أقرأ أيضاً
التاريخ: 8-8-2016
1488
التاريخ: 5-8-2016
1465
التاريخ: 29-8-2016
1733
التاريخ: 26-8-2016
2076
|
وهو من أهمّ مسائل مبحث مقدّمة الواجب، والواجب المطلق نظير الصّلاة بالنسبة إلى الوضوء مثلا، والمشروط نظير الحجّ بالنسبة إلى الاستطاعة.
وأمّا تعريف كلّ واحد منهما فقال المحقّق الخراساني: قد ذكر لكل منهما تعاريف وحدود، تختلف بحسب ما أخذ فيها من القيود، وربّما اُطيل الكلام بالنقض والإبرام في النقض على الطرد والعكس مع أنّها كما لا يخفى تعريفات لفظيّة لشرح الاسم وليست بالحدّ ولا بالرسم.
ثمّ قال: والظاهر أنّه ليس لهم اصطلاح جديد في لفظ المطلق والمشروط، بل يطلق كلّ منهما بما له من معناه العرفي، كما أنّ الظاهر أنّ وصفي الإطلاق والاشتراط وصفان إضافيان لا حقيقيان وإلاّ لم يكد يوجد واجب مطلق، ضرورة اشتراط وجوب كلّ واجب ببعض الاُمور، لا أقلّ من الشرائط العامّة كالبلوغ والعقل.
أقول: إنّ كلامه مقبول عندنا بتمامه إلاّ ما مرّ كراراً من قوله بأنّ التعاريف التي تذكر لموضوعات علم الاُصول هي من قبيل شرح الاسم، فقد مرّ أيضاً في جوابه أنّ هذا لا يلازم كون القوم أيضاً في مقام شرح الاسم فقط بل إصرارهم على ذكر قيود للتعريف لأن يصير جامعاً ومانعاً، وكذلك مناقشات كلّ واحد منهم في سائر التعاريف بعدم الطرد أو العكس والدفاع عمّا ذكره ـ بنفسه من أوضح الشواهد على أنّهم في مقام ذكر تعاريف حقيقية للموضوعات المختلفة كما هو واضح، مضافاً إلى أنّ ما يفيد المبتديء في هذه الأبحاث هو التعريف الجامع للأفراد والمانع عن الأغيار، نعم التعاريف شرح الاسمية إنّما تفيد اللغوي لا المدقّقون في الأبحاث العلمية كما هو ظاهر.
رجوع القيد إلى الهيئة أو المادّة:
إذا عرفت هذا فاعلم أنّ هيهنا بحثاً له أهمية خاصّة، وهو أنّ القيود المأخوذة في لسان الأدلّة بعنوان الشرط أو غيره هل هي حقيقة راجعة إلى الهيئة أو المادّة؟ مع تسالم الكلّ على أنّ ظاهر القضيّة الشرعيّة رجوعها إلى الهيئة بل هو معنى الاشتراط وتعليق الجزاء على الشرط، فمعنى «إن جاءك زيد فأكرمه» مثلا أنّ وجوب الإكرام مقيّد بمجيء زيد ومعلّق عليه بل قد اعترف بهذا الظهور العرفي من هو مخالف للمشهور في المسألة وهو الشّيخ الأعظم الأنصاري (رحمه الله)، إلاّ أنّه يقول: لا بدّ من رفع اليد عن هذا الظهور (لمحذور عقلي) وإرجاع القيد إلى المادّة فيكون معنى قولك «إن استطعت يجب عليك الحجّ» حينئذ «أنّه يجب عليك من الآن إتيان الحجّ عند تحقّق الاستطاعة» فيكون القيد وهو الاستطاعة في المثال من قيود الواجب، مع أنّ ظاهر القضيّة أنّه من قيود الوجوب، نعم أنّه يقول: فرق بين قيد الواجب الذي يستفاد من القضيّة الشرطيّة وسائر قيود الواجب، فيجب تحصيل القيد وإيجاده في الخارج في الثاني دون الأوّل قضاء لحقّ القضيّة الشرطيّة.
واستدلّ لمقالة الشّيخ الأعظم(رحمه الله) أو يمكن أن يستدلّ لها بأمور:
الأمر الأوّل: أنّ مفاد الهيئة من المعاني الحرفيّة، وقد قرّر في محلّه أنّ الوضع فيها عام والموضوع له خاصّ، أي المعنى الحرفي جزئي حقيقي، ومن البديهي أنّ الجزئي لا يقبل التقييد والإطلاق.
وببيان آخر: أنّ المعاني الحرفيّة إيجاديّة بأسرها، ولو لم يكن الجميع كذلك فلا أقلّ من خصوص مفاد هيئة الأمر، أي الطلب، فلا إشكال في كونه إيجاديّاً، والمعنى الإيجادي جزئي حقيقي، فإنّ الإيجاد هو الوجود، ولا ريب في أنّ الوجود الخارجي عين التشخّص والجزئيّة فلا يقبل التقييد والإطلاق.
ولكن يرد عليه: أنّه قد مرّ في مبحث المعاني الحرفيّة أنّ كون الموضوع له خاصّاً ليس معناه كونه جزئيّاً حقيقيّاً بل أنّه بمعنى الجزئي الإضافي، فمعنى الابتداء في قولنا: «سر من
البصرة إلى الكوفة» مثلا كلّي تتصوّر له أفراد كثيرة بملاحظة وجود بوّابات كثيرة مثلا للبصرة أو الكوفة وأمكنة متعدّدة لابتداء السير، فالامتثال لهذا الاْمر له مصاديق كثيرة، وكلّ ما كان له مصاديق كثيرة كان كلّياً.
وأمّا كونها إيجاديّة وأنّ الإيجاد جزئي حقيقي فيمكن الجواب عنه أيضاً بأنّه كذلك، أي يكون الإيجاد جزئيّاً حقيقيّاً، ولكن البحث هنا ليس بحثاً عن التقييد بمعنى التضييق والتخصيص بل أنّه بحث عن التقييد بمعنى التعليق، وسيأتي في الوجه الرابع أنّ أحدهما غير الآخر حيث إنّ التعليق إيجاد على فرض، فيمكن تعليق الإيجاد أو الوجود على شيء مفروض الوجود وإن لم يمكن تقييده، فلا مانع مثلا من تعليق وجود إكرام زيد ولو بنحو خاصّ على مجيئه وإن كان جزئيّاً حقيقياً.
الأمر الثاني: ما يستفاد من كلمات بعض الأعاظم من أنّ المعنى الحرفي وإن كان كلّياً إلاّ أنّه ملحوظ باللحاظ الآلي ولا يلحظ استقلالا حتّى يمكن تقييده، حيث إنّ التقييد أو الإطلاق من شؤون المعاني الملحوظة باللحاظ الاستقلالي(1).
ويرد عليه: أيضاً إنّا لم نقبل في محلّه كون المعاني الحرفيّة معاني مرآتيّة آليّة بمعنى المغفول عنها، بل قد ذكرنا هناك أنّه ربّما يكون المعنى الحرفي أيضاً مستقلا في اللحاظ بهذا المعنى ويكون تمام الالتفات والتوجّه إليه كما إذا قلت: هل الطائر في الدار أو على الدار؟ ومرادك السؤال عن «الظرفيّة» و «الاستعلاء» في مثل الطائر الذي تعلم بوجود نسبة بينه وبين الدار، لكن لا تدري أنّ هذه النسبة هي الظرفيّة أو الاستعلاء.
نعم، إنّ المعاني الحرفيّة تابعة للمعاني الاسمية في الوجود الخارجي والذهني، ولا إشكال في أنّ التبعيّة في الوجود لا تلازم كون المعنى الحرفي مغفولا عنه، فقد وقع الخلط هنا بين التبعيّة في الوجود الذهني وعدم قيام المفهوم بنفسه وبين الغفلة عنه مع أنّ بينهما بون بعيد.
الأمر الثالث: لزوم اللغويّة حيث أنّه إذا كان الوجوب استقبالياً فلا ثمرة للإيجاب والإنشاء في الحال، وبعبارة اُخرى: إذا لم يكن المنشأ طلباً فعليّاً يكون الإنشاء لغواً.
والجواب عنه واضح: لأنّ المفروض أنّ أحكام الشارع أحكام كلّية تصدر على نهج القضايا الحقيقية وشاملة لجميع المكلّفين الواجدين منهم للشرائط المذكورة فيها وغيرهم، فوجوب الحجّ مثلا يشمل المستطيع فعلا ومن سيستطيع، وعندئذ لا بدّ من صدور الخطاب بشكل القضيّة الشرطيّة حتّى يكون فعليّاً بالنسبة إلى من كان الشرط محققاً له الآن، واستقبالياً بالنسبة إلى من يحصل الشرط له فيما بعد، أي يكون الخطاب الواحد بالنسبة إلى بعض فعليّاً وبالنسبة إلى آخر مشروطاً تقديريّاً، والغفلة عن هذه الحقيقة أوجبت الإيراد باللغويّة.
أضف إلى ذلك أنّه ربّما يلزم تقديم الإنشاء لمراعاة حال المكلّف ولو كان الإنشاء شخصيّاً لكي لا يواجه التكليف فجأةً بل يكون على ذكر منه فيهيئ نفسه للامتثال، أو مراعاة حال نفسه فلا يكون بحاجة إلى خطاب جديد مثلا، فلعلّه لا يتمكّن في ذلك الوقت من الإيجاب والإنشاء (وهذا ما يجري حتّى في القضايا الشخصيّة فضلا عن الحقيقية الكلّية) إلى غير ذلك من المصالح.
الأمر الرابع: أنّ الإنسان إذا توجّه إلى شيء والتفت إليه فلا يخلو: إمّا أن يطلبه أم لا، ولا ثالث في البين، لا كلام على الثاني، وعلى الأوّل لا يخلو من أنّ الفائدة إمّا أن تقوم بطبيعي ذلك الشيء من دون دخل خصوصيّة من الخصوصيّات فيها، أو تقوم بحصّة خاصّة منه، وعلى الأوّل فطبيعي أن يطلبه المولى على إطلاقه وسعته، وعلى الثاني يطلبه مقيّداً بقيد خاص، وهذا القيد، تارةً يكون اختياريّاً واُخرى غير اختياري، وعلى الأوّل تارةً يكون مورداً للطلب والبعث، وذلك كالطهارة مثلا بالإضافة إلى الصّلاة، واُخرى لا يكون كذلك بل أخذ مفروض الوجود، وذلك كالإستطاعة بالإضافة إلى الحجّ، وعلى الثاني أي فرض كونه غير اختياري فهو لا محالة أخذ مفروض الوجود في مقام الطلب والجعل لعدم صحّة تعلّق التكليف به، وكزوال الشمس بالإضافة إلى وجوب الصّلاة، وعلى جميع التقادير فالطلب فعلي ومطلق، والمطلوب مقيد من دون فرق بين كونه اختياريّاً أو غير اختياري، ونتيجته رجوع القيد بشتّى ألوانه إلى المادّة.
ويرد عليه: أيضاً أنّ الاحتمالات لا تنحصر في ما ذكر، والحصر ليس بحاصر، بل هنا احتمال آخر لم يشر إليه المستدلّ في كلامه، حيث إنّ الإنسان إذا إلتفت إلى شيء فإمّا أن لا يطلبه مطلقاً فلا كلام فيه، وإمّا أن يطلبه مطلقاً أي لا يكون طلبه مشروطاً بشيء ومعلّقاً على شيء، (وإن كان مطلوبه مقيّداً بشيء أحياناً) وإمّا أن يكون طلبه معلّقاً على شيء فهو لا يطلب ولا يبعث إلاّ بعد حصول ذلك الشيء كالإستطاعة، وما ذكره من الصور العديدة إنّما هي من شقوق القسم الأوّل (أي ما إذا كان طلبه مطلقاً)، وأمّا القسم الأخير فلم يأت به في كلامه (وإن أتى بمثاله وهو الحجّ بالنسبة إلى الاستطاعة والصّلاة بالنسبة إلى دلوك الشمس) حيث إنّ كلامه في تقسيمات الواجب والمطلوب لا في تقسيمات الوجوب والطلب، والقسم الأخير أي التعليق في الطلب هو المراد من الواجب المشروط عند المشهور، وسيأتي بيان ماهيته.
الأمر الخامس: أنّ رجوع الشرط إلى الهيئة دون المادّة يوجب تفكيك الإنشاء عن المنشأ، فالإنشاء يكون فعليّاً والمنشأ وهو وجوب الإكرام في مثال «إن جاءك زيد فأكرمه» يكون استقبالياً حاصلا بعد المجيء، وهذا غير معقول بل هو أسوأ حالا من تفكيك العلّة عن المعلول حيث إنّ العلّة والمعلول أمران واقعيان، ويكون الواقع فيهما متعدّداً، بخلاف الإنشاء والمنشأ أو الإيجاد والوجود أو الإيجاب والوجوب فإن الواقع فيهما واحد يكون إنشاءً أو إيجاداً أو إيجاباً إذا نسب إلى الفاعل، ويكون منشأً أو وجوداً أو وجوباً إذا نسب إلى القابل.
وقد اُجيب عنه بوجوه:
الوجه الأوّل: ما أجاب به المحقّق الخراساني(رحمه الله) وحاصله: أنّ الإنشاء حيث تعلّق بالطلب التقديري، فلابدّ أن لا يكون الطلب حاصلا فعلا قبل حصول الشرط وإلاّ لزم تخلّف الإنشاء عن المنشأ.
وبعبارة اُخرى: أنّ الطلب في الواجب المشروط تقديري، ولازمه عدم فعلية الطلب والإنشاء، فلو كان الطلب فعليّاً يستلزم الخلف.
ولكن الإنصاف أنّه لا يندفع به الإشكال بل هو أشبه بالمصادرة، لأنّ الكلام في إمكان هذا النحو من الإنشاء بالوجدان مع أنّ الإنشاء هو الإيجاد، والإيجاد أمره دائر بين الوجود والعدم، فإمّا وجد الإنشاء أو لم يوجد ولا ثالث له حتّى يسمّى بالإنشاء التقديري.
الوجه الثاني: ما أفاده بعض الأعلام وهو مبني على ما اختاره في المعاني الحرفيّة (من أنّ الإنشاء عبارة عن إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج بمبرز من قول أو فعل)، فإنّه قال: «الصحيح أن يقال أنّه لا مدفع لهذا الإشكال بناءً على نظرية المشهور من أنّ الإنشاء
عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ ضرورة عدم إمكان تخلّف الوجود عن الإيجاد وأمّا بناءً على مختارنا (وهي ما مرّ آنفاً) فيندفع الإشكال المذكور من أصله»(2).
أقول: وقد بني على هذا المبنى في معنى الإنشاء نتائج كثيرة في علم الاُصول:
أوّلا: أنّه خلاف الوجدان حيث إنّ الوجدان حاكم بأنّ البائع مثلا في قوله «بعت» إنّما يكون في مقام إيجاد شيء في عالم الاعتبار لا الأخبار عن اعتبار موجود في نفسه.
وثانياً: أنّ لازمه تطرّق احتمال الصدق والكذب في الإنشاء كالأخبار (حيث إنّ الإبراز المذكور في كلامه لو كان مطابقاً لما في ضمير المبرز فهو صادق وإلاّ كان كاذباً) وهو ممّا لا يلتزم به أحد.
وثالثاً ـ وهو العمدة ـ أنّ الإنشاء إيجاد في عالم اعتبار العقلاء والقوانين العقلائيّة (لا في عالم الخارج ولا في عالم الذهن) فتوجد بقول البائع «بعت» ملكيّة قانونيّة في عالم الاعتبار في مقابل الملكيّة الخارجيّة والسلطنة الخارجيّة على الأموال، وبعبارة اُخرى: كانت الملكيّة والسلطة في أوّل الأمر منحصرة عند العقلاء في السلطة الخارجيّة ثمّ أضافوا إليها قسماً آخر من السلطة وهي السلطة القانونيّة واعتبروا لإيجادها أسباباً لفظيّة وغيرها، فما ذكره من أنّ «الإيجاد في عالم الخارج لا معنى له، وفي عالم النفس لا يحتاج إلى الإنشاء اللّفظي» مدفوع بأنّه إيجاد في وعاء اعتبار العقلاء بالتوسّل بأسبابها.
أضف إلى ذلك كلّه أنّ ما ذكره لا يتصوّر بالنسبة إلى بعض أنواع الإنشاء مثل النداء والإشارة فإنّه لا معنى لوجود شيء في نفس المنادي أو المشير باسم النداء والإشارة بل الموجود قبل التلفّظ بأداة النداء أو الإشارة إنّما هو إرادة النداء أو الإشارة فحسب، وأمّا نفس النداء أو الإشارة فإنّما توجد بأداتها مع نيّتها.
وبهذا يظهر أنّ الحقّ في حقيقة الإنشاء إنّما هو مذهب المشهور من أنّه إيجاد لا إخبار.
الوجه الثالث: ما أفاده في تهذيب الاُصول وإليك نصّ كلامه: «إنّ الخلط نشأ من إسراء حكم الحقائق إلى الاعتبارات التي لم تشمّ ولن تشمّ رائحة الوجود حتّى يجري عليه أحكام الوجود، ولعمري أنّ ذلك هو المنشأ الوحيد في الاشتباهات الواقعة في العلوم الاعتباريّة إذ
الإيجاد الاعتباري لا مانع من تعليقه، ومعنى تعليقه أنّ المولى بعث عبده على تقدير وإلزام، وحكم شيئاً عليه لو تحقّق شرطه، ويقابله العدم المطلق أي إذا لم ينشأ ذلك على هذا النحو»(3).
أقول: إنّا لا ننكر ما يقع كثيراً مّا من الخلط بين الاُمور التكوينيّة والاعتباريّة وما يترتّب عليه من الإشكالات الكثيرة، وما أكثرها في الفقه والاُصول، ولكن هذا ليس بمعنى عدم حكومة ضابطة في الاعتباريات مطلقاً، والسرّ في ذلك والنكتة التي صارت مغفولا عنها في المقام هي أنّه فرق بين المعتبر والاعتبار، وإنّ ما يكون من الاُمور الاعتباريّة إنّما هو المعتبر، وأمّا نفس الاعتبار فهو أمر تكويني ومحكوم للقوانين الحاكمة على التكوينيات، فاعتبار الوجوب وإيجاده أمر تكويني دائر أمره بين الوجود والعدم ولا يتصوّر شيء ثالث بينهما، ومجرّد تسمية شيء باسم الوجود التقديري أو المعلّق مصادرة إلى المطلوب ولا يرفع المحذور في المسألة، ولذا لا يجتمع الاعتبار في زمان معيّن مع عدمه لعدم جواز الجمع بين النقيضين، ومن هذا الباب ما نحن بصدده وهو أنّ الإيجاد الاعتباري لا معنى لكونه معلّقاً على شيء.
أضف إلى ذلك أنّ مسألة الوجود المعلّق والاشتراط بالقضيّة الشرطيّة لا تختصّ بالاعتباريات حتّى يكون مفتاح حلّ المشكل في اعتباريّة المسألة، بل تتصوّر أيضاً في الاُمور التكوينيّة كما في قولك: «إن طلعت الشمس فالنهار موجود» فوجود النهار الذي صار معلّقاً على طلوع الشمس ليس من الاعتباريات كالملكية، فهو إمّا موجود في الخارج أو ليس بموجود ولا ثالث بينهما فيعود الإشكال.
المختار في مسألة الواجب المشروط:
الوجه الرابع: ما يعتبر حلا نهائيّاً في المسألة، وهو عبارة عن تحليل معنى الاشتراط والتأمّل في حقيقة مفهوم «إن» الشرطيّة وما يسمّى في اللّغة الفارسيّة بـ «اگر»، فنقول لا إشكال في أنّ مفاد كلمة «إنّ» (اگر) يساوق معنى كلمة «افرض» أي أن الإنسان يفرض أوّلا وجود شيء في الخارج ثمّ يحكم عليه بحكم ويرتّب عليه آثاراً، فيفرض مثلا طلوع الشمس أوّلا ثمّ يرتّب عليه وجود النهار، فالقضية الشرطيّة حينئذ عبارة عن حكم على فرض.
توضيح ذلك: الإنسان تارة ينظر ويرى أنّ الشمس قد طلعت فيحكم بأنّ الشمس طالعة من غير شرط، واُخرى يكون الناظر في ظلمات الليل ولكن يفرض وجود الشمس ثمّ يحكم بوجود النهار في وعاء فرض وجود الشمس فيقول: «إن طلعت الشمس فالنهار موجودة»، وكذلك في الإنشائيات.
وبعبارة اُخرى: إنّ للإنسان في أحكامه الإخباريّة والإنشائيّة حالتين، فتارةً يكون مطلوبه في الإنشائيات أو ما يخبر عنه في الإخباريات موجوداً في عالم الخارج بالفعل، فيبعث إليه أو يخبر عنه من دون قيد وتعليق، واُخرى لا يكون موجوداً في الخارج فيفرض وجوده أوّلا ثمّ يحكم عليه إخباراً أو إنشاءً.
إن قلت: على أيّ حال: هل وجد شيء في الخارج من ناحية حكمه أو لم يوجد؟
قلنا: قد وجد شيء في الخارج ولكن معلناً على فرض، نظير ما إذا كانت أُمّ تعيش في فراق ولدها فتتصوّر مجيء ولدها فتحنّ إليه وتسيل دموعها من شوق لقائه، فإنّ سيلان دمعها وبكاؤها أمر تكويني موجود في الخارج ولكن بعد فرضها وتصوّرها مجيء ولدها، ونظير ما إذا تصوّر المولى عطشه واشتاقت نفسه بعد ذلك الفرض والتصوّر إلى الماء، فأمر عبده بقوله «إذا كنت عطشاناً فاسقني» فاشتياقه إلى الماء ثمّ بعثه إلى إتيان الماء وجد في الخارج ولكنه مترتّب على فرضه عطشه، فطلبه وبعثه متوقّف على هذا الفرض، وحيث إنّه فرض ولا وجود له في الخارج فعلا فيمكن أن يقال بأنّه لا إيجاب ولا وجوب كما ذهب إليه المشهور.
وبعبارة اُخرى: الوجوب وجد بالإيجاب ولكن متأخّراً عن فرض ومعلّقاً على تقدير موجود في عالم الذهن ولا عالم الخارج، لأنّ المفروض أنّ الفرض ليس بإزائه شيء في الخارج حين الفرض.
والحاصل: أنّ هذا الإيجاب موجود من جهة وغير موجود من جهة، فهو موجود بعد فرض وجود الشرط في اُفق الذهن وغير موجود من دون هذا الفرض.
بقي هنا شيء:
وهو أنّه قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ مآل القضايا الحقيقية إلى قضايا شرطيّة حيث إنّها صادقة حتّى مع عدم وجود ما أخذ بعنوان الموضوع فيها حين صدورها وجعلها، فقضيّة «النار حارّة» قضيّة حقيقيّة صادقة مع عدم وجود نار في الخارج بل عدم وجود معدّاتها وأسبابها وليس ذلك إلاّ لأنّها راجعة إلى قضيّة شرطيّة، أي «كلّما وجد في الخارج شيء وكان ناراً فهي حارّة» فأوّلا فرض وجود نار في الخارج ثمّ حكم عليها بأنّها حارّة، وهذا هو مراد من قال: إنّ عقد الوضع في القضايا الحقيقية يرجع إلى القضايا الشرطيّة، أي يوجد بين القضيّة
الحقيقية والشرطيّة قرابة وشباهة، حيث إنّ كلا منهما حكم على فرض، لا أنّ كلّ شرط يرجع إلى قيد الموضوع كما ذهب إليه المحقّق النائيني (رحمه الله) بل أنّه قيّد للحكم كما هو ظاهر القضيّة الشرطيّة.
فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ الحقّ مع المشهور وأنّ القيود في القضايا الشرطيّة راجعة إلى الهيئة لا إلى المادّة خلافاً لما نسب إلى الشّيخ الأعظم الأنصاري(رحمه الله).
بقي هنا اُمور:
الأوّل: في ثمرة النزاع في المسألة:
من الواضح أنّ الثمرة في هذا النزاع تظهر في تحصيل المقدّمات المفوّتة كتهيئة الزاد والراحلة وأخذ الجوازات بالنسبة إلى الحجّ، فبناءً على مذاق المشهور لا دليل على وجوبها لعدم وجوب ذي المقدّمة على الفرض، وأمّا على المبنى المنسوب إلى الشّيخ الأعظم(رحمه الله)فتحصيلها واجب قبل مجيء زمان الواجب، فيجب مثلا حفظ الماء قبل مجيء وقت الصّلاة إذا كان تحصيل الطهارة بعد مجيء وقت الصّلاة متوقّفاً عليه، وكذلك تحصيل مقدّمات السفر إلى الحجّ بعد حصول الاستطاعة وقبل الموسم.
نعم ربّما يجب تحصيل المقدّمات حتّى على مبنى المشهور، وهو ما إذا علمنا بفوت غرض المولى في صورة عدم تحصيل المقدّمات، فإنّ العقل يحكم حينئذ بحفظ غرض المولى لمكان حقّ الطاعة والمولويّة، كما إذا علم العبد بأنّه لو لم يحفظ الماء الآن يبقى المولى عطشاناً في المستقبل، فلا إشكال في أنّه لو لم يحفظ الماء وصار المولى عطشاناً صار مستحقّاً للملامة والمؤاخذة، وفي الشرعيات نظير ما إذا علمنا ببعض القرائن مثلا باهتمام الشارع بالصّلاة مع الطهارة المائيّة وأنّ غرضه منها لا يحصل بغيرها، فيحكم العقل بحفظ الماء ولو قبل مجيء زمان وجوب الصّلاة.
الثاني: في محلّ النزاع:
هل أنّ البحث عن وجوب المقدّمة هو خصوص الواجب المطلق، أو يكون الواجب المشروط أيضاً داخلا في محلّ النزاع؟
الحقّ كما صرّح به المحقّق الخراساني(رحمه الله) دخول كلا القسمين فيه، غاية الأمر بناءً على وجوب المقدّمة يكون وجوب مقدّمات الواجب المطلق مطلقاً أيضاً ووجوب مقدّمات الواجب المشروط مشروطاً، وإلاّ يلزم زيادة الفرع على الأصل كما لا يخفى، فإذا كان وجوب الحجّ مشروطاً بالاستطاعة كان وجوب مقدّماته كتحصيل الزاد والراحلة وأخذ الجوازات مشروطاً بالاستطاعة.
الثالث: دخول مقدّمات الواجب المشروط في محل النزاع:
بناءً على دخول مقدّمات الواجب المشروط في محلّ النزاع لا إشكال في أنّ المقدّمة التي أخذت بعنوان الشرط في حكم المولى كالإستطاعة بالنسبة إلى الحجّ فلا يكون تحصيلها واجباً، أمّا بناءً على مذاق المشهور فهو واضح لأنّه قبل حصول مثل هذه المقدّمة أي الاستطاعة لم يتعلّق وجوب بالحجّ حتّى تكون مقدّمته واجبة، وبعد حصول الاستطاعة وإن صار الحجّ واجباً ولكن لا معنى لترشّح الوجوب إلى هذه المقدّمة، أي الاستطاعة لأنّه تحصيل للحاصل.
وأمّا بناءً على مبنى الشّيخ الأعظم (رحمه الله) فلأنّه صرّح بنفسه بأنّه وإن كانت جميع المقدّمات حتّى مثل الاستطاعة المأخوذة شرطاً في القضيّة الشرطيّة من الشرائط الوجوديّة وإنّ جميع القيود ترجع إلى المادّة ولكن على نحو لا يترشّح عليه وجوبه.
ولكن الإنصاف أنّ هذا لا يخلو من نوع من التناقض، فكيف يمكن أن يكون شيء من المقدّمات الوجوديّة ومع ذلك لا يكون تحصيله واجباً ولم يترشّح عليه وجوب ذي المقدّمة؟ وبعبارة اُخرى: كيف يكون الحجّ مثلا واجباً مطلقاً وتكون الاستطاعة قيداً لوجوده ومع ذلك لا يطلبه المولى من العبد في صورة عدم استطاعته بل يطلبه منه إذا حصلت إتّفاقاً؟
الرابع: هل أنّ العلم من الشرائط العامّة للتكليف؟
لا إشكال في أنّ العلم من الشرائط الأربعة العامّة للتكليف، ولكن مع ذلك وقع البحث في
وجوب تحصيله وعدمه، وأنّه هل يكون تحصيله غير واجب كسائر شرائط التكليف، أو له خصوصيّة من بينها فيجب تحصيله؟ وهكذا بالنسبة إلى العلم بالمكلّف به، فإذا علمنا بأصل وجوب الحجّ مثلا وعلمنا أيضاً بحصول الاستطاعة في السنة اللاّحقة فهل يجب تحصيل العلم بمسائل الحجّ أو لا؟ المعروف والمشهور وجوب تحصيل العلم في القسم الأوّل، أي العلم بأصل التكليف، ويمكن أن يستدلّ له بوجوه:
الوجه الأوّل: أنّ تحصيل العلم واجب نفسي، فهو واجب مع قطع النظر عن كونه مقدّمة لواجب آخر، وتدلّ عليه آيات وروايات نظير ما ورد في بعض الأخبار من أنّه يسأل عن الإنسان يوم القيامة: هلاّ عملت؟ يقول: ما علمت، فيقال له: هلاّ تعلّمت؟ وما ورد عن الصادق(عليه السلام): «ليت السيّاط على رؤوس أصحابي حتّى يتفقّهوا في الدين»، ونظير آية النفر التي تدلّ على وجوب تحصيل العلم ووجوب تعليمه معاً.
وفيه: أنّ العلم في أمثال المقام طريقي لا موضوعي، ولذا لو أتى بالواقع من طريق الاحتياط أجزأه قطعاً ولا يؤاخذ على ترك تحصيل العلم مع أنّه لو كان واجباً نفسياً لم يجز العمل بالاحتياط في موارد الجهل بالحكم.
الوجه الثاني: العلم الإجمالي بوجود تكاليف في الشريعة حيث يقتضي تحصيل العلم التفصيلي بها للامتثال.
وهو جيّد في الجملة، ويمكن النقاش فيه بأنّ لازمه عدم وجوب الفحص وتحصيل العلم بالتكليف إذا علم بالمقدار المعلوم إجمالا وانحلّ العلم الإجمالي بسبب ذلك، مع أنّ الفحص واجب مطلقاً حتّى مع الشكّ البدوي في وجوب تكليف.
الوجه الثالث: حكم العقل (أو بناء العقلاء) وهو العمدة، فإنّ العبد موظّف في مقابل مولاه وحقّ العبوديّة والطاعة أن يفحص عن تكاليف المولى في مظانّها، نعم، له العمل بالاحتياط وترك تحصيل هذا العلم، وأمّا الأخذ بالبراءة من دون فحص فهو أمر غير جائز كما يتّضح لك بالرجوع إلى أهل العرف في مناسبات الموالي مع عبيدهم.
نعم بعد الفحص بالمقدار المتعارف بين العقلاء يجوز التمسّك بالبراءة لعدم العلم بتحقّق التكليف مع أنّه لو كان من شرائط الوجود لكان الأصل فيه الاشتغال.
هذا كلّه في العلم بالتكليف.
وأمّا العلم بالمكلّف به فكذلك يمكن القول بوجوب تحصيله في الجملة، وهو ما إذا علم بحصول الاستطاعة وعدم إمكان تحصيل العلم بالمناسك في الموسم، فلا يبعد حينئذ القول بوجوب تحصيل العلم بها من باب حفظ غرض المولى مع أنّه ليس الحجّ واجباً فعلا.
ثمّ إذا شككنا في أنّ الواجب مطلق أو مشروط فما هو مقتضى القاعدة؟ سيأتي الكلام عنه في ذيل البحث عن الواجب المعلّق فانتظر.
__________________
1. راجع أجود التقريرات: ج1، ص131.
2. راجع المحاضرات: ج2، ص323.
3. تهذيب الاُصول: ج1، ص175 ـ 176، طبع مهر.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
بعد إطلاقها لقافلة المساعدات السادسة العتبة العباسية تفتح باب التبرع للراغبين في دعم الشعب اللبناني وإسناده
|
|
|