أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-07-27
483
التاريخ: 12-10-2014
1985
التاريخ: 2024-04-24
769
التاريخ: 2024-09-10
288
|
قالوا : وممّا نجد القرآن متأثّراً بالبيئة العربيّة الجاهلة اعترافه بإصابة العين في مواضع :
الأَوّل : قوله تعالى ـ حكاية عن يعقوب ( عليه السلام ) ـ : {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف : 67] ، قيل : خاف عليهم إصابة العين ؛ لأنّهم كانوا ذوي جمالٍ وهيبةٍ وكمالٍ ، وهم إخوة أولاد رجلٍ واحد (1) .
الثاني : قوله تعالى : {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [القلم : 51، 52] ، قيل : يُزلقونك بمعنى يُصيبونك بأعينهم ، قال الطبرسي : والمفسّرون كلّهم على أنّه المراد من الآية (2) .
الثالث : قوله تعالى : {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } [الفلق : 5] ، قيل : أي مِن شرّ عينه (3) ، وعن ابن أبي عمير رفعه قال : أَما رأيته إذا فَتَح عينَيه وهو يَنظر إليك هو ذاك (4) .
والكلام هنا من جهتَين ، الأُولى : هل القرآن تعرّض لتأثير العين ، سواء كان حقّاً أم باطلاً ؟ الثانية : هل للعين تأثير سوءٍ ذاتي مع قطع النظر عمّا جاء في القرآن ؟
أمّا الجهة الأُولى فليس في ظاهر تعبير القرآن ما يَدلّ على ذلك :
أمّا قولة يعقوب لبنيه : ( لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ... ) فإنّما كانت في عودتهم إلى مصر بعد سفرتهم الأُولى التي رجعوا منها خائبين ، فلو كان يخاف عليهم العين لأمرهم بذلك في المرّة الأُولى بل وفي كلّ سفرةٍ وحلّ وارتحال ، فيمنعهم أنْ يترافقوا في الأسفار على الإطلاق ، ولا خصوصية لهذه المرّة من الدخول على يوسف .
قيل : إنّما قال لهم ذلك ـ في هذه المرّة ـ ليَستخبر من حالة العزيز حين يَدخل عليه كلّ أخٍ له ، فيَستعلم من تأثير كلّ واحدٍ عند الدخول عليه حالته الخاصّة ، وما يظهر على أسارير وجهه وحركات عينيه حين رؤية شقيقه من أُمّه بنيامين (5) ، ولعلّ يعقوب استشعر من ردّ العزيز إخوته ليأتوا بأخٍ آخر لهم من أبيهم ، أنّه هو يوسف ، فحاول بهذه التجربة معرفة شخصية العزيز ولعلّه يوسف نفسه ، الأمر الذي لا يَعلم إذا دخلوا عليه كلّهم جماعةً واحدةً ؛ ومِن ثَمّ لمّا دخل عليه أخوه بنيامين آواه وأفشى نفسه لديه ، الأمر الذي يدلّ على دخوله عليه لوحده ، فقد تحقّق تدبير يعقوب في تفرّسه .
وهذا يدلّ على فراسة يعقوب القوية ، حيث يقول عنه تعالى : {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ } [يوسف : 68] أي ذو فراسةٍ قوية .
قال إبراهيم النخعي ـ وهو تابعيّ كبير ـ : إنّ يعقوب ( عليه السلام ) كان يَعلم بفراسته بأنّ العزيز هو ابنه يوسف إلاّ أنّ الله لم يَأذن له في التصريح بذلك ، فلمّا بعث أبناءه إليه أَوصاهم بالتفرقة عند الدخول وكان غرضُه أن يصل بنيامين وحده إلى يوسف في خلوةٍ من سائر إخوته (6) .
وقوله تعالى : {مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا } [يوسف : 68] يعني : إنّ هذا التدبير الذي قام به يعقوب لم يكن يُغيّر من المصلحة التي رعاها الله بشأنه ، ولكن كانت تلك بُغية أملٍ في نفس يعقوب ، قضاها الله رعايةً لجانبه العزيز على الله .
وممّا يُبعّد إرادة إصابة العين ـ إضافة على ما ذكرنا ـ أنّ التحرّز من ذلك لا يتوقّف على الدخول من أبوابٍ متفرّقة ، بل يكفي الدخول متعاقبين وفي فترات ، ثُمّ إنّهم كانوا يدخلون مصر في جمعٍ غفيرٍ من رِفقة القافلة الحاشدة بالأحمال والأثقال ، فكيف يَعرف الناس أنّ هؤلاء إخوة مِن أبٍ واحد ؟
وكذا قوله تعالى : {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ....} [القلم : 51].
الزَلَق : الزلّة ، وأَزلقه : أزلّه ونحّاه عن مكانه ، والمَزلق : المكان الذي يَنزلق عليه ولا يمكن الثبات عليه .
والإزلاق بالأبصار ، تَحديق النظر إليه نظر ساخط شديد السُخط بحيث يكون مُرعباً يُوجب الوحشة والتراجع عمّا هو فيه خوفاً من إيقاع الأذى به .
و( إنْ ) مخفّفة من المثقلة ، أي كاد أنْ يزلّوك عن موضعك بشدّة السُخط والإرعاب والإرهاب ، البادي ذلك من تحديق نظرهم المُغضب إليك .
أي إنّهم لشدّة عداوتهم وبغضائهم ينظرون إليك نظراً شَزراً (7) حتّى ليكادون يزلّون قدمك بغضاً فتصدع حين سمعوك تتلو كتاب الله وتنبذ أصنامهم (8) .
وهذا نظير قوله تعالى : {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} [الإسراء : 76] .
يقال : فزّه واستفزّه أي أزعجه .
فهذه النظرات الشَّزرة تكاد تؤثّر في موقف الرسول الصَلب فتجعله يَزلّ ويزلق ويفقد توازنه وثباته على الأمر ، وهو تعبير فائق عمّا تَحمِله هذه النظرات العدائيّة من غيظٍ وحنقٍ وشرٍّ ونقمةٍ وضغن وحُمّى وسمّ (لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) ، مصحوبة هذه النظرات المسمومة المحمومة بالسبّ القبيح والشتم البذيء والافتراء الذميم ( وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ) (9) .
ويَدلّنا على عدم إرادة إصابة العين في هذه الآية الكريمة بالذات أنّ إصابة العين إنّما تكون عند الإعجاب بشيء لا عند التنفّر والانزجار ، والآية تصرّح بأنّهم كادوا يُزلِقونه لمّا سمعوا الذِكر ، ماقتينَ عليه نافرينَ منه ، فجعلوا يَسلقونه بالسِّباب والشتم ويَرمونه بالجنون ، فكيف والحال هذه يحسدونه فيُصيبونه بأعينهم ؟! الأمر الذي لا يلتئم وسياق الآية الكريمة .
قال الزجّاج : معنى الآية ، أنّهم ينظرون إليك عند تلاوة القرآن والدعاء إلى التوحيد نظر عداوةٍ وبغضٍ وإنكارٍ لِما يسمعونه وتعجّبٍ منه ، فيَكادون يصرعونك بحدّة نظرهم ويُزيلونك عن موضعك ، وهذا مُستعمل في الكلام ، يقولون : نظر إليَّ فلان نظراً يَكاد يصرعني ونظراً يكاد يأكلني فيه ، وتأويله كلّه أنّه نظر إليَّ نظراً لو أمكنه معه أكلي أو يصرعني لفعل (10) .
وهكذا قال الجبائي : إنّ القوم ما كانوا ينظرون إلى النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله ) نظر استحسان وإعجاب بل نظر مقتٍ ونقص (11) .
وهكذا قوله : {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } ـ في سورة الفلق ـ أي إذا حاول السعي وراء حسده لغرض إيقاع الأذى والضرر بالمحسود ، أي استعذ باللّه مِن شرّ الحاسد إذا حاول إنفاذ حسده ، بالسعي والجدّ في إزالة نعمة مَن يحسده ، فهو يعمل الحِيَل وينصب شباكه ؛ لإيقاع المحسود في الضرر والخسران ، وربّما بأدقّ الوسائل والذرائع ، وليس في الاستطاعة الوقوف على ما يُدبّره مِن مكائد إلاّ أنْ يُستعان عليه بربّ الفلق أي مُسبِّب الفرج والخلاص مِن كيد الكائدين ، والإحباط من مساعيهم الخبيثة (12) .
نظرة فاحصة عن إصابة العين
أمّا الجهة الأُخرى ـ وهو البحث عن إصابة العين ومدى تأثيرها السيئ في النفوس والأموال ـ فقد شاع الإشفاق منها في أوساط بدائيّة وربّما في أوساط متحضّرة أيضاً ، وفي ذلك نوع من الاعتراف بحقيقتِهِ إجمالياً ، وربّما علّلوه بتعاليل تبدو طبيعيّة ترجع إلى نفس العاين ، قالوا : هي تَشعشُعات تَمَوجيّة تنبعث من عين الرائي الذي أعجبه شيء على أثر انفعاله النفسي الخاصّ والأكثر إذا كان عن حسدٍ خبيث ، وربّما من غير شعور بهذا الانفعال النفسي المفاجئ في غالب الناس ، وهي خاصّية غريبة قد توجد شديدة في البعض وخفيفة في الآخرين .
وهذه التَشعشُعات السامّة تشبه التيّارات الكهربائيّة تؤثّر في المُتكهرب بها تأثيراً بالفعل ، الأمر الذي يكون طبيعياً وليس شيئاً خارقاً ، وإن كان لم يُعلم كُنهُها ولا عُرفت حدودها ومشخّصاتها ، ولا إمكان مقابلتها مقابلة علميّة فيما سوى الدعاء والصدقة والتوكّل على اللّه تعالى .
قال الشيخ ابن سينا : إنّ لبعض النفوس تأثيراً في الخارج من بدنه بتعلّق روحاني كتعلّقه ببدنه (13) .
وقال أبو عثمان الجاحظ : لا يُنكر أنْ ينفصل من العين الصائبة إلى الشيء المُستَحسَن أجزاء لطيفة متّصلة به وتؤثّر فيه ، فيكون هذا المعنى خاصّية في بعض الأعيُن كالخواصّ للأشياء (14) .
قال ـ في كتاب الحيوان بصدد التحرّز من أعين ذوي الشره والحِرص ونفوسهم ـ : كان علماء الفُرس والهند وأطبّاء اليونان ودُهاة العرب وأهل التجربة من نازلة الأمصار وحذّاق المتكلّمين يَكرهون الأكل بين يدي السباع ، يَخافون نفوسَها وعيونَها ؛ للّذي فيها من الشَرَه والحرص والطلب والكَلَب ، لِما يتحلّل عند ذلك من أجوافها من البخار الرديء ، وينفصل من عيونها من الأُمور المفسدة ، ما إذا خالطت طبائع الإنسان نقضته ؛ ولذلك كانوا يكرهون قيام الخدم بالمذابّ ( مُطرِدة الذُّباب ) والأشربة على رؤوسهم وهم يأكلون ، مخافة النفس والعين ، وكانوا يأمرون بإشباعهم قبل أنْ يأكلوا ، وكانوا يقولون في السنّور والكلب إما أنْ تَطرده قبل أن تأكل ، وإمّا أنْ تشغله بشيء يأكله ولو بعَظمٍ يُطرح له .
قال : ورأيت بعض الحكماء وقد سقطت من يده لقُمة ، فرفع رأسه فإذا عينُ غلامٍ تُحدّق نحو لقُمته ، وهو يزدرد ريقه لتحلّب فمه من الشهوة ، وكان ذلك الحكيم جيّد اللقم طيّب الطعام ، ويضيّق على غلمائه .
وقالت الحكماء : إنّ نفوس السِّباع وأعينها في هذا الباب أردأ وأخبث لفرط شَرَهِها وشرّها ، قال الجاحظ : بين هذا المعنى وبين قولهم في إصابة العين الشيء العجيب المستحسن شِركةً وقرابةً ، ذلك أنّهم قالوا : قد رأينا أُناساً يُنسب إليهم ذلك ، ورأيناهم وفيهم من إصابة العين مقدار مِن العدد ، لا نستطيع أن نجعل ذلك النسق من باب الاتفاق ، وليس إلى ردّ الخبر ( العين حقّ ) سبيل ، لتواتره وترادفه ؛ ولأنّ العيان قد حقّقه والتجربة قد ضُمّت إليه .
قالوا : ولولا فاصل ينفصل من عين الرائي المُعجَب إلى الشيء المُعجَب به ـ حتّى يكون ذلك الداخل عليه هو الناقض لقُواه ـ لَما جاز أنْ يَلقى المصاب بالعين مكروهاً مِن قِبَل العاين ، مِن غير تماسّ ولا تصادم ولا رابط يربط أحدهما بالآخر .
قال الأصمعي : رأيتُ رجلاً عَيوناً ( الشديد الإصابة بالعين ) كان يَذكر عن نفسه أنّه إذا أعجبه الشيء وَجَد حرارةً تخرج من عينه (15) .
وأضاف الجاحظ ـ ردّاً على مَن زعم أن الاعتراف بصحّة إصابة العين ينافي التوحيد ـ : أنّ الاعتراف بالطبائع اعترافُ بسُنّة الله الجارية في الخَلق والتدبير ، وليس أمراً خارجاً عن طَوع إرادته تعالى ، قال : ومَن زَعم أنّ التوحيد لا يَصحّ إلاّ بإبطال حقائق الطبائع فقد حَمَلَ عجزَه على الكلام في التوحيد ، وإنّما يأنس منك المُلحِد إذا لم يدعك التوفّر على التوحيد إلى بخس حقوق الطبائع ؛ لأنّ في رفع أعمالها رفع أعيانها ، وإذا كانت الأعيان هي الدالّة على اللّه فرفعت الدليل فقد أبطلت المدلول عليه (16) .
وللسيّد الشريف الرضي ( قدس سرّه ) كلام لطيف عند شرحه لقول النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله ) : ( العين حقّ تَستَنزل الحالقَ ) (17) ، قال : وهذا مجاز ، والمراد أنّ الإصابة بالعين مِن قوّة تأثيرها وتحقّق أفاعيلها كأنّها تستهبط العالي من ارتفاعه ، وتَستَقلِقُ ( أي تُزحزح ) الثابت بعد استقراره ، والحالق ، المكان المرتفع من الجبل وغيره ، فجعل عليه الصلاة والسلام العين كأنّها تحطّ ذروة الجبل مِن شدّة بطشها وحدّة أَخذها .
وقد تناصرت ( تضافرت ) الأخبار بأنّ الإصابة بالعين حقّ (18) ، والذي يقوله أصحابنا : إنّ اللّه سبحانه يفعل المصالح بعباده على حسب ما يَعلمه مِن الصلاح لهم في تلك الأفعال التي يفعلها والأَقدار التي يُقدّرها ، وإذا تقرّرت هذه القاعدة ، فغير ممتنع أنْ يكون تغييره تعالى نعمة زيدٍ مصلحةً لعمروٍ ، وإذا كان تعالى يعلم من حال عمروٍ أنّه لو لم يَسلب زيداً نعمته ويَخفض منزلته ، أقبل على الدنيا بوجهه ، ونأى عن الآخرة بعِطفه ، وأقدم على المغاوي وارتكس في المهاوي ، وإذا سَلبَ سبحانه نعمةَ زيدٍ للعلّة الّتي ذكرناها عوّضه عنها وأعطاه بدلاً منها عاجلاً أو آجلاً ، وإذا كان ذلك كما قلنا ـ وقد رُوي عنه ( صلّى اللّه عليه وآله ) ما يدلّ على أنّ الشيء إذا عَظُم في صدور العباد وضع اللّه قَدْرَه وصغّر أمره ـ (19) لم يُنكر تغيير حال بعض الأشياء عند نظر بعض الناظرين إليه واستحسانه له وعِظَمِه في صدره وفخامته في عينه ، كما رُوي أنّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) قال ـ لمّا سُبِقَت ناقَتُه العَضباء (20) وكانت إذا سوبق بها لم تُسبَق ـ : ( ما رَفَعَ العبادُ من شيء إلاّ وضع اللّه منه ) (21) .
فيمكن أنْ يتأوّل قوله عليه الصلاة والسلام : ( العينُ حقّ ) على هذا الوجه ، ويجوز أنْ يكون ما أَمر به المستحسن للشيء عند رؤيته له من إعاذته باللّه والصلاة على رسول اللّه (22) قائماً في المصلحة مقام تغيير حالة الشيء المستحسن ، فلا تغيّر عند ذلك ؛ لأنّ الرائي قد أظهر الرجوع إلى اللّه سبحانه والإخبات له ، وأعاذ ذلك المرئي به ، فكأنّه غير راكنٍ إلى الدنيا ولا مغترٌّ بها ولا واثقٌ بما يرى عليه أحوال أهلها .
قال : ولعمرو بن بحر الجاحظ في الإصابة بالعين مذهبٌ انفرد به ، وذلك أنّه يقول : إنّه لا يُنكر أن ينفصل من العين الصائبة إلى الشيء المستحسن أجزاءٌ لطيفة فتؤثّر فيه وتَجني عليه ، ويكون هذا المعنى خاصّاً ببعض الأَعيُن كالخواصّ في الأشياء ، قال : وعلى هذا القول اعتراضات طويلة وفيه مطاعن كثيرة ... (23)
وهذا الكلام نقلناه بطوله لما فيه مِن فوائد جمّة وتنبيهٌ على أنّ مِن حِكمته تعالى القيام بمصالح العباد ، فربّما يحطّ من هيمنة المعيون كي لا يطغى العاين فيَخرج عن حدّه ، ثُمّ إنّه تعالى يُعوّض المعيون بما يسدّ خلّة الضرر الوارد به ، وقد يكون ذلك في مصلحة المعيون لتكون كفّارةً لِما فَرَط منه من الغلوّ أو التفريط بشأن العاين ، لكن هذا لا ينافي ما علّل به ابن سينا أو الجاحظ في بيان السبب الطبيعي الواقع تحت إرادة اللّه الحكيمة .
وهكذا ذهب المتأخّرون في بيان التعليل الطبيعي لإصابة العين وِفق ما أودع اللّه من خصائص في طبيعة الأشياء .
قال سيّد قطب : والحسد انفعالٌ نفسي إزاء نعمة اللّه على بعض عباده مع تمنّي زوالها ، وسواء أَتبَع الحاسد هذا الانفعال بسعي منه لإزالة النعمة تحت تأثير الحقد والغيظ ، أو وَقَف عند حدّ الانفعال النفسي ، فإنّ شرّاً يمكن أنْ يُعقّب هذا الانفعال .
قال : ونحن مضطرّون أنْ نطامن من حدّة النفي لِما لا نعرف من أسرار هذا الوجود وأسرار النفس البشريّة وأسرار هذا الجهاز الإنساني ، فهنالك وقائع كثيرة تَصدر عن هذه الأسرار ، ولا نملك لها حتّى اليوم تعليلاً ، هنالك مثلاً التخاطر على البُعد ، وكذلك التنويم المغناطيسي وقد أصبح الآن موضعاً للتجربة المتكرّرة المثبتة ، وهو مجهول السرّ والكيفيّة ، وغير التخاطر والتنويم كثير من أسرار الوجود وأسرار النفس وأسرار هذا الجهاز الإنساني .
فإذا حَسَد الحاسدُ ووجّه انفعالاً نفسيّاً معيّناً إلى المحسود فلا سبيل لنفي أثر هذا التوجيه لمجرّد أنّ ما لدينا من العلم وأدوات الاختبار لا تصل إلى سرّ هذا الأثر وكيفيّته ، فنحن لا ندري إلاّ القليل في هذا الميدان ، وهذا القليل يُكشَفُ لنا عنه مُصادفةً في الغالب ، ثُمّ يستقرّ واقعةً بعد ذلك ، فهنا شرٌّ يُستعاذ منه باللّه (24) .
_____________________
(1) مجمع البيان : ج 5 ، ص 249 .
(2) مجمع البيان ، ج 10 ، ص 341 .
(3) مجمع البيان ، ج 10 ، ص 569 .
(4) معاني الأخبار للصدوق ، ص 216 ، طبع النجف .
(5) راجع : تفسير المراغي ، ج 13 ، ص 16 .
(6) راجع : التفسير الكبير ، ج 18 ، ص 174 ، والدرّ المنثور ، ج 4 ، ص 557 .
(7) يقال : شَزَر إليه أي نظر إليه بجانب عينه مع إعراضٍ أو غضب .
(8) راجع : تفسير المراغي ، ج29 ، ص47 .
(9) في ظِلال القرآن ، المجلّد 8 ، ص243 ، ج29 ، ص67 .
(10) مجمع البيان ، ج10 ، ص341 .
(11) بحار الأنوار ، ج60 ، ص39 .
(12) راجع : تفسير المراغي ، ج30 ، ص268 ـ 269 ، وتفسير جزء عمّ للشيخ مُحمّد عَبده ، جزء عمّ ، ص183 ـ 184 .
(13) في النمط الأخير من كتاب الإشارات ( هامش مجمع البيان ، ج5 ، ص 249 ) .
(14) مجمع البيان ، ج5 ، ص249 ، تفسير سورة يوسف ، ولعلّه أخذه من الشريف الرضي في كتابه المجازات النبويّة ، ص369 ، بتغيير يسير سوف ننقله.
(15) الحيوان للجاحظ ، ج2 ، ص264 ـ 269 ، تحقيق يحيى الشامي ، مع بعض التعديل حسب نقل ابن أبي الحديد في شرح النهج ، ج19 ، ص376 ـ 377 .
(16) المصدر : ص266 .
(17) حديث متواتر ، رواه الفريقان بعدّة أسانيد وفي مختلف الألفاظ والعبارات ، راجع : مسند أحمد ، ج1 ، ص274 ، وسائر المسانيد الستّ : وبحار الأنوار ، ج60 ، ص25 ـ 26 ، وسائر الكتب الحديثيّة المعتبرة .
(18) وقد عقد العلاّمة المجلسي في بحاره باباً في ذلك ، راجع : ج60 ، كتاب السماء والعالم .
(19) إشارة إلى ما رواه أحمد في مسنده الآتي وفي النهج : ( ما قال الناس لشيء طوبى له إلاّ وقد خبأَ الدهر له يومَ سوء ) .
قصار الحِكم ، رقم 286 ، ص526 . وفي نوادر الراوندي ، ص128 : ( ما رفع الناسُ أبصارَهم إلى شيء إلاّ وَضَعه اللّه ) وراجع : بحار الأنوار ، ج60 ، ص27 .
(20) العَضباء : الناقة المشقوقة الأُذُن ، وكان هذا الاسم لقباً لناقة رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) ولم تكن مشقوقة الأُذُن ، قال الزمخشري : ناقة عَضباء ، قصيرة اليد .
(21) روى أحمد في مسنده ، ج3 ، ص103 و253 وغيره أنّ رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) كانت له ناقة تُسمّى العَضباء ، وكانت لا تُسبَق في مسابقةٍ ، حتّى جاء أعرابيّ على قعودٍ ( ما اُعدّ للحمل والركوب من الدوابّ ومن الإبل ما تجاوز السنتين ولم يبلغ الستّ ) فسبقها ، فشُقّ ذلك على المسلمين ، فلمّا رأى ما في وجوههم قال : ( إنّ حقّاً على اللّه أنْ لا يرفع شيئاً في الدنيا إلاّ وضعه ) ، والحديث منقول في الكتب بألفاظ مختلفة .
(22) قال رسول الله ( صلّى اللّه عليه وآله ) : ( مَن أَعجَبَه من أخيه شيءٌ فليذكر اللّه في ذلك ، فإنّه إذا ذُكر اللّه لم يضرّه ) ، والأحاديث بهذا المعنى كثيرة ، راجع : بحار الأنوار ، ج60 ، ص25 .
(23) المجازات النبويّة للسيّد الشريف الرضي ، ص367 ـ 369 ، رقم 285 .
(24) في ظِلال القرآن ، المجلد 8 ، ص719 ـ 711 ، ج30 ، ص292 ـ 293 .
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|