أقرأ أيضاً
التاريخ: 18-4-2017
13584
التاريخ: 17-4-2017
9176
التاريخ: 8-7-2022
2416
التاريخ: 17-4-2017
14304
|
تقوم السياسة الجنائية على ثلاثة دعائم العقوبة، الوقاية، التنفيذ و الإجراءات، بعد أن تناولنا في الفقرة السابقة أهمية التدابير الاجرائية للوقاية من ارتكاب الجرائم المخلة بالشرف سوف نبحث في هذه الفقرة أهمية العقوبة في تلك الجرائم وفقاً للآتي:
النبذة الأولى: تعريف العقوبة الجنائية
العقوبة هـي الجزاء الجنائي الواقع على الشخص نتيجة ارتكابه فعل يعاقب عليـه القانون، ولوقت غير بعيد كانت تعرف العقوبة بالنظر إلى الأثر المترتب عليها وهو العقوبة التي يستحقها مرتكبها ، وهو ليس تعريفا لذاتية الجزاء الجنائي، وإنما هو تعريفه باعتباره أثرا للجريمة، إضافة إلى تعريف الجزاء الجنائي بالعقوبة باعتبارهما مترادفين من شأنه أن يسقط جزءاً من رد الفعل الاجتماعي إزاء الجريمة التي لا تصلح في شأنها العقوبة وهو التدابير الاحترازية فرد الفعل الاجتماعي إزاء الجريمة يتخذ إحدى صورتين:
الأولى هي العقوبة وتتسم بالصبغة العقابية البحثة في مواجهة جريمة سابقة، والثانية هي التدبير الاحترازي والذي يتسم بالصبغة الوقائية وهدفه مواجهة الخطورة الإجرامية المتمثلة في جريمة محتملة(1).
وهكذا فإن الجزاء الجنائي بالمفهوم التقليدي الضيق يفترض أن رد الفعل يواجه جريمة كاملة الأركان وتوافرت بشأنها عناصر المسؤولية الجنائية ليتواصـــل بعد ذلك ليشمل ردود الأفعال التي تواجه حالات لا تكتمل فيها عناصر البنيان القانوني للجريمة، اما لأن الهيكل المادي لهذه الأخيرة قد صدر عن شخص يفتقر إلى الأهلية الجنائية – كالمجنون – و إما لأن الفعل في ذاته تفتقد كل المظاهر المادية للجريمة كالتدابير لمواجهة المدمنين (2).
إلا أنه حتى يحقق الجزاء الجنائي أهدافه لا بد أن تكون له طبيعة فعلية تنفيذية تتخذ مظهرا ماديا ملموسا يتحقق به معنى القسر والإجبار (3).
تجدر الإشارة إلى أن رد الفعل الاجتماعي بالمفهوم التقليدي كان يتمثل في العقوبة أساسا فكان عقابياً وهو يختلف عن رد الفعل الاجتماعي الوقائي التي يتضمن – بناءا على التطورات الحاصلة في السياسة الجنائية - التدابير العامة للوقاية الاجتماعية وهي تدابير مانعة للجريمة كحل أزمة السكن، وإعداد جهاز أمن فعال، وتعميم إضاءة المدن و الشوارع والطرقات وتوفير وتجهيز مؤسسات الرعاية المتخصصة، واحترام الحريات وكفالة العمل ... وغيرها، فالعقوبة هي الجزء الأساسي للجزاء الجنائي (4)
وعليه يمكن تعريف العقوبة الجنائية بأنها : " إيلام وزجر قسري مقصود يحمـل معنــى اللوم الأخلاقي و الاستهجان الاجتماعي، تستهدف أغراضا أخلاقية ونفعية محددة سلفا بناءً على قانون تنزله السلطة العامة في مواجهة الجميع بحكم قضائي على من تثبت مسؤولية عن الجريمة و بالقدر الذي يتناسب معها (5).
وتماشياً مع ضرورة الردع العام يتجه المشرع إلى وصف الافعال الجرمية بمسميات قاسيمة كي يشعر مرتكب الجريمة بالعذاب النفسي من ارتكاب فعله وحسابة للنتائج السيئة لفعله من منظور المجتمع لذلك وصفت معظم الجرائم بأنها مخلة بالشرف، والشرف في المجتمع له ضوابطه الاخلاقية التي لا يجوز لأحد أن يتخطاها.
النبذة الثانية : خصائص العقوبة
أولاً: صفة الإيلام المقصود
يُعتبر الإيلام من أهم خصائص العقوبة الجنائية كونه يكبد المجرم مشقة محددة تشعره بوطأة الأثر الذي يرتد إليه من جراء جريمته، ويوجه الإيلام نحو حق من حقوق المجرم أو نحو مجموعة حقوق، كمنعة من حق الحرية وتجريدة من كل حقوقه المدنية أو بعضها بحسب طبيعة الجريمة سواء كانت من بين الجرائم المخلة بالشرف أو غيرها.
وتتعدد حقوق الفرد التي يتصور فرض الإيلام انتقاصا منها، و اختيار أكثر الحقوق صلاحية للانتقاص من طرف المشرع وهو بصدد وضع سياسته الجنائية دفاعا عن المجتمع وتأديبا للجاني و المشرع يختار عادة الحقوق التي يحرص عليها الفرد كحقه في الحياة وحقه في سلامة جسمه وفي حريته وسمعته وذمته المالية، وترتبط شدة العقوبة بشدة الجريمة ويرتبط مقدار الإيلام بشدة العقوبة .
تجدر الملاحظة إلى أن المشرع يضع قدر الإيلام على المستوى التشريعي بطريقة مجردة وفقا لما يتبناه من معايير عامة في سياسة التجريم والعقاب وعلى أساس ذلك يتم تكييف العقوبة وتصنيفها بغض النظر عن درجة الإيلام التي يستشعرها المحكوم عليه من الناحية الواقعية، فقد يتبين في حالة محددة أي الإيلام الذي تتضمنه عقوبة ما غير موجع بالنسبة للمحكوم عليه بها، بيد أن ذلك لا ينفي عنها صفة العقوبة، وقد يستشعر محكوم عليه آخر الإيلام الذي تتضمنه عقوبة أخرى بطريقة أشد مما يفترضه النموذج التشريعي للعقوبة، ومع ذلك يظل للعقوبة تكييفها وفقا لقدر الإيلام الذي أودعه المشرع في النموذج (6).
في هذا الخصوص يمارس القضاء دور الريادي في تفنيد العقوبات المناسبة بحسب كل حاله من خلال تخصيصه لكل مجرم نوع وكم خاص من العقاب، فإذا استبانت له معالم شخصية المتهم بأنه أرتكب جريمته المخلة بالشرف اختار لـه مـا يـراه من عقاب مناسب وزاجر بالنسبة له بالذات، حتى ولو لم يكن زاجراً لغيره في نفس الجريمة متى توقع أنه سيحقق الأغراض المرجوة منه وبالأخص الردع الخاص فقد تكون العقوبة المالية أكثر إيلاما من سلب الحرية بالنسبة لمتهم معين، وقد يكون سلب الحرية ليوم واحد بالنسبة لآخر أوجـع بكثير من أي عقوبة مالية مهما كان مقدارها . وفي الأنظمة الوضعية الحديثة يكاد القاضي يجد نفسه أمام اختيار مقيد تشريعيا بين الغرامة المالية و العقوبة السالبة للحرية ( السجن أو الحبس ) .
كما يرتبط الإيلام - باعتباره جوهر العقوبة - بالتطور الذي حصل في الأغراض التي يستهدفها المجتمع بالعقاب فكل مجتمع كان يختار الطريقة التي يراها مناسبة لإشعار المحكوم عليه بالعقوبة كما كان لتطور القيمة الاجتماعية الأثر البارز في ضرورة تحديد العقاب المناسب لكل حاله من حالات الإجرام وأن تنقص تلك العقوبة من شخص المجرم.
ولا يكفي في العقوبة أن يتوافر فيها عنصر الإيلام فقط يجب أن يكون مقصودا به أن يكون عقابيا معبراً عن سخط اجتماعي كجزاء محدد تجاه الجاني وتبعـا لذلك لا تعتبر عقوبة الإجراءات التي تتخذ ضد المشتبه فيه كإجراءات القبض وتفتيش بيته وحبسه مؤقتا باعتباره متهما وليس محكوما عليه، فهذه الإجراءات ينتفي فيها العقاب و إن كانت تتضمن ألما معينا.
في السابق كانت العقوبة هي تحقيق أكبر قدر من الردع الذي يتم توقيعه على المحكوم عليه شخصاً وأشعاره بأنه شخصاً محتقراً منبوذاً، أما مع تطور الغرض من العقاب فقد أصبح الإيلام مقصوراً لإصلاح المحكوم عليه وتفادي عودته إلى الجريمة ومع ذلك لا يخفى أن تحقيق الإصلاح عن طريق الإيلام مسألة شائكة فكيف نصلح شخصاً مجرماً من خلال حكمة بالسجن المؤبد مثلاً؟ لذا أن العقوبة السالبة للحرية تضعف إلى أبعد الحدود وهذه واحدة من أكثر مشكلات علم العقاب تعقيداً وهـي مـا يطلق عليه " التناقض في علم العقاب.
ثانياً: دلالة العقوبة على اللوم الأخلاقي و الاستهجان الاجتماعي للجريمة
الجرائم المخلة بالشرف من أكثر الجرائم التي ينبذها المجتمع، وتشجع أغلب المجتمعات السلطات التشريعية إلى إيجاد نصوص قانونية عقابية رادعة تؤثر على الجنات ومرتكبي الجرائم المخلة بالشرف غيرها من الجرائم الخطرة، فمعاقبة الجاني معناه أن المجتمع قيم سلوك الجاني أخلاقيا فاتضح أن الجاني قد وجه إرادته توجيها خاطئا فألحق ضررا بقيمة اجتماعية تحميها قاعدة قانونية إما بإظهار عداء صريح مباشر قبلها وإما بالكشف بسلوكه عن عدم اكتراثه بها في اللحظة التي كان يتمتع فيها بإرادة حرة واعية مدركة مميزة.
وكلما ارتفع ما تتضمنه العقوبة من إيلام كلما ارتفعت درجة تعبيرها عن اللوم وحدة كشفها عن الوصمة الاجتماعية ( وصمة الاستهجان ) . وهنا تظهر أهمية عنصر الاستهجان الاجتماعي العام في وضع قواعد التجريم و العقاب في السياسة الجنائية للدولة، ومتى كانت السياسة التشريعية غير قادرة على إحداث الانسجام بين درجة الإيلام ومستوى الاستهجان الاجتماعي فإن هذه السياسة لا تكون ردة فعل اجتماعي تعبر عن الشعور العام و إنما هي أقرب إلى الرغبة الشخصية للمشرع أو هي تعبير عن إيلام يعبر عن الاستهجان الاجتماعي لمجتمع آخر لمثل هذه الجريمة وهذا ما نلاحظه في التشريعات التي تستورد سياستها الجنائية كما تستورد السلع الغذائية بالرغم من اتفاق جميع فقهاء السياسة الجنائية على ذاتيتها وخصوصيتها ووطنيتها.
إلا أن ضرورة دلالة العقوبة على الاستهجان الاجتماعي لا تعط الحق في تجاوز الحدود في الاعتداد بهذه الصفة، فيقع الخلل أيضا إذا تجاوزت دائرة السخط الاجتماعي حدود اللوم القانوني كما تعبر عنه العقوبة، وهذا يلقي التزاما على عاتق المجتمع بعد تنفيذ العقوبة وهو معاملة الجاني كمدين برئت ساحة ذمته، ولكن إذا ظل الاستهجان يلاحقه فإن ذلك قد يضيع كل جهود التأهيل والإصلاح حيث يرى وهو يخرج من السجن أن عقوبته الحقيقية تبدأ الآن و أن المجتمع يرفضه ويلفظه، و أن حياته بكاملها ستظل تحمل وصمة الإجرام، وفي الوقت الذي يجب أن يكون المجتمع مخلصا له من الجريمة يصبح دافعا له إلى الوسط الوحيد الذي يرحب به هو الوسط الإجرامي، وهذه هي المعادلة التي لا تنجح كثير من المحاولات التشريعية في حلها.
ثالثاً: استهداف العقوبة أغراض انفعية وأخلاقية
يستهدف الجزاء في باقي أنظمة المسؤولية غير الجنائية في الغالب جبر الضرر الذي حدث أو إعادة الحال إلى ما كانت عليه قبل المخالفة أو إعادة التوازن إلى الذمم المالية، أما العقوبة فإنها تستهدف أغراضا تنسجم مع طبيعة القانون الجنائي ومع أهمية النتيجة التي تحدثها العقوبة على السلوك الإنساني للمجرم وعلى الشعور العام بإرساء قواعد العدالة وقيمها.
وترتبط أغراض العقوبة - باعتبارها وسيلة - ارتباطا وثيقا بتطور العقوبـة وتطــور السياسة الجنائية، وقد اختلفت تلك الأغراض في الأسس التي استندت إليها و استمدت منها وجودها ، ففي مرحلة معينة كان غرض العقوبة هو الانتقام الفردي، وكان ذلك قبل مفهوم الدولة، وهو رد فعل غريزي لا يستند إلى أسس فلسفية ولا فكرية، ومن الأسس ما كان وليد ظروف تاريخية معينة خاصة بحقبة بعينها، إلا أن معظم الأغراض الأخرى كانت نتيجة تأصيل فقهي ودراسات تجريبية، ويمكن الاصطلاح على المجموعة الأولى من الأغراض بالأغراض الانتقامية أما المجموعة الثانية التي لها أساس فكري وفلسفي فتنقسم إلى مجموعتين : الأغراض الأخلاقية للعقوبة ( تحقيق العدالة ) و الأغراض النفعية للعقوبة (تحقيق الردع )(7).
رابعاً : شرعية العقوبة
تجمع التشريعات الجنائية الحديثة على قاعدة أنه " لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص " أيا كان موضع ذلك النص في الهيكل التشريعي سواء كان في الدستور أو التشريع العادي أو الأنظمة، وقد جسدت التشريعات هذه القاعدة في قوانينها الجنائية واعتبرتها قاعدة دستورية كما هو الحال عند المشرع العراقي واللبناني (8) .
يستخلص مما سبق أن التحديد المسبق للعقوبة هو إحدى سماتها القانونية الهامة ومن شأن ذلك أن يجعل الأفراد مطمئنين إلى ان حقوقهم محمية بقواعد جنائية، وفي جهة أخرى من شأنه أن يجعل الجاني على بصيرة بقدر الإيلام المشروع الذي سينزله به المجتمع في حالة ارتكاب الجريمة ومن أجل ذلك لم تلق الآراء التي نادت بنظام العقوبة غير محددة المدة رواجا ملحوظا في الفقه الجنائي المقارن نظراً لما تحمله من مخاطر الاستبداد والتحكم سواء من قبل القاضي أم من قبل الإدارة العقابية ولما تقضي إليه من إهداء صريح لمبدأ المشروعية (9) ، إلا أن تجدر التطور الذي حصل في الأنظمة العقابية قد شهد عدم استقرار تراوح بين إعطاء القاضي سلطات واسعة في تقرير العقوبات من ناحية وتقييده من ناحية أخرى والاتجاه الذي يقيد القاضي يقول بأن إتمام النقص أو القصور الذي يعتري القاعدة الجنائية هو عمل المشرع وليس القاضي (10).
إلا أن التحديد المسبق للعقوبة و إن كان يخدم الردع العام بسابق الإعلان إلا أنه لا ينسجم مع غرض التأهيل والإصلاح لأنه حين يكون الغرض من العقوبة هو الإصلاح فإن المنطق هنا يقتضي أحد أمرين إما أن يكون كل من القاضي و المشرع على علم بمقدار العقوبة الكافية لكل مجرم على حدى وهذا مستحيل وتواجهه إشكالية عملية هي كون القاعدة مجردة، والحال هنا تقتضي تفريد العقوبة، و إما أن يمتلك القاضي سلطة في تقرير العقوبة المناسبة بعد تكامل معلوماته عن المجرم، و الثانية أولى و أقرب إلى المنطق، وهي التقنية التي تبني عليها الشريعة الإسلامية سياستها الجنائية بشأن جرائم التعزير، كما أن بعض التشريعات المعاصرة تعمد إلى إضفاء بعض المرونة على صفة التحديد المسبق للعقوبة وهو مسعى يزداد وضوحا كلمــا ارتفعت قيمة التأهيل والإصلاح كغرض للعقوبة حيث تترك بين أيدي القضاة سلطة تفريد النطق بالعقاب باختيار القدر المناسب منه لحالة المتهم في إطار الحدود التي ينص عليها القانون (11) ، إلا أن هذه التشريعات تراوحت بين تشريعات يسمح للقاضي بتخفيف العقوبة دون الحد الأدنى المنصوص عليه أو تشديدها فوق الحد المقرر، ومنها التي تمنحه سلطة الإعفاء القضائي، ومنها التي تعطيه سلطة في اختيار الطريقة التي يتم بها تنفيذ العقوبة، ومنها التي تخوله سلطة النطق بالعقوبة ووقف تنفيذها، وقد يسمح القانون للقاضي أحيانا بالجمع بين أكثر من وسيلة، وتفردت الشريعة الإسلامية بمنهجها في منح القاضي سلطة العقاب في جرائم التعزير وتقرن ذلك بتشددها في شروط تولي مهمة القضاء ، ويعتبر المشرع الجزائري من المشرعين الذين لم يعطوا للقاضي سلطة تقرير العقوبة وإنما تولي المشرع ذلك، إلا أن للقاضي سلطة في اختيار العقوبة التي يراها مناسبة من بين العقوبات التي حددها المشرع للجريمة كالاختيار بين العقوبة السالبة للحرية وبين ،الغرامة، كما أجاز له الجمع بين العقوبتين معا، كما أعطاه سلطة تخفيف وتشديد العقوبة، كما أعطاه سلطة النطق بالعقوبة ووقف تنفيذها كما هو الحال في عقوبة الإعدام .
خامساً: شخصية العقوبة
القاعدة أن الإيلام يلحق بمن تثبت مسؤوليته عن الجريمة دون أي شخص آخـر مهمـا كانت علاقته به، ذلك أن الإيلام يقصد به تحقيق أغراض أخلاقية ونفعية محددة محلها شخصية المجرم وليس غيره وهذه القاعدة هي مستمدة من قاعدة شخصية المسؤولية الجنائية التي مفادها أن لا يدان شخص عن فعل ليس من صنعه، وهي قاعدة عرفتها الشرائع السماوية ومنها الإسلام حيث يقول تعالى " ولا تزر وزارة وزر أخرى " .
ومن القواعد المترتبة عليها أن الإجرام لا يتحمل الإنابة في المحاكمة أي لا يمكن لشخص أن ينوب عن المجرم في المحاكمة ويتلقى هو التهمة بدلا عنه كما أن العقاب لا يتحمل الإنابة في التنفيذ .
تجدر الإشارة إلى أن الطابع الشخصي للعقوبة من النظام العام فهو ليس مقررا لصالح الأفراد حتى يسمح لهم بالاتفاق على مخالفته
إلا أن لهذا المبدأ بعض الاستثناءات أهمها : تحميل أرباب الأعمال أو الأشخاص المعنوية دفع العقوبة المالية ( الغرامة ) المحكوم بها على تابعيهم أو العاملين لديهم ومن ذلك ما تقضي به المادة 21 من قانون المرور الفرنسي من أنه يجوز للمحكمة أن تلزم رب العمل بدفع الغرامات المحكوم بها عن المخالفات التي يرتكبها السائق، وفي هذه الحالات ليس هناك مساس بمبدأ شخصيته المسؤولية الجنائية، فرب العمل هنا مثلا لا يمثل أمام محكمة جنائية ولا يسجل حكم الإدانة في صحيفة سوابقه، و إنما هو ضامن لتنفيذ العقوبة(12).
سادساً: المساواة أمام العقوبة
هي انعكاس لخاصية من خصائص القاعدة القانونية وهي العمومية ومفاد ذلك ان نصوص القانون التي تقرر العقوبات تسري على جميع الأفراد دون تفرقة بينهم، ولا تعني المساواة خرقا لمبدأ تفريد العقوبة، فللقاضي سلطة تقديرية تتيح له أن يتخير لكل من المجرمين العقوبة الأكثر ملاءمة لظروفه وتكوينه ولو كانوا ارتكبوا نفس الفعل بشرط أن لا يتجاوز الحدود القانونية للعقوبة . ورغم تسليم الفقه بهذه الخاصة إلـى حــد اعتبارها أحد مبادئ القانون الجنائي فإن البعض يشكك في واقعية المساواة في الخضوع للعقوبة، فالمشرع نفسه يتنكر لهذا المبدأ أحيانا عن طريق تقرير حق العفو(13).
هذا المبدأ دستوري تقرره الدساتير الحديثة التي توجب المساواة بين الناس في الحقوق و الواجبات . ويحافظ مبدأ المساواة على شرعيته وقوته في مواجهة من يتمتعون بالحصانة، فالحصانة لا ترتب إعفاءا موضوعيا في العقاب و إنما إجرائي لاعتبارات الملائمة . " ولا تعني المساواة أن ذات العقوبة يجب النطق بها على ذات النحو وبذات القدرة على كافة المتهمين بارتكاب جريمة معينة في الحالات الواقعية على اختلافها، ولا أن ذات الكيفية في التنفيذ يلزم إتباعها في مواجهة كافة المحكوم عليهم بنفس العقوبة على مثل تلك الجريمة (14).
سابعاً: التناسب
يعتبر التناسب أحد أكبر المبادئ الكبرى في علم العقاب، وقد تعاظمت أهمية مبدأ التناسب حتى صار أحد مقومات السياسة الجنائية الرشيدة، إذ كلما تناسبت العقوبة المحكوم بها مع درجة الجرم المرتكب كلما زاد ذلك من القيمة الإقناعية للقاعدة الجنائية بما يكفل تحقيقها لوظيفة الردع المرجوة منها والثابت أم مقدار الإيلام هو تعبير عن رد الفعل الاجتماعي وعليه فإن المجتمعات تختلف في قيمة رد الفعل لكنها تتفق في المبدأ التناسب وتتعرض بعض التشريعات العربية لانتقادات في هذا الجانب، حيث أنها قررت عقوبات لا تتناسب مع الجرم وجسامته، كما هو الحال مع المشرع المصري في مجال مخالفات التعمير (15). إلا أنه في مجال الجرائم المخلة بالشـرف قـد عالجت التشريعات العربية الكثير من الحالات نظراً للظروف الاجتماعية والأعراف والتقاليد وغيرها.
فالتناسب يقوم على دعامتين : التفريد التشريعي و التفريد القضائي، في التقريـــد التشريعي يراعي المشرع مدى التناسب بين الأفعال المجرمة و العقوبات المقررة لها أما التفريد القضائي فمحوره شخصية الجاني، فيراعي القاضي فيه ما هي العقوبة الأنسب لهذا المجرم من بين العقوبات التي قررها المشرع لذلك الجرم .
ثامناً: قضائية العقوبة
من أهم ضمانات العقوبة وسماتها الأساسية أنها لا توقع إلا بحكم قضائي يعقد المسؤولية الجنائية للجاني ويقرر له العقاب اللازم، ويكون هذا الحكم هو السند التنفيذي الذي يستعمل لتستوفي الدولة حقها من المجرم. ومعنى ذلك أنه ليس هناك من وسيلة أخرى يتقرر بها العقاب عـدا الحكم القضائي الصادر من المؤسسة القضائية باعتبارها سلطة من السلطات العامة التي تحكم باسم المجتمع، تتوافر فيها الحيدة و النزاهة و التخصص (16).
ويعتبر الحكم القضائي الضمان الوحيد للتأكد من خضوع المتهم الجميع إجراءات التحقيق والتحري السابقة على الإدانة وهي إجراءات أساسية في الإدانـة وهـو أيـضـا مؤشر على شعور الجمهور بالثقة في نظام إدارة العدالة الجنائية، كما أن تحقيق الردع العام لا يكون إلا من خلال النطق بالأحكام القضائية في جو تضبطه إجراءات قانونية تضفي عليه قدرا من الهيبة إضافة إلى التنفيذ العلني للعقوبة. وتأسيس العقوبـة علـى حكم قضائي هو من المبادئ الدستورية التي أكدت عليها الدساتير العالمية.
إلا أن ربط كل عقوبة بحكم قضائي من شأنه أن يرهق كاهل المؤسسات القضائية ويشل حركتها ويجعلها تئن تحت وطأة كم هائل من القضايا لا يكف عن التضخم و التنوع. وعليه كان التفكير في طرق بديلة أهمها : الأمر القضائي، وهو أن تتولى النيابة العامة في مرحلة التحقيق ودون إحالة الملف إلى المحاكمة إصدار أمر بجزاء لا يتعدى حدا معينا فإذا قبل المتهم العقوبة كان للأمر ما للحكم من قوة في إنهاء حق الدولة في العقاب وهو صورة من صور التصالح بين النيابة العامة والمتهم في الجرائم اليسيرة ومن مظاهر الخروج أيضا على مبدأ قضائية العقوبة في بعض التشريعات أن يعهد إلى جهات إدارية ذات اختصاص قضائي سلطة النطق بالعقوبات الجنائية(17).
وفي هذا الإطار أفراد المؤتمر الدولي الرابع عشر القانون العقوبات الذي عقد في فينـا في الفترة من 02 إلى 07 تشرين الأول 1989 أحد موضوعاته للمشكلات القانونية والعملية التي يفرضها التمييز بين القانون الجنائي من ناحية وقانون العقوبات الإداري من ناحية أخرى، وقد لاحظ المؤتمر في ديباجة توصياته تنامي اتجاه تشريعي يميل إلى إخراج بعض الجرائم اليسيرة من إطار قانون العقوبات من قانون العقوبات العادي و اعتبارها جرائم إدارية، ومع ترحيب المؤتمر بهذا الاتجاه من حيث المبدأ ألا أنه أبدى تخوفه من تنامي هذه الظاهرة واستفحالها ، و أوصى المؤتمر بضرورة خضوع الجزاءات الإدارية إلى مبدأ المشروعية، كما حرص على ضرورة تقرير المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي
نستخلص من كل ما تقدم، أن التدابير الاحترازية هي إجراءات ملازمة للعقوبة الجنائية، إلا أن ألية توجيهها بالطريقة الصحيحة واعتمادها كوسيله للإصلاح الجنائي يجل هناك نوع من التكامل بين التدابير الاجرائية والعقوبات الجنائية.
_____________
1- محمد عبد العزيز محمد السيد الشريف مدى ملاءمة الجزاءات الجنائية الاقتصادية في ظل السياسة الجنائية المعاصرة، أطروحة دكتوراه، كلية الحقوق جامعة القاهرة، 2005، ص 11.
2- - أحمد بلال عوض النظرية العامة للجزاء الجنائي، دار النهضة العربية، القاهرة، 1995، ص 11.
3- تجدر الإشارة بأن مشروع قانون العقوبات الفرنسي لعام 1978 كان يستعمل تعبير الجزاء الجنائي يدل العقوبة، إلا أن قانون 1992 الذي بدأ العمل به في أول آذار 1994 أبقى على مصطلح العقوبة.
4-سليمان عبد المنعم، النظرية العامة لقانون العقوبات، دار المطبوعات الجامعية، بيروت، 2014، ص 406.
5- محمد عبد العزيز محمد السيد الشريف مدى ملاءمة الجزاءات الجنائية الاقتصادية في ظل السياسة الجنائية المعاصرة، أطروحة دكتوراه، كلية الحقوق جامعة القاهرة، 2005 ، ص 12
6- أحمد بلال عوض، النظرية العامة للجزاء الجنائي، مرجع سابق، ص 15.
7- أنظر اختلافات مدارس الجزاء الجنائي في تأصيلها فيما سبق .
8- المادة الأولى من قانون العقوبات العراقي واللبناني، وتعتبر القاعدة من قواعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (م 11 منه).
9- أحمد بلال عوض، النظرية العامة للجزاء الجنائي، مرجع سابق، ص 23. إلا أننا نعتقد أن الحكم ليس على إطلاقه، فمبدأ المشروعية و إن كان يقصد به أن تكون لكل جريمة عقوبة مقررة في التشريع و إلا فلا عقوبة إلا بنص إلا أنه لا بد أن يرد على المبدأ استثناء بخصوص العقوبة فقط في بعض الجرائم التي هي من مستوى المخالفة ويمكن أن يستفاد من الشريعة الإسلامية في هذا المجال لأن جمود المبدأ لا يعطي حركية للتشريع.
10- أحمد بلال عوض، النظرية العامة للجزاء الجنائي، مرجع سابق، ص 23
11- أحمد بلال عوض، النظرية العامة للجزاء الجنائي، المرجع السابق، ص 23.
12-أحمد بلال عوض، النظرية العامة للجزاء الجنائي، مرجع سابق، ص 30.
13- سليمان عبد المنعم، النظرية العامة لقانون العقوبات، دار المطبوعات الجامعية، بيروت، 2014 ، ص 437.
14-أحمد بلال عوض، النظرية العامة للجزاء الجنائي، مرجع سابق، ص 33.
15- سليمان عبد المنعم، النظرية العامة لقانون العقوبات، مرجع سابق، ص425
16- وإن كان بعض فقهاء حركة الدفاع الاجتماعي قد نادوا بضرورة أن يعهد بتجديد العقوبة إلى جهة ذات طابع فني غير قضائي.
17- أحمد بلال عوض النظرية العامة للجزاء الجنائي، مرجع سابق، ص 40.
|
|
مخاطر عدم علاج ارتفاع ضغط الدم
|
|
|
|
|
اختراق جديد في علاج سرطان البروستات العدواني
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|