أقرأ أيضاً
التاريخ: 11-9-2016
2462
التاريخ: 11-9-2016
2108
التاريخ: 11-9-2016
1934
التاريخ: 11-9-2016
4734
|
ان الدراسة التاريخية لنظم الحكم ، توضح في الحقيقة مدى التطورات السياسية والمبادئ والقيم التي آمن بها المجتمع الانساني . ولا شك ان النظم السياسية تعتبر بمثابة تجارب طويلة المدى في حياة الانسان في كافة المجتمعات. فقد اتخذ انسان منطقة الشرق الاوسط الادنى القديم طابعا مميزا في تنظيمه التجاري ، حيث تمكن من تشكيل نظام حكم معين لكل اقليم في تلك المنطقة بناء على ظروف معينة. ولقد كان نظام الملكية بصفة خاصة هو نظام الحكم السائد اثناء العصر التاريخي. وفي اعتقادي ان دراسة النظم السياسية تتطلب تعرف اسسها وتطورها ومدلولها ، حتى يمكن متابعة ما لحق بها من تطورات سياسية وحضارية وفكرية. ولقد آمن المجتمع العراقي في تلك الآونة بنظام الملكية بناء على ظروف تاريخية، وحضارية معينة. ونلمس في دراسة نظام الملكية العراقية اثناء عصر بداية الاسرات السومرية ، اعتماد هذا النظام على عدة عناصر حاسمة وعلى رأسها المقومات البيئية والدينية والسياسية . فلقد ساهمت تلك المقومات بصورة فعالة في تشكيل النظام السياسي والحضاري في العراق القديم اثناء عصور ما قبل التاريخ . ثم اخذت تلك العوامل في التبلور التدريجي مع بداية العصر التاريخي ، حتى تجسمت بصورة واضحة في بلورة التنظيم السياسي الذي ساد بلاد الرافدين اثناء عصر الدولة السومرية . ولقد اتصفت الملكية العراقية اثناء هذه المرحلة ببعض الصفات المميزة لها واهمها عدم تاليه الملوك او الاحكام ، ووجود بعض مظاهر التفكير الديمقراطي الاولى المرتبط بها . وقد نشأت الملكية العراقية مع بداية العصر التاريخي تحت ضغط وعوامل الصراعات السياسية والحربية بين حكومات دويلات المدن ، في وقت لم يكن المجتمع العراقي القديم يعترف فيه بالسلطة المطلقة الفردية. ويبدو ان بدء نظام الديمقراطية الاولية في تاريخ العراق القديم يتعاصر زمنيا مع بداية الحضارة العراقية (1) نفسها .
ان محاولة التوصل الى كيفية نشأة الملكية العراقية ، توضح ان الانسان العراقي القديم عندما بدأ يتغلب على ظروف البيئة وان يحل مشاكله الاجتماعية احتاج الى استمرار جهوده وتنظيمها ، مما يتطلب بذل جهود انسانية جماعية وتواجد قيادة وادارة منظمة . ولقد تطلب هذا التنظيم تكوين جمعية عمومية لمواطني المدينة بما فيهم النساء. فالإنسان العراقي القديم كان يتصور آلهته كالبشر تماما ، كما كان يتصور اجتماعات الجمعية العمومية للآلهة منعقدة في السماء يتزعمهم الاله آنو للبحث في شؤون البشر الهامة . وانها تتناقش فيما بينها كما سبقت الاشارة حيث آمن بان هؤلاء الآلهة كانت لهم حقوق سياسية ونفوذ سياسي (2) وان الالهات كن يشتركن في هذه المجالس. فلا غرابة في ان يكون للمرأة نصيب في مجالس الرجال بين البشر .
ويتضح اثر الفكر الديني العراقي على نشأة نظام الملكية ، من حقيقة ربط الأنسان السومري في نصوصه بنشأة ذلك النظام بالقوى الالهية. ويبدو ذلك في وثيقة قائمة الملوك السومرية (3) التي تنص على نزول الملكية من السماء .
يقول النص: " ... وعندما انزلت الملكية من السماء ، كانت اولا في مدينة اريدو Eridu (وفى) اريدو، حكم آلويم Alulim 28,800 سنة وحكم الالجار Alalgar 36,000 سنة ثم انتقلت الملكية من اريدو الى بادتيبيرا Badtibira وفي بادتيبرا، حكم انمينلو – انا Enmenlu- Anna 43,200 سنة ثم حكم انمينجال – انا Enmengal – Anna 28,800 سنة .
ثم تبعه الاله دموزي (4) 36,000 سنة وانتقلت الملكية من بادتيبرا Badtibira الى لاراك Larak الذي حكمها ان سيبازي – انا Ensipazi-Anna ثم انتقلت الملكية من لاراك الى سيبار Sibbar وفي سيبار اصبح ان – من دور – انا Enmendur – Anna ملكا 21,000 سنة ثم انتقلت الملكية من سيبار الى شوروباك Shuruppak حيث اصبح اوبار توتو Ubar-tutu ملكا وحكم 18,600سنة وكانت هذه هي المدن الخمسة وحكامها الثمانية الذين حكموا 241 الف سنة قبل حادثة الطوفان ... " .
وبعد انتهاء حادثة الطوفان ، نزلت الملكية مرة اخرى من السماء وكانت حسب قائمة الملوك السومرية " ... وبعد ان أغرق الفيضان الارض وبعد ان نزلت الملكية من السماء ، كانت اولا في كيش (5) ... ". وتنبغي الاشارة في هذا الصدد الى بعض تفاصيل حادثة الطوفان الكبير. فقد اشارت النصوص السومرية الى غضب الالهة ، واتخاذهم قرار بهلاك البشرية بواسطة الطوفان.
وتشير نصوص الملك الاسطوري ايتانا Etana(اول حكام الاسرة الاولى في كيش وكان يجمع بين الصفتين الاسطورية والتاريخية ) يقول النص : " ... وعندما وضعت الآلهة اساس المدينة ... فوضوا الملك بأن يكون راعيا للبشر.. وكان ايتانا هو ذلك الملك (6) ... ".
ويعزز الاعتقاد في نزول الملكية من السماء النص التالي القائل :
" ... ان البشر لم يكن يحكمهم ملك " .
وفي ذلك الوقت لم تكن هناك شارات للملك ولا تاج.
... الصولجان ، والتاج ، وعصابة الراس ، وعصا الراعي ، عند الاله آتو في السماء .
وحينئذ نزلت الملكية من السماء (7) ... " .
ان السطر الاول من النص يشير الى ان الناس كانوا ضياعا وليس لهم مقصد ولا هدف في الحياة لأنه لم يكن هناك ملك – ولكن نظرية الملكية عاشت منذ البداية في السماء امام الاله انو الذي تجسمت فيه السلطة والذي انبثق من كل النظام . وعندما نزلت الملكية الى الارض بحث انليل واينانا Inanna عن راعي للشعب ولكنه لم يكن هناك في ذلك الوقت ملك على البلاد ، فنزلت الملكية من السماء وظن انليل انه ملك (8) .
ويستدل من دراسة وثيقة قائمة الملوك السومرية ونصوص الملك ايتانا على قيام الملكية العراقية القديمة قبل بداية العصر التاريخي ، وعلى انها نزلت من السماء حيث فوضت الالهة الملوك بان يكونوا رعاة للبشر بالنيابة عنهم . ولقد كان ايمان الأنسان السومري بنزول الملكية من السماء يعني في الواقع ان الملكية هي التي نزلت من السماء وليس الملك و بذلك لم ينظر الى الملك العراقي كاله . وعلى ذلك فليزم القول ، بأن الملكية العراقية نشأت كملكية دينية ينوب فيها الملك عن الاله في ادارة شئون البلاد التي هي ملك للإلهة . فالإله كان يعتبر في نظر الانسان العراقي القديم سيد المدينة الحقيقي . ومن أجل ذلك ، كان الملك لا يقوم بأي نشاط مهما كانت طبيعته الا بعد استشارة الهة . فهو لا يسن تشريعا او يفكر في غزو او يشيد بناء الا اذا كان بإيحاء من الاله (9). وفي هذا المجال يشير فرانكفورت (10) الى أن واجبات الملك كانت تشمل نواحي ثلاثة . تفسير ارادة الالهة ، وتمثيل الشعب امام الالهة ، وادارة شؤون المملكة . قد يكون هذا التقسيم غير حقيقي حيث ان الادارية كانت مبنية على تفسيراته والى حد ما فإن هذه النواحي الثلاث للملكية تكون عادة موجودة في اي حكم ملكي مكتسب للصفة الالهية .
وتختلف الملكية من بلد لآخر تبعا لطبيعة الملكية (سواء الهية أو انسانية او الزمن حتى في نفس المملكة . ان الدارس لأصول نظرية الملكية العراقية، بأنها لم تكن من اصل انساني ولكنها اضيفت الى المجتمع البشري عن طريق الالهة . فالملك العراقي انسان كلف بمسؤوليات فوق مستوى البشر . هذه المسؤوليات تستطيع الالهة ابعاده عنها وسلبها منه تخويلها لغيره . وفي بعض الاحيان كان يقال ان الملك قد سبق وقدر له ان يحكم . ومن الواضح ان الاختيار الالهي وليست الوراثة كان هو مصدر سلطة الملك . ولقد كانت الاسباب التي يستند اليها في اختيار الالهة للملك غريبة في بعض الاحيان .
فبعض هذه الاسباب ينم عن الاهتمام برفاهية الشعب ولو ان الانسان العراقي القديم كان يؤمن بأنه خلق كخادم (11) للآلهة وانه ليس من حقه حينئذ ان يطالب بعطفهم . ولكن الالهة برحمتهم رغبوا ان يتمتع رعاياهم بالحكم العادل ، او بمعنى آخر اذا كان العراقيون يعتمدون اعتمادا كليا على الالهة ، فإن هذا قد ادى في مفهومهم الى الاعتقاد بان الالهة قد اقروا العدل كأساس للمجتمع . وعلى ذلك كانت الالهة تستدعي انسانا ليحكم مدينة او ليحكم على البلاد بأسرها . فالحكام الاوائل لم يكونوا مختصين بالملكية على البلاد ولكن بالحكم على مدنهم . وقد أشرنا الى تقسيم البلاد الى حكومات المدن وكيف بالحكم على مدنهم . وقد أشرنا الى تقسيم البلاد الى حكومات المدن وكيف ان الملكية بدأت في عديد من المدن في وقت (12) . ومع مرور الوقت ساد نظام أكثر تعقيداً وكان كل حاكم محلى يطمع في السلطة وكانت علاقته بعالم الالهة لا تختلف عن رغبته في السيادة على جميع انحاء البلاد .
كما ان الدعوة لحكم المدينة كان يصدر من اله المدينة كما يتوقع الانسان (13) وكان الحاكم المنتخب يعمل بالاتفاق مع الجمعية العمومية المقدسة .
هذا وقد نشأت الملكية في العراق تحت ضغط الظروف في مجتمع لم يعترف بتركيز السلطة في يد شخص واحد . ويذكر جاكوبسن(14) Jacobsen)) ان اقدم النظم السياسية في العراق كان يتمثل في مجلس للرجال الاحرار وانهم وضعوا السلطة لمجموعة من الشيوخ ، وانه في وقت الضرورة كانوا يختارون ملكا ليكون مسؤولا لفترة محدودة . ان تكوين وفهم هذه الديمقراطية الاولية تمكننا لأول مرة من فهم طبيعة وتطور الملكية العراقية .
ان الشيوخ الذين وكل اليهم معالجة الشؤون العامة يبدو انهم لم يكونوا ذو أثر في المجتمع فحسب ا ولكنهم كانوا رؤوسا للمائلات بدليل أنه كان يثار اليهم في سومر بكلمة أبا Abba . ويبدو انه في مجلس الشيوخ كان هناك رابطة بين الديمقراطية الاولية وبين التنظيم الاولى للمجتمع . وبينما نجد أن النظام الاجتماعي الذي يعتد على المكية لا يوجد ما يعوقه على الانتشار بسهولة ، نجد الديمقراطية الاولية لم تكن مناسبة لمثل هذا الانتشار لأنها كانت تحمل في طياتها نظام الحكم الذاتي أو الحكومة الاستقلالية لكل منطقة محلية . كما ان الديمقراطية الاولية كانت تفتقد في بداية الأمر الاعضاء الذين يستطيعون تجميع السلطة ، وزيادة على ذلك فإنها تحتوى على بعض المساوئ الحرية . فغالبا كان من الصعب ان ينفذ المجلس كل الاعمال بسهولة اذ ان هذا يتطلب التصويت بالأغلبية لصالح أي مشروع كما ان جميع الاوامر كانت تتعرض لمناقشات عامة قبل اصدارها . وعلى ذلك يمكن القول بأن اول ظاهرة سياسية تلفت النظر عند دراسة عصر بداية الاسرات السومرية ظاهرة وجود حكومات دويلات المدن (15) ، ونظام الديمقراطية الاولية . فقد كان لكل مدينة اسرة ملكية تحكمها ، وكانت الحروب تقوم بين تلك المدن كل منها تسعى لتسود جاراتها. فمع بداية الالف الثالث ق. م، على يد العناصر السومرية ، ارتبط نظام الملكية العراقية ارتباطا وثيقا بالتنظيم الساسي السومري الذي كان يقوم كما سبقت الاشارة على أساس نظام دويلات المدن ، ونظام الديمقراطية الاولية . ولقد كان من اهم مميزات ذلك النظام تكوين جمعية عمومية لمواطني المدينة . وكانت وظيفة الجمعية العمومية تتضمن اختيار الملك الذي يراس حكومة المدينة " ... اجتمعت كيش ، ورفعوا الى الملكية الذي ابخوركيش Iphur-Kish ...... رجلا من كيش .... " (16) .
وقد كان اختيار الملك عن طريق الجمعية العمومية في دويلة المدينة يقتصر على مرحلة مؤقتة لان الاصل في الملكية كانت بالا Bala (ردة أي العودة الى الاصل) (17) فقد كان يتم انتخابه في بعض الحالات الاستثنائية مثل مواجهة الاخطار الحربية . وكانت هذه الاخطار الحربية نتيجة حتمية لعدم الاستقرار الذي كان يميز حضارة العراق بوجه عام ، مما ترتب عليه كثرة المنازعات والحروب بين دويلات المدن . وكان مثل هذا الصراع ينعكس على نظام الملكية العراقية ، مما يساعد على عدم استقرارها هي الاخرى ، بمعنى ان الملكية في تلك المرحلة لم تكن دائمة ولا وراثية. حيث كانت السلطة تعود الى الجمعية العمومية عند انتهاء مرحلة الطوارئ او الاخطار .
وتشير بعض الادلة النصية الى النزاع المستمر بين دويلات المدن ، وانتقال الملكية من مدينة الى اخرى . ومن ذلك ما تشير اليه قائمة الملوك السومرية " ... هزمت الوركاء في معركة ، وانتقلت الملكية ( لمدينة ) أور ... وفي اور اصبح مس – آنى – بدا ملكا (18) .... " .
ولقد ادت تلك المنازعات السياسية والصراعات الحربية بين دويلات المدن الى عدم استمرار نظام الديمقراطية الاولية ، لأن ذلك النظام كان يصعب الاخذ به اثناء مثل هذه المنازعات اذ انه كان يلزم التصويت والاخذ بمبدأ الاغلبية في تلك الاوقات الحاسمة التي تحتاج الى البت السريع في القرارات بطريق السلطة الفردية . ان الدارس لتاريخ حكومات المدن السومرية من واقع الوثائق التي خلفنها سواء سياسية او ادبية ، يلمس تطور التاريخ السياسي لتلك الحقبة .
ونستطيع ان نتلمس الاسباب التي منعت نظام الحكم السومري من النمو والتطور . ويمكن تلخيصها في الظروف الموضوعية من حيث عدم انسجامه مع الاوضاع التاريخية آنذاك وتنافره مع الاتجاهات الاجتماعية بل ووقوفه كعقبة تحول دون التوسع السياسي من دولة المدينة الى دولة اكبر ، الا ان التطلع الى الزعامة ومحاولة تجميع الآراء حول القرارات التي تتخذها الجمعية ، كان يؤدي بدوره الى نمو القوى الذاتية لبعض الحكام والملوك . وهذا بدوره كان يهدم الفكرة الاصلية للنظام نفسه (19). وحينما استلزمت الظروف السياسية المزيد من القيادة الحازمة اكثر من الحاجة للجمعية العمومية لمواطني المدينة ، ادى ذلك الى تجميع السلطات في يد الملك ، او بمعنى آخر تحول النظام السياسي من هيئته الديمقراطية الاولية الى نوع من الملكية الأوتقراطية . ولكنه بالرغم من هذا التطور السياسي فإن مجالس الشورى التي بدأت منذ بداية نظام الحكم السومري لم توقف نشاطها ، بل تحولت من مجالس للشورى تصرف شؤون الدولة الهامة الى مجالس للشؤون القضائية والتشريعية . حيث أصبح من مظاهر اتجاه نظام الحكم في العراق جمع السلطات في يد الملك. وحينما تمكن بعض الملوك من ذوي الشخصيات القوية من استمرار حكمهم ، فقدت الملكية احدى مظاهرها وأصبحت دائمة بعد أن كانت وظيفة مؤقتة . وكان مما يعزز سلطة الملك انتخابه بواسطة الجمعية العمومية. ومن هنا فإن السلطة الكبيرة التي كانت تمنح للحاكم كانت تزاول لفترة قصيرة ، اذ ان نظام المجتمع لم يكن ينمشى مع هذه الوظائف المؤقتة .
ان الحاجة الى علاج سريع واجراء حاسم اصبح مدعاة للحاجة الدائمة الى وجود هذه السلطة . ومن هنا زادت دويلات المدن زيادة مضطردة وزادت في نفس الوقت فرص الخلاف بين هذه المجموعات المنفصلة . كما أن الحاجة الى الصرف والري جعلت كل مجتمع يعتمد على تعاونه مع جيرانه – أضف الى ذلك الضرورة الملحة لتصدير الكميات الكبيرة من المواد الخام كالأخشاب والاحجار والمعادن، جعلت من الضرورة القصوى حماية هذه المواد أثناء عبورها . ومن هنا فإن الملوك المنتخبين او الرؤساء المعينين الذين كانوا يتمتعون بسلطات ، كان عليهم ان يبقوا دائما يقضين . ولنا ان نفترض ان القادة المنتخبين سواء كانوا كبار السن حتى تستطيع حكمتهم ان ترشحهم لهذا العمل ، او كانوا رجالا صغار السن مندفعين محاربين من الابطال . وهذان النوعان من الحكام نلتقي بهما في النصوص القديمة (20) ، ولو أننا لابد لنا من الرجوع الى الحوليات القديمة لنجد وصفا كاملا لكبار السن . ان الحاكم الذي كان يستطيع اجراء استفتاء في مثل هذه الظروف كان لابد وان يكون متمتعاً بقدر كبير من الحكمة وقوة الشكيمة وقوة المنطق ، ولابد وأن تكون سلطاته وهو في مثل هذا الوضع غير قابلة للصراع .
" عندما ذهبت خلال بوابتي الى المدينة ،
وجهزت مقعدي في الميدان ،
شاهدني الرجال صغار السن وانسحبوا،
بينما نهض الرجال كبار السن ووقفوا،
وتوقف الامراء عن الكلام ،
ووضعوا ايديهم على افواههم ،
وكان صوت النبلاء ساكنا،
والسنتهم ملتصقة بأشداقهم ،
لانه حين سمعت الاذن دعتني سعيدا ،
وعندما رأت العين نظرت الى ،
حيث أنني أعطف على الفقراء الذين يسألون العون،
وعلى اليتامى الذين لا يجدون العون،
ان النعمة التي كادت السعادة على قلب الارملة ،
ووضعت الحق في نصابه وكان هذا لاصقا بي
كما يلتصق الثياب والعمامة،
وكان هذا هو العدل ،
والى انصت الرجال
واستمروا صامتين لأخذ رأيي،
ويعد خطابي لم ينسبوا بينت شفة،
ولقد وقع كلامي عليهم ،
وانتظروني كما ينتظروا المطر،
وفتحوا أفواههم كما يفتحوها عندما تمطر السماء في الربيع (21).. "
وتصور بعض المخلفات الاثرية ذلك التطور الجديد في نظام الملكية العراقية القديمة . ومن النماذج المعبرة عن هذا الاتجاه ، نشير الى لوحة النسور Stele of the Vulture حيث يبدو الملك اياناتوم (من أسرة لجش) مميزاً عن باقي الجنود ولو انه لم يصل في وضعه الخاص الى الدرجة التي ظهر بها نقش الاله ننجرسو على الوجه الاخر لنفس اللوحة . ويستدل من هذا المستند الاثري، على استمرار الصفة الانسانية للملك العراقي القديم في تلك المرحلة، على الرغم من ظهور شخصية الملك اكبر حجماً بقية الشخصيات الاخرى في اللوحة . ومنذ ذلك الوقت ، اصبحت وظيفة الملك دائمة. ونتج عن ذلك التطور ان فقدت تلك الصفة الديمقراطية التي كانت سائدة في المراحل المبكرة في عصر بداية الاسرات السومرية .
وتشير بعض النصوص السومرية الى هذا الاتجاه الاوتوقراطي في نظام الحكم قرب اواخر عصر بداية الاسرات السومرية. ولكي يبرر ملوك تلك المرحلة انفرادهم بالسلطة، ادعوا ان امر اختيارهم كان عن طرقة الالهة .
ومن ذلك ادعاء لوجال زاجيزي انه " .... الابن المولود لـ نيسابا Nisaba وتغذى باللبن المقدس لــ ننخرساج (22) .
ومن النماذج المعبرة كذلك عن نفس الاتجاه ، ما ورد على لوحة النسور للملك ايانا توم ، فقد أشارت بعض العبارات الى المولد الالهي للملك وكأنه ابن الاله ننجرسو والالهة ننخرساج كما يذكر ان الالهة هي التي أرضعته " .... وقد وضع بذرة ايانا توم ننجرسو وحلمت به ننخرساج التي فرحت من أجله وأخذته اينانا بين ذراعيها وأجلسته على ركبتي ننخرساج التي أرضعته (23) ... " . وبالرغم مما جاء في هذا النص عن المولود الالهي للملك اياناتوم ، فإن الملك لم يدع لنفسه انتسابه للالهة ، بل انه على النقيض من ذلك ذكر اسم اباه وجده (24) .
وتنبغي الاشارة الى ان تطور نظام الملكية في تلك المرحلة لم يكن تطوراً مفاجئا ، بل حدث أن جاء بطريقة تدريجية نسبية . ويمكن ملاحظة ذلك من النصوص السومرية ، فالنص المنتمي الى لوجال زاجيزى والقائل ان مصدره الهي ، يوضح لنا بأن هناك اتجاها نحو حمل الحاكم للصفة المقدسة بجانب الصفة الانسانية . ومن ناحية اخرى لم يكن جميع الحكام يرجعون أنفسهم الى امهات مقدسة او بالأحرى الى أصل الهي . ولقد تبع ذلك التطور خطوة اخرى في نظام الملكية العراقية القديمة عندما بدأ الملوك يتجهون الى محاولة اتباع نظام الوراثة في العرش ، واصبحت وراثة العرش لذلك من الامور المتصلة بحمل الصفة المقدسة . وعلى ذلك كان من الضروري ان يكون الملك الجديد من سلالة الملوك الحاكمة . وتشير المصادر المتأخرة زمنيا الى ظاهرة استشارة الالهة في امر اختيار ولي العهد (25) ولم يكن من الضروري ان يكون اكبر الابناء مما كان يتسبب احياناً في قيام ثورات ضده . ولا يمكن الجزم بوجود بوادر هذه الظاهرة أثناء الالف الثالث ق . م . ، ولكن يحتمل ان يكون لها جذورها الممتدة الى تلك الفترة . وتدعيما لمحاولة اكتساب الصفة المقدسة كان ولي العهد يتسلم شارات الملك المقدسة في معبد الاله ، عندما يقترب من منصة العرش المقدسة في المعبد الرئيسي للعاصمة . وفي وصف لطقوس التتويج في الوركاء يشير فرانكفورت (26) الى اجراءات الاحتفال الذي كان يقام في ايانا Eanna (معبد عشتار الهة الامومة) .
" .... لقد دخل الحاكم الى ايانا ،
واقترب من منصة العرش المقدسة ،
وأخذ الصولجان السنى بيده ،
لقد اقترب من منصة عرش نن – من – نا
Nin-Men-Na (سيدة التاج) ،
ووضع التاج الذهبي على رأسه ،
لقد اقترب من منصة عرش نن با Nin-pa
(سيدة الصولجان)
نن با تناسب السماء والارض ....
وبعد ان حذفت اسمه ....
لم تناديه باسمه
ولكن نادته باسم الحاكم ... " .
ويلاحظ في الفقرة الاخيرة انها تعنى ان الملك الجديد عند تتويجه ، كان يعطي اسما غير اسمه الشخصي الاعتيادي . ويلاحظ ايضا في هذا النص السومري الاشارة الى الرموز الملكية كالهات (سيدة التاج ، وسيدة الصولجان) مما يشبه نظائرها في مصر القديمة ، عندما كان ينظر تيجان مصر العليا ومصر السفلى كالهات ورموز لقوى الملك .
وبالرغم من تلك الصفة المقدسة لوراثة العرش ورغم الجوانب المقدسة في شخصية الملك ، فإن نظام الملكية السومرية ظل محتفظاً بالصفة الانسانية .
______________
(1). Jacobsen , T., and Others , Before Philosophy , The lntellectual Adventure of Ancient Man , a Pelican Book, U.S.A., 1974, P. 162.
(2). Jacobsen, T., and Other, lbid, P. 149.
(3). Leo Oppenheim, A., Historiographic Documents, << The Sume- rian King list>> , (in) A.N.E.T. PP. 265-266
(4). تشير بعض الاساطير الى الصراع بين دموزى اله الراعي وانكيمدو اله المزارع للتنافس على الزواج من الالهة اينانا لتصبح زوجة للراعي دموزى ، ولكنها ترفض وتصر على الزواج من المزارع انكيمدو .
Kramer, S.N., Sumerian Myths and Epic Tales, << Dumuzi and Enkimdu: the Dispute between the Shepherd God and the Shepherd God and the Farmer- God>> (in) A.N.E. T., pp. 41-42.
(5). Leo- Oppenheim, A., Op. Cit., P. 265.
(6). Grayson, A.K., Akkadian Myths and Epics, << Etana>>, (in) A.N.E.T., P. 517.
And Lambert, W.G.,! Etana>, (in) Journal of Cuneiform Studies, Vol. XVI, New Haven 1962, p. 66.
(7). Speiser, E.A., Akkadian Myths and Epics, << Old Babylonian Version>>, (in) A.N.E. T., P. 114.
(8). Langdon, S.H., the Old Babylonian Version of the Myth of Etana, Babyloniaca, XII, p. 9.
(9) . عبد المنعم ابو بكر واخرون ، المرجع السابق ، ص 298.
(10). Frankfort, H., Op. Cit., p.252.
(11). Frankfort, H., Ibid, p. 239.
(12). Poebel, A., Historical Texts, (in) University Museum, University of Pennsylvania, Publications of the Babylonian Section, Vol. IV, Philadelphia, 1914, pp. 17-18.
(13). Thureau-dangin, f., les Inscription de Sumer ET d'Akkad, Paris, 1905, p. 81.
(14). Jacobsen, T., «Primitive Democracy in Ancient, Mesopotamia» (in) Journal of Near Eastern Studies, Vol. II, Chicago 1943, pp. 159-172.
(15). كانت دويلة المدينة تتكون من مدينة او اكثر بالإضافة الى ما يحيط بها من أراضي زراعية وعدد من القرى . وكانت المدينة الرئيسية تتوسط دويلة المدينة . أما معبد اله المدينة الرئيسي ، فكان يتوسط المدينة . وكان يرتبط بمعبد اله المدينة معابد آلهة اخرى اقل شأنا .
Jacobsen, T., and others Man, A Pelican Book, U.S.A., 1974, P. 201.
(16). Jacobsen, T., primitive Democracy in Ancient Mesopotamia, (in) JNES, Vol. II, Chicago, 1943, p. 165.
(17). هنري فرانكفورت ، المرجع السابق ، ص 86.
(18). Leo Oppenheim, A., Op. Cit., p. 266.
(19). Frankfort, H., Op. Cit., P. 216.
(20). Frankfort, H., Ibid. P. 219.
(21) . Frankfort, H., Ibid. PP. 219-220.
انظر أيضا :
Powls Smith, J.M., the Complete Bible: An American Translation, Chicago 1939.
انظر :
(22). Labat, René, Le Caractére Religieux de la Royaute, pp. 63-69 Assyrobabylonienne, Paris 1939.
(23). Jacobsen, T., «The Concept of Divine Parentage of the Ruler in the Stele of the Vultures» (in) J.N.E.S., 11, Chicago 1943, PP. 119-121.
(24). Thureau-Dangin, F., op. Cit., P. 41.
(25). طه باقر ، المرجع السابق ، ص 395 .
(26). Frankfort, H., Op. Cit., PP. 245-246.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
جامعة كربلاء: مشاريع العتبة العباسية الزراعية أصبحت مشاريع يحتذى بها
|
|
|