وقع الدارسون في اختلاف كبير حول تحديد الاصل الدي بدأت الموجات السَّاميـة تخرج منه تباعا، قيل ان موطنهم منطقة ارمينية وهذا له صلة بقصة الطوفان، وقيل شمال أفريقيا وخرجوا إلى آسيا عن طريق السويس، وقيل بلاد الحبشة ومنها انتشروا عن طريق باب المندب، وقيل العراق وهذا مذهب جويدي، وقيل بلاد الشام حيث موطن الكنعانيين، وقيل بلاد الحجاز ونجد واليمن وهو مذهب رينان وبروكلمان وغيرهما⁽¹⁾ لان ثمة اسباباً تؤيد هذا المذهب منها :

ان هذا الموطن هو المكان الدي بدأت منه الهجرات السَّاميـة الأولى كالبابليين والأشوريين وان أول هجر إلى الحبشة من اليمن فضلا عن اشتراك الشعوب السَّاميـة بصفات لغوية واحدة ترجع جميعا إلى المحسوسات المادية التي لا تنشا الا في مواطن صحراوية قليلة الظواهر الطبيعية فقيرة المناخ وهذا ما يتمثل بالجزير العربيَّـة كونها الموطن الأصلي لتلك الشعوب⁽²⁾.

ص55

لقد ثبت تاريخياً ان هذه الموطن كان كثيف السكان والخيرات خصبة الارض لكنه اصيب بتغيرات مناخية وجيولوجية أدت إلى تركه والنزوح عنه إلى منطقة بلاد الرافدين أو ما يعرف بالجزيرة الفراتية، اذ وجد كثير من المستوطنات التي تعود إلى العصر الأكدى، وهذا ما يتسق و تاريخ نزوح اول جماعة عروبية مكانها الذي كانت فيه⁽³⁾ .

وتتكون هذه البيئة الجغرافية من بيئات صغيرة ذات موارد مياه محدودة يسهل التحكم فيها، وقيل لصغر تلك المستوطنات من حيث المساحة جعلها عرضة لان تضيق بسكانها بعد مدة من الزمن ما يستوجب خروج جماعات منها على شكل هجرات بشرية قصدت مناطق السهول من ارض العراق وسوريا وفلسطين⁽⁴⁾ .

 والملاحظ على ان هذه الشعوب تمتلك قدرا من الحضارة والرقي وهذا الامر قد تمثل بما عثر عليه من نقوش ومسكوكات وحلي، فضلا عن كون عائلتها اللغوية تنتمي إلى اصل لغوي⁽⁵⁾ ، إذ تشترك اللغات (العروبية) السَّاميـة بخصائص وصفات تدل على وحدة المنشأ والتناسل ولكن أي واحدة منهن لا تدل على انها الاصل لجميع اللغات السَّاميـة.

وحاول الباحثون المُستشرقون الوصول إلى معرفة اقدم لغة سامية فكانت ثمة

ص56

خلافات يرجع بعضها إلى عوامل عصبية و أخرى إلى عوامل علمية صرفة، فاليهود يعدون العبرية اقدم للغة سامية، وهذا الامر قد اشرنا اليه في سبب تسمية تلك اللغات باللغات السَّاميـة، ويعتقد اخرون ان الاكدية هي الاقدم وهذا مرتبط بالتسلسل والتوزيع الجغرافي لهجرات تلك الشُّعوب ، على حين تنقص الذَّاهبين هذا المَذهب دلائل كثيرة أهمها  :

قلة ما ورد من نصوصٍ آشوريةٍ أو بابليةٍ واختلاط الكثير منها بكلمات سومرية يتعذر معرفة قدمها، كون بعضهم يرى ان اللغة السومرية هي اللغة الاقدم والابعد زمنا عن الاكدية، كون الاخيرة قد حوت جملة من الكلمات السومرية في معجمها اللغوي.

وقد حاول آخرون أن يجمعوا الأمور المُشتركة بين اللغات السَّاميـة في البنية والتَّنظيم والأصوات ليتخذوا منها صورة للغة السَّاميـة الأولى ، غير أنَّهم قد فاتهم أن هذه اللغات جميعا قد مرت بمراحل من التَّطور فتركت أشياء واستحدثت اشياء وتفاعلت مع غيرها من اللغات المجاورة فأخدت واعطت جرياً مع القوانين الطَّبيعية للغة الانسانية.

ص57

__________________

(1) ينظر : المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: 1/ 229-244 .

(2) ينظر : المدخل الى دراسة اللغات السامية : 4 وما بعدها .

(3) ينظر : المصدر نفسه : 7 .

(4) المصدر نفسه : 9 .

(5) روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال : "خمسة أنبياء من العرب وهم : محمد وإسماعيل وشعيب وصالح وهود"، في رواية عن العرب القدماء : انهم عرفوا بالعرب لأن لسانهم عربي ، هذه الرواية تدل على أن اللسان العربي القديم ، وهؤلاء الأنبياء عرب وكانوا يسكنون بلاد العرب . ونلحظ أن سلسلة الرجال بين سام وهود : قيل إن هود (عليه السلام) . هو ابن شالح بن أرفخشد بن سام . وعن ابن عباس : أنّ هودا أول من نطق بالعربية ، مساكن قوم هود ، كانت مساكن عاد أرض الأحقاف أي في شمال الربع الخالي ، وهذا ما يتسق مع ما ذهب إليه بعض الباحثين في تحديد البيئة الجغرافية التي انطلقت منها الجماعات السامية فضلا عن التماثل اللغوي الذي يرجع الى أصل لغوي هو أقرب الى اللسان العربي .