} على أن يكون التواصل بوسيلة الزّواج المشروع وليس عن طريق الزنا الصريح ، ولا عن طريق المعاشرة الخفية ، حيث تقول الآية : {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ} (3).
وهذا الجزء من الآية الكريمة يقلل في الحقيقة الحدود التي كانت مفروضة على الزواج بين المسلمين وغيرهم ، ويبيّن جواز زواج المسلم بالمرأة الكتابية ضمن شروط خاصّة.
وقد اختلف فقهاء المسلمين في أنّ جواز الزواج بالمرأة الكتابية هل ينحصر بالنوع المؤقت من الزّواج ، أو يشمل النوعين : الدائم والمؤقت؟
لا يرى علماء السنّة فرقا بين نوعي الزواج في هذا المجال ، ويعتقدون بأنّ الآية عامّة ، بينما يعتقد جمع من علماء الشيعة أنّ الآية مقتصرة على الزواج المؤقت ، وتؤيّد روايات وردت عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام هذا الرأي أيضا.
والقرائن الموجودة في الآية يمكن أن تكون دليلا على هذا القول.
وأوّل هذه القرائن هو قوله تعالى : {إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ} ولو أن لفظة «الأجر» تطلق على المهر في نوعي الزواج الدائم والمؤقت ، إلّا أنّها غالبا ما ترد لبيان المهر في الزواج المؤقت ، أي أنّها تناسب هذا الأخير أكثر .
أمّا القرينة الثّانية فهي قوله تعالى : {غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ ...} فهي تتلاءم أكثر مع الزواج المؤقت ، لأنّ الزواج الدائم ليس فيه شبه الزنا أو الصداقة السرية لكي ينهى عنه ، بينما يشتبه بعض السذج من الناس ـ أحيانا ـ في الزواج المؤقت فيخلطون بينه وبين الزنا والصداقة السرية غير المشروعة مع المرأة.
أضف إلى ذلك كلّه ورد هذه التعابير في الآية (٢٥) من سورة النساء ، وكما نعلم فإنّ تلك الآية نزلت في شأن الزواج المؤقت.
مع ذلك كلّه فإنّ هناك العديد من الفقهاء ممن يجيزون الزواج بالكتابيات بصورة مطلقة ، ولا يرون القرائن المذكورة كافية لتخصيص الآية ، كما يستدلون في هذا المجال ببعض الروايات «للاطلاع على تفاصيل أكثر في المجال يجدر الرجوع إلى كتب الفقه».
ولا يخفى علينا ما شاع في عالم اليوم من تقاليد الجاهلية بصورة مختلفة ، ومن ذلك انتخاب الرجل أو المرأة خليلا من الجنس الآخر وبصورة علنية ، وقد تمادى إنسان عالم اليوم أكثر من نظيره الجاهلي في التحلل والخلاعة والمجون الجنسي ، ففي حين كان الإنسان الجاهلي ينتخب الأخلاء سرّا وفي الخفاء ، أصبح إنسان اليوم لا يرى بأسا من إعلان هذا الأمر والتباهي به بكل صلف ووقاحة ، ويعتبر هذا التقليد المشين نوعا صريحا ومفضوحا من الفحشاء وهدية مشؤومة انتقلت من الغرب إلى الشرق وأصبحت مصدرا للكثير من النكبات والكوارث.
ولا يفوتنا أن نوضح هذه النقطة وهي أن الآية أجازت تناول طعام أهل الكتاب كما أجازت إطعامهم وفق الشروط التي ذكرت ، بينما في قضية الزواج أجازت فقط الزواج بنساء أهل الكتاب ، ولم تجز للنساء المسلمات الزواج بالرجال من أهل الكتاب .
وفلسفة هذا الأمر جلية واضحة لا تحتاج إلى الشرح والتفصيل ، لأنّ النساء بما يمتلكنه من عواطف ومشاعر رقيقة يكن أكثر عرضة لاكتساب أفكار أزواجهنّ ، من الرجال.
ولكي تسد الآية طريق إساءة استغلال موضوع التقارب والمعاشرة مع أهل الكتاب والزواج من المرأة الكتابية على البعض من ضعاف النفوس ، وتحول دون الانحراف إلى هذا الأمر بعلم أو بدون علم ، حذرت المسلمين في جزئها الأخير فقالت : {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ}.
وهذه إشارة إلى أنّ التسهيلات الواردة في الآية بالإضافة إلى كونها تؤدي إلى السعة ورفع الحرج عن حياة المسلمين ، يجب أن تكون ـ أيضا ـ سببا لتغلغل الإسلام إلى نفوس الأجانب ، لا أن يقع المسلمون تحت نفوذ وتأثير الغير فيتركوا دينهم ، وحيث سيؤدي بهم هذا الأمر إلى نيل العقاب الإلهي الصارم الشديد.
وهناك احتمال آخر في تفسير هذا الجزء من الآية نظرا لبعض الروايات الواردة وسبب النّزول المذكور ، وهو أن نفرا من المسلمين أعلنوا ـ بعد نزول هذه الآية وحكم حلية طعام أهل الكتاب والزواج بالكتابيات ـ استياءهم من تطبيق هذه الأحكام ، فحذرتهم الآية من الاعتراض على حكم الله ومن الكفر بهذه الحكم ، وأنذرتهم بأنّ أعمالهم ستذهب هباء وستكون عاقبتهم الخسران.
__________________________
1. تفسير الأمثل ، ج3 ، ص 429-434 .
2. كنز العرفان ، ج ٢ ، ص ٣١٢.
3. لقد أوضحنا في هذا الجزء من تفسيرنا هذا في تفسير الآية (٢٥) من سورة النساء ، أنّ كلمة «أخذان» جمع «خدن» وهي تعني في الأصل الصديق ، وعادة ما تطلق على الصداقة السرية غير الشرعية مع الجنس الآخر.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
الأمين العام للعتبة العسكرية المقدسة يستقبل معتمد المرجعية الدينية العليا وعدد من طلبة العلم والوجهاء وشيوخ العشائر في قضاء التاجي
|
|
|