أقرأ أيضاً
التاريخ: 5-11-2014
3489
التاريخ: 2-12-2015
11445
التاريخ: 5-11-2014
2833
التاريخ: 5-11-2014
1774
|
هناك وقع نداء زكريا ربّه ـ فيما حكى الله سبحانه ـ : {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا } [مريم : 4] موقع إعجاب وإكبار علماء المعاني والبيان ، بهرتهم لطافة صنعه وأناقة رصفه ، مشتملاً على مزايا ومحاسن جمّة لا يحويها سائر الكلام ، وقد تعرّض لها صاحب ( الطراز ) وعدّد محاسنها درجة درجة حتى بلغ العشرة عدد الكمال ، وقدّم لذلك مقدّمة قال فيها :
اعلم أنّ القرآن إنّما صار معجزاً ؛ لكونه دالاً على تلك المحاسن والمزايا التي لم يختصّ بها غيره من سائر الكلام ، ولا يجوز أن تكون راجعة إلى الدلالات الوضعية ، سواء كانت باعتبار دلالتها على معانيها الوضعية ، أو مجردة عنها ، وقد ذهب إلى ذلك أقوامٌ ، وهو فاسد لأمرين ، أمّا ( أوّلاً ) ؛ فلأنّ الكلمة الواحدة قد تكون فصيحة إذا وقعت في محلّ ، وغير فصيحة إذا وقعت في محلّ آخر ، فلو كان الأمر في الفصاحة والبلاغة راجعاً إلى مجرّد الألفاظ الوضعية لما اختلف ذلك بحسب اختلاف المواضع ، وأمّا ( ثانياً ) ؛ فلأنّ الاستعارة والتشبيه والتمثيل والكناية من أعظم قواعد الفصاحة وأبلغها ، وإنّما كانت كذلك باعتبار دلالتها على المعاني لا باعتبار ألفاظها ، فصارت الدلالة على وجهين :
الوجه الأوّل : دلالة وضعية ، وهذه لا تعلّق لها بالبلاغة والفصاحة كما مهّدنا طريقه .
وثانيهما : الدلالة المعنوية ، ودلالتها إمّا بالتضمّن أو بالالتزام ، وهما عقليّان من جهة أنّ حاصلهما هو انتقال الذهن من مفهوم اللفظ إلى ما يلازمه ، ثمّ تلك الملازمة إمّا أن تكون دلالة على جزء المفهوم ، أو تكون دلالة على معنى يصاحب المفهوم ، فالأَوّل هو الدلالة التضمنية ، والثاني هو الدلالة الخارجية ، وهما جميعاً من اللوازم ، ثمّ إنّ تلك اللوازم تارة تكون قريبة ، وتارة تكون بعيدة ، فمِن أجل ذلك صحّ تأدية المعاني بطرق كثيرة ، بعضها أكمل من بعض ، وتارةً تزيد ، ومرّةً تنقص ؛ فلأجل هذا اتّسع نطاق البلاغة وعظم شأنه ، وارتفع قدره وعلا أمره .
فربّما علا قدر الكلام في بلاغته حتى صار معجزاً لا رتبة فوقه ، وربّما نزل الكلام حتى صار ليس بينه وبين نعيق البهائم إلاّ مزيّة التأليف والتركيب ، وربّما كان متوسّطاً بين الرتبتين ، وقد يوصف اللفظ بالجودة ؛ لكونه متمكناً في أسَلاَت الألسنة غير ناب عن مدارجها ، ولا قَلِق على سطح اللسان ، جيّداً سبكه صحيحاً طابعه ، وأنّه في حقّ معناه من غير زيادة عليه ولا نقصان عنه ، وقد يذمّونه بنقائض هذه الصفات بأنّه مُعقّد جُرزٌ ، وأنّه لتعقيده استهلك المعنى ، يمشي اللسان إذا نطق به كأنّه مقيّد ، وحَشيٌّ ، نافرٌ ، نازل القدر ، طويل الذيول من غير فائدة ، ولا معنى تحته ، وقد يصفون المعنى بالجودة بأنّه قريب جزل ، يسبق إلى الأذهان قبل أن يسبق إلى الآذان ، ولا يكون لفظه أسبق إلى سمعك من معناه إلى قلبك ، حتى كأنّه يدخل إلى الأُذن بلا إذن ، وقد يذمّونه بكونه ركيكاً نازل القدر ، بعيداً عن العقول ، وهلمّ جرّ إلى سائر ما ذكرناه من جهة المعنى على جهة المناقضة والقرآن كلّه من أوله إلى آخره حاصل على هذه المزايا ، موجودة فيه على أكمل شيء وأتمّه ، فلله درّه من كتاب اشتمل على علوم الحكمة وضمّ جوامع الخطاب ، وأودع ما لم يودع غيره من الكتب المنزلة من حقائق الإجمال ودقائق الأسرار المفصّلة .
وبعد ذلك خاض محاسن الآية مستخرجاً لآليها قائلاً :
وإذا أردت أن تكحل بصرك بمرود التخييل ، والاطّلاع على لطائف الإجمال والتفصيل ، فاتلُ قصّة زكريّا ( عليه السلام ) وقف عندها وقفة باحث وهي قوله تعالى ( قَالَ رَبّ إِنّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّي وَاشْتَعَلَ الرّأْسُ شَيْباً ) فإنّك تجد كلّ جملة منها بل كلّ كلمة من كلماتها تحتوي على لطائف ، وليس في آي القرآن المجيد حرف إلاّ وتحته سرّ ومصلحة فضلاً عمّا وراء ذلك ، والكلام في تقرير تلك اللطائف الإجمالية وما يتلوها من الأسرار التفصيلية مقرّر في معرفة حدّ الكلام وأصله ، وأنّ كلّ مرتبة من مراتب الإجمال متروكة في الآية بمرتبة أخرى مفصّلة ، حتّى تتّصل بما عليه نظم الآية وسياقها ، وجملة ما نورده من ذلك درجات عشر ، كلّ واحدة منها على حظّ من الإجمال ، بعدها درجة أخرى على حظّ من التفصيل ، حتى تكون الخاتمة هو ما اشتمل عليه سياقها المنظوم على أحسن نظام ، وصار واقعاً في تتميم بلاغتها أحسن تمام .
( الدرجة الأُولى ) نداء الخفية ؛ فإنّه دالّ على ضعف الحال وخطاب المسكنة والذلّ حتى لا يستطيع حراكاً ، وهو من لوازم الشيخوخة والهزال ، ولِما فيه من التصاغر للجلال ، والعظمة بخفض المصوب في مقام الكبرياء وعظم القدرة ، فهذه الجملة مذكورة كما قرَّرناه ، وهي مناسبة لحاله ، ولهذا صدّرها في أول قصّته لِما فيها من ملائمة الحال وهضم النفس واستصغارها . وافتتاحها بذكر العبودية يؤكّد ما ذكرناه ويؤيّده .
( الدرجة الثانية ) كأنّه قال : يا رب إنّه قد دنا عمري ، وانقضت أيّام شبابي ، فإنّ انقضاء العمر دالّ على الضعف والشيخوخة لا محالة ؛ لأنّ انقضاء الأيّام والليالي هو الموصل إلى الفناء والضعف وشيب الرأس ، ثم إنّ هذه الجملة صارت متروكة لتوخّي مزيد التقرير إلى ما هو أكثر تفصيلاً منها ممّا يكون بعدها .
( الدرجة الثالثة ) كأنّه قال : قد شخت فإنّ الشيخوخة دالّة على ضعف البدن وشيب الرأس ؛ لأنّها هي السبب في ذلك لا محالة .
( الدرجة الرابعة ) كأنّه قال : وهنت عظام بدني ، جعله كناية عن ضعف حاله ، ورقّة جسمه ، ثم تُركت هذه الجملة إلى جملة أخرى أكثر تفصيلاً منها .
( الدرجة الخامسة ) كأنّه قال : أنا وهنت عظام بدني ، فأُعطيت مبالغة ، لمّا قدّم المبتدأ ببناء الكلام عليه ، كما ترى .
( الدرجة السادسة ) كأنّه قال : إنّي وهنت العظام من بدني ، فأضاف إلى نفسه تقريراً مؤكّداً ( بإنّ ) للأمر ، واختصاصها بحاله ، ثمّ تُركت هذه الجملة بجملة غيرها .
( الدرجة السابعة ) كأنّه قال : إنّي وهنت العظام منّي ، فترك ذكر البدن وجمع العظام ؛ إرادة لقصد شمول الوهن للعظام ودخوله فيها .
( الدرجة الثامنة ) ترك جمع العظام إلى إفراد العظم ، واكتفى بإفراده فقال ، ( إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ) .
( الدرجة التاسعة ) ترك الحقيقة ، وهي قوله : أشيب ، أو شاب رأسي ، لِما علم أنّ المجاز أحسن من الحقيقة ، وأكثر دخولاً في البلاغة منها ، ثم تُركت هذه الجملة بجملة أخرى غيرها .
( الدرجة العاشرة ) أنّه عدل عن المجاز إلى الاستعارة في قوله ( وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ) وهي من محاسن المجاز ، ومن مثمرات البلاغة ، وبلاغتها قد ظهرت من جهات ثلاث :
الجهة الأولى : إسناد الاشتعال إلى الرأس لإفادة شمول الاشتعال بجميع الرأس ، بخلاف ما لو قال : اشتعل شيب رأسي ، فإنّه لا يؤدّي هذا المعنى بحال ، فـ ( اشتعل رأسي ) وزان اشتعلت النار في بيتي ، و ( وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ) وزان : اشتعل بيتي ناراً .
الجهة الثانية : الإجمال والتفصيل في نصب التمييز ، فإنّك إذا نصبت ( شيباً ) كان المعنى مخالفاً لما إذا رفعته ، فقلت : اشتعل شيب رأسي ، لما في النصب من المبالغة دون غيره .
الجهة الثالثة : تنكير قوله ( شيباً ) لإفادة المبالغة ، ثم إنّه ترك لفظ ( منّي ) في قوله ( وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ) اتّكالاً على قوله ( وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ) ثم إنّه أتى به في الأَوّل ؛ بياناً للحال وإرادةً للاختصاص بحاله في إضافته إلى نفسه ، ثُمّ عطف الجملة الثانية على الجملة الأُولى بلفظ الماضي ؛ لِما بينهما من التقارب والملاءمة .
فانظر إلى هذا السياق المثمر المورق ، وجودة هذا الرصف المعجب المونق ، كيف ترك جملة إلى جملة ؛ إرادةً للإجمال بعده التفصيل ، من أجل إيثار البلاغة حتى انتهى إلى خلاصها ، ودهن لبّها ومصاصها ، وهو جوهر الآية ونظامها بأوجز عبارة وأخصرها ، وأظهر بلاغة وأبهرها .
واعلم أنّ الذي فتق أكمام هذه اللطائف حتى تفتّحت أزرار أزهارها ، وتعانقت أغصانها ، وتأنقت أفنانها ، وتناسبت محاسن آثارها ، هو مقدّمة الآية وديباجتها ، فإنّه لمّا افتتح الكلام في هذه القصّة البديعة بالاختصار العجيب ، بأن طرح حرف النداء من قوله ( ربّ ) وياء النفس من المضاف ، أشعر أوّلها بالغرض ؛ فلأجل تأسيس الكلام على الاختصار عقّبه بالاختصار والإجمال ، واكتفى بذكر هاتين الجملتين عمّا وراءهما من تلك المراتب العشر التي نبّهنا عليها والحمد لله (1) .
______________________
(1) الطراز : ج 3 ص 416 ـ 420 .
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|