أقرأ أيضاً
التاريخ: 14-2-2017
4485
التاريخ: 11-5-2017
4054
التاريخ: 1-3-2017
4472
التاريخ: 30-11-2016
3851
|
قال تعالى : {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [البقرة: 125، 126].
قوله {وإذ جعلنا} عطف على قوله وإذ ابتلى وذلك معطوف على قوله يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي و{البيت} الذي جعله الله مثابة هو البيت الحرام وهو الكعبة وروي أنه سمي البيت الحرام لأنه حرم على المشركين أن يدخلوه وسمي الكعبة لأنها مربعة وصارت مربعة لأنها بحذاء البيت المعمور وهو مربع وصار البيت المعمور مربعا لأنه بحذاء العرش وهو مربع وصار العرش مربعا لأن الكلمات التي بني عليها الإسلام أربع وهي سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
وقوله {مثابة للناس} ذكر فيه وجوه فقيل أن الناس يثوبون إليه كل عام أي ليس هو مرة في الزمان فقط على الناس عن الحسن وقيل معناه أنه لا ينصرف منه أحد وهو يرى أنه قد قضى منه وطرا فهم يعودون إليه عن ابن عباس وقد ورد في الخبر أن من رجع من مكة وهو ينوي الحج من قابل زيد في عمره ومن خرج من مكة وهولا ينوي العود إليها فقد قرب أجله وقيل معناه يحجون إليه فيثابون عليه وقيل مثابة معاذا وملجأ وقيل مجمعا والمعنى في الكل يؤول إلى أنهم يرجعون إليه مرة بعد مرة وقوله {وأمنا} أراد مأمنا أي موضع أمن وإنما جعله الله أمنا بأن حكم أن من عاذ به والتجأ إليه لا يخاف على نفسه ما دام فيه وبما جعله في نفوس العرب من تعظيمه حتى كانوا لا يتعرضون من فيه فهو آمن على نفسه وماله وإن كانوا يتخطفون الناس من حوله ولعظم حرمته لا يقام في الشرع الحد على من جنى جناية فالتجأ إليه وإلى حرمه لكن يضيق عليه في المطعم والمشرب والبيع والشراء حتى يخرج منه فيقام عليه الحد فإن أحدث فيه ما يوجب الحد أقيم عليه الحد فيه لأنه هتك حرمة الحرم فهو آمن من هذه الوجوه .
وكان قبل الإسلام يرى الرجل قاتل أبيه في الحرم فلا يتعرض له وهذا شيء كانوا قد توارثوه من دين إسماعيل فبقوا عليه إلى أيام نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) وقوله {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} قال ابن عباس الحج كله مقام إبراهيم وقال عطاء مقام إبراهيم عرفة والمزدلفة والجمار وقال مجاهد الحرم كله مقام إبراهيم وقال الحسن وقتادة والسدي هو الصلاة عند مقام إبراهيم أمرنا بالصلاة عنده بعد الطواف وهو المروي عن الصادق (عليه السلام) وقد سئل عن الرجل يطوف بالبيت طواف الفريضة ونسي أن يصلي ركعتين عند مقام إبراهيم فقال يصليها ولو بعد أيام أن الله تعالى قال {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} وهذا هو الظاهر لأن مقام إبراهيم إذا أطلق لا يفهم منه إلا المقام المعروف الذي هو في المسجد الحرام .
وفي المقام دلالة ظاهرة على نبوة إبراهيم (عليه السلام) فإن الله جعل الحجر تحت قدميه كالطين حتى دخلت قدمه فيه وكان في ذلك معجزة له وروي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنه قال نزلت ثلاثة أحجار من الجنة مقام إبراهيم وحجر بني إسرائيل والحجر الأسود استودعه الله إبراهيم (عليه السلام) حجرا أبيض وكان أشد بياضا من القراطيس فاسود من خطايا بني آدم .
{و} اذكر {إذ قال إبراهيم رب اجعل هذا} أي هذا البلد يعني مكة {بلدا آمنا} أي ذا أمن كما يقال بلد آهل أي ذو أهل وقيل معناه يأمنون فيه كما يقال ليل نائم أي ينام فيه قال ابن عباس يريد حراما محرما لا يصاد طيره ولا يقطع شجرة ولا يختلى خلاؤه وإلى هذا المعنى يؤول ما روي عن الصادق (عليه السلام) من قوله من دخل الحرم مستجيرا به فهو آمن من سخط الله عز وجل ومن دخله من الوحش والطير كان آمنا من أن يهاج أو يؤذى حتى يخرج من الحرم .
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يوم فتح مكة أن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد من بعدي ولم تحل لي إلا ساعة من النهار فهذا الخبر وأمثاله المشهورة في روايات أصحابنا تدل على أن الحرم كان آمنا قبل دعوة إبراهيم (عليه السلام) وإنما تأكدت حرمته بدعائه (عليه السلام) وقيل إنما صار حرما بدعائه (عليه السلام) وقبل ذلك كان كسائر البلاد واستدل عليه بقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة وقيل كانت مكة حراما قبل الدعوة بوجه غير الوجه الذي صارت به حراما بعد الدعوة فالأول بمنع الله إياها من الاصطلام والائتفاك كما لحق ذلك غيرها من البلاد وبما جعل ذلك في النفوس من تعظيمها والهيبة لها و( الثاني ) بالأمر بتعظيمه على ألسنة الرسل فأجابه الله تعالى إلى ما سأل وإنما سأله أن يجعلها آمنة من الجدب والقحط لأنه أسكن أهله بواد غير ذي زرع ولا ضرع ولم يسأله أمنها من الائتفاك والخسف الذي كان حاصلا لها وقيل أنه (عليه السلام) سأله الأمرين على أن يديمهما وإن كان أحدهما مستأنفا والآخر قد كان قبل وقوله {وارزق أهله من الثمرات} أي أعط من أنواع الرزق والثمرات {من آمن منهم بالله واليوم الآخر} سأل لهم الثمرات ليجتمع لهم الأمن والخصب فيكونوا في رغد من العيش وروي عن أبي جعفر (عليه السلام) أن المراد بذلك أن الثمرات تحمل إليهم من الآفاق وروي عن الصادق (عليه السلام) قال هي ثمرات القلوب أي حببهم إلى الناس ليثوبوا إليهم وإنما خص بذلك من آمن بالله لأن الله تعالى قد أعلمه أنه يكون في ذريته الظالمون في جواب مسألته إياه لذريته الإمامة بقوله {لا ينال عهدي الظالمين} فخص بالدعاء في الرزق المؤمنين تأدبا بأدب الله تعالى وقيل أنه (عليه السلام) ظن أنه إذا دعا للكفار بالرزق أنهم يكثرون بمكة ويفسدون فربما يصدون الناس عن الحج فخص بالدعاء أهل الإيمان .
وقوله {قال ومن كفر فأمتعه قليلا} أي قال الله سبحانه قد استجبت دعوتك فيمن آمن منهم ومن كفر فأمتعه بالرزق الذي أرزقه إلى وقت مماته وقيل فأمتعه بالبقاء في الدنيا وقيل أمتعه بالأمن والرزق إلى خروج محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) فيقتله إن أقام على كفره أو ذيجليه عن مكة عن الحسن {ثم أضطره إلى عذاب النار} أي أدفعه إلى النار وأسوقه إليها في الآخرة {وبئس المصير} أي المرجع والمأوى والمال .
_____________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج1 ، ص379-386.
{وإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وأَمْناً} . وإذ جعلنا عطف على قوله : {وإذ ابتلى} ، والمعنى ان اللَّه سبحانه قد جعل بيته مقصدا للناس تؤمه أفواج منهم لأداء المناسك ، وبعدها يتفرقون إلى بلادهم ، ثم يرجع إليه أفواج أخرى ، وهكذا دواليك . . وأيضا جعله آمنا في الآخرة ، لأن الإنسان متى بلغه وأدى المناسك رجع إلى نفسه وانقطع إلى ربه وتاب إليه من ذنوبه ، وبهذا يكون البيت وسيلة للخلاص من العذاب والعقاب ، كما جعل اللَّه بيته أمنا في الدنيا ، لأن ساكنه يأمن على نفسه ، ولا يتعرض له أحد بسوء ، وقد كان الرجل يرى في الحرم قاتل أبيه ، فيتجاهله ، وهذه عادة موروثة منذ عهد إسماعيل ( عليه السلام ) إلى يومنا هذا .
التجاء الجاني إلى الحرم :
جاء في كتاب الجواهر ، وهو أعظم مصدر لفقه الجعفرية ، ما نصه بالحرف :
(لا يقام الحد إطلاقا في الحرم على من التجأ إليه ، لقوله تعالى : {مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً} بل يضيق عليه في المطعم والمشرب ، ويقتصر على ما يسد الرمق ، ليخرج ويقام عليه الحد ، فقد جاءت الرواية الصحيحة عن الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) في رجل يجني في غير الحرم ، ثم يلجأ إلى الحرم قال : لا يقام عليه الحد ، ولا يطعم ، ولا يسقى ، ولا يكلم ، فإنه إذا فعل به ذلك يوشك أن يخرج ، فيقام عليه الحد ، وان جنى في الحرم جناية أقيم عليه الحد في الحرم ، لأنه لم ير للحرم حرمة) .
وقال أبو حنيفة : لا يجوز قتل من التجأ إلى الحرم ، واستدل بقوله تعالى : {وإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وأَمْناً} .
{ واتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى} . واتخذوا بكسر الخاء ، وهو أمر بالصلاة في مقام إبراهيم ، لأن معنى مصلى مكان الصلاة . . وقد أجمع الفقهاء على أنه يستحب الإتيان بركعتي الطواف فيه مع الإمكان ، والمفهوم من مقام إبراهيم المقام المعروف الموجود الآن في المسجد ، أما قول من قال : ان المراد به المسجد بكامله فيحتاج إلى دليل .
{وعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والْعاكِفِينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ} .
أن في قوله تعالى : {أَنْ طَهِّرا} مفسرة لعهدنا ، فهي بمعنى أي ، ولا محل لها من الاعراب ، والمعنى وصينا إبراهيم وإسماعيل بأن يحترما البيت ، ويبعدا عنه كل ما لا يليق به من الأصنام والنجاسات والأوساخ واللغو والرفث والفسوق والجدال ، ونحو هذه ، وأن يأمرا الناس بذلك ، و( لِلطَّائِفِينَ ) الذين يدورون حول البيت ، و( الْعاكِفِينَ ) أو المعتكفين من أقاموا في المسجد ولازموه ، أو جاوروه للعبادة ، و{الرُّكَّعِ السُّجُودِ} هم المصلون ، جمع راكع وساجد .
{ وإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً} . هذا دعاء ورجاء من إبراهيم إلى اللَّه أن يجعل مكة المكرمة من الأمكنة الآمنة ، أي يأمن أهلها من الغزاة والجبابرة ، ومن الزلازل والعواصف ، ونحو ذلك . . وقال جماعة من المفسرين :
ان اللَّه قد استجاب دعاء إبراهيم ، حيث لم يقصد أحد مكة بسوء إلا قصم اللَّه ظهره ، ومن تعدى عليها لم يطل زمن تعديه .
{وارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ}. لما بنى إبراهيم البيت في أرض مقفرة لا ماء فيها ولا كلأ دعا اللَّه سبحانه لهذه الأرض بالأمن والأمان ، وبأن تجبى إليها الأرزاق ، ولم يعين نوعها ، ولا أرضها ، إذ المهم وصول الرزق كيف كان ، ومن أين كان . . وقد استجاب اللَّه دعوة إبراهيم ، فجبي الرزق إلى مكة من شتى الأنواع والأقطار ، وكانت ممرا للقوافل ، ومقرا للتجارة . . وإلى هذا أشارت الآية 57 من القصص : {أَولَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ} . وانما خص إبراهيم طلب الرزق للمؤمنين فقط ، لأن اللَّه كان قد أعلمه ان في ذريته قوما ظالمين ، وانه سبحانه لا يعهد بالإمامة إلى من ظلم .
{ قالَ ومَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً} . أي قال اللَّه لإبراهيم : اني أرزق أيضا الكافرين ، وبالأولى الفاسقين ، لأن الرزق شيء ، والإمامة شيء آخر ، فان الإمامة سلطة دينية وزمنية ، وهذه تستدعي الإيمان والعدالة ، بل العصمة : أما الرزق فيكون للبر والفاجر ، تماما كالماء والهواء . . والذنوب والمعاصي لا تأثير لها في الأعمار والأرزاق في هذه الحياة ، وانما يظهر تأثيرها غدا يوم القيامة ، حيث يلاقي العصاة جزاء أعمالهم .
________________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج1 ، ص200-202.
قوله تعالى: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا} إشارة إلى تشريع الحج والأمن في البيت، والمثابة هي المرجع، من ثاب يثوب إذا رجع.
قوله تعالى:{واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} كأنه عطف على قوله: {جعلنا البيت مثابة}، بحسب المعنى، فإن قوله: جعلنا البيت مثابة، لما كان إشارة إلى التشريع كان المعنى وإذ قلنا للناس ثوبوا إلى البيت وحجوا إليه، واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، وربما قيل إن الكلام على تقدير القول، والتقدير: وقلنا اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، والمصلى اسم مكان من الصلاة بمعنى الدعاء أي اتخذوا من مقامه (عليه السلام) مكانا للدعاء والظاهر أن قوله: {جعلنا البيت مثابة} إلخ بمنزلة التوطئة أشير به إلى مناط تشريع الصلاة ولذا لم يقل: وصلوا، في مقام إبراهيم، بل قال: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، فلم يعلق الأمر بالصلاة في المقام، بل علق على اتخاذ المصلى منه.
قوله تعالى: {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا}، العهد هو الأمر والتطهير إما تخليص البيت لعبادة الطائفين، والعاكفين، والمصلين، ونسكهم فيكون من الاستعارة بالكناية، وأصل المعنى: أن خلصا بيتي لعبادة العباد، وذلك تطهير وإما تنظيفه من الأقذار والكثافات الطارئة من عدم مبالات الناس، والركع السجود جمعا راكع وساجد وكان المراد به المصلون.
قوله تعالى: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل}، هذا دعاء دعا به إبراهيم يسأل به الأمن على أهل مكة والرزق وقد أجيبت دعوته، وحاشا لله سبحانه أن ينقل في كلامه دعاء لا يستجيبه ولا يرده في كلامه الحق فيشتمل كلامه على هجاء لغو لغا به لاغ جاهل، وقد قال تعالى: {وَالْحَقَّ أَقُولُ} [ص: 84] ، وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق: 13، 14].
وقد نقل القرآن العظيم عن هذا النبي الكريم دعوات كثيرة دعا بها وسألها ربه كدعائه لنفسه في بادىء أمره، ودعائه عند مهاجرته إلى سورية ودعائه ومسألته بقاء الذكر الخير، ودعائه لنفسه وذريته ولوالديه وللمؤمنين والمؤمنات، ودعائه لأهل مكة بعد بناء البيت، ودعائه ومسألته بعثة النبي من ذريته.
ومن دعواته ومسائله التي تجسم آماله وتشخص مجاهداته ومساعيه في جنب الله وفضائل نفسه المقدسة، وبالجملة تعرف موقعه وزلفاه من الله عز اسمه، وسائر قصصه وما مدحه به ربه، يستنبط شرح حياته الشريفة، وسنتعرض للميسور من ذلك في سورة الأنعام.
قوله تعالى: {من آمن منهم}، لما سأل (عليه السلام) لبلد مكة الأمن، ثم سأل لأهله أن يرزقوا من الثمرات، استشعر: أن الأهل سيكون منهم مؤمنون، وكافرون ودعاؤه للأهل بالرزق يعم الكافر والمؤمن، وقد تبرأ من الكافرين وما يعبدونه، قال تعالى {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } [التوبة: 114] ، فشهد تعالى له: بالبراءة والتبري عن كل عدو لله، حتى أبيه، ولذلك لما استشعر ما استشعره من عموم دعوته قيدها بقوله من آمن منهم – وهو يعلم أن رزقهم من الثمرات لا يتم من دون شركة الكافرين على ما يحكم به ناموس الحياة الدنيوية الاجتماعية - غير أنه خص مسألته - والله أعلم بما يحكم لسائر عباده، ويريد في حقهم، فأجيب (عليه السلام) بما يشمل المؤمن والكافر، وفيه بيان أن المستجاب من دعوته ما يجري على حكم العادة وقانون الطبيعة من غير خرق للعادة، وإبطال لظاهر حكم الطبيعة، ولم يقل: وارزق من آمن من أهله من الثمرات لأن المطلوب استيهاب الكرامة للبلد لكرامة البيت المحرم، ولا ثمرة تحصل في واد غير ذي زرع، وقع فيه البيت، ولولا ذلك لم يعمر البلد، ولا وجد أهلا يسكنونه.
قوله تعالى: {ومن كفر فأمتعه قليلا}، قرىء فأمتعه من باب الإفعال والتفعيل والإمتاع والتمتيع بمعنى واحد.
قوله تعالى: {ثم اضطره إلى عذاب النار} إلخ، فيه إشارة إلى مزيد إكرام البيت وتطييب لنفس إبراهيم (عليه السلام)، كأنه قيل: ما سألته من إكرام البيت برزق المؤمنين من أهل هذا البلد استجبته وزيادة، ولا يغتر الكافر بذلك أن له كرامة على الله، وإنما ذلك إكرام لهذا البلد، وإجابة لدعوتك بأزيد مما سألته، فسوف يضطر إلى عذاب النار، وبئس المصير.
____________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج1 ، ص235-236.
عظمة بيت الله
بعد الإِشارة إلى مكانة إبراهيم(عليه السلام) في الآية السابقة، تناولت هذه الآية موضوع عظمة الكعبة التي وضع قواعدها إبراهيم(عليه السلام)، فهي تبدأ بالتذكير بعبارة «وَإِذْ» أي أُذكروا: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمناً}.
المثابة من الثوب، أي عودة الشيء إلى حالته الاُولى. ولما كانت الكعبة مركزاً يتجه إليه الموحدون كلّ عام، فهي محل لعودة جسمية وروحية إلى التوحيد والفطرة الاُولى، ومن هنا كانت مثابة. وكلمة «مَثَابَةً» تتضمن معنى الراحة والإِستقرار، لأن بيت الإِنسان ـ وهو محل عودته الدائم ـ مكان للراحة والإِستقرار، وهذا المعنى تؤكده كلمة «أَمْناً» التي تلي كلمة «مَثَابَةً» في الآية. وكلمة «لِلنَّاسِ» توضح أنه ملجأ عام لكل العالمين، ولكل الشعوب المحرومة.
وهذه الصفة للبيت هي في الحقيقة استجابة لأحد مطاليب إبراهيم (عليه السلام) من ربّه ما سيأتي.
ثمّ تضيف الآية: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلىًّ}.
اختلف المفسرون في معنى «مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ»، قيل: إنّ كل الحج هو مقام إبراهيم. وقيل: إنه «عَرفة» و«المشعر الحرام» و«الجمار الثلاث»، وقيل: كل حرم مكة مقام.
ولكن يبدو من ظاهر الآية أن المقام هو مقام إبراهيم المعروف الكائن قرب الكعبة، وذهبت إلى ذلك الرّوايات وكثير من المفسّرين. وعلى الحجاج أن يصلّوا خلفه بعد الطواف، ومن هنا كان هذا المقام «مصلّى».
ثم تشير الآية إلى المسؤولية المعهودة إلى إبراهيم وابنه إسماعيل(عليهما السلام) بشأن تطهير البيت للطائفين والمجاورين والمصلين: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}.
وفي التطهير قيل: إنه التطهير من لوثة وجود الأصنام. وقيل: إنه التطهير من الدنس الظاهر، كالدم وأحشاء الذبائح التي كان يلقي بها الجهلة في البيت.
وقيل: إنه يعني إخلاص النية عند بناء البيت.
ولا دليل على تحديد مفهوم الطهارة، فهي تعني تطهير هذا البيت ظاهرياً ومعنوياً من كل تلويث.
لذلك نجد بعض الروايات فسرت التطهير في الآية بأنه تطهير الكعبة من المشركين، وبعضها بأنه تطهير البدن وإزالة الأدران.
إبراهيم يدعو ربّه
في الاية الثانية توجّه إبراهيم إلى ربّه بطلبين هامين لسكنة هذه الأرض المقدسة، أشرنا إلى أحدهما في الآية السّابقة. القرآن يذكّر بما قاله إبراهيم: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً}.
وكما ذكرنا في الآية السابقة، استجاب الله لدعاء إبراهيم، وجعل هذه الأرض المقدسة مركزاً آمناً بالمعنى الواسع لكلمة لأمن.
والطلب الآخر هو: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الَّثمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ}.
وهكذا يطلب إبراهيم «الأمن» أوّلا، ثم «المواهب الإِقتصادية»، إشارة إلى أنّ الإِقتصاد السالم لا يتحقق إلاّ بعد الأمن الكامل.
وللمفسرين آراء عديدة في معنى «الثّمرات»، ويبدو أن معناها واسع يشمل النعم المادية والنعم المعنوية. وعن الإِمام الصادق(عليه السلام): «هِيَ ثَمَرَاتُ الْقُلُوبِ» إِشارة إلى جعل قلوب النّاس تهوي إلى هذه الأرض.
إبراهيم في دعائه إقتصر على المؤمنين بالله واليوم الآخر، ولعل ذلك كان بعد أن قال له الله سبحانه: {لاَ يَنَالُ عَهْدِيَ الظَّالِمِينَ} ففهم أن مجموعة من ذريّته سيسلكون طريق الشرك والظلم، فاستثناهم في دعائه.
والله سبحانه استجاب لإِبراهيم طلبه الثاني أيضاً، ولكنه {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَليِلا} فِي الدُّنْيا، {ثُمَّ اضْطَرُّهُ إِلى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} في الحياة الآخرة.
هذه في الواقع صفة «الرحمانية» وهي الرحمة العامة للباري تعالى التي تشمل كل المخلوقات، صالحهم وطالحهم في الدنيا. أما الآخرة فهي عالم رحمته الخاصة التي لا ينالها إلاّ من آمن وعمل صالحاً.
__________________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج1 ، ص314-318.
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|