أقرأ أيضاً
التاريخ: 10-10-2014
1540
التاريخ: 6-03-2015
2536
التاريخ: 2024-10-03
137
التاريخ: 2024-10-03
134
|
يتلخّص القول في تفسير حديث «من فسّر القرآن برأيه...» : أنّ الشيء المذموم أو الممنوع شرعاً ، الذي استهدفه هذا الحديث ، أمران :
أحدهما : أن يعمد قوم إلى آية قرآنيّة ، فيحاولوا تطبيقها على ما قصدوه من رأي أو عقيدة ، أو مذهب أو مسلك ، تبريراً لما اختاروه في هذا السبيل ، أو تمويهاً على العامّة في تحميل مذاهبهم أو عقائدهم ، تعبيراً على البسطاء الضعفاء.
وهذا قد جعل القرآن وسيلة لإنجاح مقصوده بالذات ، ولم يهدف تفسير القرآن في شيء. وهذا هو الذي عُنِيَ بقوله (عليه السلام) : «فقد خَرَّ بوجهه أبعد من السماء» ، أو «فليتبوّأ مقعده من النار».
وثانيهما : الاستبداد بالرأي في تفسير القرآن ، محايداً طريقة العقلاء في فهم معاني الكلام ، ولاسيّما كلامه تعالى. فإنّ للوصول إلى مراده تعالى من كلامه وسائلَ وطرقاً ، منها : مراجعة كلام السلف ، والوقوف على الآثار الواردة حول الآيات ، وملاحظة أسباب النزول ، وغير ذلك من شرائط يجب توفّرها في مفسّر القرآن الكريم. فإغفال ذلك كلّه ، والاعتماد على الفهم الخاصّ ، مخالف لطريقة السلف والخلف في هذا الباب. ومن استبدّ برأيه هلك ، ومن قال على الله بغير علم فقد ضلّ سواء السبيل ، ومن ثمّ فإنّه قد أخطأ وإن أصاب الواقع ـ فرضاً أو صدفةً ـ لأنّه أخطأ الطريق ، وسلك غير مسلكه القويم!
قال سيّدنا الأستاذ الإمام الخوئي ـ طاب ثراه ـ : «إنّ الأخذ بظاهر اللفظ ، مستنداً إلى قواعد وأصول يتداولها العرف في محاوراتهم ، ليس من التفسير بالرأي ، وإنّما هو تفسير بحسب ما يفهمه العرف ، وبحسب ما تدلّ عليه القرائن المتّصلة والمنفصلة ، وإلى ذلك أشار الإمام جعفر بن محمّـد الصادق (عليه السلام) بقوله : «إنّما هلك الناس في المتشابه; لأنّهم لم يقفوا على معناه ، ولم يعرفوا حقيقته ، فوضعوا له تأويلا من عند أنفسهم بآرائهم ، واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء...» (1).
قال : «ويحتمل أنّ معنى التفسير بالرأي ، الاستقلال في الفتوى من غير مراجعة الأئمّة (عليهم السلام) مع أنّهم قرناءُ الكتاب في وجوب التمسّك ، ولزوم الانتهاء إليهم. فإذا عمل الإنسان بالعموم أو الإطلاق الوارد في الكتاب ، ولم يأخذ التخصيص أو التقييد الوارد عن الأئمّة (عليهم السلام) كان هذا من التفسير بالرأي.
وعلى الجملة ، حمل اللفظ على ظاهره بعد الفحص عن القرائن المتّصلة والمنفصلة ، من الكتاب والسنّة أو الدليل العقلي ، لا يُعدّ من التفسير بالرأي ، بل ولا من التفسير نفسه» (2).
قلت : وعبارته الأخيرة إشارة إلى أنّ الأخذ بظاهر اللفظ ، مستنداً إلى دليل الوضع أو العموم أو الإطلاق ، أو قرائن حاليّة أو مقاليّة ونحو ذلك ، لا يكون تفسيراً; إذ لا تعقيد في اللفظ حتّى يكون حلّه تفسيراً ، وإنّما هو جري على المتعارف المعهود ، في متفاهم الأعراف.
إذ قد عرفت أنّ التفسير ، هو : كشف القناع عن اللفظ المشكل ، ولا إشكال حيث وجود أصالة الحقيقة أو أصالة الإطلاق أو العموم ، أو غيرُها من أُصول لفظيّة معهودة.
نعم ، إذا وقع هناك إشكال في اللفظ; بحيث أبهم المعنى إبهاماً ، وذلك لأسباب وعوامل قد تدعو إبهاماً أو إجمالا في لفظ القرآن ، فيخفى المراد خفاءً في ظاهر التعبير ، فعند ذلك تقع الحاجة إلى التفسير ورفع هذا التعقيد.
والتفسير ـ في هكذا موارد ـ لا يمكن بمجرّد اللجوء إلى تلكم الأُصول المقرَّرة لكشف مرادات المتكلّمين حسب المتعارف; إذ له طرق ووسائل خاصّة غير ما يتعارفه العقلاء في فهم معاني الكلام العادي ، على ما يأتي في كلام السيّد الطباطبائي.
والتفسير بالرأي المذموم عقلا والممنوع شرعاً ، إنّما يعني هكذا موارد متشابهة أو متوغّلة في الإبهام ، فلا رابط ـ ظاهراً ـ لما ذكره سيّدنا الأُستاذ ، مع موضوع البحث ، وعبارته الأخيرة ربّما تشي بذلك.
وقال سيّدنا العلاّمة الطباطبائي : الإضافة ـ في قوله : برأيه ـ تفيد معنى الاختصاص والانفراد والاستقلال ، بأن يستقلّ المفسّر في تفسير القرآن بما عنده من الأسباب في فهم الكلام العربيّ ، فيقيس كلامه تعالى بكلام الناس ، فإنّ قطعةً من الكلام من أيّ متكلّم إذا ورد علينا ، لم نلبث دون أن نُعمل فيه القواعد المعمولة في كشف المراد الكلامي ، ونحكم بذلك أنّه أراد كذا ، كما نجري عليه في الأقارير والشهادات وغيرهما. كلّ ذلك لكون بياننا مبنيّاً على ما نعلمه من اللّغة ، ونعهده من مصاديق الكلمات ، حقيقة ومجازاً.
والبيان القرآنيّ غير جار هذا المجرى ، بل هو كلام موصول بعضها بعض ، في حين أنّه مفصول ، ينطق بعضُه ببعض ، ويشهد بعضُه على بعض ، كما قاله عليّ (عليه السلام) (3).
فلا يكفي ما يتحصّل من آية واحدة بإعمال القواعد المقرَّرة ، دون أن يتعاهد جميع الآيات المناسبة لها ، ويجتهد في التدبّر فيها.
فالتفسير بالرأي المنهيّ عنه أمر راجع إلى طريق الكشف دون المنكشف. فالنهي إنّما هو عن تفهّم كلامه تعالى على نحو ما يُتفهّم به كلام غيره ، حتّى ولو صادف الواقع; إذ على فرض الإصابة يكون الخطأ في الطريق.
قال : ويؤيّد هذا المعنى ، ما كان عليه الأمر في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) فإنّ القرآن لم يكن مؤلّفاً بعدُ ، ولم يكن منه إلاّ سور أو آيات متفرّقة في أيدي الناس ، فكان في تفسير كلّ قطعة قطعة منه خطر الوقوع في خلاف المراد.
قال : والمحصّل أنّ المنهيّ عنه إنّما هو الاستقلال في تفسير القرآن ، واعتماد المفسّر على نفسه من غير رجوع إلى غيره ، ولازمه وجوب الاستمداد من الغير بالرجوع إليه.
قال : وهذا الغير ـ لا محالة ـ إمّا هو الكتاب أو السنّة. وكونه هي السنّة ، ينافي كون القرآن هو المرجع في تبيان كلّ شيء ، وكذا السنّة الآمرة بالرجوع إلى القرآن عند التباس الأُمور ، وعرض الحديث عليه لتمييز صحيحه عن سقيمه ، فلم يبق للمراجعة والاستمداد في تفسير القرآن سوى نفس القرآن. فإنّ القرآن يفسّر بعضُه بعضاً ، وينطق بعضُه ببعض ، ويشهد بعضُه على بعض (4).
وهذا الذي ذكره سيّدنا العلاّمة هنا تحقيق عريق بشأن طريقة فهم معاني كلامه تعالى.
قال في مقدّمة التفسير : إنّ الاتّكاء على الأنس والعادة في فهم معاني الآيات ، يشوّش على الفاهم سبيله إلى إدراك مقاصد القرآن; إذ كلامه تعالى ناشئ من صميم ذاته المقدّسة ، التي لا مثيل لها ولا نظير {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى : 11] ، {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [الأنعام : 103] ، {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون : 91].
وهذا هو الذي دعا بالنابهين أن لا يقتصروا على الفهم المتعارف لمعاني الآيات الكريمة ، وأجازوا لأنفسهم الاعتماد ـ لإدراك حقائق القرآن ـ على البحث والنظر والاجتهاد.
وذلك على وجهين : إمّا بحثاً علميّاً أو فلسفيّاً أو غيرهما ، للوصول إلى مراده تعالى في آية من الآيات; وذلك بعرض الآية على ما توصّل إليه العلم أو الفلسفة من نظريّات أو فرضيّات مقطوع بها ، وربّما المظنون منها ظنّاً راجحاً ، وهذه طريقة يرفضها ملامح القرآن الكريم.
وإمّا بمراجعة ذات القرآن ، واستيضاح فحوى آية من نظيرتها ، وبالتدبّر في نفس القرآن الكريم; فإنّ القرآن ينطق بعضُه ببعض ، ويشهد بعضُه على بعض ، كما قال عليّ (عليه السلام).
قال تعالى : {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل : 89] ، وحاشا القرآن أن يكون تبياناً لكلّ شيء ولا يكون تبياناً لنفسه ، وقد نزل القرآن ليكون هدىً للناس ونوراً مبيناً وبيّنةً وفُرقاناً ، فكيف لا يكون هادياً للناس إلى معالمه ، ومرشداً لهم على دلائله؟! وقد قال تعالى : {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت : 69] ، وأيّ جهاد أعظم من بذل الجهد في سبيل فهم كتاب الله ، واستنباط معانيه واستخراج لآلئه. نعم ، القرآن هو أهدى سبيل إلى نفسه ، لا شيء أهدى منه إليه. وهذه هي الطريقة التي سلكها النبيّ وعترته الأطهار صلوات الله عليهم في تفسير القرآن والكشف عن حقائقه ـ على ما وصل إلينا من دلائلهم في التفسير ـ ولا يوجد مورد واحد استندوا لفهم آية ، على حجّة نظريّة عقليّة أو فرضيّة علميّة ، ونحو ذلك (5).
وتوضيحاً لما أفاده سيّدنا العلاّمة في هذا المجال ، نعرض ما يلي :
كان للبيان القرآني أُسلوبه الخاصّ في التعبير والأداء ، ممتازاً على سائر الأساليب ، ومختلفاً عن سائر البيان; ممّا يبدو طبيعيّاً ، شأن كلّ صاحب فنّ جديد كان قد أتى بشيء بديع. ومن ثمّ كان للقرآن لغته الخاصّة به ، ولسانه الذي يتكلّم به ، ولهجته التي يلهج بها ، ممتازةً عن سائر اللهجات.
نعم ، إنّ للقرآن مصطلحات في تعابيره واستهداف مراميه ، كانت تخصّه ، ولا تُعرف مصطلحاته إلاّ من قبل نفسه ، شأن كلّ صاحب اصطلاح.
ومن المعلوم أنّ الوقوف على مصطلحات أيّ فنّ من الفنون ، لا يمكن بالرجوع إلى اللغة وقواعدها ، ولا إلى الأُصول المقرّرة لفهم الكلام في الأعراف; لأنّها أعراف عامّة ، وهذا عُرف خاصّ. فمن رام الوقوف على مصطلحات علم النحو ـ مثلا ـ فلابدّ من الرجوع إلى النحاة أنفسهم لا غيرهم ، وهكذا سائر العلوم والفنون من ذوي المصطلحات.
ومن ثَمَّ فإنّ القرآن هو الذي يُفسّر بعضه بعضاً ، ويَنْطِقُ بعضُه ببعض ، ويَشْهَدُ بعضُه على بعض.
نعم يختصّ ذلك بالتعابير ذوات الاصطلاح ، وليس في مطلق تعابيره التي جاءت وَفق العرف العامّ.
وبعبارة أُخرى : ليس كلّ تعابير القرآن ممّا لا يُفهم إلاّ من قِبَله ، إنّما تلك التعابير التي جاءت وَفق مصطلحه الخاصّ ، وكانت تحمل معاني غير معاني سائر الكلام. أمّا التي جاءت وَفق اللّغة أو العرف العامّ ، فطريق فهمها هي اللغة والأُصول المقرّرة عرفيّاً لفهم الكلام.
وبعبارة ثالثة : الحاجة إلى عرفان مصطلحات القرآن ، إنّما تكون في موارد التفسير; حيث الغموض والإبهام في ظاهر التعبير ، دون ترجمة الألفاظ والكلمات ، وإدراك مفاهيم الكلام وَفق الأعراف العامّة ، ممّا يعود إلى البحث عن حجيّة الظواهر ، فإنّها حجّة بلا كلام ، سواء في القرآن أم في غيره ، سواء بسواء.
وهذا غير المبحوث عنه هنا ، حيث خفاء المراد وراء ستار اللفظ ، المعبّر عنه بالبطن المختفي خلف الظهر. فالظهر لعامّة الناس حيث متفاهمهم ، ويكون حجّة لهم ومستنداً يستندون إليه في التكليف ، أمّا البطن فللخاصّة ممّن يتعمّقون في خفايا الأسرار ، ويستخرجون الخبايا من وراء الستار.
ومن ثمّ كان المطلوب من الأُمّة (العلماء والأئمّة) التفكّر في الآيات والتدبّر
فيها ، وتعقّلها ومعرفتها حقّ المعرفة ، قال تعالى : {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ} [النحل : 44]. وقال : {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى } [محمد : 24]. وقال : {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص : 29].
وقال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : «له ظهر وبطن ، فظاهره حكمةٌ وباطنه علم ، ظاهره أنيق وباطنه عميق ، لا تحصى عجائبه ولا تُبلى غرائبه ، فليجل جال بَصَرَهُ ، وليبلغ الصفة نظره ، فإنّ التفكّر حياة قلب البصير» (6).
قال العلاّمة الفيلسوف ابن رشد الأندلسي : «وقد سلك الشرع في تعاليمه وبرامجه الناجحة مسلكاً ينتفع به الجمهور ، ويخضع له العلماء. ومن ثمّ جاء بتعابير يفهمها كلّ من الصنفين : الجمهور يأخذون بظاهر المثال ، فيتصوّرون عن
الممثَّل له ما يشاكل الممثَّل به ، ويقتنعون بذلك. والعلماء يعرفون الحقيقة التي جاءت في طيّ المثال» (7).
وإليك بعض الأمثلة ، شاهداً لما ذكره سيّدنا العلاّمة :
قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [الأنفال : 24].
هذا خطاب عامّ يشمل كافّة الّذين آمنوا ، يدعوهم إلى الإيمان الصادق والاستجابة ـ عقيدةً وعملا ـ لدعوة الإسلام ، والاستسلام العامّ للشريعة الغرّاء; إذ في ذلك حياة القلب ، والطمأنينة في العيش ، والالتذاذ بنعمة الوجود.
أمّا الحائد عن طريقة الدين ، والمخالف لمنهاج الشريعة ، فإنّه في قلق من الحياة ، يعيش مضطرباً ، قد سلبت راحتَه كوارثُ الدهر ، يخشى مفاجئتها في كلّ لحظة وأوان.
وأمّا المتّكل على الله ، فهو آمن في الحياة ، يداوم مسيرته ، فارغ البال في كنفه تعالى {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ } [الطلاق : 3] ، {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد : 28].
هذا تفسير الدعوة إلى ما فيه الحياة ، ولعلّه ظاهر لا غبار عليه.
وأمّا قوله تعالى بعد ذلك : {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال : 24] فيعلوه غبار إبهام; إذ يبدو أنّه تهديد بأُولئك الحائدين عن جادّة الحقّ ، أن سوف يُجازَوْن بحيلولة بينهم وبين أنفسهم.
والسؤال : كيف هذه الحيلولة ، وما وجه كونها عقوبة لمن نبذ أحكام
الشريعة؟
وللإجابة على هذا السؤال وقع اختلاف عنيف بين أهل الجبر وأصحاب القول بالاختيار ، كما تناوشها كلّ من الأشاعرة وأهل الاعتزال ، كلٌّ يجرّ النار إلى قرصه ، كما اختلف أرباب التفسير على وجوه أوردناها في الجزء الثالث من التمهيد ، عند الكلام عن المتشابهات ، ضمن آيات الهداية والضلال برقم (80).
والذي رجحّناه في تأويل الآية ، هو معنىً غير ما ذكره جلّ المفسّرين ، استفدناه من مواضع من القرآن نفسه : إنّ هذه الحيلولة كناية عن إماتة القلب ، فلا يعي شيئاً بعد فقد الحياة.
لا تُعجِبَنَّ الجَهُولَ حُلَّتُهُ *** فذاك مَيْتٌ وَثَوْبُهُ الكَفَنُ
الإسلام دعوة إلى الحياة ، وفي رفضها رفض للحياة ، تلك الحياة المنبعثة عن إدراكات نبيلة ، والملهمة للإنسان شعوراً فيّاضاً يسعد به في الحياة ، ويُحظى بكرامته الإنسانيّة العليا.
أمّا إذا عاكس فطرته ، وأطاح بحظّه ، فإنّه سوف يشقى في الحياة ، ولم يزل يتخبّط في ظلمات غيّه وجهله {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة : 257].
فالإنسان التائه في ظلمات غيّه قد فقد شعوره ، وافتقد كرامته العليا في الحياة ، فهذا قد نسي نفسه وذُهل عن كونه إنساناً ، يحسب من نفسه موجوداً ذا حياة بهيميّة سفلى ، إنّما يسعى وراء نهمه وشبع بطنه ، لا هدف له في الحياة سواه.
وهذا التسافل في الحياة كانت نتيجة تساهله بشأن نفسه وإهمال جانب كرامته ، وهذا هو معنى قوله تعالى : {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ} [الأنعام : 110] ، قال تعالى : { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر : 19].
فإنّ نسيان النفس كناية عن الابتعاد عن معالم الإنسانيّة والشرف التليد {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف : 176].
وقال تعالى : {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة : 38].
اختلف الفقهاء في موضع القطع من يد السارق; حيث الإبهام في ذات اليد ، أنّها من الكتف أم من المرفق أم الساعد أم الكرسوع (طرف الزند) أم الأشاجع (أُصول الأصابع)؟
روى أبو النضر العيّاشي في تفسيره بالإسناد إلى زرقان صاحب ابن أبي داود ، قاضي القضاة ببغداد ، قال : أُتي بسارق إلى المعتصم وقد أقرّ بالسرقة ، فسأل الخليفة تطهيره بإقامة الحدّ ، فجمع الفقهاء يستفتيهم في إقامة حدّ السارق عليه ، وكان ممّن أُحضر الإمام محمّـد بن عليّ الجواد (عليه السلام) ، فسألهم عن موضع القطع.
فقال ابن أبي داود : من الكرسوع ، استناداً إلى آية التيمّم; حيث المراد من اليد في ضربتيه هو الكفّ ، ووافقه قوم. وقال آخرون : من المرفق ، استناداً إلى آية الوضوء.
فالتفت الخليفة إلى الإمام الجواد يستعلم رأيه ، فاستعفاه الإمام ، فأبى وأقسم عليه أن يخبره برأيه.
فقال (عليه السلام) : أمّا إذا أقسمت علَيّ بالله ، إنّي أقول : إنّهم أخطأوا فيه السنّة ، فإنّ القطع يجب أن يكون من مفصل أُصول الأصابع ، فيُترك الكفّ.
قال المعتصم : وما الحجّة في ذلك؟
قال الإمام : قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : السجود على سبعة أعضاء : الوجه واليدين والركبتين والرجلين ، فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق ، لم يبق له يدٌ يسجد عليها ، وقد قال الله تعالى : {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لله} يعني به هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [الجن : 18] ، وما كان لله لم يُقطع.
فأعجب المعتصم هذا الاستنتاج البديع ، وأمر بالقطع من الأشاجع (8).
انظر إلى هذه الالتفاتة الرقيقة ، يجعل من آية المساجد ، بتأويل ظاهرها (هي المعابد) إلى باطنها (الشمول لما يُسْجَدُ به ، أي يَتَحَقَّقُ به السُّجود) ، منضمّةً إلى كلام الرسول في بيان مواضع السجدة ، يجعل من ذلك كلّه دليلا على تفسير آية القطع وتعيين موضعه ، بهذا النمط البديع.
وقد استظهر (عليه السلام) من الآية أنّ راحة الكفّ ، وهي من مواضع السجود ، كانت لله ، فلا تشملها عقوبة الحدّ التي هي جزاء سيئة ، لاتحلّ فيما لا يعود إلى مرتكبها ، فإنّ راحة الكفّ موضع السجود لله!.
وللأُستاذ الذهبي ـ هنا ـ محاولة غريبة يجعل من التفسير بالرأي قسمين : قسماً جائزاً و ممدوحاً ، وآخر مذموماً غير جائز. وحاول تأويل حديث المنع إلى القسم المذموم.
قال : «والمراد بالرأي هنا الاجتهاد ، وعليه فالتفسير بالرأي عبارة عن تفسير القرآن بالاجتهاد ، بعد معرفة المفسّر لكلام العرب ومناحيهم في القول ، ومعرفته للألفاظ العربيّة ووجوه دلالتها ، واستعانته في ذلك بالشعر الجاهلي ، ووقوفه على أسباب النزول ، ومعرفته بالناسخ والمنسوخ من آيات القرآن ، وغير ذلك من الأدوات التي يحتاج إليها المفسّر».
قال : «واختلف العلماء قديماً في جواز تفسير القرآن بالرأي ، فقوم تشدّدوا في ذلك ولم يجيزوه ، وقوم كان موقفهم على العكس ، فلم يروا بأساً من أن يُفسّروا القرآن باجتهادهم ، والفريقان على طرفي نقيض فيما يبدو ، وكلّ يعزّز رأيه بالأدلّة والبراهين».
ثمّ جعل يسرد أدلّة لكلّ من الفريقين ، ويجيب عليها واحدة واحدة بإسهاب ، وأخيراً قال : «ولكن لو رجعنا إلى أدلّة الفريقين ، وحلّلنا أدلّتهم تحليلا دقيقاً; لظهر لنا أنّ الخلاف لفظيّ ، وأنّ الرأي قسمان : قسمٌ جار على موافقة كلام العرب ومناحيهم في القول ، مع موافقة الكتاب والسنّة ، ومراعاة سائر شروط التفسير ، وهذا القسم جائز لاشكّ فيه. وقسمٌ غير جار على قوانين العربيّة ، ولا موافقة للأدلّة الشرعيّة ، ولا مستوف لشرائط التفسير ، هذا هو مورد النهي ومحطّ الذمّ» (9).
قلت : أمّا تورّع بعض السلف عن القول في القرآن ، فلعدم ثقته بذات نفسه ، وضآلة معرفته بمعاني كلام الله. أمّا العلماء العارفون بمرامي الشريعة ، فكانوا يتصدّون التفسير عن جرأة علميّة وإحاطة شاملة لجوانب معاني القرآن.
وأمّا التفسير بالرأي فأمر وقع المنع منه على إطلاقه ، وليس على قسم منه ، كما زعمه هذا الأُستاذ.
والذي أوقعه في هذا الوهم ، أنّه حسب التفسير بالرأي هنا بمعنى الاجتهاد ، في مقابلة التفسير بالمأثور ، ولاشكّ من جواز الاجتهاد في استنباط معاني الآيات الكريمة إن وقع عن طريقه المألوف.
وبعد ، فقد ذكر الراغب الأصبهاني هنا شرائط يجب توفّرها في المفسّر ، حتّى لا يكون تفسيره تفسيراً بالرأي الممنوع شرعاً والممقوت عقلا ، نذكره بتفصيله ، فإنّ فيه الفائدة المتوخّاة في هذا الباب.
____________________
1 . وسائل الشيعة 27 : 201 باب صفات القاضي رقم 62 ، بحار الأنوار 9 : 12.
2 . البيان : 287 ـ 288.
3 . نهج البلاغة : 192 الخطبة 133.
4 . تفسير الميزان 3 : 77 ـ 79 ، وراجع : 1 : 10 أيضاً.
5 . تفسير الميزان 1 : 9 ـ 10.
6 . محمّد(صلى الله عليه وآله) ( 47 ) : 24.
7 . مقدّمة تفسير الميزان 1 : 10 ، الكافي الشريف 2 : 599.
7 . رسالة الكشف عن مناهج الأدلّة : 97.
8 . تفسير العياشي 1 : 319 ـ 320.
9 . التفسير والمفسّرون 1 : 255 و264.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|