أقرأ أيضاً
التاريخ: 20-9-2016
199
التاريخ: 20-9-2016
250
|
قد وقع الخلاف- بعد الإتّفاق على شرطية البلوغ في الأحكام التكليفية الالزامية مثل الوجوب والحرمة، وبعد الإتّفاق على اشتراط التمييز في شرعية العبادات وصحّتها (1) - في شرطية البلوغ أيضاً في صحّة العبادة ومشروعيتها، ومحلّ الخلاف هو أنّ العبادات هل تكون مشروعة في حقّ الصبي بحيث كان له أن يأتي بها بعنوان الإطاعة والامتثال، فتتصف العبادة بالصحّة لكونها واجدة لشرطها، أم لا تكون مشروعة في حقّه؟ فلا مجال للإتيان بها بقصد الامتثال والإطاعة أصلًا، ولو أتى بها مع هذا القصد لا يتحقّق إلّا التشريع المحرّم في حقّ البالغين؟ وفيها جهات من البحث أيضاً:
الجهة الاولى: في الأقوال والآراء والاحتمالات الجارية في هذه المسألة، وهي كثيرة:
الأوّل: أنّ عبادات الصبيّ شرعيّة؛ بمعنى كونها مندوبة للصبي وإن كانت واجبة على البالغ، وأثر الندب استحقاق الأجر والثواب الاخروي على تقدير إتيانها بقصد الامتثال ونيّة القربة، كما أنّ المحرّمات في حقّه مكروهة، ولو تركها بقصد الإطاعة وبداعي كونها مكروهة يستحق على تركها الثواب، فالحكم المرفوع عن الصبي خصوص الحكم اللزومي من الوجوبي والتحريمي، وإلّا فأصل العبادية الملازم للرّجحان باق بحاله، فالأحكام الخمسة التكليفية الاصطلاحية ثلاثة في حقّ الصبي: الاستحباب، والكراهة، والإباحة.
فالأوّل شامل للمستحبّات والواجبات، والثاني للمحرّمات والمكروهات، وهذا لا ينافي توجّه الأمر إلى الولي بعنوان التمرين؛ لأنّ كون ثواب التمرين للولي لا ينافي كون الفعل ممّا فيه ثواب للطفل الفاعل له، كما لا يخفى، وقد حكي هذا القول عن مشهور الأصحاب (2) رضوان اللَّه عليهم أجمعين.
الثاني: أنّ هذه العبادات من الأطفال تمرينيّة صرفة (3) ، ولا يترتّب عليها أجر وثواب من اللَّه تعالى بالإضافة إلى الصبيّ؛ لعدم توجّه خطاب إليه ولو بنحو الاستحباب أو الكراهة ولو كان مراهقاً قريب العهد إلى البلوغ، وكان واجداً للإدراك والشعور كاملًا، غاية ما هناك ترتّب الثواب على عمل الولي وتمرينه وتعويده؛ لكونه مأموراً بذلك ولو بالأمر الاستحبابي، ولا تدخل هذه المسألة في مسألة الأمر بالأمر بالشيء، حتى يلازم مع الأمر بالشيء، فيصير عمل الصبي مأموراً به استحباباً؛ وذلك لأنّ مورد المسألة ما إذا كانت المصلحة قائمة بنفس ذلك الشيء؛ والمولى حيث لا يكون قادراً على مخاطبة جميع عبيده مثلًا؛ لعدم حضورهم عنده، يأمر العبد الحاضر بأمر الباقين بإتيان ما تقوم به المصلحة المنظورة للمولى.
وأمّا في المقام، فالمفروض أنّ الغرض من أمر الولي ليس تحقق الصلاة من الطفل، بل الغرض تحقق التمرين والتعويد، وفي الحقيقة يكون المأمور به ذلك، والمصلحة قائمة به، إلّاأن يقال بعدم تحقّق التمرين والعادة بمجرّد أمر الولي الطفل بالصلاة مثلًا، فإنّه إذا لم تتحقق من الطفل الموافقة لأمر وليّه والصّلاة مكرّراً، لا تتحقق العادة بوجه.
وعليه: فالعادة حاصلة بفعل الطفل، فإذا فرض قيام المصلحة بها، ففي الحقيقة يكون فعل الطفل مشتملًا على المصلحة، لا بعنوان الصلاة، بل بعنوان العادة وحصول الاعتياد، لكنّه يرجع أيضاً إلى عدم كون الصلاة ذات مصلحة، فلا تكون شرعيّة، فتدبّر.
الثالث: أنّ عبادات الصبيّ شرعية تمرينيّة لا أنّها شرعية أصليّة، والمراد بذلك أنّ إتيان الصبي لها مطلوب للشارع لا لأنفسها، بل لحصول التعوّد والتمرّن على العمل بعد البلوغ، فصلاة الصبي فيها جهتان:
جهة كونها صلاة، وهذه الجهة ملغاة في الصبي، لا فرق بين كونها صلاة أو قياماً أو نوماً أو نحو ذلك في أنّه لا رجحان فيها بالإضافة إليه، ولا يترتّب عليها أجر من هذه الجهة.
وجهة كونها تعوّداً علي شيء يكون مطلوباً بعد البلوغ وإن كان لاغياً الآن في حدّ ذاته، وهذه الجهة مطلوبة للشارع ويترتّب عليها الثواب، ففي الحقيقة يكون الطفل مأموراً بالتمرّن والتعوّد ويثاب عليه، لا على أصل العبادة.
حكي هذا القول عن جماعة من المتأخّرين، منهم: الشهيد الثاني (4) ، وربما يظهر من المحكي عن بعضهم تنزيل كلام المشهور أيضاً على ذلك لا الشرعية بالمعنى الأوّل (5).
والثمرة بين هذا القول والقول الثاني- بعد اشتراكهما في بطلان عبادة الصّبي، وعدم إمكان رعاية قصد الامتثال فيها؛ لعدم رجحانها بالإضافة إليه أصلًا- تظهر في ترتّب الثواب وحصول الأجر للصبي وعدمه؛ فإنّه بناءً على القول الثاني يكون الصبيّ بعيداً عن الثواب بمراحل؛ لعدم تعلّق خطاب إليه بوجه، غاية الأمر كون الوليّ مستحقّاً للثواب إذا أمر الصبي بالعبادة وحمله عليها.
وأمّا بناءً على القول الثالث فالصبيّ يستحق الثواب باعتبار التمرّن والتعوّد لكونه مأموراً به بالإضافة إليه. ولا ينافي استحقاق الولي من جهة موافقة الأمر بالتمرين والتعويد. نعم، لا يستحق الصبيّ ثواباً من جهة أصل العبادة وتحقق الصلاة والصيام ونحوهما.
وأمّا الفرق بين هذا القول والقول الأوّل المبنيّ على الشّرعية الأصلية- بعد اشتراكهما في استحقاق الصبي للثواب والأجر، غاية الأمر أنّ استحقاقه له في الأوّل إنّما هو لأجل تحقّق العبادة المطلوبة منه، ولأجل الإتيان بالصلاة الصحيحة مثلًا، وفي الثاني إنّما هو لأجل التمرّن والتعوّد لا لحصول الصلاة- فهو أنّ العبادة بناءً على القول الأوّل تكون متصفة بالصّحة لاجتماعها لجميع الشرائط المعتبرة فيها، فيجوز أن تقع نيابة عن الغير حيّاً كان أو ميّتاً، وسواء كانت في مقابل الاجرة أو بدونها.
وأمّا بناءً على القول الثالث فلا تتصف بالصّحة أصلًا؛ لعدم كونها ذات مصلحة ومطلوبة للشارع، والغرض حصول التمرّن والتعوّد، وهو يتحقق بالمباشرة ولا يكون قابلًا للنيابة بوجه، ولا يكون في أصل الفعل ثواب قابل للرجوع إلى شخص آخر، فلا يمكن أن تقع نيابة عن الغير مطلقاً.
وربما يقال بظهور الثمرة في نيّة العبادات الواجبة، فعلى التمرين ينوي الوجوب، وعلى الشرعية ينوي الاستحباب؛ لأنّه بناءً عليها يكون جميع العبادات مستحبّة بالإضافة إلى الصّبي.
ولكنّ الظاهر أنّه بناء على الّتمرين لا يلزم نيّة الوجوب؛ لأنّه وإن كان بناءً عليه يكون المطلوب حصول صورة العمل بالنحو الذي يقع من البالغ، إلّا أنّ لزوم نيّة الوجوب ممنوعة؛ لأنّ الغرض حصول التمرين العملي ليسهل عليه الإتيان به بعد البلوغ، ولا دخالة للنيّة في ذلك، فتدبّر.
الرّابع: أنّ عبادات الصبي شرعية فيها ثواب أصل العمل، مثل ثواب عمل البالغ، لكنّه في الصبي يرجع الثواب إلى الولي ولا يستحقّه الصغير بوجه.
الخامس: التفصيل بين العبادات الواجبة كالفرائض اليوميّة، وبين العبادات المستحبة كصلاة الليل، بالقول بالشرعيّة في الثانية وعدمها في الاولى.
الجهة الثانية: في أدلّة الأقوال والاحتمالات المذكورة في الجهة الاولى.
فنقول: أمّا دليل القول الثاني، وهو عدم المشروعيّة وكون عباداته تمرينيّة صرفة لا يترتّب عليها ثواب بالإضافة إلى الصغير أصلًا- فمضافاً إلى أصالة عدم ترتّب الثواب إلّا بالدليل وهو منتف، وانصراف الأدلّة العامّة الواردة في التكاليف مطلقاً عن الصّبي واختصاصها بالبالغ، ووضوح تقيّد بعض الأحكام قطعاً بالبلوغ؛ كالواجبات والمحرّمات من جهة الإيجاب والتحريم- حديث «رفع القلم عن الصّبي» المعروف المعتمد عليه عند العامّة (6) والخاصّة .
وتقريب دلالته: أنّ ظاهر الحديث رفع قلم مطلق التكليف، أعمّ من الوجوب والاستحباب والحرمة والكراهة، بل المباح أيضاً، فالمعنى: أنّ القلم الجاري الموضوع على المكلّفين المتضمّن لثبوت التكليف عليهم فهو مرفوع عن الصبي حتى يحتلم، وليس فيه إشعار- فضلًا عن الدلالة- بأنّ المرفوع خصوص قلم التكليف الإلزامي وجوباً أو تحريماً، بل المرفوع جميع الأحكام الخمسة التكليفيّة الثابتة على البالغ، حتى الإباحة بعنوان أنّها حكم شرعيّ جرى عليها القلم.
ومنه يظهر أنّه لو نوقش في انصراف الأدلّة العامّة عن الصبي، وقيل: بأنّ مقتضى عمومها الشمول له أيضاً، لكان مقتضى قاعدة التخصيص حملها على خصوص البالغ؛ لأنّ حديث «رفع القلم» بمنزلة المخصّص لتلك الأدلّة ويوجب اختصاصها بالبالغ.
ولو فرض كون النسبة بين بعض تلك الأدلّة، وبين حديث «رفع القلم» عموماً من وجه، كقوله: من قرأ سورة الفاتحة فله كذا وكذا من الأجر، فإنّ النسبة بينه وبين الحديث عموم من وجه؛ لاختصاص هذا القول بقراءة سورة الفاتحة، وعمومه بالنسبة إلى الصبي، واختصاص حديث الرفع بالصبي، وعمومه لغير قراءة سورة الفاتحة، فلا شك في عدم تحقّق التعارض؛ لأنّ حديث «رفع القلم» حاكم على ذلك القول، كحكومة حديث الرفع المعروف على الأدلّة الأوّلية، كما لا يخفى.
فالنتيجة على جميع التقادير لزوم الأخذ بحديث «رفع القلم»، والحكم بعدم ثبوت شيء من التكاليف الخمسة في حقّ الصبي، والثواب الموجود في البين لا يرتبط بالصبي أصلًا، بل بالوليّ بعنوان كونه مأموراً بتمرينه وتعويده، فعباداته لا تكون شرعيّة بل تمرينيّة صرفة.
ويظهر الجواب عن دليل هذا القول بما سنذكره من أدلّة القول بالمشروعيّة الأصليّة، فنقول:
أمّا ما يدلّ عليها فأمور متعدّدة :
أحدها: ما دلّ من العمومات في الكتاب والسّنة على ترتّب الثواب على الأفعال، كقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] وقوله عليه السلام: من صام يوم كذا فله من الأجر كذا وكذا (7) ؛ فإنّ سياقها مثل سياق «من أتلف مال الغير فهو له ضامن»، فكما أنّ الثاني لا يختصّ بالبالغ؛ [لأن] عدم اشتراط الأحكام الوضعيّة بالبلوغ، كذلك لا ينبغي دعوى اختصاص الأوّل بالبالغ، ودعوى الانصراف ممنوعة، وعلى تقديره لا فرق بين المقامين كما هو ظاهر.
ثانيها: عموم الأدلّة الواردة في التكاليف الشامل للصبي أيضاً، ولا مجال لادّعاء الانصراف فيها أصلًا، والقدر المسلّم ثبوت التخصيص بالإضافة إلى الأحكام الوجوبيّة والتحريميّة، من جهة عدم ثبوت إلزام من ناحية الشارع على الصبي غير البالغ. وأمّا ثبوت التخصيص في أدلّة سائر الأحكام فغير حاصل، وفي أدلّة الحكمين أيضاً بالإضافة إلى المشروعيّة والرجحان زائدة على اللزوم.
وأمّا حديث «رفع القلم»، فإن اخذ بمقتضى ظاهره فاللازم الحكم بعدم ثبوت الأحكام الوضعيّة في حقّ الصبي أيضاً؛ لأنّ القلم المرفوع أعمّ من قلم الحكم التكليفي والحكم الوضعي؛ لأنّ الضمان في مورد الإتلاف مثلًا مجعول كالوجوب في مورد الصلاة، ولا مجال لدعوى التخصيص فيه؛ لعدم ملاءمة سياقه للتخصيص أصلًا.
فاللازم أن يقال بأنّ المرفوع في الحديث هو قلم المؤاخذة والعقوبة الاخروية أو الدنيوية أيضاً، ... ولازمه عدم ثبوت التكليف اللزومي في حقّه، وعدم ترتّب استحقاق العقوبة على ترك الواجب وفعل الحرام، فيقتصر في تخصيص عمومات أدلّة التكاليف على هذا المقدار.
ودعوى أنّ لازم ذلك عدم تحقّق التخصيص في أدلّة المستحبات والمكروهات فقط.
وأمّا أدلّة الواجبات والمحرّمات، فبعد عروض التخصيص لها لا محالة كيف يستكشف مشروعيّة عبادة الصبي- مثل الصلاة ورجحانها- حتى يحكم بصحّتها؟
لأنّ الدليل الكاشف هو تعلّق الأمر بها، وبعد انحصار دائرة الأمر بالبالغ ليس هنا ما يكشف عن رجحانها بالإضافة إلى الصبي.
وبعبارة اخرى: مدّعى القائل بالمشروعيّة كون الواجبات في حقّ البالغين مستحبات في حقّ غير البالغين، وكون المحرّمات في حقّ الطائفة الاولى مكروهات في حقّ الطائفة الثانية، وحينئذ يسأل عنهم: أنّه مع تخصيص أدلّة الواجبات والمحرّمات بحديث «رفع القلم» لا يبقى ما يدلّ على استحباب الاولى وكراهة الثانية؛ لأنّ الدليل كان منحصراً بدليل الواجب والمحرّم، والمفروض عروض التخصيص لهما، فمن أين يستكشف رجحان الواجب واستحبابه وحزازة الحرام وكراهته بالإضافة إلى الصّبي؟
نعم، أدلّة المستحبات والمكروهات حيث لم يعرض لها التخصيص كما هو المفروض، تكون باقية بحالها.
مدفوعة بما قيل أو يمكن أن يقال في جوابها من امور متعدّدة:
الأوّل: أنّ مقتضى طبع الطلب الصادر من المولى هو الوجوب؛ لحكم العقل بلزوم إطاعته، إلّا أن يأذن المولى في الترك، والإذن في الترك كما يحصل بالتصريح به كذلك يحصل بعناوين اخر، مثل رفع العسر والحرج، ورفع قلم الإلزام، فحديث «رفع القلم» بمنزلة الإذن في ترك الواجبات، فقهراً يكون مفاد الأدلّة الأوّلية في حقّ الصبي بعد ورود الإذن في الترك بلسان «رفع القلم» هو الاستحباب؛ فهو لا يرفع الخطاب الوجوبي من رأس، بل يأذن في الترك، فيتحقق الاستحباب لا محالة.
الثاني: أنّه لا مانع مع الشك من الرجوع إلى استصحاب بقاء الرجحان الذي كان متحقّقاً في ضمن الوجوب، وشك في بقائه مع ارتفاع الوجوب قطعاً، ولا يرد عليه أنّ إثبات الاستحباب الذي هو فرد من القدر الجامع باستصحاب بقاء القدر الجامع يكون مثبتاً، وهو لا يجري على ما هو التحقيق من عدم جريان الاصول المثبتة؛ وذلك لأنّه لا حاجة إلى إثبات الاستحباب بعنوانه، بل يكفي بقاء القدر الجامع في المشروعية والرّجحان الموجبة لصحّة العبادة.
هذا، ولكن هذين الجوابين لا يمكن أن يكونا موردين لنظر المشهور القائل بمشروعية عبادة الصبي؛ لكون الجواب الثاني مبنيّاً على جريان الاستصحاب في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي، ولم يعلم ذهاب المشهور إلى جريانه، كما أنّ الجواب الأوّل مخالف لظاهرهم قطعاً، فإنّهم يقولون بانقسام الطلب في نفسه إلى قسمين: وجوبيّ واستحبابي، كما أنّهم يقولون بدلالة هيئة «إفعل» في نفسها على الوجوب، لا أنّ الوجوب مستفاد من حكم العقل وأنّ الاستحباب مستفاد من الإذن في الترك، فلابدّ من الجواب على طبق نظر المشهور.
والظاهر أن يقال: إنّه بناءً على ما ذكرنا في معنى حديث «رفع القلم» من كون المرفوع قلم المؤاخذة والعقوبة- ومرجعه إلى عدم استحقاق العقوبة على ترك الواجب وفعل الحرام- لابدّ وأن يقال بثبوت التكليف في حقّ الصبي مطلقاً، ولكنّه لا يترتّب على المخالفة مؤاخذة وعقوبة، فتصرّف الحديث في الأدلّة العامّة ليس كتصرّف المخصّص في العام، حيث يوجب قصر مفاده ولو في عالم الإرادة الجدّية على غير مورد الخاصّ، فإنّ المقام ليس من هذا القبيل، بل الحديث يخصّص لازم التكليف لا نفسه، واستلزام تخصيص اللازم لتخصيص الملزوم ممنوع؛ لأنّ الملازمة غير دائميّة، والتعبير عن العبادات الواجبة بالاستحبابية في حقّ الصبي، إنّما هو بلحاظ عدم ترتّب ما يترقّب من الوجوب على مخالفته؛ لعدم استلزامها لاستحقاق العقوبة والمؤاخذة بوجه، إلّا أن يقال:
إنّ الحديث المتضمّن للرفع في مقام التشريع لا يكاد يرفع المؤاخذة أو استحقاقها أصلًا، فتدبّر.
وهذا الذي ذكرنا من المشروعية لا يمنع عن قيام الدليل على البطلان في بعض المقامات، مثل ما ورد من عدم إجزاء حجّ الصبي المستطيع عن حجّة الإسلام (8) ، مع أنّ عدم الإجزاء لا يلازم البطلان، كما لا يخفى.
وبهذا يتحقق الفرق بين المقام وبين قاعدة نفي الحرج، حيث اخترنا فيها بطلان العبادة الحرجية، ووجه الفرق أنّ لسان قاعدة نفي الحرج لسان نفي الجعل رأساً، ومع عدم الجعل لا مجال للحكم بصحّة العبادة الحرجية، ولسان المقام لسان رفع قلم المؤاخذة والعقوبة، لا رفع قلم الجعل والتكليف، فتدبّر.
ثالثها: أنّ العقل مستقلّ بحسن بعض الأفعال كالإحسان، وردّ الأمانة إلى مالكها، وحفظ النفس المحترمة من الهلاك، وغير ذلك من المستقلّات العقلية، ولا ريب عند العقل في استحقاق الثواب وترتّب الجزاء عليها، من دون فرق بين البالغ والصبي، خصوصاً إذا كان مراهقاً، وقد بقي مقدار شهر أو يوم أو ساعة إلى بلوغه الشرعي، ولا مجال لعروض التخصيص لما يستقلّ به العقل.
وعليه: فاللّازم بقاعدة الملازمة استحباب هذه الامور شرعاً، وترتّب ثواب الاستحباب عليها، وبعدم القول بالفصل بين المستقلّات العقلية وغيرها يتمّ المطلوب ويثبت الاستحباب في سائر الواجبات أيضاً.
ويرد عليه: أنّ لازم ذلك الالتزام باستحقاق العقوبة فيما يستقلّ العقل بقبحه، كالظلم ومنع المالك عن وديعته، وقتل النفس المحترمة، وغير ذلك من المستقلات العقلية، والظاهر أنّه لا يلتزم به المستدلّ بوجه؛ لأنّ الصبي لا يؤاخذ بشيء من ذلك أصلًا من جهة الشرع، كما لا يخفى.
رابعها: الاعتبار العقلي؛ فإنّه من المستبعد جدّاً أن يكون هناك فرق بين ما قبل البلوغ بساعة وما بعده؛ فإنّ المراهق المقارب للبلوغ جدّاً، لا ريب في أنّه بمكان من الإخلاص والعبودية للَّه تعالى كما بعد البلوغ، بل في الحالة الاولى ربّما يكون أشدّ من الحالة الثانية، فيبعد كونه مأجوراً على الثانية دون الاولى.
ويرد عليه: أنّ ذلك مجرّد استبعاد لا يكاد يصلح لأن يكون دليلًا، ويجري هذا الاستبعاد في جميع التقديرات الشرعية؛ فإنّه من البعيد أن يكون الماء أقلّ من الكرّ بمقدار قليل، ومع ذلك لا يترتّب عليه شيء من آثار الماء الكرّ أصلًا، أو يصلّي الإنسان قبل الوقت عمداً بلحظة يدخل الوقت بعدها، ومع ذلك تكون صلاته باطلة، وهكذا سائر التقديرات.
خامسها: أنّ الأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء، كما قد حقّق في الاصول.
والجواب عنه: ما مرّ في الجهة الاولى في تشريح القول الثاني من الأقوال الموجودة في المسألة ولا نعيد.
وهنا وجوهُ آخر ترجع إلى بعض الوجوه المذكورة، أو استحسانات غير صالحة لأن تكون مدركاً ودليلًا، وقد انقدح تماميّة الوجهين الأوّلين للاستدلال بهما على المشروعيّة الأصليّة.
وأمّا دليل القول الثالث؛ وهي الشرعيّة التمرينيّة ، فهو مركّب من أمرين:
أحدهما: عدم شرعيّة العبادات بعناوينها التي تعلّقت الأوامر بها؛ لحديث «رفع القلم» ، الذي يدلّ على رفع قلم جميع التكاليف والأحكام الخمسة، ويكون مخصّصاً للأدلّة الأوّلية العامّة.
وثانيهما: الأخبار الكثيرة الدالّة على استحباب التمرّن للعبادات والتعوّد لها (9) ، ولا يرتفع هذا الاستحباب بحديث «رفع القلم»؛ لأنّ مفاده ارتفاع كلّ ما هو جار على البالغ من الصّبي، فرجحان أصل العمل مرفوع؛ لثبوته بالإضافة إلى البالغ. وأمّا رجحان التمرّن فلا يكون في البالغ حتى يكون مرفوعاً عن الصّبي، فيصير الحاصل ثبوت ثواب التمرّن لا أصل العبادة.
والأمران كلاهما ممنوع وإن كان منع أحدهما كافياً في إبطال الاستدلال:
أمّا الأوّل: فلما عرفت في أدلّة المشروعيّة من أنّ حديث «رفع القلم» لا يرفع المشروعية حتى في الواجبات.
وأمّا الثاني:- فمضافاً إلى أنّ حديث الرفع لو كان مُفاده رفع الحكم الاستحبابي أيضاً، لكان مقتضاه نفي استحباب التمرّن بالإضافة إلى الصّبي أيضاً، والفرق بينه وبين سائر الأحكام الاستحبابيّة بعدم كونه ثابتاً في حقّ البالغ دونها، لا يوجب اختصاص الحديث بالثانية وعدم الشمول للأوّل- يرد عليه: أنّ مُفاد تلك الأخبار ثبوت الاستحباب بالإضافة إلى الولي، وأنّ المستحب تمرينه وتعويده للصّبي، والثواب إنّما يترتّب على عمله، فلا يكون في فعل الصبي ثواب راجع إليه أصلًا، إلّا إذا رجع الأمر إلى ما قلنا من المشروعية الأصليّة.
وأمّا دليل القول الرّابع، فهو أمران :
أحدهما: أنّ الطفل من جهة عدم كمال عقله إنّما يكون المحرّك والداعي له إلى العمل تمرين الولي وتشويقه وإجباره، وحيث إنّ المباشر ضعيف فيكون السبب هو العمدة وهو الولي، ويكون الطفل بمنزلة الآلة، نظير ما ذكروه في باب المعاملات من جواز كون الطفل كالآلة وإن كان عاقلًا قاصداً مختاراً (10).
ثانيهما: ما ورد في باب الخبر في باب الحج في حجّ الولي بالطفل المميّز، فإنّه قال: إنّ الوليّ إذا فعل ذلك وتمّم الأعمال كان له أجر حجّة (11) ، والظاهر منه أنّ الوليّ كأنّه فعل حجّاً، وهذا الفعل في الحقيقة فعله، فيكون للولي في كلّ مقام يأتي الصبيّ بعمل ثواب ذلك العمل.
ويرد على الأوّل- مضافاً إلى كونه أخصّ من المدّعى؛ لأنّه ربما يأتي الطفل بالعبادة ويكون الداعي له إلى إتيانها تشخيص نفسه ودرك شخصه من دون أن يكون هناك وليّ، أو تمرين منه، أو تأثير لتشويقه أو إجباره كما لا يخفى-: أنّ ضعف المباشر إنّما يكون فيما إذا كان العمل مسنداً إلى السبب وكان المباشر بمنزلة الآلة، ومن الواضح عدم كون الصبي في المقام كذلك؛ فإن صلاته لا تسند إلّا إليه، وكذا سائر عباداته وأفعاله، والتشويق بل الإجبار لا يوجب سلب الاستناد.
وقد ذكرنا في باب الإكراه: أنّ الإكراه لا يقتضي عدم استناد العمل إلى المكره- بالفتح- فشرب الخمر إذا وقع إكراهاً يكون المتّصف به هو المكره دون المكره- بالكسر- حتى يترتّب على عمله الحدّ.
نعم، قد عرفت أنّه يترتّب على عمل الولي ثواب بلحاظ الأخبار الآمرة إيّاه بتمرين الصبي وتعويده على مثل الصلاة والصوم.
وعلى الثاني: أنّ ما ورد في الخبر إنّما هو ثبوت ثواب حجّة للوليّ، ولا دلالة له على خلوّ عمل الصبي وحجّه عن ثواب وأجر، وعليه : فلا يمكن أن يستفاد منه أنّ الوليّ كأنّه فعل حجّاً؛ بمعنى عدم استناد الحج إلى الصبي، وعدم وقوع هذه العبادة عنه، فتدبّر.
وأمّا دليل القول الخامس، فهو: أنّ حديث «رفع القلم» إنّما يرفع خصوص الأحكام اللزومية من رأس، ويحكم بعدم شمول الأدلّة العامة لها بالإضافة إلى الصبي، فلا يبقى لها مشروعية. وأمّا سائر الأحكام، فلا دلالة للحديث على رفعها أصلًا، فهي باقية على عمومها وشمولها للصّبي.
وهذا القول وإن لم يعرف به قائل، لكنّه ليس ببعيد؛ نظراً إلى أنّ الجمع بين كون المرفوع في الحديث هو التكليف لا المؤاخذة، وكون وقوع الحديث في مقام التفضّل والرأفة والامتنان، يقتضي عدم كون العبادات الواجبة مشروعة في حقّه، وبقاء العبادات المستحبّة على استحبابها، إلّا أن يقال: بأنّ سلب المشروعية عن العبادات الواجبة لا يلائم التفضّل والرأفة، بل المناسب له سقوط اللزوم وبقاء المشروعية، وهذه أيضاً جهة اخرى موجبة لعدم منافاة الحديث للمشروعية، زائدة على الجهات المذكورة في دليل القول المشهور، ويتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ الأظهر ما عليه المشهور.
الجهة الثالثة: في موارد تطبيق قاعدة المشروعية، وهي كثيرة :
منها: الطّهارات الثلاث؛ فإنّها بناءً على القول بالمشروعية تكون مستحبة للصبي، كما أنّها مستحبة للبالغ أيضاً، غاية الأمر اتّصافها في حقّ البالغ بالوجوب الغيري أيضاً بناءً على القول بوجوب المقدّمة، وفي حقّ الصبي لا تتجاوز عن الاستحباب المتعلّق بأنفسها، وتتصف بالاستحباب الغيري أيضاً بناءً على ذلك القول، فقبل دخول الوقت تكون مستحبّة نفساً، وبعده تتّصف بالاستحباب الغيري أيضاً، ولا مانع من الجمع بعد كون الحكمين طوليّين لا عرضيّين، وبعد اختلاف المتعلّقين، والتحقيق في محلّه.
ومنها: جميع العبادات الواجبة والمستحبّة؛ فإنّها بأجمعها مستحبة للصّبي، فالصلاة مع جميع أذكارها وأورادها ومقدّماتها ومؤخّراتها مستحبة عليه، والصوم الواجب والمندوب مستحب له، وكذا الحج وغيرها من العبادات ... [و] أنّ المكروهات مكروهة في حقّه أيضاً، كما أنّ المحرّمات أيضاً مكروهة بالإضافة إليه.
ومنها: ما أشرنا إليه من أنّه بناءً على المشروعيّة لا مانع من استئجاره للعبادة، فيأتي بها نيابة عن الحيّ، كما في باب الحجّ، أو الميّت كما في مثل الصلاة والصيام؛ فإنّه بناءً عليه يكون عمله قابلًا لتحقّق الاستئجار عليه، وشخصه صالحاً لأن يكون نائباً في العبادة، ولكن مع أنّ المشهور قائلون بالمشروعيّة، ولازمها صحّة النيابة والاستئجار، حكي عن جمع كثير من أعاظم الفقهاء الخلاف والحكم بعدم صحّة نيابته (12) ، ولم يعرف له وجه وجيه بعد عدم ورود دليل خاصّ في المسألة.
والفرع الذي ينبغي التعرّض له في الختام هو نذر الصّبي عبادة غير مالية كصلاة الليل مثلًا، وأنّ هذا النّذر هل هو صحيح أم لا؟ الظاهر هو الثاني؛ لأنّه- مضافاً إلى انعقاد الإجماع ظاهراً على اشتراط البلوغ في انعقاد النذر وصحّته (13) - نقول : إنّ هذا النذر إذا كان لغرض إيجاب العمل على نفسه، نظراً إلى أنّ حكمه وجوب الوفاء به، فهذا الغرض لا يترتّب عليه؛ لأنّ الحكم الوجوبي مرفوع عن الصّبي أيّاً ما كان، وإن كان لغرض آخر، فلا يكون هناك غرض آخر متصوّر.
وبالجملة: إذا لم يؤثّر النذر أثراً زائداً فلا معنى لانعقاده وصحّته، إلّا أن يقال:
إنّ تعلّق النذر به يوجب تأكّد استحبابه، وهو يصير داعياً إلى العمل به، فإنّ النذر يوجب أن يكون الوفاء به مستحبّاً بالإضافة إليه، فتصير صلاة الليل بعنوانها مثلًا مستحبة نفساً، والإتيان بها بما أنّه وفاء بالنذر مستحبّ آخر، فيتحقق استحبابان، فيتاكّد الداعي إلى الإتيان بها بحيث لو لم يكن هنا نذر لما كان استحباب صلاة الليل بنفسه وبمجرّده داعياً له إلى الإتيان بها، كما لا يخفى.
فالعمدة حينئذ هو الإجماع. أو يقال : إنّ النذر من الانشائيات ويعتبر فيها القصد، وقد عرفت أنّ قصد الصّبي كلا قصد، فلا يتحقّق منه الإنشاء.
هذا تمام الكلام في قاعدة مشروعية عبادات الصبي.
_________________
(1) خزائن الاصول لملا آقا بن عابد الدربندي ج 2 ورق 91 ص 181، المقام السادس في الإشارة إلى ما يترتّب على الصغر والبلوغ، العناوين: 2/ 664.
(2) المبسوط: 1/ 278، شرائع الإسلام: 1/ 188، تذكرة الفقهاء: 2/ 331 وج 6/ 101، الحدائق الناضرة: 13/ 53، العناوين: 2/ 665، مفتاح الكرامة: 5/ 245 ط. ج.
(3) السرائر: 1/ 367، مختلف الشيعة: 3/ 256 مسألة 20، الرسالة الجعفرية:( رسائل المحقق الكركي): 1/ 121، مسالك الأفهام: 2/ 15، روض الجنان: 2/ 761، وغيرها كما في مفتاح الكرامة: 5/ 247 ط. ج.
(4) الحاكي هو السيد عبد الفتاح المراغي في العناوين: 2/ 666، ولكن لم نجده عن الشهيد الثاني عاجلًا فيراجع المسالك وروض الجنان وغيرهما.
(5) العناوين: 2/ 666.
(6) السنن الكبرى للبيهقي: 6/ 327 ح 8391، سنن الدار قطني: 3/ 102 ح 3240، سنن الترمذي: 4/ 32 ح 1427، الحاوي الكبير: 9/ 485، المغني لابن قدامة: 10/ 88 وغيرها.
(7) وسائل الشيعة: 10/ 471، كتاب الصوم، أبواب الصوم المندوب ب 26.
(8) الكافي: 4/ 278 ح 18، الفقيه: 2/ 267 ح 1298، تهذيب الأحكام: 5/ 6 ح 15، الاستبصار: 2/ 141 ح 459، وعنها وسائل الشيعة: 11/ 45- 46، كتاب الحج، أبواب وجوبه وشرائطه ب 13 ح 1 و2، وفي روضة المتقين: 5/ 42 عن الفقيه.
(9) وسائل الشيعة: 4/ 18- 22، كتاب الصلاة، أبواب أعداد الفرائض ب 3 و4، وج 10/ 233- 237 كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم ب 29.
(10) رياض المسائل: 8/ 116.
(11) يراجع وسائل الشيعة: 11/ 54، كتاب الحج، أبواب وجوبه وشرائطه ب 20 ح 1.
(12) الروضة البهية: 2/ 183، العروة الوثقى: 1/ 563 مسألة 1823 وج 2/ 286 مسألة 3142، المستند في شرح العروة الوثقى: 16/ 236- 238، والمعتمد في شرح المناسك: 28/ 115- 116.
(13) مدارك الأحكام: 7/ 93، مفاتيح الشرائع: 2/ 30، رياض المسائل: 11/ 477- 478، جواهر الكلام: 35/ 356، مهذّب الأحكام: 22/ 280.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|