ترجع الصناعة في اوربا بمفهومها الحديث – العمليات التي تزيد من قيمة المادة الخام – الى العصور الوسطى حين انتشرت بعض الصناعات البسيطة المعتمدة على طاقة كل من الانسان والحيوان، وعلى قوة اندفاع المياه الجارية التي استخدمت في إدارة الآلات والطواحين واقتصر استغلال الطاقة الأخيرة في اول الامر على النطاقات المجاورة للمجاري المائية التي تتوافر فيها بعض المندفعات الطبيعية والشلالات بشرط عدم تجمد مياهها.

واكتسب بعض الصناعات الاوربية البسيطة شهرة واسعة مثل صناعات المنسوجات والملبوسات الصوفية في المملكة المتحدة، والزجاج والكريستال في التشيك وسلوفاكيا، والدانتيلا والمفروشات في بلجيكا، والصناعات الخشبية البسيطة في شمالي إيطاليا وسويسرا، والمعدنية في المانيا وبريطانيا وسويسرا، والروائح والعطور في فرنسا، والجلود في اسبانيا، والالبان ومنتجاتها في هولندا وسويسرا ... وتعتمد كل هذه الصناعات على المهارات اليدوية والخبرات المتوارثة عبر الأجيال بصورة لا تمكن الأساليب الالية الحديثة من منافساتها في مجال الاتقان.

وظلت الصناعات المشار اليها تمارس على مستوى محدود طوال فترات زمنية طويلة لم تحتاج خلالها الى رؤوس أموال ضخمة ولا الى كميات كبيرة من المواد الخام ولا الى اعداد كبيرة من القوي العاملة حيث كانت تمارس في معظمها على مستوى الاسر او الجماعات محدودة العدد، حتى بداتا لورة الصناعية باكتشاف قوة البخار خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر (عام 1769) حين بدئ في استخدام قوة البخار في تشغيل الات المصانع وخاصة منشئات صناعات غزل القطن ونسجه التي استخدمت لأول مرة في المملكة المتحدة, وساعد على تطور الصناعة في اوربا وازدهارها التوسع في عمليات التنقيب عن المعادن واستغلالها والتي اعتمدت عليها الحضارة الصناعية الحديثة كالفحم والحديد ومعادن سبائك الصلب السابق دراستها.

وتوطنت معظم الصناعات الاوربية وخاصة صناعات الحديد والصلب – الاساسية لكل الصناعات وخاصة الهندسية منها – بالقرب من حقول الفحم السابق دراستها في اوربا، حيث يمثل الفحم العصب الرئيسي للصناعة خلال القرن التاسع عشر على وجه الخصوص لارتفاع تكاليف نقل الفحم لخفة وزنه وضخمة حجمه وارتفاع نسبة الفاقد منه بالتكسر عند نقله، في مقابل انخفاض تكلفة نقل الحديد، بالإضافة الى استهلاك صناعة الصلب لكميات كبيرة من الفحم تفوق الكمية المستغلة من الحديد الخام، لذلك توطنت مراكز الصناعات الرئيسية في اوربا قرب حقول الفحم التي كان يتجه اليها الحديد الخام كما في حوض الرور بألمانيا حيث تتركز اهم حقول الفحم الألمانية، ولنفس السبب توطنت المنشآت الصناعية في نفس مواقع حقول الفحم البريطانية بالمملكة المتحدة.

وتكررت نفس الصورة في العديد من الدول الاوربية التي يأتي في مقدمتها بالإضافة الى المانيا وبريطانيا، بولندا، فرنسا، بلجيكا، روسيا الاتحادية، أوكرانيا، وهي الأقاليم الصناعية التي يبرز (الشكل رقم 1) اهم المتمركز منها في غربي القارة حيث تبلغ كثافة الصناعة أقصاها فيما يعرف بالمثلث الصناعي في غربي القارة (شكل رقم 2) وتتركز اكبر الأقاليم الصناعية في اوربا واهمها في النطاق المعروف باسم حزام القوة الأوربي الممتد في وسط القارة بدءا من الجزر البريطانية في الغرب وحتى نطاق مرتفعات الاورال في الشرق. وترجع تسمية هذا النطاق بحزام القوة الى ضخامة انتاجه الصناعي من الحديد والصلب، والى ارتفاع قيمة انتاجه من الصناعات المختلفة والتي تشكل نحو 80% من جملة قيمة الإنتاج الصناعي في قارة اوربا، بالإضافة الى استهلاكه لكميات ضخمة من مصادر الطاقة المستخدمة في الصناعات المختلفة (الفحم، البترول، الغاز الطبيعي، الكهرباء).

وتتمثل اهم الأقاليم الصناعية بحزام القوة فيما يأتي:

- الأقاليم الصناعية في المملكة المتحدة.

- إقليم حقول الفحم الفرنسية/ البلجيكية.

- أقاليم الرور/ ويستقاليا/ ساكسوني في المانيا.

- أقاليم حقول الفحم في سيليزيا (بولندا، التشيك).

- إقليم سهل لمبارديا في شمالي إيطاليا وخاصة حول ميلان وتورين.

- إقليم الأراضي الوسطى والجنوبية المنخفضة في السويد.

- إقليم الدونباس في أوكرانيا.

إقليم سان بطرسبورج المطل على خليج فنلندا في روسيا الاتحادية.

- إقليم موسكو الصناعي.

- إقليم الاورال شرقي الجانب الأوربي من روسيا الاتحادية.

ويلاحظ من تتبع التوزيع الجغرافي للأقاليم الصناعية الاوربية المشار اليها على خريطة القارة والحقائق الرئيسية التالية:

- التركز الشديد للأقاليم الصناعية في نطاقات محددة (مثل المثلث الصناعي في غربي القارة) بصورة تفوق تركز أقاليم التعدين الكبرى التي تتصف بانتشارها الواسع في جهات متعددة من اوربا.

- تركز معظم الأقاليم الصناعية الكبرى عند حقول الفحم او بالقرب منها للأسباب السابق الإشارة اليها.

- ارتباط الأقاليم المتخصصة في الصناعات الثقيلة وخاصة الحديد والصلب بحقول الفحم لضخامة كميات الفحم التي تحتاج الهيا، لذا تمثل حقول الفحم عامل جذب رئيسي للصناعات الثقيلة منذ قيام الثورة الصناعية خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر, تتوطن نسبة مرتفعة من الأقاليم الصناعية في النطاقات الساحلية او حول الموانئ التي تربطها بكل من مصادر المواد الخام الخارجية والأسواق العالمية لتصريف المنتجات الصناعية.