عندما مات مازاران اقبل رؤساء الادارات على لويس الرابع عشر سائلين الى من يأتون ليتلقوا تعليماتهم، فأجاب ببساطة قاطعة «الي».

وهكذا بدأت مرحلة جديدة في تاريخ فرنسا باعتلاء لويس الرابع عشر العرش الفرنسي فظهرت اثار هذه المرحلة واضحة في تاريخ اوروبا السياسي طيلة نصف قرن من الزمن. فهذا الملك استفاد من دروس من سبقه حتى استطاع بعزيمة قوية ان يشغل مكان اثنين من أعظم سياسي ذلك العصر وهما ريشليو ومازاران. ألم تكن الملكية بالنسبة له حرفة عظيمة نبيلة فاخرة؟.

لقد أجمع المؤرخون على قوة شخصية لويس الرابع عشر ومثابرته على العمل وقدرته على استخدام الوزراء والموظفين الاكفاء مهما كانت هويتهم الاجتماعية فكان يصر على الاشراف على جميع أمور الدولة ولا باتخاذ قرار مهما كانت منزلته دون ان يكون مقتنعاً به الى حد انه كان يطلب الى وزرائه ان يوافوه بالتقارير المفصلة حتى ولو كانت متناقضة مع آرائه. لقد وصفه خصمه سان سيمون بقوله: (كان بطبعه حصيفاً، معتدلاً، حذراً، سيداً على حركاته ولسانه». كما قال فيه مونتسكيو «كانت نفسه أعظم من ذهنه» وقد أفصح عن مذهبه في الحكم المطلق حين اراد برلمان باريس عام 1665 ان يناقش بعض مراسيمه (ان الكوارث التي جرتها مجالسكم معروفة ومشهورة. لذلك آمركم بأن تفضوا هذا المجلس الذي اجتمع ليناقش مراسيمي. سيدي الرئيس الأول، اني امنعك من السماح بهذه الاجتماعات، وأمنع اي فرد منكم بالمطالبة بها (1).

صحيح ان لويس الرابع عشر قد ورث دولة قوية متماسكة، مرهوبة الجانب الا ان التمرد الشعبي الذي اصابها أيام الفروند كان من الممكن ان يتصاعد للتربة الخصبة التي تكمن في البنيان الاجتماعي لفرنسا. لذلك كان على لويس الرابع عشر ان يبني بيد وان يفرض سيطرته باليد الأخرى ضد القوى النبيلة التي ما زالت جذورها راسخة وقوية. كما كان عليه ايضاً ان يؤالف بين التقليديين والمجددين بين اليسوعيين ودعاة استقلال الكنيسة والجانسينست بين الضباط الاشراف ورجال الجيش، بين المفتشين الملكيين والحكام المحليين. بين كولبير نفسه وبين موظفي المالية. اهتم لويس الرابع عشر بشؤون الادارة وكان معظم موظفيه من افراد الطبقة الوسطى الذين اثبتوا جدارتهم بالارتقاء الى مراكزهم وتأييدهم لسلطة الملك المطلقة. فأوجد ثلاثة مجالس لتصريف شؤون الحكم، تجتمع برئاسته للعمل على صياغة ومناقشة قراراته وكان مجلس الدولة بأكثريته من البورجوازيين بحيث أصبح عدد افراده بعد 1673 كالتالي: 24 من البورجوازيين و3 من النبلاء و3 من رجال الدين. وكان اعضاء هذا المجلس بمثابة وزراء الدولة توكل إليهم سياسة الدولة بما فيها الخارجية. وكان لويس الرابع عشر يدعوهم مرتين او ثلاث مرات في كل اسبوع الى الاجتماع اما مجلس الرسائل فكانت مهمته تصريف شؤون الاقاليم. ومجلس المالية، يضم عدة مفتشين ويهتم بشؤون الضرائب والايرادات والميزانية كما أوجد أربعة مستشارين أو أمناء الدولة للخارجية والحرب والبحرية وقصر الملك. وهم بدورهم يقتسمون شؤون فرنسا ويجتمعون كل خمسة عشر يوماً .

ان لويس الرابع عشر قد وضع نفسه فوق القانون الا انه امر بتنقيح ومع القوانين بحيث جاءت ارقى القوانين التي وضعت منذ عهد جستنيان في القرن السادس للميلاد. وظلت فرنسا تأخذ «بقانون لويس» حتى وضع بديلاً له نابليون بونابرت كما أنشأ جهازاً للشرطة لحفظ الأمن في باريس واهتم بشؤون المظاهر والأبهة. فبنى قصر فرساي الذي كان آية في الفخامة ومظاهر التأنق والابداع ومقصداً لرجال الفكر والسياسة والعلماء والادباء والفنانين امثال كورني وراسين وموليير وبوالو ولابرويير وديكارت وبسكال. كما كان مشجعاً للفن سخياً مع الفنانين حتى ضم قصره حوالي الفين وخمسمائة لوحة عدا ما اشتراه من المنحوتات والتماثيل التي وضعت في عصر النهضة حتى وصف فولتير عصره بقوله: انه أكثر العصور التي شهدها العالم استنارة.

.......................................................
 

1- دیورانت: قصة الحضارة الجزء 31 ص 26.