أقرأ أيضاً
التاريخ: 20-10-2017
15802
التاريخ: 18-10-2017
6804
التاريخ: 15-10-2017
10225
التاريخ: 28-2-2017
16693
|
قال تعالى : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة : 3].
بين سبحانه ما استثناه في الآية المتقدمة بقوله إلا ما يتلى عليكم ، فقال مخاطبا للمكلفين {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} أي : حرم عليكم أكل الميتة والانتفاع بها ، وهو كل ما له نفس سائلة من دواب البر وطيره ، مما أباح الله أكله ، أهليهما ووحشيهما ، فارقه روحه من غير تذكية . وقيل الميتة : كل ما فارقته الحياة من دواب البر وطيره ، بغير تذكية ، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه سمى الجراد والسمك ميتا ، فقال : " ميتتان مباحتان الجراد والسمك " {وَالدَّمُ} أي : وحرم عليكم الدم ، وكانوا يجعلونه في المباعر (2) ، ويشوونه ، ويأكلونه ، فأعلم الله سبحانه أن الدم المسفوح أي : المصبوب ، حرام . فأما المتلطخ باللحم ، فإنه كاللحم ، وما كان كاللحم مثل الكبد ، فهو مباح . وأما الطحال فقد رووا الكراهية فيه ، عن علي عليه السلام ، وابن مسعود ، وأصحابهما وأجمعت الإمامية على أنه حرام ، وذهب سائر الفقهاء إلى أنه مباح .
{وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} وإنما ذكر لحم الخنزير ، ليبين أنه حرام بعينه ، لا لكونه ميتة ، حتى إنه لا يحل تناوله ، وإن حصل فيه ما يكون ذكاة لغيره . وفائدة تخصيصه بالتحريم مع مشاركة الكلب إياه في التحريم ، حالة وجود الحياة ، وعدمها ، وكذلك السباع ، والمسوخ ، وما لا يحل أكله من الحيوانات أن كثيرا من الكفار اعتادوا أكله ، وألفوه أكثر مما اعتادوا في غيره {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} : موضع {ما} رفع ، وتقديره وحرم عليكم ما أهل لغير الله به ، وقد ذكرنا معناه في سورة البقرة ، وفيه دلالة على أن ذبائح من خالف الإسلام لا يجوز أكله ، لأنهم يذكرون عليه اسم غير الله ، لأنهم يعنون به من أبد شرع موسى ، أو اتحد بعيسى ، أو اتخذه ابنا ، وذلك غير الله .
فأما من أظهر الإسلام ، ودان بالتجسيم ، والتشبيه ، والجبر ، وخالف الحق ، فعندنا لا يجوز أكل ذبيحته ، وفيه خلاف بين الفقهاء {وَالْمُنْخَنِقَةُ} وهي التي يدخل رأسها بين شعبتين من شجرة ، فتنخنق وتموت ، عن السدي . وقيل : هي التي تخنق بحبل الصائد ، فتموت ، عن الضحاك ، وقتادة . وقال ابن عباس : كان أهل الجاهلية يخنقونها فيأكلونها {وَالْمَوْقُوذَةُ} وهي التي تضرب حتى تموت ، عن ابن عباس ، وقتادة ، والسدي .
{وَالْمُتَرَدِّيَةُ} وهي التي تقع من جبل ، أو مكان عال ، أو تقع في بئر فتموت ، عن ابن عباس ، وقتادة ، والسدي . ومتى وقع في بئر ، ولا يقدر على تذكيته ، جاز أن يطعن ويضرب بالسكين في غير المذبح ، حتى يبرد ، ثم يؤكل {وَالنَّطِيحَةُ} وهي التي ينطحها غيرها ، فتموت . {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} أي : وحرم عليكم ما أكله السبع ، بمعنى قتله السبع ، وهي فريسة السبع ، عن ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك . {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} ، يعني : إلا ما أدركتم ذكاته فذكيتموه ، من هذه الأشياء . وموضع {ما} نصب بالاستثناء وروي عن السيدين الباقر والصادق عليهما السلام : إن أدنى ما يدرك به الذكاة ، أن تدركه يتحرك أذنه ، أو ذنبه ، أو تطرف عينه ، وبه قال الحسن ، وقتادة ، وإبراهيم ، وطاوس ، والضحاك ، وابن زيد . واختلف في الاستثناء إلى ماذا يرجع ، فقيل : إلى جميع ما تقدم ذكره من المحرمات ، سوى ما لا يقبل الذكاة من الخنزير والدم ، عن علي عليه السلام ، وابن عباس . وقيل : هو استثناء من التحريم لا من المحرمات ، لان الميتة لا ذكاة لها ، ولا الخنزير ، فمعناه : حرمت عليكم سائر ما ذكر إلا ما ذكيتم ، مما أحله الله لكم بالتذكية ، فإنه حلال لكم ، عن مالك ، وجماعة من أهل المدينة ، واختاره الجبائي .
ومتى قيل : ما وجه التكرار في قوله : والمنخنقة والموقوذة إلى آخر ما عدد تحريمه ، مع أنه افتتح الآية {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} والميتة تعم جميع ذلك ، وإن اختلفت أسباب الموت ، من خنق ، أو ترد ، أو نطح ، أو إهلال لغير الله به ، أو أكل سبع ؟ فالجواب : إن الفائدة في ذلك أنهم كانوا لا يعدون الميتة إلا ما مات حتف أنفه من دون شيء من هذه الأسباب ، فأعلمهم الله سبحانه أن حكم الجميع واحد ، وأن وجه الاستباحة هو التذكية المشروعة فقط . قال السدي : إن ناسا من العرب كانوا يأكلون جميع ذلك ، ولا يعدونه ميتا ، إنما يعدون الميت الذي يموت من الوجع .
{وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} : يعني الحجارة التي كانوا يعبدونها ، وهي الأوثان ، عن مجاهد ، وقتادة ، وابن جريج : يعني وحرم عليكم ما ذبح على النصب ، أي على اسم الأوثان . وقيل : معناه وما ذبح للأوثان تقربا إليها ، واللام وعلى متعاقبان ، ألا ترى إلى قوله تعالى : {فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} بمعنى عليك ، وكانوا يقربون ويلطخون أوثانهم بدمائها ، قال ابن جريج : ليست النصب أصناما ، إنما الأصنام ما تصور وتنقش ، بل كانت أحجارا منصوبة حول الكعبة ، وكانت ثلاثمائة وستين حجرا . وقيل : كانت ثلاثمائة منها لخزاعة ، فكانوا إذا ذبحوا ، نضحوا الدم على ما أقبل من البيت ، وشرحوا اللحم ، وجعلوه على الحجارة ، فقال المسلمون : يا رسول الله ! كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم ، فنحن أحق بتعظيمه ! فأنزل الله سبحانه : {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا} الآية .
{وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ} موضعه رفع ، أي : وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام ، ومعناه : طلب قسم الأرزاق بالقداح التي كانوا يتفاءلون بها في أسفارهم ، وابتداء أمورهم ، وهي سهام كانت للجاهلية ، مكتوب على بعضها أمرني ربي ، وعلى بعضها نهاني ربي وبعضها غفل ، لم يكتب عليه شيء . فإذا أرادوا سفرا ، أو أمرا ، يهتمون به ، ضربوا على تلك القداح ، فإن خرج السهم الذي عليه " أمرني ربي " مضى الرجل في حاجته ، وإن خرج الذي عليه " نهاني ربي " لم يمض . وإن خرج الذي ليس عليه شيء أعادوها .
فيبين الله تعالى أن العمل بذلك حرام عن الحسن ، وجماعة من المفسرين .
وروى علي بن إبراهيم في تفسيره عن الصادقين عليه السلام : إن الأزلام عشرة : سبعة لها أنصباء ، وثلاثة لا أنصباء لها ، فالتي لها أنصباء : الفذ ، والتوأم ، والمسبل ، والنافس ، والحلس ، والرقيب ، والمعلى . فالفذ له سهم . والتوأم سهمان .
والمسبل له ثلاثة أسهم . والنافس له أربعة أسهم . والحلس له خمسة أسهم .
والرقيب له ستة أسهم . والمعلى له سبعة أسهم .
والتي لا أنصباء لها : السفيح ، والمنيح ، والوغد ، وكانوا يعمدون إلى الجزور ، فيجزؤونه أجزاء ، ثم يجتمعون عليه ، فيخرجون السهام ، ويدفعونها إلى رجل ، وثمن الجزور على من تخرج له التي لا أنصباء لها ، وهو القمار ، فحرمه الله تعالى . وقيل : هي كعاب فارس والروم التي كانوا يتقامرون بها ، عن مجاهد .
وقيل : هو الشطرنج ، عن أبي سفيان بن وكيع . {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} معناه : إن جميع ما سبق ذكره فسق ، أي : ذنب عظيم ، وخروج من طاعة الله إلى معصيته ، عن ابن عباس . وقيل : إن ذلكم إشارة إلى الاستقسام بالأزلام أي : إن ذلك الاستقسام فسق ، وهو الأظهر .
{الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} ليس يريد يوما بعينه ، بل معناه : الآن يئس الكافرون من دينكم ، كما يقول القائل : اليوم قد كبرت ! يريد إن الله تعالى حول الخوف الذي كان يلحقهم ، من الكافرين اليوم إليهم ، ويئسوا من بطلان الإسلام ، وجاءكم ما كنتم توعدون به في قوله : {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} والدين : اسم لجميع ما تعبد الله به خلقه ، وأمرهم بالقيام به ، ومعنى {يَئِسُوا} : انقطع طمعهم من دينكم أن تتركوه ، وترجعوا منه إلى الشرك ، عن ابن عباس ، والسدي ، وعطا . وقيل : إن المراد باليوم يوم عرفة من حجة الوداع ، بعد دخول العرب كلها في الإسلام ، عن مجاهد ، وابن جريج ، وابن زيد . وكان يوم جمعة ، ونظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم ير إلا مسلما موحدا ، ولم ير مشركا .
{فَلَا تَخْشَوْهُمْ} خطاب للمؤمنين ، نهاهم الله أن يخشوا ويخافوا من الكفار أن يظهروا على دين الإسلام ، ويقهروا المسلمين ، ويردوهم عن دينهم {واخشون} أي : ولكن اخشوني ، أي : خافوني إن خالفتم أمري ، وارتكبتم معصيتي ، أن أحل بكم عقابي ، عن ابن جريج ، وغيره .
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} قيل فيه أقوال أحدها : إن معناه أكملت لكم فرائضي وحدودي ، وحلالي وحرامي ، بتنزيلي ما أنزلت ، وبياني ما بينت لكم ، فلا زيادة في ذلك ولا نقصان منه بالنسخ بعد هذا اليوم ، وكان ذلك يوم عرفة عام حجة الوداع ، عن ابن عباس ، والسدي ، واختاره الجبائي ، والبلخي ، قالوا : ولم ينزل بعد هذا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيء من الفرائض في تحليل ولا تحريم ، وإنه مضى بعد ذلك بإحدى وثمانين ليلة .
فإن اعترض معترض ، فقال : أكان دين الله ناقصا ، وقتا من الأوقات ، حتى أتمه في ذلك اليوم ؟ فجوابه : إن دين الله لم يكن إلا في كمال ، كاملا في كل حال ، ولكن لما كان معرضا للنسخ والزيادة فيه ، ونزول الوحي بتحليل شيء ، أو تحريمه ، لم يمتنع أن يوصف بالكمال ، إذا أمن من جميع ذلك فيه ، كما توصف العشرة بأنها كاملة ، ولا يلزم أن توصف بالنقصان ، لما كانت المائة أكثر منها وأكمل . وثانيها : إن معناه اليوم أكملت لكم حجكم ، وأفردتكم بالبلد الحرام ، تحجونه دون المشركين ، ولا يخالطكم مشرك ، عن سعيد بن جبير ، وقتادة ، واختاره الطبري ، قال : لان الله سبحانه أنزل بعده {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} .
قال الفراء : وهي آخر آية نزلت ، وهذا الذي ذكره لو صح لكان لهذا القول ترجيح ، لكن فيه خلاف . وثالثها : إن معناه اليوم كفيتكم الأعداء ، وأظهرتكم عليهم ، كما تقول : الآن كمل لنا الملك ، وكمل لنا ما نريد ، بأن كفينا ما كنا نخافه ، عن الزجاج ، والمروي عن الإمامين أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام أنه إنما أنزل بعد أن نصب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام للأنام ، يوم غدير خم منصرفه عن حجة الوداع ، قالا : وهو آخر فريضة أنزلها الله تعالى ، ثم لم ينزل بعدها فريضة .
وقد حدثنا السيد العالم أبو الحمد مهدي بن نزار الحسيني ، قال : حدثنا أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله الحسكاني ، قال : أخبرنا أبو عبد الله الشيرازي ، قال : أخبرنا أبو بكر الجرجاني ، قال حدثنا أبو أحمد البصري ، قال : حدثنا أحمد بن عمار بن خالد ، قال : حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني ، قال : حدثنا قيس بن الربيع ، عن أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما نزلت هذه الآية ، قال : الله أكبر على إكمال الدين ، وإتمام النعمة ، ورضا الرب برسالتي ، وولاية علي بن أبي طالب من بعدي ، وقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاده ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله .
وقال علي بن إبراهيم في تفسيره : حدثني أبي عن صفوان ، عن العلا ومحمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : كان نزولها بكراع الغميم (3) ، فأقامها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالجحفة . وقال الربيع بن أنس : نزلت في المسير في حجة الوداع .
{وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} خاطب سبحانه المؤمنين بأنه أتم النعمة عليهم بإظهارهم على المشركين ، ونفيهم عن بلادهم ، عن ابن عباس ، وقتادة . وقيل :
معناه أتممت عليكم نعمتي ، بأن أعطيتكم من العلم والحكمة ، ما لم يعط قبلكم نبي ولا أمة . وقيل : إن تمام النعمة دخول الجنة .
{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} أي : رضيت لكم الإسلام لأمري ، والانقياد لطاعتي ، على ما شرعت لكم من حدوده وفرائضه ، ومعالمه ، دينا أي : طاعة منكم لي ، والفائدة في هذا أن الله سبحانه ، لم يزل يصرف نبيه محمدا وأصحابه في درجات الإسلام ومراتبه ، درجة بعد درجة ، ومنزلة بعد منزلة ، حتى أكمل لهم شرائعه ، وبلغ بهم أقصى درجاته ومراتبه ، ثم قال : رضيت لكم الحال التي أنتم عليها اليوم ، فالزموها ولا تفارقوها ، ثم عاد الكلام إلى القضية المتقدمة في التحريم والتحليل وإنما ذكر قوله {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} إلى قوله {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} اعتراضا .
{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} معناه : فمن دعته الضرورة في مجاعة ، حتى لا يمكنه الامتناع من أكله ، عن ابن عباس ، وقتادة ، والسدي {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} أي : غير مائل إلى إثم ، وهو نصب على الحال ، يعني : فمن اضطر إلى أكل الميتة ، وما عدد الله تحريمه عند المجاعة الشديدة ، غير متعمد لذلك ، ولا مختار له ، ولا مستحل له ، فإن الله سبحانه أباح تناول ذلك له ، قدر ما يمسك به رمقه ، بلا زيادة عليه ، عن ابن عباس ، وقتادة ، ومجاهد ، وبه قال أهل العراق .
وقال أهل المدينة : يجوز أن يشبع منه عند الضرورة . وقيل : إن معنى قوله : {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} غير عاص ، بأن يكون باغيا ، أو عاديا ، أو خارجا في معصية ، عن قتادة {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} : في الكلام محذوف دل عليه ما ذكر ، والمعنى : فمن اضطر إلى ما حرمت عليه ، غير متجانف لإثم ، فأكله ، فإن الله غفور لذنوبه ، ساترا عليه أكله ، لا يؤاخذه به ، وليس يريد أنه يغفر له عقاب ذلك الأكل ، لأنه أباحه له ، ولا يستحق العقاب على فعل المباح ، وهو رحيم : أي رفيق بعباده ، ومن رحمته أباح لهم ما حرم عليهم في حال الخوف على النفس .
____________________________
1 . تفسير مجمع البيان ، ج3 ، ص 270-275 .
2 . المباعر جمع المبعر : مكان البعر من كل ذي أربع .
3 . كراع الغميم : موضع بناحية الحجاز بين مكة والمدينة .
كل المأكولات والمشروبات على الإباحة إلا ما ورد النص بتحريمه خصوصا كالميتة وما إليها ، أو عموما كالأشياء الضارة ، ومنها الخبائث . قال تعالى :{يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً} [البقرة - 168] . وقال الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) : كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا ، حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه .
وتقدم في الآية الأولى قوله تعالى : { إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ } وقد تلا علينا صنفين من المحرمات : الأول ما أشار إليه بقوله : { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ } الخ وسبق تفسيره . الثاني ما ذكره في هذه الآية وهو عشرة أصناف .
الأول : الميتة ، وهي كل حيوان أو طير مات من غير تذكية شرعية ، وتختلف التذكية الشرعية باختلاف الحيوان ، فتذكية السمك بإخراجه من الماء حيا ، وتذكية الجراد بالاستيلاء عليه حيا أيضا ، وتذكية الجنين بذكاة أمه ، وتذكية المصيد تكون بالكلب المعلَّم ، أو بالسيف أو الرمح أو السهم أو آلة محددة الرأس ، وتذكية الحيوان باستقباله القبلة وقطع أوداجه الأربعة مع ذكر اسم اللَّه عليه . والتفصيل في كتب الفقه ، ومنها الجزء الرابع من فقه الإمام الصادق .
الثاني : الدم المسفوح ، والمراد به الذي يخرج بقوة ودفع ، ويتميز عن اللحم ، لأن ما يختلط باللحم معفو عنه ، والدم الذي هو كاللحم حلال إذا كان كبدا عند جميع المذاهب ، وحرام إذا كان طحالا عند الشيعة الإمامية خاصة .
الثالث : لحم الخنزير ، وهو حرام بإجماع المسلمين .
الرابع : ما أهل لغير اللَّه ، والإهلال رفع الصوت ، يقال : استهل الصبي إذا صرخ عند الولادة ، والمراد به هنا ما ذبح على غير ذكر اللَّه . وقد كان المشركون يذبحون لأصنامهم ، ويرفعون أصواتهم باسم اللات والعزى . وتقدم الكلام عن هذه الأصناف الأربعة عند تفسير الآية 173 من سورة البقرة ج 1 ص 264 .
الخامس : المنخنقة ، وهي التي تموت اختناقا بيد أو حبل ، أو يدخل رأسها في مضيق ، وما إلى ذلك .
السادس : الموقوذة ، وهي التي تضرب بعصا ونحوها ، حتى تموت .
السابع : المتردية ، وهي التي تتردى من مكان عال .
الثامن : النطيحة ، وهي التي تنطحها أخرى فتموت .
التاسع : ما أكل السبع ، أي ما تبقى من فريسة الحيوان المفترس .
ثم استثنى سبحانه من الأصناف الخمسة الأخيرة ما ندركه حيا ، فإنه يحل لنا بالذبح الشرعي ، وهذا معنى قوله تعالى : { إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ } . وفي الأخبار :« ان أدنى ما تدرك به الذكاة أن تدركه وتتحرك أذنه أو ذنبه أو تطرف عينه » .
العاشر : ما ذبح على النصب ، قال صاحب التسهيل لعلوم التنزيل : « النصب جمع نصاب ، وهي حجارة كان أهل الجاهلية يعظمونها ، ويذبحون عليها ، وليست بالأصنام ، لأن الأصنام مصورة ، والنصب غير مصورة » .
وتجدر الإشارة إلى ان محرمات الطعام لا تنحصر بهذه الأصناف العشرة التي جاءت في الآية الكريمة ، بل هناك محرمات أخرى ، كالكلب والحيوان المفترس والطير الكاسر كالبازي والنسر والحشرات وبعض أنواع السمك ومحرمات الذبيحة ، وما إليها مما نصت عليه السنة النبوية ، وأجمع عليه الفقهاء ، ولا فرق بين ما جاء النص على تحريمه في الكتاب أو السنة : { وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر - 7] . وغير بعيد أن يكون ذكر هذه الأصناف بالخصوص لمناسبة قوله تعالى : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعامِ } . وبعد أن ذكر سبحانه الأصناف العشرة عطف عليها قوله :{وأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ} . أي وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام ، وهي جمع زلم بضم الزاي وفتحها ، مع فتح اللام ، والزلم قطعة من الخشب على هيئة السهم .
وكان أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم أن يقدم على أمر يهمه أخذ ثلاثة من الأزلام ، وكتب على واحد منها أمرني ربي ، وعلى ثان نهاني ربي ، وأهمل الثالث ، ثم يغطيها بشيء ، ويدخل يده ويخرج أحدها ، فان كان أمرا فعل ، وان كان نهيا ترك ، وان كان مهملا أعاد ، حتى يخرج الأمر ، أو النهي .
{ذلِكُمْ فِسْقٌ} . إشارة إلى خصوص الاستقسام بالأزلام دلالة ، والى جميع المحرمات المذكورة حكما ، وبهذا يتبين معنا ان اختلاف المفسرين حول ذلكم :
هل هي إشارة إلى خصوص الأخير ، أو إلى الجميع ؟ ان هذا الاختلاف لا جدوى منه ، ما دام حكم الجميع واحدا ، من حيث الفسق ، أي الذنب العظيم .
{الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ واخْشَوْنِ} . قال كثير من المفسرين : ان المراد باليوم في الآية اليوم الذي نزلت فيه من ذي الحجة في حجة الوداع من السنة العاشرة للهجرة ، وعليه يكون الألف واللام في اليوم للعهد ، وقال صاحب مجمع البيان : اليوم هنا بمعنى الآن ، كما يقول القائل :
اليوم قد كبرت ، أي الآن قد كبرت . ومهما يكن فان معنى الآية ان الكفار يئسوا من زوال الإسلام ، أو تحريفه بعد أن تمكن في نفوس أتباعه ، وأخذ طريقه في الانتشار يوما بعد يوم . . إذن ، فلا تخافوا - أيها المسلمون - من الكافرين ، وخافوا من اللَّه وحده ، وصدق اللَّه العظيم في كل ما يقول :
{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ ويَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ولَوْ كَرِهً الْكافِرُونَ ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى ودِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ولَوْ كَرِهً الْمُشْرِكُونَ}[ التوبة - 33] .
ومن المفيد بهذه المناسبة أن نقطف جملا من كتاب « الإسلام في القرن العشرين » للعقاد ، قال :
« ان العقيدة الإسلامية لم تكن قوة غالبة ، وحسب في أبان النشأة والظهور ، ولكنها كانت قوة صامدة بعد مئات السنين . . وصمود القوة الإسلامية في أحوال الضعف عجيب كانتصارها في أحوال القوة والسطوة ، ولا سيما الصمود بعد أكثر من عشرة قرون . . ان قوة صمود العقيدة الإسلامية في صدر الإسلام عجيبة ، ولكن صمودها الآن أعجب ، لأنها لا تملك الدفاع النافع ولا مال لديها ولا سلاح ولا علم ولا معرفة ، بل لا تملك الدفاع ، ولا اتفاق بين أهلها على الدفاع . .
ان قوة العقيدة الإسلامية قد سرت مسراها في أرجاء العالم بمعزل عن حروب الدول وسياستها ، وعن عروش العواهل وتيجانها ، وفي إفريقية اليوم مائة مليون مسلم ، لا شأن في إسلامهم لدولة أو سياسة ، وقريب من هذا العدد مسلمون في السومطرة وبلاد الجاوة ، وقريب منه في الباكستان ، وقد يكون في الصين وما جاورها عدة كهذه العدة من الملايين » .
إكمال الدين وإتمام النعمة :
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} .
اختلف الشيعة وأكثر السنة في تفسير هذه الآية ، ونحن نعرض أقوال الطرفين كناقلين ، لا مؤيدين ، ولا مفندين ، ونترك القارئ وعقله يستفتيه وحده .
قال السنة أو أكثرهم : المراد بالآية ان اللَّه سبحانه أكمل للمسلمين دينهم بتغلبه وإظهاره على الأديان كلها رغم محاربة أهلها ومقاومتهم له وللمسلمين ، وأتم نعمته عليهم بالنص على عقيدته وشريعته أصولا وفروعا ، وأبان جميع ما يحتاجون إليه في أمر دينهم ودنياهم : {ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ} .
وقال الشيعة : يصح تفسير الآية بهذا المعنى إذا لم تقترن بحادثة تفسرها ، وتبين المراد منها ، فإن كثيرا من الآيات تفسرها الحادثة التي اقترنت بزمن نزولها . من ذلك - على سبيل المثال - قوله تعالى مخاطبا نبيه الأكرم : {وتَخْشَى النَّاسَ واللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ} [الأحزاب - 37 ] . فلو جردنا هذه الآية عن قصة زيد بن حارثة ، وأخذنا بظاهرها لكان معنى الآية ان رسول اللَّه ( صلى الله عليه وآله ) يؤثر رضا المخلوق على رضا الخالق . . حاشا من اصطفاه اللَّه لوحيه ورسالته .
ثم قال الشيعة : وهذه الآية اقترنت بحادثة خاصة تفسرها وتبين المراد منها ، واستدلوا على ذلك بما يلي :
أولا : اتفق علماء السنة والشيعة المفسرون منهم والمؤرخون على ان سورة المائدة بجميع آياتها مدنية ، ما عدا هذه الآية : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } فإنها نزلت في مكة ، وفي السنة العاشرة للهجرة ، وهي السنة التي حج فيها رسول اللَّه ( صلى الله عليه وآله ) حجة الوداع ، لأنه انتقل إلى جنان ربه في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة .
ثانيا : ان النبي بعد أن قضى مناسكه في هذه السنة توجه إلى المدينة ، ولما بلغ غدير خم - وهو مكان في الجحفة تتشعب منه طرق كثيرة - أمر مناديه أن ينادي بالصلاة ، فاجتمع الناس قبل أن يتفرقوا ، ويذهب كل في طريقه إلى بلده ، فخطبهم وقال فيما قال :
« ان اللَّه مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، أنا أولى بهم من أنفسهم ، فمن كنت مولاه فعليّ مولاه يقولها ثلاثا ، وفي رواية أربعا . . ثم قال : اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه . وأحبّ من أحبه ، وأبغض من بغضه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وادر الحق معه حيث دار . ألا فليبلغ الشاهد الغائب » .
والسنة لا ينكرون هذا الحديث بعد ان تجاوز حد التواتر (2) وسجله الكثير من أئمتهم وعلمائهم ، منهم الإمام ابن حنبل في مسنده ، والنسائي في خصائصه ، والحاكم في مستدركه ، والخوارزمي في مناقبه ، وابن عبد ربه في استيعابه ، والعسقلاني في إصابته ، كما ذكره الترمذي والذهبي وابن حجر وغيرهم ، ولكن الكثير منهم فسروا الولاية بالحب والمودة ، وان المراد من قول الرسول ( صلى الله عليه وآله ) :
من كنت مولاه - من أحبني فليحب عليا .
ورد الشيعة هذا التفسير بأن قول النبي : أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فمن كنت مولاه فعلي مولاه - يدل بصراحة ووضوح على ان نفس الولاية التي ثبتت لمحمد ( صلى الله عليه وآله ) على المؤمنين هي ثابتة لعلي ( عليه السلام ) ، دون زيادة أو نقصان ، وهذه الولاية هي السلطة الدينية والزمنية ، حتى ولو كان للفظ الولاية ألف معنى ومعنى .
وعلى هذا يكون معنى الآية ان اللَّه سبحانه أكمل الدين في هذا اليوم بالنص على علي بالخلافة .
وتسأل : ان إكمال الدين بإظهاره على الأديان ، وبيان أحكامه كاملة وافية كما يقول السنة - واضح لا يحتاج إلى تفسير ، أما إكمال الدين بالنص على خلافة علي فلا بد له من التفسير والإيضاح ، فبأي شيء يفسره الشيعة ؟ .
قال الشيعة في تفسير ذلك : ان الإكمال حقا لا يتم إلا بوجود السلطة التشريعية والتنفيذية معا ، والأولى وحدها ليست بشيء ما لم تدعمها الثانية ، وقد كان التنفيذ بيد الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) ، فظن أعداء الإسلام ان السلطة التنفيذية ستذهب بذهاب الرسول ، وبذهابها يذهب الإسلام . . . فأقام النبي عليا ليحفظ الشريعة من بعده ، ويقيم الدين كما أقامه الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، وبهذا لم يبق للكفار أي أمل في ذهاب الإسلام أو ضعفه .
{ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهً غَفُورٌ رَحِيمٌ } . مر تفسيره مفصلا في ج 1 ص 265 فقرة « المضطر وحكمه » ، الآية 173 من سورة البقرة .
________________________
1. تفسير الكاشف ، ج3 ، ص 10-15 .
2. نقل الشيعة هذا الحديث عن العديد من مصادر السنة ، ووضع علماؤهم فيه كتبا خاصة ، وآخرهم الشيخ الأميني من علماء النجف الأشرف في هذا العصر ، فقد ألف كتابا أسماء الغدير في 12 مجلدا ، تبلغ صفحاتها حوالي خمسة آلاف صفحة ، ذكر فيه رواة الحديث ، وهم 120 صحابيا ، و 84 تابعا ، و 360 إماما وحافظا للحديث ، وفيهم الحنفي والشافعي وغيرهما كل ذلك نقله عن كتب السنة والكتاب معروض للبيع في مكتبات العراق وإيران ولبنان .
قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ } هذه الأربعة مذكورة فيما نزل من القرآن قبل هذه السورة كسورتي الأنعام والنحل وهما مكيتان ، وسورة البقرة وهي أول سورة مفصلة نازلة بالمدينة قال تعالى : { قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (الأنعام : 145 ) وقال تعالى : { إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (البقرة : 173 ) .
والآيات جميعا ـ كما ترى ـ تحرم هذه الأربعة المذكورة في صدر هذه الآية وتماثل الآية أيضا في الاستثناء الواقع في ذيلها بقوله : { فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فآية المائدة بالنسبة إلى هذه المعاني المشتركة بينها وبين تلك مؤكدة لتلك الآيات .
بل النهي عنها وخاصة عن الثلاثة الأول أعني الميتة والدم ولحم الخنزير أسبق تشريعا من نزول سورتي الأنعام والنحل المكيتين ، فإن آية الأنعام تعلل تحريم الثلاثة أو خصوص لحم الخنزير بأنه رجس ، فتدل على تحريم أكل الرجز ، وقد قال تعالى في سورة المدثر ـ وهي من السور النازلة في أول البعثة ـ : { وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } ( المدثر : 5 ).
وكذلك ما عده تعالى بقوله { وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ } جميعا من مصاديق الميتة بدليل قوله { إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ } فإنما ذكرت في الآية لنوع عناية بتوضيح أفراد الميتة ومزيد بيان للمحرمات من الأطعمة من غير أن تتضمن الآية فيها على تشريع حديث .
وكذلك ما عده الله تعالى بقوله { وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ } فإنهما وإن كانا أول ما ذكرا في هذه السورة لكنه تعالى علل تحريمهما أو تحريم الثاني منهما ـ على احتمال ضعيف ـ بالفسق ، وقد حرم الفسق في آية الأنعام ، وكذا قوله { غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ } يدل على تحريم ما ذكر في الآية لكونه إثما ، وقد دلت آية البقرة على تحريم الإثم ، وقال تعالى أيضا : { وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ } ( الأنعام : 120 ) ، وقال تعالى : { قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ } ( الأعراف : 33 ) .
فقد اتضح وبان أن الآية لا تشتمل فيما عدته من المحرمات على أمر جديد غير مسبوق بالتحريم فيما تقدم عليها من الآيات المكية أو المدنية المتضمنة تعداد محرمات الأطعمة من اللحوم ونحوها.
قوله تعالى : {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ} المنخنقة هي البهيمة التي تموت بالخنق ، وهو أعم من أن يكون عن اتفاق أو بعمل عامل اختيارا ، ومن أن يكون بأي آلة ووسيلة كانت كحبل يشد على عنقها ويسد بضغطة مجرى تنفسها ، أو بإدخال رأسها بين خشبتين ، كما كانت هذه الطريقة وأمثالها دائرة بينهم في الجاهلية .
الموقوذة هي التي تضرب حتى تموت ، والمتردية هي التي تردت أي سقطت من مكان عال كشاهق جبل أو بئر ونحوهما .
والنطيحة هي التي ماتت عن نطح نطحها به غيرها ، وما أكل السبع هي التي أكلها أي أكل من لحمها السبع فإن الأكل يتعلق بالمأكول سواء أفنى جميعه أو بعضه والسبع هو الوحش الضاري كالأسد والذئب والنمر ونحوها.
وقوله {إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ} استثناء لما يقبل التذكية بمعنى فري الأوداج الأربعة منها كما إذا كانت فيها بقية من الحياة يدل عليها مثل حركة ذنب أو أثر تنفس ونحو ذلك والاستثناء كما ذكرنا آنفا متعلق بجميع ما يقبله من المعدودات من دون أن يتقيد بالتعلق بالأخير من غير دليل عليه .
وهذه الأمور الخمسة أعني المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع كل ذلك من أفراد الميتة ومصاديقها ، بمعنى أن المتردية أو النطيحة مثلا إنما تحرمان إذا ماتتا بالتردي والنطح ، والدليل على ذلك قوله : { إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ } فإن من البديهي أنهما لا تؤكلان ما دامت الروح في جثمانهما ، وإنما تؤكلان بعد زهوقها وحينئذ فإما أن تذكيا أو لا ، وقد استثنى الله سبحانه التذكية فلم يبق للحرمة إلا إذا ماتتا عن ترد أو نطح من غير تذكية ، وأما لو تردت شاة ـ مثلا ـ في بئر ثم أخرجت سليمة مستقيمة الحال فعاشت قليلا أو كثيرا ثم ماتت حتف أنفها أو ذكيت بذبح فلا تطلق عليها المتردية ، يدل على ذلك السياق فإن المذكورات فيها ما إذا هلكت ، واستند هلاكها إلى الوصف الذي ذكر لها كالانخناق والوقذ والتردي والنطح .
والوجه في تخصيص هذه المصاديق من الميتة بالذكر رفع ما ربما يسبق إلى الوهم أنها ليست ميتة بناء على أنها أفراد نادرة منها والذهن يسبق غالبا إلى الفرد الشائع ، وهو ما إذا ماتت بمرض ونحوه من غير أن يكون لمفاجاة سبب من خارج ، فصرح تعالى بهذه الأفراد والمصاديق النادرة بأسمائها حتى يرتفع اللبس وتتضح الحرمة.
قوله تعالى : { وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } قال الراغب في المفردات : نصب الشيء وضعه وضعا ناتئا كنصب الرمح والبناء والحجر ، والنصيب الحجارة تنصب على الشيء ، وجمعه نصائب ونصب ، وكان للعرب حجارة تعبدها وتذبح عليها قال : {كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ } ، قال : { وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } وقد يقال في جمعه : أنصاب قال { وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ }. والنصب والنصب : التعب .
فالمراد من النهي عن أكل لحوم ما ذبح على النصب أن يستن بسنن الجاهلية في ذلك فإنهم كانوا نصبوا حول الكعبة أحجارا يقدسونها ويذبحون عليها ، وكان من سنن الوثنية .
قوله تعالى : { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ } والأزلام هي القداح ، والاستقسام بالقداح أن يؤخذ جزور ـ أو بهيمة أخرى ـ على سهام ثم يضرب بالقداح في تشخيص من له سهم ممن لا سهم له ، وفي تشخيص نفس السهام المختلفة وهو الميسر ، وقد مر شرحه عند قوله تعالى : { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } الآية : ( البقرة : 219 ) في الجزء الثاني من هذا الكتاب .
قال الراغب : القسم إفراز النصيب يقال : قسمت كذا قسما وقسمة ، وقسمة الميراث وقسمة الغنيمة تفريقهما على أربابهما ، قال : { لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ } { وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ } واستقسمته سألته أن يقسم ، ثم قد يستعمل في معنى قسم قال : { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ } ، وما ذكره من كون استقسم بمعنى قسم إنما هو بحسب الانطباق مصداقا ، والمعنى بالحقيقة طلب القسمة بالأزلام التي هي آلات هذا الفعل ، فاستعمال الآلة طلب لحصول الفعل المترتب عليها فيصدق الاستفعال . فالمراد بالاستقسام بالأزلام المنهي عنه على ظاهر السياق هو ضرب القداح على الجزور ونحوه للذهاب بما في لحمه من النصيب.
وأما ما ذكره بعضهم أن المراد بالاستقسام بالأزلام الضرب بالقداح لاستعلام الخير والشر في الأفعال ، وتمييز النافع منها من الضار كمن يريد سفرا أو ازدواجا أو شروعا في عمل أو غير ذلك فيضرب بالقداح لتشخيص ما فيه الخير منها مما لا خير فيه قالوا : وكان ذلك دائرا بين عرب الجاهلية ، وذلك نوع من الطيرة ، وسيأتي زيادة شرح له في البحث الروائي التالي ـ ففيه : أن سياق الآية يأبى عن حمل اللفظ على الاستقسام بهذا المعنى ، وذلك أن الآية ـ وهي مقام عد محرمات الأطعمة ، وقد أشير إليها قبلا في قوله : { إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ } ـ تعد من محرماتها عشرا ، وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب ، ثم تذكر الاستقسام بالأزلام الذي من معناه قسمة اللحم بالمقامرة ، ومن معناه استعلام الخير والشر في الأمور ، فكيف يشك بعد ذلك السياق الواضح والقرائن المتوالية في تعين حمل اللفظ على استقسام اللحم قمارا وهل يرتاب عارف بالكلام في ذلك .
نظير ذلك أن العمرة مصدر بمعنى العمارة ، ولها معنى آخر وهو زيارة البيت الحرام ، فإذا أضيف إلى البيت صح كل من المعنيين لكن لا يحتمل في قوله تعالى : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [البقرة : 119] إلا المعنى الأول ، والأمثلة في ذلك كثيرة.
وقوله : { ذلِكُمْ فِسْقٌ } يحتمل الإشارة إلى جميع المذكورات ، والإشارة إلى الأخيرين المذكورين بعد قوله : { إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ } لحيلولة الاستثناء ، والإشارة إلى الأخير ولعل الأوسط خير الثلاثة.
قوله تعالى : { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ } أمر الآية في حلولها محلها ثم في دلالتها عجيب ، فإنك إذا تأملت صدر الآية أعني قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ـ إلى قوله ـ ذلِكُمْ فِسْقٌ } وأضفت إليه ذيلها أعني قوله : { فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وجدته كلاما تاما غير متوقف في تمام معناه وإفادة المراد منه إلى شيء من قوله : { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ } (إلخ) أصلا ، وألفيته آية كاملة مماثلة لما تقدم عليها في النزول من الآيات الواقعة في سورة الأنعام والنحل والبقرة المبينة لمحرمات الطعام ، ففي سورة البقرة : { إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ويماثله ما في سورتي الأنعام والنحل.
وينتج ذلك أن قوله : { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا } (إلخ) كلام معترض موضوع في وسط هذه الآية غير متوقف عليه لفظ الآية في دلالتها وبيانها ، سواء قلنا : إن الآية نازلة في وسط الآية فتخللت بينها من أول ما نزلت ، أو قلنا إن النبي صلى الله عليه وآله هو الذي أمر كتاب الوحي بوضع الآية في هذا الموضع مع انفصال الآيتين واختلافهما نزولا. أو قلنا : إنها موضوعة في موضعها الذي هي فيه عند التأليف من غير أن تصاحبها نزولا ، فإن شيئا من هذه الاحتمالات لا يؤثر أثرا فيما ذكرناه من كون هذا الكلام المتخلل معترضا إذا قيس إلى صدر الآية وذيلها.
ويؤيد ذلك أن جل الروايات الواردة في سبب النزول ـ لو لم يكن كلها ، وهي أخبار جمة ـ يخص قوله : { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا } (إلخ) بالذكر من غير أن يتعرض لأصل الآية أعني قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } ، أصلا ، وهذا يؤيد أيضا نزول قوله : { الْيَوْمَ يَئِسَ } (إلخ) نزولا مستقلا منفصلا عن الصدر والذيل ، وإن وقوع الآية في وسط الآية مستند إلى تأليف النبي صلى الله عليه وآله أو إلى تأليف المؤلفين بعده .
ويؤيده ما رواه في الدر المنثور ، عن عبد بن حميد عن الشعبي قال : نزل على النبي صلى الله عليه وآله هذه الآية ـ وهو بعرفة ـ : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } ـ وكان إذا أعجبته آيات جعلهن صدر السورة ، قال : وكان جبرئيل يعلمه كيف ينسك.
ثم إن هاتين الجملتين أعني قوله : { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ } وقوله : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } متقاربتان مضمونا ، مرتبطتان مفهوما بلا ريب ، لظهور ما بين يأس الكفار من دين المسلمين وبين إكمال دين المسلمين من الارتباط القريب ، وقبول المضمونين لأن يمتزجا فيتركبا مضمونا واحدا مرتبط الأجزاء ، متصل الأطراف بعضها ببعض ، مضافا إلى ما بين الجملتين من الاتحاد في السياق.
ويؤيد ذلك ما نرى أن السلف والخلف من مفسري الصحابة والتابعين والمتأخرين إلى يومنا هذا أخذوا الجملتين متصلتين يتم بعضهما ، بعضا وليس ذلك إلا لأنهم فهموا من هاتين الجملتين ذلك ، وبنوا على نزولهما معا ، واجتماعهما من حيث الدلالة على مدلول واحد.
وينتج ذلك أن هذه الآية المعترضة أعني قوله : { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ـ إلى قوله ـ وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً } كلام واحد متصل بعض أجزائه ببعض مسوق لغرض واحد قائم بمجموع الجملتين من غير تشتت سواء قلنا بارتباطه بالآية المحيطة بها أو لم نقل ، فإن ذلك لا يؤثر البتة في كون هذا المجموع كلاما واحدا معترضا لا كلامين ذوي غرضين ، وإن اليوم المتكرر في قوله : { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا } ، وفي قوله : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } ، أريد به يوم واحد يئس فيه الكفار وأكمل فيه الدين.
ثم ما المراد بهذا اليوم الواقع في قوله تعالى : { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ } ؟ فهل المراد به زمان ظهور الإسلام ببعثة النبي صلى الله عليه وآله ودعوته فيكون المراد أن الله أنزل إليكم الإسلام ، وأكمل لكم الدين وأتم عليكم النعمة وأيأس منكم الكفار ؟
لا سبيل إلى ذلك لأن ظاهر السياق أنه كان لهم دين كان الكفار يطمعون في إبطاله أو تغييره ، وكان المسلمون يخشونهم على دينهم فأيأس الله الكافرين مما طمعوا فيه وآمن المسلمين وأنه كان ناقصا فأكمله الله وأتم نعمته عليهم ولم يكن لهم قبل الإسلام دين حتى يطمع فيه الكفار أو يكمله الله ويتم نعمته عليهم.
على أن لازم ما ذكر من المعنى أن يتقدم قوله : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ } ، على قوله : { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا } ، حتى يستقيم الكلام في نظمه.
أو أن المراد باليوم هو ما بعد فتح مكة حيث أبطل الله فيه كيد مشركي قريش وأذهب شوكتهم ، وهدم فيه بنيان دينهم ، وكسر أصنامهم فانقطع رجاؤهم أن يقوموا على ساق ، ويضادوا الإسلام ويمانعوا نفوذ أمره وانتشار صيته.
لا سبيل إلى ذلك أيضا فإن الآية تدل على إكمال الدين وإتمام النعمة ولما يكمل الدين بفتح مكة ـ وكان في السنة الثامنة من الهجرة ـ فكم من فريضة نزلت بعد ذلك ، وكم من حلال أو حرام شرع فيما بينه وبين رحلة النبي صلى الله عليه وآله.
على أن قوله : { الَّذِينَ كَفَرُوا } يعم جميع مشركي العرب ولم يكونوا جميعا آيسين من دين المسلمين ، ومن الدليل عليه أن كثيرا من المعارضات والمواثيق على عدم التعرض كانت باقية بعد على اعتبارها واحترامها ، وكانوا يحجون حجة الجاهلية على سنن المشركين ، وكانت النساء يحججن عاريات مكشوفات العورة حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وآله عليا عليه السلام بآيات البراءة فأبطل بقايا رسوم الجاهلية.
أو أن المراد باليوم ما بعد نزول البراءة من الزمان حيث انبسط الإسلام على جزيرة العرب تقريبا ، وعفت آثار الشرك ، وماتت سنن الجاهلية فما كان المسلمون يرون في معاهد الدين ومناسك الحج أحدا من المشركين ، وصفا لهم الأمر ، وأبدلهم الله بعد خوفهم أمنا يعبدونه ولا يشركون به شيئا.
لا سبيل إلى ذلك فإن مشركي العرب وإن أيسوا من دين المسلمين بعد نزول آيات البراءة وطي بساط الشرك من الجزيرة وإعفاء رسوم الجاهلية إلا أن الدين لم يكمل بعد وقد نزلت فرائض وأحكام بعد ذلك ومنها ما في هذه السورة : ( سورة المائدة ) ، وقد اتفقوا على نزولها في آخر عهد النبي صلى الله عليه وآله ، وفيها شيء كثير من أحكام الحلال والحرام والحدود والقصاص.
فتحصل أنه لا سبيل إلى احتمال أن يكون المراد باليوم في الآية معناه الوسيع مما يناسب مفاد الآية بحسب بادئ النظر كزمان ظهور الدعوة الإسلامية أو ما بعد فتح مكة من الزمان ، أو ما بعد نزول آيات البراءة فلا سبيل إلا أن يقال : إن المراد باليوم يوم نزول الآية نفسها ، وهو يوم نزول السورة إن كان قوله : { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا } ، معترضا مرتبطا بحسب المعنى بالآية المحيطة بها ، أو بعد نزول سورة المائدة في أواخر عهد النبي صلى الله عليه وآله ، وذلك لمكان قوله تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ }.
فهل المراد باليوم يوم فتح مكة بعينه؟ أو يوم نزول البراءة بعينه؟ يكفي في فساده ما تقدم من الإشكالات الواردة على الاحتمال الثاني والثالث المتقدمين.
أو أن المراد باليوم هو يوم عرفة من حجة الوداع كما ذكره كثير من المفسرين وبه ورد بعض الروايات؟ فما المراد من يأس الذين كفروا يومئذ من دين المسلمين فإن كان المراد باليأس من الدين يأس مشركي قريش من الظهور على دين المسلمين فقد كان ذلك يوم الفتح عام ثمانية لا يوم عرفة من السنة العاشرة ، وإن كان المراد يأس مشركي العرب من ذلك فقد كان ذلك عند نزول البراءة وهو في السنة التاسعة من الهجرة ، وإن كان المراد به يأس جميع الكفار الشامل لليهود والنصارى والمجوس وغيرهم ـ وذلك الذي يقتضيه إطلاق قوله : { الَّذِينَ كَفَرُوا } ـ فهؤلاء لم يكونوا آيسين من الظهور على المسلمين بعد ، ولما يظهر للإسلام قوة وشوكة وغلبة في خارج جزيرة العرب اليوم.
ومن جهة أخرى يجب أن نتأمل فيما لهذا اليوم ـ وهو يوم عرفة تاسع ذي الحجة سنة عشر من الهجرة ـ من الشأن الذي يناسب قوله : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } في الآية.
فربما أمكن أن يقال : إن المراد به إكمال أمر الحج بحضور النبي صلى الله عليه وآله بنفسه فيه ، وتعليمه الناس تعليما عمليا مشفوعا بالقول.
لكن فيه أن مجرد تعليمه الناس مناسك حجهم ـ وقد أمرهم بحج التمتع ولم يلبث دون أن صار مهجورا ، وقد تقدمه تشريع أركان الدين من صلاة وصوم وحج وزكاة وجهاد وغير ذلك ـ لا يصح أن يسمى إكمالا للدين ، وكيف يصح أن يسمى تعليم شيء من واجبات الدين إكمالا لذلك الواجب فضلا عن أن يسمى تعليم واجب من واجبات الدين لمجموع الدين.
على أن هذا الاحتمال يوجب انقطاع رابطة الفقرة الأولى أعني قوله : { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ } بهذه الفقرة أعني قوله : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } وأي ربط ليأس الكفار عن الدين بتعليم رسول الله صلى الله عليه وآله حج التمتع للناس.
وربما أمكن أن يقال إن المراد به إكمال الدين بنزول بقايا الحلال والحرام في هذا اليوم في سورة المائدة ، فلا حلال بعده ولا حرام ، وبإكمال الدين استولى اليأس على قلوب الكفار ، ولاحت آثاره على وجوههم.
لكن يجب أن نتبصر في تمييز هؤلاء الكفار الذين عبر عنهم في الآية بقوله : { الَّذِينَ كَفَرُوا } على هذا التقدير وأنهم من هم؟ فإن أريد بهم كفار العرب فقد كان الإسلام عمهم يومئذ ولم يكن فيهم من يتظاهر بغير الإسلام وهو الإسلام حقيقة ، فمن هم الكفار الآيسون ؟ .
وإن أريد بهم الكفار من غيرهم كسائر العرب من الأمم والأجيال فقد عرفت آنفا أنهم لم يكونوا آيسين يومئذ من الظهور على المسلمين .
ثم نتبصر في أمر انسداد باب التشريع بنزول سورة المائدة وانقضاء يوم عرفة فقد وردت روايات كثيرة لا يستهان بها عددا بنزول أحكام وفرائض بعد اليوم كما في آية الصيف (2) وآيات الربا ، حتى أنه روي عن عمر أنه قال في خطبة خطبها : من آخر القرآن نزولا آية الربا ، وإنه مات رسول الله ولم يبينه لنا ، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم ، الحديث وروى البخاري في الصحيح ، عن ابن عباس قال : آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وآله آية الربا ، إلى غير ذلك من الروايات .
وليس للباحث أن يضعف الروايات فيقدم الآية عليها ، لأن الآية ليست بصريحة ولا ظاهرة في كون المراد باليوم فيها هذا اليوم بعينه وإنما هو وجه محتمل يتوقف في تعينه على انتفاء كل احتمال ينافيه ، وهذه الأخبار لا تقصر عن الاحتمال المجرد عن السند .
أو يقال : إن المراد بإكمال الدين خلوص البيت الحرام لهم ، وإجلاء المشركين عنه حتى حجه المسلمون وهم لا يخالطهم المشركون.
وفيه : أنه قد كان صفا الأمر للمسلمين فيما ذكر قبل ذلك بسنة ، فما معنى تقييده باليوم في قوله : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } ؟ على أنه لو سلم كون هذا الخلوص إتماما للنعمة لم يسلم كونه إكمالا للدين ، وأي معنى لتسمية خلوص البيت إكمالا للدين ، وليس الدين إلا مجموعة من عقائد وأحكام ، وليس إكماله إلا أن يضاف إلى عدد أجزائها وأبعاضها عدد ؟ وأما صفاء الجو لإجرائها ، وارتفاع الموانع والمزاحمات عن العمل بها فليس يسمى إكمالا للدين البتة. على أن إشكال يأس الكفار عن الدين على حاله.
ويمكن أن يقال : إن المراد من إكمال الدين بيان هذه المحرمات بيانا تفصيليا ليأخذ به المسلمون ، ويجتنبوها ولا يخشوا الكفار في ذلك لأنهم قد يئسوا من دينهم بإعزاز الله المسلمين ، وإظهار دينهم وتغليبهم على الكفار.
توضيح ذلك أن حكمة الاكتفاء في صدر الإسلام بذكر المحرمات الأربعة أعني الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به الواقعة في بعض السور المكية وترك تفصيل ما يندرج فيها مما كرهه الإسلام للمسلمين من سائر ما ذكر في هذه الآية إلى ما بعد فتح مكة إنما هي التدرج في تحريم هذه الخبائث والتشديد فيها كما كان التدريج في تحريم الخمر لئلا ينفر العرب من الإسلام ، ولا يروا فيه حرجا يرجون به رجوع من آمن من فقرائهم وهم أكثر السابقين الأولين.
جاء هذا التفصيل للمحرمات بعد قوة الإسلام ، وتوسعة الله على أهله وإعزازهم وبعد أن يئس المشركون بذلك من نفور أهله منه ، وزال طمعهم في الظهور عليهم ، وإزالة دينهم بالقوة القاهرة ، فكان المؤمنون أجدر بهم أن لا يبالوهم بالمداراة ، ولا يخافوهم على دينهم وعلى أنفسهم.
فالمراد باليوم يوم عرفة من عام حجة الوداع ، وهو اليوم الذي نزلت فيه هذه الآية المبينة لما بقي من الأحكام التي أبطل بها الإسلام بقايا مهانة الجاهلية وخبائثها وأوهامها ، والمبشرة بظهور المسلمين على المشركين ظهورا تاما لا مطمع لهم في زواله ، ولا حاجة معه إلى شيء من مداراتهم أو الخوف من عاقبة أمرهم .
فالله سبحانه يخبرهم في الآية أن الكفار أنفسهم قد يئسوا من زوال دينهم وأنه ينبغي لهم ـ وقد بدلهم بضعفهم قوة ، وبخوفهم أمنا ، وبفقرهم غنى ـ أن لا يخشوا غيره تعالى ، وينتهوا عن تفاصيل ما نهى الله عنه في الآية ففيها كمال دينهم. كذا ذكره بعضهم بتلخيص ما في النقل .
وفيه : أن هذا القائل أراد الجمع بين عدة من الاحتمالات المذكورة ليدفع بكل احتمال ما يتوجه إلى الاحتمال الآخر من الإشكال فتورط بين المحاذير برمتها وأفسد لفظ الآية ومعناها جميعا.
فذهل عن أن المراد باليأس إن كان هو اليأس المستند إلى ظهور الإسلام وقوته وهو ما كان بفتح مكة أو بنزول آيات البراءة لم يصح أن يقال يوم عرفة من السنة العاشرة : { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ } وقد كانوا يئسوا قبل ذلك بسنة أو سنتين ، وإنما اللفظ الوافي له أن يقال : قد يئسوا كما عبر به القائل نفسه في كلامه في توضيح المعنى أو يقال : إنهم آيسون .
وذهل عن أن هذا التدرج الذي ذكره في محرمات الطعام ، وقاس تحريمها بتحريم الخمر إن أريد به التدرج من حيث تحريم بعض الأفراد بعد بعض فقد عرفت أن الآية لا تشتمل على أزيد مما تشتمل عليه آيات التحريم السابقة نزولا على هذه الآية أعني آيات البقرة والأنعام والنحل ، وأن المنخنقة والموقوذة (إلخ) من أفراد ما ذكر فيها.
وإن أريد به التدرج من حيث البيان الإجمالي والتفصيلي خوفا من امتناع الناس من القبول ففي غير محله ، فإن ما ذكر بالتصريح في السور السابقة على المائدة أعني الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به أغلب مصداقا ، وأكثر ابتلاء ، وأوقع في قلوب الناس من أمثال المنخنقة والموقوذة وغيرها ، وهي أمور نادرة التحقق وشاذة الوجود ، فما بال تلك الأربعة وهي أهم وأوقع وأكثر يصرح بتحريمها من غير خوف من ذلك ثم يتقي من ذكرها ما لا يعبأ بأمره بالإضافة إليها فيتدرج في بيان حرمتها ، ويخاف من التصريح بها.
على أن ذلك لو سلم لم يكن إكمالا للدين ، وهل يصح أن يسمى تشريع الأحكام دينا وإبلاغها وبيانها إكمالا للدين؟ ولو سلم فإنما ذلك إكمال لبعض الدين وإتمام لبعض النعمة لا للكل والجميع ، وقد قال تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } فأطلق القول من غير تقييد.
على أنه تعالى قد بين أحكاما كثيرة في أيام كثيرة ، فما بال هذا الحكم في هذا اليوم خص بالمزية فسماه الله أو سمى بيانه تفصيلا بإشمال الدين وإتمام النعمة .
أو أن المراد بإكمال الدين إكماله بسد باب التشريع بعد هذه الآية المبينة لتفصيل محرمات الطعام ، فما شأن الأحكام النازلة ما بين نزول المائدة ورحلة النبي صلى الله عليه وآله ؟ بل ما شأن سائر الأحكام النازلة بعد هذه الآية في سورة المائدة؟ تأمل فيه.
وبعد ذلك كله ما معنى قوله تعالى : { وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً } ـ وتقديره : اليوم رضيت (إلخ) ـ لو كان المراد بالكلام الامتنان بما ذكر في الآية من المحرمات يوم عرفة من السنة العاشرة؟ وما وجه اختصاص هذا اليوم بأن الله سبحانه رضي فيه الإسلام دينا ، ولا أمر يختص به اليوم مما يناسب هذا الرضا؟.
وبعد ذلك كله يرد على هذا الوجه أكثر الإشكالات الواردة على الوجوه السابقة أو ما يقرب منها مما تقدم بيانه ولا نطيل بالإعادة.
أو أن المراد باليوم واحد من الأيام التي بين عرفة وبين ورود النبي صلى الله عليه وآله المدينة على بعض الوجوه المذكورة في معنى يأس الكفار ومعنى إكمال الدين.
وفيه من الإشكال ما يرد على غيره على التفصيل المتقدم.
فهذا شطر من البحث عن الآية بحسب السير فيما قيل أو يمكن أن يقال في توجيه معناها ، ولنبحث عنها من طريق آخر يناسب طريق البحث الخاص بهذا الكتاب.
قوله : { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ } ـ واليأس يقابل الرجاء ، والدين إنما نزل من عند الله تدريجا ـ يدل على أن الكفار قد كان لهم مطمع في دين المسلمين وهو الإسلام ، وكانوا يرجون زواله بنحو منذ عهد وزمان ، وإن أمرهم ذلك كان يهدد الإسلام حينا بعد حين ، وكان الدين منهم على خطر يوما بعد يوم ، وإن ذلك كان من حقه أن يحذر منه ويخشاه المؤمنون.
فقوله : { فَلا تَخْشَوْهُمْ } ، تأمين منه سبحانه للمؤمنين مما كانوا منه على خطر ، ومن تسر به على خشية ، قال تعالى : { وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ } ( آل عمران : 69 ) ، وقال تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ( البقرة : 109 ) .
والكفار لم يكونوا يتربصون الدوائر بالمسلمين إلا لدينهم ، ولم يكن يضيق صدورهم وينصدع قلوبهم إلا من جهة أن الدين كان يذهب بسؤددهم وشرفهم واسترسالهم في اقتراف كل ما تهواه طباعهم ، وتألفه وتعتاد به نفوسهم ، ويختم على تمتعهم بكل ما يشتهون بلا قيد وشرط.
فقد كان الدين هو المبغوض عندهم دون أهل الدين إلا من جهة دينهم الحق فلم يكن في قصدهم إبادة المسلمين وإفناء جمعهم بل إطفاء نور الله وتحكيم أركان الشرك المتزلزلة المضطربة به ، ورد المؤمنين كفارا كما مر في قوله : { لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً } (الآية) قال تعالى : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } الصف : 9 ) ( الصف : 9 ).
وقال تعالى : { فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ} ( المؤمن : 14 ).
ولذلك لم يكن لهم هم إلا أن يقطعوا هذه الشجرة الطيبة من أصلها ، ويهدموا هذا البنيان الرفيع من أسه بتفتين المؤمنين وتسرية النفاق في جماعتهم وبث الشبه والخرافات بينهم لإفساد دينهم.
وقد كانوا يأخذون بادئ الأمر يفترون عزيمة النبي صلى الله عليه وآله ويستمحقون همته في الدعوة الدينية بالمال والجاه ، كما يشير إليه قوله تعالى : { وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ } (ـ ص : 6 ) أو بمخالطة أو مداهنة ، كما يشير إليه قوله : { وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } (القلم : 9 ) ، وقوله : { وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً } (إسراء : 74 ) ، وقوله : { قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ } (الكافرون : 3 ) على ما ورد في أسباب النزول.
وكان آخر ما يرجونه في زوال الدين ، وموت الدعوة المحقة ، أنه سيموت بموت هذا القائم بأمره ولا عقب له ، فإنهم كانوا يرون أنه ملك في صورة النبوة ، وسلطنة في لباس الدعوة والرسالة ، فلو مات أو قتل لانقطع أثره ومات ذكره وذكر دينه على ما هو المشهود عادة من حال السلاطين والجبابرة أنهم مهما بلغ أمرهم من التعالي والتجبر وركوب رقاب الناس فإن ذكرهم يموت بموتهم ، وسننهم وقوانينهم الحاكمة بين الناس وعليهم تدفن معهم في قبورهم ، يشير إلى رجائهم هذا قوله تعالى : { إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ : } ( الكوثر : 3 ) على ما ورد في أسباب النزول .
فقد كان هذه وأمثالها أماني تمكن الرجاء من نفوسهم ، وتطمعهم في إطفاء نور الدين ، وتزين لأوهامهم أن هذه الدعوة الطاهرة ليست إلا أحدوثة ستكذبه المقادير ويقضي عليها ويعفو أثرها مرور الأيام والليالي ، لكن ظهور الإسلام تدريجا على كل ما نازله من دين وأهله ، وانتشار صيته ، واعتلاء كلمته بالشوكة والقوة قضى على هذه الأماني فيئسوا من إفساد عزيمة النبي صلى الله عليه وآله ، وإيقاف همته عند بعض ما كان يريده ، وتطميعه بمال أو جاه.
قوة الإسلام وشوكته أيأستهم من جميع تلك الأسباب أسباب : ـ الرجاء ـ إلا واحدا ، وهو أنه صلى الله عليه وآله مقطوع العقب لا ولد له تخلفه في أمره ، ويقوم على ما قام عليه من الدعوة الدينية فسيموت دينه بموته ، وذلك أن من البديهي أن كمال الدين من جهة أحكامه ومعارفه ـ وإن بلغ ما بلغ ـ لا يقوى بنفسه على حفظ نفسه ، وأن سنة من السنن المحدثة والأديان المتبعة لا تبقى على نضارتها وصفائها لا بنفسها ولا بانتشار صيتها ولا بكثرة المنتحلين بها ، كما أنها لا تنمحي ولا تنطمس بقهر أو جبر أو تهديد أو فتنة أو عذاب أو غير ذلك إلا بموت حملتها وحفظتها والقائمين بتدبير أمرها.
ومن جميع ما تقدم يظهر أن تمام يأس الكفار إنما كان يتحقق عند الاعتبار الصحيح بأن ينصب الله لهذا الدين من يقوم مقام النبي صلى الله عليه وآله في حفظه وتدبير أمره ، وإرشاد الأمة القائمة به فيتعقب ذلك يأس الذين كفروا من دين المسلمين لما شاهدوا خروج الدين عن مرحلة القيام بالحامل الشخصي إلى مرحلة القيام بالحامل النوعي ، ويكون ذلك إكمالا للدين بتحويله من صفة الحدوث إلى صفة البقاء ، وإتماما لهذه النعمة ، وليس يبعد أن يكون قوله تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (البقرة : 109 ) باشتماله على قوله : { حَتَّى يَأْتِيَ } ، إشارة إلى هذا المعنى.
وهذا يؤيد ما ورد من الروايات أن الآية نزلت يوم غدير خم ، وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة سنة عشر من الهجرة في أمر ولاية علي عليه السلام ، وعلى هذا فيرتبط الفقرتان أوضح الارتباط ، ولا يرد عليه شيء من الإشكالات المتقدمة .
ثم إنك بعد ما عرفت معنى اليأس في الآية تعرف أن اليوم : { في قوله ( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ) ظرف متعلق بقوله : { يَئِسَ } وإن التقديم للدلالة على تفخيم أمر اليوم ، وتعظيم شأنه ، لما فيه من خروج الدين من مرحلة القيام بالقيم الشخصي إلى مرحلة القيام بالقيم النوعي ، ومن صفة الظهور والحدوث إلى صفة البقاء والدوام.
ولا يقاس الآية بما سيأتي من قوله : { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ } (الآية) فإن سياق الآيتين مختلف فقوله : { الْيَوْمَ يَئِسَ } ، في سياق الاعتراض ، وقوله : { الْيَوْمَ أُحِلَّ } ، في سياق الاستيناف ، والحكمان مختلفان : فحكم الآية الأولى تكويني مشتمل على البشرى من وجه والتحذير من وجه آخر ، وحكم الثانية تشريعي منبئ عن الامتنان. فقوله : { الْيَوْمَ يَئِسَ } ، يدل على تعظيم أمر اليوم لاشتماله على خير عظيم الجدوى وهو يأس الذين كفروا من دين المؤمنين ، والمراد بالذين كفروا ـ كما تقدمت الإشارة إليه ـ مطلق الكفار من الوثنيين واليهود والنصارى وغيرهم لمكان الإطلاق.
وأما قوله : { فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ } فالنهي إرشادي لا مولوي ، معناه أن لا موجب للخشية بعد يأس الذين كنتم في معرض الخطر من قبلهم ـ ومن المعلوم أن الإنسان لا يهم بأمر بعد تمام اليأس من الحصول عليه ولا يسعى إلى ما يعلم ضلال سعيه فيه ـ فأنتم في أمن من ناحية الكفار ، ولا ينبغي لكم مع ذلك الخشية منهم على دينكم فلا تخشوهم واخشوني .
ومن هنا يظهر أن المراد بقوله : { وَاخْشَوْنِ } بمقتضى السياق أن اخشوني فيما كان عليكم أن تخشوهم فيه لو لا يأسهم وهو الدين ونزعه من أيديكم ، وهذا نوع تهديد للمسلمين كما هو ظاهر ، ولهذا لم نحمل الآية على الامتنان.
ويؤيد ما ذكرنا أن الخشية من الله سبحانه واجب على أي تقدير من غير أن يتعلق بوضع دون وضع ، وشرط دون شرط ، فلا وجه للإضراب من قوله : { فَلا تَخْشَوْهُمْ } إلى قوله : { وَاخْشَوْنِ } لو لا أنها خشية خاصة في مورد خاص.
ولا تقاس الآية بقوله تعالى : { فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (آل عمران : 175 ) لأن الأمر بالخوف من الله في تلك الآية مشروط بالإيمان ، والخطاب مولوي ، ومفاده أنه لا يجوز للمؤمنين أن يخافوا الكفار على أنفسهم بل يجب أن يخافوا الله سبحانه وحده .
فالآية تنهاهم عما ليس لهم بحق وهو الخوف منهم على أنفسهم سواء أمروا بالخوف من الله أم لا ، ولذلك يعلل ثانيا الأمر بالخوف من الله بقيد مشعر بالتعليل ، وهو قوله : { إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } وهذا بخلاف قوله : { فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ } فإن خشيتهم هذه خشية منهم على دينهم ، وليست بمبغوضة لله سبحانه لرجوعها إلى ابتغاء مرضاته بالحقيقة ، بل إنما النهي عنها لكون السبب الداعي إليها ـ وهو عدم يأس الكفار منه ـ قد ارتفع وسقط أثره فالنهي عنه إرشادي ، فكذا الأمر بخشية الله نفسه ، ومفاد الكلام أن من الواجب أن تخشوا في أمر الدين ، لكن سبب الخشية كان إلى اليوم مع الكفار فكنتم تخشونهم لرجائهم في دينكم وقد يئسوا اليوم وانتقل السبب إلى ما عند الله فاخشوه وحده فافهم ذلك.
فالآية لمكان قوله : { فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ } لا تخلو عن تهديد وتحذير ، لأن فيه أمرا بخشية خاصة دون الخشية العامة التي تجب على المؤمن على كل تقدير وفي جميع الأحوال فلننظر في خصوصية هذه الخشية ، وأنه ما هو السبب الموجب لوجوبها والأمر بها .؟
لا إشكال في أن الفقرتين أعني قوله. { الْيَوْمَ يَئِسَ } ، وقوله : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } ، في الآية مرتبطان مسوقتان لغرض واحد ، وقد تقدم بيانه فالدين الذي أكمله الله اليوم ، والنعمة التي أتمها اليوم ـ وهما أمر واحد بحسب الحقيقة ـ هو الذي كان يطمع فيه الكفار ويخشاهم فيه المؤمنون فأيأسهم الله منه وأكمله وأتمه ونهاهم عن أن يخشوهم فيه ، فالذي أمرهم بالخشية من نفسه فيه هو ذاك بعينه وهو أن ينزع الله الدين من أيديهم ، ويسلبهم هذه النعمة الموهوبة.
وقد بين الله سبحانه أن لا سبب لسلب النعمة إلا الكفر بها ، وهدد الكفور أشد التهديد ، قال تعالى : { ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (الأنفال : 53 ) وقال تعالى : { وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ } (البقرة : 211 ) وضرب مثلا كليا لنعمه وما يئول إليه أمر الكفر بها فقال وَ { ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ } (النحل : 112 ).
فالآية أعني قوله : { الْيَوْمَ يَئِسَ ـ إلى قوله ـ دِيناً } تؤذن بأن دين المسلمين في أمن من جهة الكفار ، مصون من الخطر المتوجه من قبلهم ، وأنه لا يتسرب إليه شيء من طوارق الفساد والهلاك إلا من قبل المسلمين أنفسهم ، وإن ذلك إنما يكون بكفرهم بهذه النعمة التامة ، ورفضهم هذا الدين الكامل المرضي ، ويومئذ يسلبهم الله نعمته ويغيرها إلى النقمة ، ويذيقهم لباس الجوع والخوف ، وقد فعلوا وفعل.
ومن أراد الوقوف على مبلغ صدق هذه الآية في ملحمتها المستفادة من قوله : { فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ } فعليه أن يتأمل فيما استقر عليه حال العالم الإسلامي اليوم ثم يرجع القهقرى بتحليل الحوادث التاريخية حتى يحصل على أصول القضايا وأعراقها.
ولآيات الولاية في القرآن ارتباط تام بما في هذه الآية من التحذير والإيعاد ولم يحذر الله العباد عن نفسه في كتابه إلا في باب الولاية ، فقال فيها مرة بعد مرة : { وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ } (آل عمران : 3028 ) وتعقيب هذا البحث أزيد من هذا خروج عن طور الكتاب.
قوله تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً } الإكمال والإتمام متقاربا المعنى ، قال الراغب : كمال الشيء حصول ما هو الغرض منه. وقال : تمام الشيء انتهاؤه إلى حد لا يحتاج إلى شيء خارج عنه. والناقص ما يحتاج إلى شيء خارج عنه.
ولك أن تحصل على تشخيص معنى اللفظين من طريق آخر ، وهو أن آثار الأشياء التي لها آثار على ضربين. فضرب منها ما يترتب على الشيء عند وجود جميع أجزائه ـ إن كان له أجزاء ـ بحيث لو فقد شيئا من أجزائه أو شرائطه لم يترتب عليه ذلك الأمر كالصوم فإنه يفسد إذا أخل بالإمساك في بعض النهار ، ويسمى كون الشيء على هذا الوصف بالتمام ، قال تعالى : { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ } (البقرة : 187 ) وقال : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } (الأنعام : 115 ).
وضرب آخر : الأثر الذي يترتب على الشيء من غير توقف على حصول جميع أجزائه ، بل أثر المجموع كمجموع آثار الأجزاء ، فكلما وجد جزء ترتب عليه من الأثر ما هو بحسبه ، ولو وجد الجميع ترتب عليه كل الأثر المطلوب منه ، قال تعالى : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ } (البقرة : 196 ) وقال :
{ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ } (البقرة : 185 ) فإن هذا العدد يترتب الأثر على بعضه كما يترتب على كله ، ويقال : تم لفلان أمره وكمل عقله : ولا يقال تم عقله وكمل أمره.
وأما الفرق بين الإكمال والتكميل ، وكذا بين الإتمام والتتميم فإنما هو الفرق بين بابي الإفعال والتفعيل ، وهو أن الإفعال بحسب الأصل يدل على الدفعة والتفعيل على التدريج ، وإن كان التوسع الكلامي أو التطور اللغوي ربما يتصرف في البابين بتحويلهما إلى ما يبعد من مجرى المجرد أو من أصلهما كالإحسان والتحسين ، والإصداق والتصديق ، والإمداد والتمديد والإفراط والتفريط ، وغير ذلك ، فإنما هي معان طرأت بحسب خصوصيات الموارد ثم تمكنت في اللفظ بالاستعمال.
وينتج ما تقدم أن قوله : { أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } يفيد أن المراد بالدين هو مجموع المعارف والأحكام المشرعة وقد أضيف إلى عددها اليوم شيء وإن النعمة أيا ما كانت أمر معنوي واحد كأنه كان ناقصا غير ذي أثر فتمم وترتب عليه الأثر المتوقع منه.
والنعمة بناء نوع وهي ما يلائم طبع الشيء من غير امتناعه منه ، والأشياء وإن كانت بحسب وقوعها في نظام التدبير متصلة مرتبطة متلائما بعضها مع بعض ، وأكثرها أو جميعها نعم إذا أضيفت إلى بعض آخر مفروض كما قال تعالى : { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها } (إبراهيم : 34 ) وقال : { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً } (لقمان : 20 ).
إلا أنه تعالى وصف بعضها بالشر والخسة واللعب واللهو وأوصاف أخر غير ممدوحة كما قال : { وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ } (آل عمران : 178 ) ، وقال : { وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ } (العنكبوت : 64 ) ، وقال : { لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ } (آل عمران : 197 ) إلى غير ذلك.
والآيات تدل على أن هذه الأشياء المعدودة نعما إنما تكون نعمة إذا وافقت الغرض الإلهي من خلقتها لأجل الإنسان فإنها إنما خلقت لتكون إمدادا إلهيا للإنسان يتصرف فيها في سبيل سعادته الحقيقية ، وهي القرب منه سبحانه بالعبودية والخضوع للربوبية ، قال تعالى : { وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (الذاريات : 56 ).
فكل ما تصرف فيه الإنسان للسلوك به إلى حضرة القرب من الله وابتغاء مرضاته فهو نعمة ، وإن انعكس الأمر عاد نقمة في حقه ، فالأشياء في نفسها عزل ، وإنما هي نعمة لاشتمالها على روح العبودية ، ودخولها من حيث التصرف المذكور تحت ولاية الله التي هي تدبير الربوبية لشئون العبد ، ولازمه أن النعمة بالحقيقة هي الولاية الإلهية ، وأن الشيء إنما يصير نعمة إذا كان مشتملا على شيء منها ، قال تعالى : { اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ } (البقرة : 257 ) ، وقال تعالى : { ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ } (محمد : 11 ) وقال في حق رسوله : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } (النساء : 65 ) إلى غير ذلك.
فالإسلام وهو مجموع ما نزل من عند الله سبحانه ليعبده به عباده دين ، وهو من جهة اشتماله ـ من حيث العمل به ـ على ولاية الله وولاية رسوله وأولياء الأمر بعده نعمة.
ولا يتم ولاية الله سبحانه أي تدبيره بالدين لأمور عباده إلا بولاية رسوله ، ولا ولاية رسوله إلا بولاية أولي الأمر من بعده ، وهي تدبيرهم لأمور الأمة الدينية بإذن من الله قال تعالى : { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } ( النساء : 59 ) وقد مر الكلام في معنى الآية ، وقال : { إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ } (المائدة : 55 ) وسيجيء الكلام في معنى الآية إن شاء الله تعالى.
فمحصل معنى الآية : اليوم ـ وهو اليوم الذي يئس فيه الذين كفروا من دينكم ـ أكملت لكم مجموع المعارف الدينية التي أنزلتها إليكم بفرض الولاية ، وأتممت عليكم نعمتي وهي الولاية التي هي إدارة أمور الدين وتدبيرها تدبيرا إلهيا ، فإنها كانت إلى اليوم ولاية الله ورسوله ، وهي أنما تكفي ما دام الوحي ينزل ، ولا تكفي لما بعد ذلك من زمان انقطاع الوحي ، ولا رسول بين الناس يحمي دين الله ويذب عنه بل من الواجب أن ينصب من يقوم بذلك ، وهو ولي الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله القيم على أمور الدين والأمة.
فالولاية مشروعة واحدة ، كانت ناقصة غير تامة حتى إذا تمت بنصب ولي الأمر بعد النبي.
وإذا كمل الدين في تشريعه ، وتمت نعمة الولاية فقد رضيت لكم من حيث الدين الإسلام الذي هو دين التوحيد الذي لا يعبد فيه إلا الله ولا يطاع فيه ـ والطاعة عبادة ـ إلا الله ومن أمر بطاعته من رسول أو ولي.
فالآية تنبئ عن أن المؤمنين اليوم في أمن بعد خوفهم ، وأن الله رضي لهم أن يتدينوا بالإسلام الذي هو دين التوحيد فعليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا بطاعة غير الله أو من أمر بطاعته. وإذا تدبرت قوله تعالى : { وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ } (النور : 55 ) ثم طبقت فقرات الآية على فقرات قوله تعالى : { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ } (إلخ) وجدت آية سورة المائدة من مصاديق إنجاز الوعد الذي يشتمل عليه آية سورة النور على أن يكون قوله : { يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً } مسوقا سوق الغاية كما ربما يشعر به قوله : { وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ }.
وسورة النور قبل المائدة نزولا كما يدل عليه اشتمالها على قصة الإفك وآية الجد وآية الحجاب وغير ذلك.
قوله تعالى : { فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } المخمصة هي المجاعة ، والتجانف هو التمايل من الجنف بالجيم وهو ميل القدمين إلى الخارج مقابل الحنف بالحاء الذي هو ميلهما إلى الداخل.
وفي سياق الآية دلالة أولا على أن الحكم حكم ثانوي اضطراري ، وثانيا على أن التجويز والإباحة مقدر بمقدار يرتفع به الاضطرار ويسكن به ألم الجوع ، وثالثا على أن صفة المغفرة ومثلها الرحمة كما تتعلق بالمعاصي المستوجبة للعقاب كذلك يصح أن تتعلق بمنشئها ، وهو الحكم الذي يستتبع مخالفته تحقق عنوان المعصية الذي يستتبع العقاب .
___________________________
1. تفسير الميزان ، ج5 ، ص 140-156 .
2. وهي آية الكلالة المذكورة في آخر سورة النساء .
المحرمات التي وردت في هذه الآية ، بحسب الترتيب الذي جاءت عليه كما يلي :
أوّلا : الميتة .
ثانيا : الدم .
ثالثا : لحم الخنزير .
رابعا : الحيوانات التي تذبح باسم الأصنام ، أو باسم غير اسم الله ، كما كان يفعل الجاهليّون ، وقد تحدثنا عن هذه اللحوم الأربعة المحرمة في الجزء الأوّل من تفسيرنا هذا .
خامسا : الحيوانات المخنوقة ، سواء كان الخنق بسبب الفخ الذي تقع فيه أو بواسطة الإنسان أو بنفسها ، وكان الجاهليون يخنقون الحيوانات أحيانا للانتفاع بلحومها وقد أشارت الآية إلى هذا النوع باسم «المنخنقة».
وورد في بعض الروايات أنّ المجوس كان من عادتهم أن يخنقوا الحيوانات التي يريدون أكلها ، ولهذا يمكن أن تشملهم الآية أيضا (2) .
سادسا : الحيوانات التي تموت نتيجة تعرضها للضرب والتعذيب ، أو التي تموت عن مرض وسمّيت في الآية بـ «الموقوذة» (3) .
ونقل القرطبي في تفسيره أن عرب الجاهلية اعتادوا على ضرب بعض الحيوانات حتى الموت إكراما لأصنامهم وتقربا لها.
سابعا : الحيوان الذي يموت نتيجة السقوط من مكان مرتفع ، وقد سمي هذا النوع في الآية بـ «المتردية».
ثامنا : الحيوان الذي يموت جراء نطحه من قبل حيوان آخر ، وقد سمت الآية هذا النوع من الحيوانات بـ «النطيحة».
تاسعا : الحيوان الذي يقتل نتيجة هجوم حيوان متوحش عليه ، وسمي هذا النوع في الآية بـ «ما أكل السبع».
وقد يكون جزءا من فلسفة تحريم هذه الأنواع من الحيوانات ، هو عدم نزفها المقدار الكافي من الدم لدى الموت أو القتل ، لأنّه ما لم تقطع عروق رقابها لا تنزف الدم بمقدار كاف ، ولما كان الدم محيطا مناسبا جدا لنمو مختلف أنواع الجراثيم ، وبما أنّه يتفسخ حين يموت الحيوان قبل الأجزاء الأخرى من الجسد ، لذلك يتسمم لحم الحيوان ولا يمكن أن يعد هذا اللحم من اللحوم السليمة ، وغالبا ما يحصل هذا التسمم عند ما يموت الحيوان على أثر مرض أو من جراء التعذيب أو نتيجة تعرضه لملاحقة حيوان متوحش آخر .
من جانب آخر فإنّ الشرط المعنوي للذبح لا يتحقق في أي نوع من تلك الحيوانات ، أي شرط ذكر اسم الله وتوجيه الحيوان صوب القبلة لدى الذبح .
لقد ذكرت الآية شرطا واحدا لو تحقق لأصبحت لحوم الحيوانات المذكورة حلالا ، وهذا الشرط هو أن يذبح الحيوان قبل موته وفق الآداب والتقاليد الإسلامية ، ليخرج الدم منه بالقدر الكافي فيحل بذلك لحمه ، ولذلك جاءت عبارة {إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ} بعد موارد التحريم مباشرة.
ويرى بعض المفسّرين أن هذا الاستثناء يخص القسم الأخير فقط ، أي ذلك الذي جاء تحت عنوان : {وَما أَكَلَ السَّبُعُ} لكن أغلب المفسّرين يرون أنّ الاستثناء يشمل جميع الأنواع المذكورة ، والنظرية الأخيرة أقرب للحقيقة من غيرها.
وهنا قد يسأل البعض : لما ذا لم تدخل جميع أنواع الحيوانات المحرمة في الآية في إطار «الميتة» التي ذكرت كأوّل نوع من المحرمات الأحد عشر في الآية ، أليست الميتة في مفهومها تعني كل الأنواع المذكورة؟
والجواب هو : إنّ الميتة لها معان واسعة من حيث مفهوم الفقهي الشرعي ، فكل حيوان لم يذبح وفق الطريقة الشرعية يدخل في إطار مفهوم الميتة ، أمّا المعنى اللغوي للميتة فيشمل ـ فقط ـ الحيوان الذي يموت بصورة طبيعية. ولهذا السبب فإن الأنواع المذكورة في الآية ـ غير الميتة ـ لا تدخل من الناحية اللغوية ضمن مفهوم الميتة ، وهي محتاجة إلى البيان والتوضيح .
عاشرا : كان الوثنيون في العصر الجاهلي ينصبون صخورا حول الكعبة ليست على أشكال أو هيئات معينة ، وكانوا يسمون هذه الصخور بـ «النصب» حيث كانوا يذبحون قرابينهم أمامها ويمسحون الصخور تلك بدم القربان.
والفرق بين النصب والأصنام هو أنّ النصب ليست لها أشكال وصور بخلاف الأصنام ، وقد حرم الإسلام لحوم القرابين التي كانت تذبح على تلك النصب ، فجاء حكم التحريم في الآية بقوله تعالى : {وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}.
وواضح أنّ تحريم هذا النوع من اللحوم إنّما يحمل طابعا معنويا وليس ماديا. وفي الحقيقة فإن هذا النوع يعتبر من تلك القرابين التي تدخل ضمن مدلول العبارة القرآنية : {وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} وقد ذكر تشخيصا في الآية بسبب رواجه لدى عرب الجاهلية .
أحد عشر : وهناك نوع آخر من اللحوم المحرمة ، وهو اللحوم التي تذبح وتوزع بطريقة القمار ، وتوضيح ذلك هو أنّ عشرة من الأشخاص يتراهنون فيما بينهم فيشترون حيوانا ويذبحونه ، ثمّ يأتون بعشرة سهام كتب على سبعة منها عبارة «فائز» ، وعلى الثلاثة الأخرى كتبت عبارة «خاسر» ، فتوضع في كيس وتسحب واحدة واحدة باسم كل من الأشخاص العشرة على طريقة الاقتراع ، فالأشخاص الذين تخرج النبال السبعة الفائزة بأسمائهم يأخذون قسما من اللحم دون أن يدفعوا ثمنا لما أخذوه من اللحم ، أمّا الأشخاص الثلاثة الآخرون الذين تخرج النبال الخاسرة بأسمائهم فيتحملون ثمن الحيوان بالتساوي ، فيدفع كلّ واحد منهم ثلث قيمة الحيوان دون أن يناله شيء من لحمه.
وقد سمى الجاهليون هذه النبال بـ «الأزلام» وهي صيغة جمع من «زلم» وقد حرم الإسلام هذا النوع من اللحوم ، لا بمعنى وجود تأصل الحرمة في اللحم ، بل لأنّ الحيوان كان يذبح في عمل هو أشبه بالقمار ، ويجب القول هنا أن تحريم القمار وأمثاله لا ينحصر في اللحوم فقط ، بل إن القمار محرم في كل شيء وبأيّ صورة كان .
ولكي تؤكّد الآية موضوع التحريم وتشدد على حرمة تلك الأنواع من اللحوم تقول في الختام : {ذلِكُمْ فِسْقٌ}. (4)
الاعتدال في تناول اللحوم :
إنّ الذي نستنتجه من البحث المار الذكر ومن المصادر الإسلامية الأخرى ، هو أنّ الإسلام اتبع في قضية تناول اللحوم أسلوبا معتدلا تمام الاعتدال جريا على طريقته الخاصّة في أحكامه الأخرى .
ويختلف أسلوبه هذا اختلافا كبيرا مع ما سار عليه الجاهليون في أكل لحم النصب والميتة والدم وأشباه ذلك ، وما يسير عليه الكثير من الغربيين في الوقت الحاضر في أكل حتى الديدان والسلاحف والضفادع وغيرها.
ويختلف مع الطريقة التي سار عليها الهنود في تحريم كل أنواع اللحوم على أنفسهم.
فقد أباح الإسلام لحوم الحيوانات التي تتغذى على الأشياء الطاهرة التي لا تعافها النفس البشرية ، وألغى الأساليب التي فيها طابع الإفراط أو التفريط .
وقد عيّن الإسلام شروطا أبان من خلالها أنواع اللحوم التي يحلّ للإنسان الاستفادة منها ، وهي : ـ
١ ـ لحوم الحيوانات التي تقتات على الأعشاب ، أمّا الحيوانات التي تقتات على اللحوم فهي غالبا ما تأكل لحوم حيوانات ميتة أو موبوءة ، وبذلك قد تكون سببا في نقل أنواع الأمراض لدى تناول لحومها ، بينما الحيوانات التي تأكل العشب يكون غذاؤها سليما وخاليا من الأمراض.
وقد تقدم أيضا في تفسير الآية (٧٢) من سورة البقرة بأنّ الحيوانات تورث صفاتها عن طريق لحومها أيضا ، فمن يأكل لحم حيوان متوحش يرث صفات الوحش كالقسوة والعنف ، وبناء على هذا الدليل ـ أيضا ـ حرمت لحوم الحيوانات الجلّالة ، وهي التي تأكل فضلات غيرها من الحيوانات.
٢ ـ أن لا تكون الحيوانات التي ينتفع من لحمها كريهة للنفس الإنسانية .
٣ ـ أن لا يترك لحم الحيوان أثرا سيئا أو ضارا على جسم أو نفس الإنسان .
٤ ـ لقد حرمت الحيوانات التي تذبح في طريق الشرك في سبيل الأصنام ، وأمثال ذلك لما فيها من نجاسة معنوية.
٥ ـ لقد بيّن الإسلام أحكاما خاصّة لطريقة ذبح الحيوانات لكل واحد منها ـ بدوره ـ الأثر الصحي والأخلاقي على الإنسان .
* * *
بعد أنّ بيّنت الآية الأحكام التي مرّ ذكرها أوردت جملتين تحتويان معنى عميقا : الأولى منهما تقول : {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ}.
والثّانية هي : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً}.
_________________________
1. تفسير الأمثل ، ج3 ، ص 413-417 .
2. وسائل الشيعة ، ج ١٦ ، ص ١٧٣.
3. الموقوذة المضروبة بعنف حتى الموت.
4. بالرغم من أنّ «ذلكم» ، إشارة لمفرد ، إلّا أنّه لمّا كان يحتوي على ضمير الجمع ، وقد فرض المجموع بمثابة الشيء الواحد ، فلا إشكال في هذا الاستعمال.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|