المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17599 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
{ان أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه}
2024-10-31
{ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا}
2024-10-31
أكان إبراهيم يهوديا او نصرانيا
2024-10-31
{ قل يا اهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم الا نعبد الا الله}
2024-10-31
المباهلة
2024-10-31
التضاريس في الوطن العربي
2024-10-31

Tanhc Function
15-10-2019
Bt – Plants
12-9-2017
تحقيق في النسخ
27-11-2014
ما جاء في فضل المسجد الجامع بالكوفة.
2023-08-20
ذكر جمل لا بد من معرفتها في تفسير القرآن
5-05-2015
أعظم الناس حسرة
11-5-2020


المسبب لتدوين المصحف الموجود  
  
228   09:09 صباحاً   التاريخ: 2024-08-27
المؤلف : الشيخ محمد عزت الكرباسي
الكتاب أو المصدر : الموسوعة العلمية التفسير وعلوم القران
الجزء والصفحة : ص 284-312
القسم : القرآن الكريم وعلومه / علوم القرآن / تاريخ القرآن / التحريف ونفيه عن القرآن /

المسبب لتدوين المصحف الموجود

قلت : نعم لم يكن عثمان جامعاً للقرآن جمع تدوين وكتابة في المصحف بالمباشرة، كما جمعه أمير المؤمنين  ( عليه السلام )  عقيب موت النبي  ( صلى الله عليه واله وسلم ) وأبيّ وابن مسعود، لكن عثمان جمعه تسبيباً، وأمراً لزيد بن ثابت ومن معه، فيجوز إطلاق الجامع عليه بناءً على المجاز في الاسناد في « بنى المدينة الأمير».

ومن هذا الباب يجوز إسناد جمع القرآن إلى أبي بكر فإنه بعد وقعة اليمامة في سنه اثنتي عشرة من الهجرة أمرَ زيد بن ثابت أو رخصه بعد استجازة زيد عنه، فيكون مسبباً لجمعه،وأمّا جمع التدوين مباشرة فما صدر عنه بالاتفاق، وكذا جمع القرآن في الحفظ ما حصل له ولا لعمر.

قال العلامة السيوطي في الإتقان « 1 »، « أخرج ابن أشتة في المصاحف بسند صحيح عن محمّد بن سيرين قال : مات أبو بكر ولم يجمع القرآن، وقتل عمر ولم يجمع القرآن، قال ابن أشته : قال بعضهم يعني : لم يقرأ جميع القرآن حفظاً، وقال [ بعضهم ] هو جمع المصاحف.

أقول : أي : الذي وقع بعد موتهما عصر عثمان من جمع المصاحف وإعدامها، هذا مبني على أنْ يقرأ « يُجمَع » بصيغة المجهول، ويراد من لفظ « القرآن » وهو مفرد معنى الجمع، يعني : المصاحف، وهذا الإطلاق غيرُ معهود، فالظاهر الأول، وكون « يجمع » بصيغة المعلوم ويظهر عدم حفظهما للقرآن من أخبار أخر أيضاً، كما مرّ.

وإنّما اشتهر هذا الموجود بين الدفتين بمصحف عثمان ؛ لأنه مما وقع عليه اختيار عثمان وزيد بن ثابت ومن معه من الأصحاب الجامعين له، كما مرّ عن البخاري والمحاسبي والباقلاني وغيرهم.

وفي عدّة أخبار أخرى : إنهمأخذوا ما جمعه زيد بن ثابت من الصحف أوّلًا، وكان عند أبي بكر ثم عمر ثم حفصة، والصحف الأخرى المتفرّقة عند سائر المسلمين، وأثبتوا منها في هذا المصحف ما وقع عليه اختيارهم بأنّه القراءة الثابتة عندهم عن النبي  ( صلى الله عليه واله وسلم ) مرتباً على هذا الترتيب المستحسن عند جميعهم، ثم حمل عثمانُ المسلمين على القراءة في هذا المصحف الواحد وإلغاء غيره من المصاحف المختلفة التي جمع ما قدر عليها وأحرقهاً كما في البخاري « 2 » وغيره، وفي بعض الأخبار أنهّا بلغت أربعين الفاً.

قد ظهر أنّ هذا الجمع كان بمرأى القراء وسائر الصحابة الموجودين ومراقبتهم، وقد اتفقت كلمة الجميع البالغ عدّتهم حدّ التواتر على أنّ كلَّ واحدة من هذه الآيات الشريفة

وحيٌ إلهي منزل خارجٌ من بين ثنايا سيد الرسل ( ص )، وما أنكر أحدٌ من الأصحاب على كثرتهم قرآنية إحدى هذه الآيات، بل قرّروها جميعاً .

وكذلك الأئمة المعصومين « صلوات الله عليهم أجمعين » فأمروا بالقراءة فيه، وعرض الأخبار عليه، والأخذ منه، والإعراض عمّا لا يتواتر منه، ورتبوا جميع أحكام القرآن على خصوص ما جُمع في هذا المصحف الشريف المتواتر دون غيره .

فما في هذا المجموع من الآيات الشريفة مع قطع النظر عن جامعها أيّ رجل كان، وأيّ صفة له، وأيّ كيفية لجمعه، وفي أيّ عصرٍ جمع، بل نفس تلك الآيات المجتمعة بهذا الموجود فيما بين الدّفتين هو القرآن الشريف المتواتر عن النبي وعن الأئمة ( عليهم السلام )، الموضوع لما قرر له من الأحكام والتكاليف والمخصوص  بمزيد الفضيلة والكرامة والتشريف .

وهو كتاب الإسلام الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، بلا زيادة ما ليس بقرآن سورة أو آية أو جملة ذات إعجاز أو آية، ولا نقيصة ما هو قرآن نعلمه بعينه سورةً أو آيةً في الخارج عنه، وذلك كله مما اتفقت عليه كلمة جميع فرق المسلمين، وصار ضروريّ الدين .

فلا شيء من غير القرآنْ داخل بين دفتيه ؛ لتواتر قرآنية جميع ما بينهما، عن النبي  ( صلى الله عليه واله وسلم ) والأئمة ( عليهم السلام ) .

ولا شيء مما ألصق بالقرآن وهو خارج عمّا بينهما قرآناً ؛ لعدم تواتره ؛ وعدم شمول أحكام القرآن للموجود في خارج الدفتين باتفاق جميع الأمّة من الخاصة والعامة، ولو كان ما في الخارج عن الدفتين قرأناً لشمله حكمه بالضرورة، كما كان يقول به بعض من كان في الأعصار الأول من الحشوية العاملين بكلّ خبر، والقائلين بثبوتِ القرآنية بغير التواتر، وقد أنقرضوا وعدم مذهبهم وظهر فساد طريقتهم، والحمد لله .

فظهر أنهّ لا خلاف بين جميع فرق الإسلام في كتابهم الموسوم بالقرآن الشريف لاموضوعاًولاحكماً، فإنّ موضوع الأحكام الشرعية عند الجميع هو الموجود فيما بين الدفتين، وجميع الأحكام ثابتةله لا لغيره، وما ألصق أحد من المسلمين بكرامة القرآن الشريف شيئاً من الأشياء المنكرة أو غيرها ممّا هو مذكور في بعض الأخبار من طرق الآحاد المعمول به للحشوية، ولا ألحقه به في الأحكام أحد بعد انقراضهم مدى الأعصار والأعوام .

وأمّا الخلاف في المسألة المشهورة بتحريف الكتاب فليس المراد به ما هو ظاهر اللفظين أوّلًا، وليس هو خلافاً في هذا القرآن الشريف الموضوع للأحكام ولا في حكمه ثانياً، بل الخلاف في تلك المسألة إنمّا هو في موضوع آخر وهو المعبّر عنه بالباقي .

ويقال : أنّه هل نزلت من الوحي الآلهي قرأناً على رسوله  ( صلى الله عليه واله وسلم ) سورة ما أو آية ما لا نعرفها بعينها، وهي في هذا المصحف غير مسطورة، وعن أبصارنا مستورة، وعند أهلها مذخورة، أوما نزل عليه  ( صلى الله عليه واله وسلم ) ولو آية ما غير هذا الموجود بين الدفتين، والنفي والإثبات متوجهان إلى الباقي الغير الموجود عندنا .

فهذا الموجود ليس محلّ الخلاف في شيء، وأنّه بجميع آياته وحيٌ إلهيٌ مُنَزلٌ قرآناً، بل إنمّا الخلاف في نزول غيره وعدمه، ولمّا أنّ نزول غيره مع عدم وجود الغير في هذا المجموع ملازم لصدق وقوع التنقيص عن الجامعين له فعبر عن نزول الغير بوقوع التنقيص في عنوان هذا الخلاف، وأنهّ هل وقع تنقيص مّا عنهم من الوحي الآلهي أم لا ؟

نعم التعبيرُ المشهور عن هذا العنوانّ أي : « التنقيص الاجمالي » بالتحريفَ الظاهر عرفاً في التغيير والتبديل مع إضافته إلى الكتاب الظاهر في هذا القرآن الشريف غيرُ سديد ؛ لأنه الموهم ؛ لوقوع الخلاف فيه، مع أنّه خلاف الواقع قطعاً كما عرفتَ .

وكان عليهم التعبير عن هذا المرام بألفاظ غير موهمة، بل صريحة في المراد، واقعة في متون الأخبار، مثل : التنقيص، والإسقاط، والمحو، والإلقاء، والحذف، والطرح، والنبذ، فكلّ هذه التعبيرات مكررة في الروايات صريحة في وقوع نقصٍ ما في ألفاظ الآيات .

نعم في كثير منها وقع التعبير بالتحريف، لكن ليس المراد منه متفاهمه العرفي، أي : التغيير والتبديلَ وإنْ ذكره أهل اللغة معنىً له أيضاً، بل المراد منه معناه اللغوي المأخوذ في أصله أي : التنقيصَ ؛ لأنّ أصل معنى « الحرف » كمّا صرّح به اللغويون « 5 » : الطرف والجانب، والتحريف تفعيل منه، ومعناه : الأخذ بطرف شيء وجانب منه وابقاء غيره في مقابل أخذ ال شيْ  بجميع أطرافه، والأخذ بطرفٍ دون آخر هو عين التنقيص .

وجملة من موارد استعمال هذه المادة لا تخلو من نقص أو انتقاص أو تنقيص، ففي الصحاح : « رجل محارف أي : منقوص الحظ لاينمو له مال » وفيه : « رجل محارف بالفتح : أي محدود محروم، وهو خلاف قولك : مبارك »، وفي القاموس  « 4 »: « حرف في ماله حرفة ذهب منه شيء »، وفيه : « الحرف : الناقة المهزولة، وأحرف الرجل ناقته : هزلها.

فيظهر منها أنّ في مادة « حرف » مأخوذ نوع من النقص، كما في مادة « جنن » مأخوذ نوع من الستر كالجنّ والجنون والجنين والجُنّة المجنّة والمجنون والجَنّة والجنان  وبالجملة المراد من التحريف : التنقيص لا غيره، كما صرح به جمع من الاعلام، وورد التصريح والتفسير به في بعض الأخبار :

منها رواية الفقيه قال الرضا  ( عليه السلام )  « 5 » : « لعن الله المُحرَّفين، وذكر أنّهم حرّفوا حديث : « إنّ الله ينزل ملكاً كل ليلة جمعة » ورووه : « إنّ الله ينزل كل ليلة جمعة » تفسير التحريف بتنقيص كلمة « الملك » وإسقاطها وإلقائها .

ومنها : رواية طبّ الأئمة « 6 » دعاء الصادق على المحرّفين الذين حرّفوا حديث النبي  ( صلى الله عليه واله وسلم ) في أهل بيتٍ يأكلون لحوم الناس أي : يغتابوهم، ورووه في أهل بيت يديمون أكل اللحم بتنقيص كلمة « الناس » وإسقاطها .


ومنها : رواية ثواب الأعمال عن الصادق  ( عليه السلام )  « 7 » :

« إنّ سورة الأحزاب كانت أطول من سورة البقرة، ولكن نقصوها وحّرفوها »

فعبّر بكلا المترادفين عن المراد الواحد ؛ لدفع الايهام .

إذاً أخبارهم يفسر بعضها بعضاً، ويشير كلّ منها إلى مراد واحد باختلاف التعبيرات، فبيّن  ( عليه السلام )  إنّ المراد بالتحريف الموهم هو عين المراد من سائر مترادفاته الصريحة أي : التنقيص والإلقاء والإسقاط، والحذف، وغيرهما مما ذكر في سائر الأخبار، فما هو المشهور في التعبير في المقام عن التنقص بالتحريف ليس لأجل إيهامه منكوراً وإنْ كان المعبّر به من وجه التأسّي معذوراً ؛ لأنه قصد في تعبيره بعدم التجاوز عن اللفظ المأثور المعبّر به غالباً في الصدر الأوّل، وفي متون الأدعية والأحاديث، لكن المراد من التحريف المبين صريحاً فيها ليس إلا التنقيص كما هو مصرّح به في الأحاديث، كما أنّ المراد من الكتاب المنقوص منه ليس المصحف الموجود بل المراد هو الوحي الإلهي المنزل قرآناً فكان على المعبر بهما التصريح بالمراد منهما والاتيان باللفظ الصريح فيهما لمنع الوهم والفساد .

الخلاف في أنه هل وقع التنقيص في الوحي الآلهي أم لا ؟ مع أنه ليس خلافاً في هذا القرآن الشريف، كما ظهر أن ليس له ثمرة عملية أيضاً بعد بطلان مذهب الحشوية، وانقراضهم، واتفاق الأمة على أنّ موضوع كتاب الله تعالى هو الموجود بين الدفتين، والاحكام له، لا لما خرج عنه مما لم يثبت تواتره، فلا تكليف بالنسبة اليه، فليست مسألة التنقيص من المسائل الفرعية التي يختلف بها العمل .

وليس وقوع التنقيص وعدمه من العقائد الدينية المطلوب فيها الاعتقاد حتى يجب الاعتقاد بالوقوع أو عدم الوقوع ؛ لأنه لو فُرض أن ينتقص بعض السور أو الآيات المنزلة في غير الأحكام عن هذا المصحف الموجود، فلا يوجب ذلك تنقيصاً في شأن الباقي منه، وفي شرفه، وإجلاله، وإفضاله وإعجازه، وحجته، وغيرها، ولا يُسلبُ بذلك حُكمٌ من أحكامه، ولا يزيل به أثر من آثاره .

فأعتقاد وقوع تنقيص ما بالنسبة إلى غير الأحكام من أوّل الأمر ليس تنقيصاً في شأن هذا الباقي الموجود أو في جهاته الأخرى، واعتقادهم عدم وقوعه ليس مؤثراً لزيادة شؤونه، فالاعتقاد بالنسبة إلى الباقي الموجود سيّان .

وليس مسألة وقوع التنقيص وعدمه من المباحث الكلامية أيضاً، بأنْ يكون البحث في إمكان وقوع التنقيص وامتناعه ؛ إذ لا شك في أنّ التنقيص عنه عند جميع آياته وإلقاء بعض الآيات والسور منه في الكتابة أمرٌ مقدور للبشر ممكن الوقوع منهم .

وليس كالزيادة فيه ولو بجملة ذات إعجاز في امتناع وقوعها عن جميع الجن والأنس وإنْ كان بعضهم لبعض ظهيرا، أما لنفس نظام الكلام ومزاياه الخارجة عن مقدرتهم، أو لصرفهم وتعجيزهم عنه .

فاحتمال الزيادة فيه مما يدافعه صريح الآيات الشريفة، ويمنعه العقل والاعتبار من مراقبة سائر المسلمين، وإمضاء الأئمة المعصومين « صلوات الله عليهم »، ولذا ما احتمل الزيادة فيه ولو بأية واحدةٍ قصيرةٍ أحدٌ من المسلمين حتى الحشوية، ولا يحتملها إلا منكر القرآن المبين .

إما التنقيص عنه وإنْ كان ممكناً مقدوراً لا يحتملُ أيضاً أحدٌ من المسلمين غير المنقرضين وقوع بعض أنواعه، مثل التنقيص عن آيات الأحكام، فإنّ عدم وقوعه ضروري مُسلّم عند جميع فرقهم، ولا يعد أحد منهم حكم « الشيخ والشيخة » من أحكام الإسلام .

ومثل التنقيص التفصيلي التعييني، بمعنى : تنقيص سورة أو آية معيّنة معلومة لنا غيرَ ما بين الدفتين محكومة بأنّها من الآيات النازلة، فإنَّ عدم وقوع التنقيص كذلك ضروري أيضاً، بعد انقراض مذهب الحشوية عند جميع فرقهم ؛ لإطباقهم على أنّ كل ما يوجد في الخارج عن الدفتين ليس من القرآن ولامحكوماً بأحكامه .

فانحصر محل الخلاف بينهم في وقوع تنقيص شيء مما أنزل قرآناً وهو من غير آيات الأحكام إجمالًا، أي : التنقيص بما لا نعلم شخصُ المنقوص بعينه في الخارج، أو عدم التنقيص رأساً ؛ لتحقق الاتفاق كما عرفت على عدم الزيادة، وعلى عدم تنقيص الأحكام .

وعدمُ التنقيص الشخصي المعيّن وقوع تنقيص ما كذلك بعد الجزم بإمكانه وعدم أثرٍ عمليّ له ولا إعتقاديّ كما ظهر ليس إلا قضية تاريخية، والكشف عن القضايا المستورة التأريخية، وإثبات الحقائق الواقعية فيها بماله من الطرق والحجج مما يليق في سبيله بذل المهج، حيث إنّه أعظم وسيلة لطالب الدين واليقين إلى نيله بسعادة الدنيا والدين ؛ لأنه يستيقن بوجود الصانع العالم والقادر الحكيم، وتوحيده من الوقوف على ما جرت في القرون الخالية من قضائه وقدره على عبيده ويستجلب المنافع، ويتحذر عن المضار بالاطلاع على ما تحاربه أهل الدنيا مدى الأعصار، فيصير كأنّه عَمَّرَ بأعمارهم، وسافر إلى ديارهم فعاشر أخيارهم وأشرارهم، وعاشر صغارهم وكبارهم، وميّز التقيّ والشقي والسعيد والعنيد، فيتخلق بما فيه خلود ذكرهم الجميل، ويتكلف في تخلية نفسه وتهذيبها عن كل قبيح ورذيل إلى غير ذلك مما يطيل، فلا بأس بإجمال القول فيه وإلغاء التفصيل والخوض فيه بغير تطويل .

المسألة التأريخية لا يحكم فيها إلا كتب السير والتواريخ المعتبرة المعتمدة المسلّمة، ولا تخلو تلك الكتب غالباً من متخالفات في بعض خصوصيات واقعة واحدة، بل بعضها مناقض لبعض في بعض الخصوصيات، بحيث لا يمكن الجمع بينهما، بل يقطع بكذب أحدهما إجمالًا .

نعم قد يظفر المتدرب في تلك الكتب والمتفعل في أطرافها بقضية تأريخية، وكلما تتبع في مظان ذكرها من سائر الكتب لا يرى ذكراً لها أو لمّا ينافيها ويناقضها، فيحصل الاطمئنان بوقوعها، وقد يظفر الفاحص المتأمل في تلك الكتب على اختلافها في بعض الخصوصيات بقضية واحدة موجبة وسالبةٍ قد اتفق الجميع في الدلالة عليها مطابقةً أو التزاماً بينّاً، لكنها منضمّة في كل كتاب بخصوصياتٍ مخالفة لخصوصيات في غيره، ولا يرى فيها ولا في غيرها ما يكذب نفس القضية وينفيها صريحاً، فيطمئن بتحقق هذه القضية الواحدة وأنْ لا يحصل له ظن بتحقق إحدى هذه الخصوصيات المتخالفة .

بل قد يحصل العلم بتحقق نفس القضية فقط إذا بلغت عدّة من أخبر بها من مؤلفي الكتب في كتبهم عدة التواتر المفيد للعلم ؛ لأنّ كل واحد منهم قد أخبر بنفس القضية، لكنه مع ضميمة خصوصيات متخالفة، فتلغى تلك الخصوصيات لكونها خبر الواحد، ويبقى نفس القضية مخبراً بها من عدّة بالغة حدّ التواتر، فتكون متواترة لفظاً إنْ كانت مدلولًا مطابقياً، ومعنىً إنْ كانت التزامياً .

بل قد يحصل العلم بالجامع أيضاً في عدّة أخبار قليلةٍ جداً غير بالغةٍ حد التواتر ولا قربه مع اختلافهما في خصوصيات إذا علم إجمالًا بصدور واحد غير معين من تلك الأخبار عن الإمام المعصوم ( عليه السلام ) فأثر هذا العلم الاجمالي القطع بوقوع ما هو الجامع المشترك بين تلك الأخبار، والعلم بصدور ما هو أخصّ مضموناً من الجميع، فيفيد فائدة التواتر المعنوي من حصول العلم بالجامع، وليس منه، بل يسمى بالتواتر الإجمالي .

فكتب التواريخ والسير مع اشتمال أكثرها على اختلافات في خصوصيات أغلب القضايا التأريخية واضطرابات في مضامين روايات يمكن لطلاب الحقائق الاستفادة منها، وتحقيق الحال في القضية عنها بإحدى الطرق المذكورة .

فلو ألغينا هذه الكتب وعزلناها عن الحكومة في القضية التأريخية بمجرد وجود المخالفات والاضطرابات فيها لانسدّ علينا باب معرفة أغلب تلك القضايا ؛ إذ العقل والاجتهاد والرأي والاستبعاد معزولات في استنباط القضايا التأريخية، والحكم بالوقوع واللا وقوع ليس إلا من وظائف تلك الكتب فترك الرجوع إليها ظلم عليها وعلينا بتضييع حق حكومتها وتفويت ما نستفيده منها .

الذي تحقق من كتب التواريخ في كيفية جمع القرآن الشريف بحيث ما وجدت له نافياً صريحاً ولا مكذباً، هو جُمَلٌ مما شرحتها آنفاً، من عدم كونه في عهد النبي  ( صلى الله عليه واله وسلم ) مجموعاً في موضع واحد كما هو اليوم وإنْ كان في عهد النبي  ( صلى الله عليه واله وسلم ) مجموعاً بآياتها وسورها في حافظة بعض الأصحاب والقرآء، وكان جميع الآيات مكتوبات كلها في قطعات متفرقات .

ومن أنّ أول من جمعه على تنزيله وألّفه بالمباشرة عقيب وفاه النبي  ( صلى الله عليه واله وسلم ) كان أمير المؤمنين  ( عليه السلام )  وجمعه مستودع عند أهله .

ثم أول من جمعه تسبيباً بمباشرة زيد بن ثابت بعد وقعة اليمامة في سنة اثنتي عشرة من الهجرة كان أبو بكر، والجمع الثاني لزيد بمعاونة بعض الأصحاب كان بأمر عثمان بعد سنة خمس وعشرين من الهجرة جمعوه كما هو اليوم، وألزم عثمان المسلمين وحملهم على القراءة فيه، وأعدم سائر المصاحف المخالفة معه في الترتيب والزيادة والنقص، مثل : مصحف عبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب، ومعاذ وغيرهما، مما كان يوجد بعض نسخها إلى قرون .

والذي تحقق باتفاق جميع الكتب من أحوال هؤلاء الأصحاب الجامعين للمصاحف المذكورة بعد أمير المؤمنين  ( عليه السلام )  إنه ما كان أحد منهم من أهل العصمة، وأولي النفوس القدسية المعصومة من الخطأ والزلل، بل غاية ما يذكر في توصيفهم أنهم عدول يحترزون المعاصي عن علم وإرادة، وأمّا اقترافها جهلًا بالحكم أو الموضوع، أو لهما، أو نسياناً لأحدهما، أولهما، أوخطأ بلا عمد، أو قهراً بلا إرادة، أو اضطراراً بلا اختيار، فكلها غير مضّر بعدالتهم .

فمقتضى عدالتهم إنهم جميعاً ماكانو ممن يجحدون بآيات الله تعالى وهم مستيقنون، ولا يلغون آية يعلمون أنها من القرآن، وأمّا إلغائهم لآية جهلًا أو نسياناً أو خطأ فلا محذور فيه أصلًا، فينفتح باب احتمال وقوعه، وبه ينسدّ الطريق على من يدعي اليقين بعدم وقوع تنقيص ما في سائر المصاحف التي جمعها سائر الأصحاب .

نعم إذ قد ثبت في الكتب الكلامية عصمته وطهارته بالبراهين العقلية القطعية، والآيات الشريفة الآلهية والأحاديث الصحيحة الصريحة فهو من أهل بيت آية التطهير ونفس الرسول  ( صلى الله عليه واله وسلم ) في آية المباهلة، وباب علمه بحديث المدينة، وخليفة المنصوب من قبل الله تعالى في يوم الغدير .

وقد علّمه رسول الله  ( صلى الله عليه واله وسلم ) تنزيل جميع الآيات الآلهية وتفسيرها، وتأويلها وظاهرها وباطنها، محكمها ومتشابهها، ناسخها ومنسخوخها، ومقدّمها ومؤخرها .

وعلّمه أوصاف الحروف والكلمات، وحدود السور والآيات بدواً وختماً واسماً ولقباً، وسائر أنواع علوم القرآن، ونزول الآيات وفيمن نزلت، وفي ما نزلت، وفي أيّ شيء نزلت، وأين نزلت في سهل أوجبل في سفر أو حضر، وغيرها .

وعلّمه أيضاً كيفية جمعها وترتيبها وسياقها وتركيبها على ما تعلقت به إرادة الله تعالى، وجرى عليه قضاؤه، ووقع به رضاه في اللوح المحفوظ وأعلَمَ به رسول الله  ( صلى الله عليه واله وسلم ) .

ثم أوصى إليه بجمعه كما علّمه، فأنفذ أمير المؤمنين  ( عليه السلام )  وصيّته وما تردى هو  ( عليه السلام )  عقيب وفاة النبي  ( صلى الله عليه واله وسلم ) حتى جمع القرآن على تنزيله، وعلى ما فيه رضى الله ورسوله وهو مصون محفوظ عند أهله.

وأمّا في سائر المصاحف الأخر التي مرّ إمكان التنقيص فيها من حيث هو، وأنّه ليس كالزيادة في الامتناع، فمع فرض كون الجامعين لها هؤلاء الأصحاب المحتمل في حقهم - ولو كانوا عدولًا واقعاً من الخطأ والخطل والعناد والزلل يتأتى في جمعهم احتمال وقوع التنقيص بأية ما ولو جهلًا أو نسياناً، حيث أنهما عذران موجّهان وحالان ملازمان لكلّ إنسان، فالنسيان في جبلته، والجهل ملازم خدمته من لدن خلقته، {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا } [النحل: 78] .

 

فاحتمالُ الخطأ المجوّز في حق الجامع ملازمٌ لاحتمال وقوع التنقيص في جمعه، فضلًا عن احتمال مطلق الخطأ، ومع احتمال التنقيص لا يبقى مجال لدعوى اليقين بعدمه، إلا أنْ يدفع احتمال وقوع التنقيص بحجة قاطعةٍ كما ادّعي من قوله تعالى : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] بتقريب :

إنّ ما وعد الله تعالى بحفظه، وهو حافظه، كيف يسع للبشر تنقيصه خطأ أو عمداً، لكن فيه : إنّ البشر لا يقدر على ما يضاد حفظه وهو إعدامه وسلبُ وجوده، والتنقيص الممكن وقوعه من البشر ليس إلا تركهم كتابته في المصحف وقراءته، وهو يجتمع مع كونه محفوظاً بحفظه تعالى وموجوداً عند أهله .

وقد فسر الآية بذلك تلويحاً سيدنا الإمام المجتبى ( عليه السلام ) في احتجاجه على معاوية بقوله : « ثم قالوا قد ضاع منه قرآن كثير، كذبوا والله، بل هو مجموع محفوظ عند أهله » « 8 ».

وأوهن من ذلك دفع احتمال التنقيص بالاستبعاد بأنّه كيف يسترق آيات الله وينتقص منه على رؤوس الأشهاد من المهاجرين والأنصار والحفاظ والقراء من أطراف البلاد ؛ إذ مرّ سابقاً أنّ الاستبعاد ليس طريقاً إلى إثبات الوقوع وعدمه، وبمجرد استبعاد الوقوع لا يقطع بالعدم مع أنّه لا استبعاد فيه أصلًا نقضاً وحّلًا، كما قرر في محله تفاصيلها .

إذ إنكار آية لا يطلع عليها إلا جمع من المسلمين، مع بعد العهد عن نزولها بعدّة سنين ليس بأعظم من رفضهم نصّ يوم الغدير، الذي سمعه سبعون ألفاً من المسلمين، المتفرقين إلى جميع الأقطار بعد مضي سبعين يوماً.

ويؤيد احتمال التنقيص بما ثبت في التواريخ من سيرتهم في الإثبات والنفي عند جمع القرآن، وما بنوا عليه في تأليفهم له من مراعاة الإتقان، كما مرّت حكايته عن الباقلاني : من أنهم أثبتوا في هذا المصحف كلّ ما ثبتت عندهم قرآنيته عن النبي  ( صلى الله عليه واله وسلم ) ووقع اختيارهم عليه، وألغوا مالم يثبت عندهم قرآنيته .

وجه التأييد : إنّ ثبوت القرآنية أخص من القرآنية الواقعية، وبمجرد عدم الأخص لا يثبت عدم الأعم ؛ لعدم الملازمة بين العدمين، فالذي ألغوه مما كان موجوداً في سائر المصاحف، كما لم يثبت عندهم قرآنية ما ثبت عدم قرآنيته أيضاً، فيكون الملغى محتمل القرآنية ومنقوصاً عنه باختيارهم .

وما ادّعاه الباقلاني من « أنّ ما ألغوه كان أمره دائراً بين أنْ يكون قرآناً منسوخ التلاوة أو يكون تأويلًا لا تنزيلًا » .

فيه : إنه لا نسخ بعد النبي  ( صلى الله عليه واله وسلم ) بالاتفاق، وهو ما نسخ تلاوة شيء من القرآن في حياته، مع أنّ النسخ ليس إلا في الأمر والنهي، والفرض أنّه ما ألغى من آيات الأحكام شيئاً حتى يكون الإلغاء لنسخ تلاوته .

مع أنّ قوماً من علماء الإسلام أنكروا نسخ التلاوة ؛ لعدم حكمة فيه كما رواه الباقلاني عنهم قالوا : « ولوفرض اقتضاء الحكمة على القراءة فطريقة إنساء الله تعالى الآية عن حافظة القرّاء من المسلمين، ومحو خطّه من مصاحفهم لا نسخ تلاوة الآية مع كونها في صدورهم وصحفهم .

وأمّا دعوى « أنّ الملغى كان تأويلًا لا تنزيلا » لم تثبت عن نفس الجامعين، ولو فرض ادّعائهم ذلك لكان معارضاً بأدعاء ابن مسعود، وأبيّ بن كعب وغيرهما ممن أثبتوه في مصاحفهم بأنه قرآن لازم التلاوة .

ومثل عبد الله بن مسعود وأبيّ ما كانوا أقصر باعاً من سائر الصحابة « 9 »، ولاسيمّا من زيد بن ثابت في معرفة علوم القرآن والأخذ عن النبي  ( صلى الله عليه واله وسلم ) كما هو معلوم من تراجمهم، حتى قال

ابن مسعود : « أخذت من في رسول الله  ( صلى الله عليه واله وسلم ) سبعين سورة وزيدٌ ذو ذؤابتين يلعب مع الغلمان، كما في أمالي الطوسي « 10 »، وقال أيضاً : « والله لقد أسلمت وكان زيد في صلب رجل كافر » كما في الترمذي « 11 ».

وبعد سقوط الدعويين لا يرشدنا التاريخ إلى دليل آخر استندوا اليه في إثبات الدعوى، بل يصرّح بأنّهم أنفذوا الأمر بالقهر والسلطة وضرب مثل عبد الله بن مسعود، ومنع حقه .

واعتذر ابنُ حجر في صواعقه من ضرب عثمان لعبد الله بن مسعود بأعذار، إلى أنْ قال « 12 » : « لا سيما وكل منهما مجتهد، فلا يعترض بما فعله أحدهما مع الآخر »، وكذلك أحمد زيني دحلان قال في فتح المبين : « إنّه وقع بينهما كلامٌ أوجب المهاجرة بينهما وكان كل منهما مجتهداً مأجوراً في قوله لا لوم على واحد منهما ».

أقول : على هذا فأحتمال قرآنية ما ألغوه باقٍ بحاله، قد عَلِمَ بها من أثبتها في مصحفه كابن مسعود لخلوّ ذهنه عن عقيدة الخلاف، ولكن ما أثر الطريق المفيد للعلم في ذهن من ألغاها ؛ لسبقها بعقيدة الخلاف، النا شيْ ة من تسويل في النفس بإغواء الشيطان وإغفاله إيّاها عن الحق والعيان ؛ لمِا كَمَنَ في قلبه من حب شيء أو بغض شيء تعصباً أو عناداً، كما لا يورث تواترُ حديث الغدير علماً في جملة من الأذهان، ولذلك ما ثبتت عندهم قرآنية مصحف أمير المؤمنين  ( عليه السلام )  بعد جمعه وعرضه عليهم ؛ إتماماً للحجة فأعرضوا عنه وأضاعوا  حظّهم ورشدهم .

وكان محمد بن سيرين يتفحص عنه، ويتأسف عليه، ويقول : « لو أصيب ذلك الكتاب لوجد فيه علم كثير ».

قال الشيخ السعيد أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان المفيد « 13 » : « إنّ ما بين الدفتين من القرآن جميعه كلام الله تعالى وتنزيله، فليس فيه شيءٌ آخر من كلام البشر، وهو جمهور المنزل، والباقي مما أنزله الله تعالى قرأناً عند المستحفظ للشريعة المستودع للأحكام لم يضع منه شيء وإنْ كان الذي جَمَعَ ما بين الدفتين الآنَ لم يجعله في جملة ما جَمَع ؛ لأسباب دعته إلى ذلك منها : قصوره عن معرفة بعضه، ومنها : ما شك فيه، ومنها : ماعمد بنفيه، ومنها : ما تعمد إخراجه، وقد جمع أمير المؤمنين  ( عليه السلام )  القرآن المنزل من أوّله إلى آخره، وألّفه بحسب ما وجب من تأليفه فقدّم المكي على المدني، والمنسوخ على الناسخ، ووضع كل شيء منه في محله .

إلى قوله « 14 » : « غير أنّ الخبر قد صحّ عن أئمتنا ( عليهم السلام ) أنهم أمرونا بقراءة ما بين الدفتين، وأنْ لا نتعداه إلى زيادةٍ فيه ولا نقصان منه، حتى يقوم القائم  ( عليه السلام )  فيقرأ الناس القرآن على ما أنزله الله، وجمعه أمير المؤمنين  ( عليه السلام )  وانمّا نهونا عن قراءة ما وردت به الأخبار من أحرف تزيد على الثابت في المصحف ؛ لأنها لم تأتِ على التواتر، وانمّا جاء بها الآحاد، والواحد قد يغلط فيما ينقله ».

إلى آخر كلامه الصريح في أنّ ما ذكرناه من تأييد احتمال وقوع تنقيص ما من هذه الآيات الإلهية قد تحقق عنده من كتب التواريخ والسير، وَأنّه جزم به، وأرسله إرسال المسلمات، وهذا النظر منه مقدور ومشكور لا بملاحظة جلالته وعظمته، وأنه كان هو أستاذ المتكلمين على الإطلاق، وعقمت النساء عن مثله في الأدوار والآفاق، حيث ما ورد في حقّ أحدٍ مثل ما ورد في شأنه عن الحجة المنتظر ( عليه صلوات الله الملك الأكبر ) من توصيفه في التوقيع الشريف : « بالوليّ الملهم بالحقّ العلي » .

فهو وإنْ كان ملهماً بالحق، لكن لا نعدّ هذا الرأي من ملهماته، ولا نلقّيها بالقبول من مهاباته، بل نقدره لصراحة كلامه في أنّ الموجود بين الدفتين خارج عن حريم النزاع بجميع الجهات، وإنمّا البحث في موضوع آخر غيره الذي عبّر عنه بالباقي، واختار أنه نزلت بقية لا توجد في هذا الموجود، ونشكره لما نرى من إصابته الحق فيما استكشفه من كتب التواريخ والسير من نزول شيء آخر ما جُعل في هذا الموجود، ولا نعرفه بعينه، وهو محفوظ مستودع عند أهله .

ولا نرى هذه الإصابة راجعة إلى جهاته الشخصية التي لا يدانيها فيها أحد من وفور علمه ومهارته في الكلام، وتبحره في التواريخ والسير وغيرها، بل نرى أنّ كل من بذل وسعه وجدّ في الطلب حقه بالتتبع في الكتب، والتفحص في أطرافها يرى الحق عياناً ويكشف له الأمر وجداناً، حيث إنّ الفاحص كذلك يجد من الروايات والأحاديث ما يتجاوز عددها عن حدّ التواتر، وقد جمع أكثرها شيخنا العلامة النوري في فصل الخطاب .

وتلك الأخبار وإنْ كانت فاقدة للحجة، ومضطربة من جهات، وكلّ واحدٍ منها مخالف مع غيره في خصوصيات، ولا يتجاوز بالنسبة إلى خصوصياته عن حد أخبار الآحاد، ولا تثبت واحدة من تلك الخصوصيات، ولا يترتب عليها أثر أبداً لكن يرى كل واحد منها مشاركاً مع غيره في الدلالة مطابقة أو التزاماً على وقوع تنقيص شيء مما نزل قراناً، فهذا المضمون المشترك فيه الذي يدل عليه كل واحد من تلك الأخبار الغير المعتبرة البالغة حدّ التواتر « 15 » يكون متواتراً معنوياً، فيثبت به قرآنية الشيء المنقوص المجهول عينه لنا، كما تثبت قرآنية ما بين الدفتين بتواتره .

ومن هذا التواتر المعنوي يحصل العلم الضروري لكل من خلت ذهنه عن اعتقاد خلافه، ولو لم نجد من تلك الأخبار ما بلغ حد التواتر فلا محالة نجد فيها من الأخبار المعتبرة عدة يقطع بصدور واحد منها لا بعينها عن المعصوم  ( عليه السلام )  فيصير المضمون الأخص الذي هو مشترك فيه من مداليل تلك العدة مقطوعاً صدوره عن المعصوم  ( عليه السلام )  فيقطع بصدور الأخبار بوقوع تنقيص  شيْ  مما نزل قراناً عنه  ( عليه السلام )  للعلم الإجمالي بصدور واحدة مشتملة على هذا المضمون عنه، والى هذا أشار شيخنا العلامة الخراساني في الكفاية بما لفظه « 16 » : « ودعوى العلم الاجمالي بوقوع التحريف بإسقاط أو بتصحيفٍ وإنْ كانت غير بعيدة كما يشهد به بعض الأخبار ويساعده الاعتبار » إلى آخر كلامه .

قد تلخص مما ذكرناه، وثبت مما قررناه أنهّ ليس بين المسلمين خلافٌ في كتاب الإسلام الموسوم بالمصحف الشريف الموجود بين الدفتين المصون بحفظ الله تعالى عن كل شين ؛ لأنه ظهر أنّ من ضروريات الاسلام التي يعد منكرها خارجاً عنه إنّ جميع ما بين الدفتين من الآيات الكريمة وحيٌ إلهي منزل إلى رسوله  ( صلى الله عليه واله وسلم ) منجمّاً من لدن بعثته إلى أوانِ رحلته قد وصل الينا بالتواتر اليه.

وليس فيما بينهما غير الوحي الإلهي لا سورةً ولا أيةً ولا جملة ذات إعجاز، وليس في تلك الآيات تغيير ولا تحريف، وإنّ خلاف بعض القراء في قراءتهم بزيادة حرف أو نقصها أو كلمة أو بدلها ليس خلافاً منهم في القرآن، ولا خيرٍ فيه بعد ثبوت الاتفاق من أئمة المسلمين بجواز القراءة بكلٍ منها ولو تسهيلًا على الأمة إلى ظهور خاتم الأئمة وقائمهم ( عج ) .

وظهر أيضاً أنّ أحداً من المسلمين لا يلصق بكرامة القرآن أيّ شيء كان مما ذكر فيه سائر الأخبار الغير المتواترة من السور أو الآيات أو الكلمات، ولا يعتقد قرآنيته، ولا يجري عليه أحكام القرآن، ولا يترتب عليه آثاره، إلا من كان في القرون الأوائل من بعض طوائف الحشوية، العاملين بكل خبر واحد، والحاكمين بثبوت القرآنية به، والحمد لله على انقراضهم من بين المسلمين، وظهور فساد مذهبهم، فالقرآن الشريف الذي هو كتاب الإسلام وذات الآثار والأحكام محدود عند جميع فرق المسلمين بمجموع ما بين الدفتين، لا يعاملون ما خرج من بينهما معاملة القرآن، ولا يلصقونه به، كما لا يَدَعَونَ مِنْ حكَمِ القرآن ولا يشذون منه آية أو جملة مما بينهما، فالزيادة فيه منفية باتفاق جميع المسلمين، والنقيصة العينية أيضاً منفية باتفاقهم، فأينَ وقع بين المسلمين في كتابهم خلاف يا ذوي البصائر وأهل الإنصاف ؛ فهل للمسلمين كتاب دين غير ما هو فيما بين هاتين الدفتين، وأيّ مسلم تجاسر بالقول بالتحريف في هذا القرآن الشريف أو أنتقص شيئاً من شرفه، وفضله أو أنكر إعجازه وحجيته، فإنه تعالى شأنه عمّا يقوله الجاحدون المنكرون علواً كبيرا.

وتلخص أيضاً أنّ البحث المعبر عنه بالتحريف المراد به : التنقيص الجاري بين العلماء من الصدر الأوّل ليس بحثاً في القرآن الموجود بين الدفتين أصلًا، وإنما هو بحث في موضوع آخر، وتقريره :

أنه هل نزل على النبي  ( صلى الله عليه واله وسلم ) وحي إلهي على جهة القرأنية وهو غير موجود فيما بين الدفتين بل هو محفوظ ومذخور عند أهله ؟ أو ما نزل  شيْ  آخر قرآناً غير هذا الموجود أصلًا، والضرورة قاضية بتوجه النفي والإثبات في هذا الخلاف إلى ما لا يوجد بين الدفتين المعبر عنه بالباقي كما مرّ نقله عن الشيخ المفيد، ولا ربط له بالموجود بينهما أبداً وحيث أنّ ثبوت نزول  شيْ  آخر قرآناً مع عدم وجوده بينهما ملازم مع وقوع تنقيص له إجمالًا عن الجامعين وإلغائهم إياه في حال الجمع عمداً أو سهواً علماً أو جهلًا يعبر عن دعوى النزول بلازمه .

ويقال : هل وقع تنقيص إجمالي عنهم أو لا ؟ وقيدّ جهة القرآنية في العنوان لبيان أنّ هذا البحث صغروي، والكبرويات مسلّمة بين الطرفين، حيث أنّ نزول وحي غير موجود بين الدفتين مسلّم عند أهل السير ولا ينكر أحد من طرفي هذا البحث، لكن يدعى أحدهما أنّ ذلك الوحي كان تفسيراً وتأويلًا ويدّعي الآخر أنّه كان قرآناً وتنزيلًا، كما أنّ تنقيص الجامعين وإلغائهم لبعض الوحي المنزل مسلّم عند الطرفين، لكن يدّعى أحدهما أنّ الملغى كان تفسيراً، والآخر يدّعى انه كان قرآناً .

فالشبهة في المقام في الموضوع الخارجي، والخلاف في تشخيص الفرد الذي وجد، والمصداق الخارجي من الوحي المنزل على النبي  ( صلى الله عليه واله وسلم ) والملغى من هذا المجموع في حال جمعه، وأنّه هل كان تفسيراً فالغي أو كان قرآناً ؟

ثم إنّ بعض من سلّم القرآنية يدّعى أنّه نسخت تلاوته فألغي، والآخر يبطل نسخ التلاوة والبحث الصغروي، والخلاف في أنّ الموجود الخارجي أيّ  شيْ  هو لا طريق إلى تشخيصه ومعرفته إلا الرجوع إلى أهل خبرته، والسؤال عن العارف بحقيقته، فالمرجع في المقام إنما هو كلمات أهل السير والتواريخ ومداليل الأخبار والأحاديث - كما مرّ بيانه - مع ما يستفاد من مجموعها بالتواتر المعنوي أو الإجمالي من وقوع تنقيص  شيْ  مما نزل قرآناً عن الجامعين لما بين الدفتين، ويشخص بها، ويعيّن أنّ الفرد الخارجي الموجود من الوحي اليه  ( صلى الله عليه واله وسلم ) كان قرآناً، وأنّه ألغي ونقص ولم يدرج بينهما، وأمّا الأصول فلا تشخص وجود الموضوع الخارجي، ولا تستعمل في تشخيص الموضوعات، فلا وجه للتمسك بها في المقام .

والقول بأنّ مقتضى الأصل عدم وقوع تنقيص  شيْ  مما نزل قرآناً كما حكاه شيخنا العلامة النوري في فصل الخطاب « 17 » عن بعض إذ لا يُعَيَّن بهذا الأصل أنّ ذلك الوحي المنّزل الذي لا يوجد في هذا المجموع لم يكن قرآناً بل كان تفسيراً كما لا يخفى .

وأوهن من ذلك دعوى حصول القطع بعدم وقوع تنقيص شيء مما نزل قرآناً، وأنّ الوحي المنّزل الملغى كان تفسيراً جزماً فإنه لا طريق إلى حصول القطع بذلك إلا الرجوع إلى التواريخ والسير التي قد سبق أنّ بالرجوع إليها تنفتح لاحتمال وقوع التنقيص إجمالًا أبوابٌ لكلّ ناظر، وينقدح في النفس منها الشك والارتياب لكل ماهر، ومع الشك والاحتمال لا يبقى لدعوى القطع بالعدم مجال، كلّ ذلك مع غمض العين عمّا يستفاد من مجموعها على ما مرّ بيانه من التواتر المعنوي أو الإجماليٍ من القطع بوقوعه، ولذلك ما سمعت هذه الدعوى من احدٍ من المحققين منّا صريحاً ولا ظاهراً كما سيبين .

المعروف من أصحابنا في هذا البحث وهو التنقيص الإجمالي قولان :

أحدُهما : القول بوقوع تنقيص إجمالًا بشيء مما نزل قرآناً لا نعلمه بعينه، وأنه مذخور عند أهله ؛ لدلالة الأخبار المتواترة معنىً عليه كما مرّ بيانه، وهو قول كافّة من أدركتهم من المشايخ، ولا أرى أحداً من الأصحاب يخالفهم في ذلك كما يأتي مشروحاً .

والقول الاخر : الذي يقال : إنه للقدماء، أعني : الشيخ الصدوق، والسيد الشريف المرتضى، والشيخ الطوسي، والطبرسي، وغيرهم، عدم وقوع التنقيص .

لكن بالنظر الدقيق في كلماتهم يظهر أنهم ما اختاروا في محل البحث قولًا مخالفاً للقول الأول، وما ذكروا التنقيص الإجمالي، ولا ادّعوا القطع بعدم وقوعه، بل يظهر من بعض كلماتهم موافقتهم لسائر الأصحاب على وقوع التنقيص الإجمالي .

وذلك لأنّ ظاهر كل من انكر من أصحابنا وقوع التنقيص الاجمالي إنه إنّما أراد من إطلاق التنقيص ما هو أظهر أفراده - وهو التنقيص العيني المعلوم منقوصه تفصيلًا بشخصه - لا مطلق التنقيص الشامل للإجمالي الذي في فرديته له نوع خفاء بلحاظ الجهل بمنقوصه عيناً .

وذلك لأنهّم إنما أنكروا ما ادّعاه مخالفوهم، وما كانوا يرون لهم مخالفاً غير الحشوية، وأصحاب الحديث، كما صرّحوا في عباراتهم ومدّعى هؤلاء ما كان إلا التنقيص العيني بآيات أو سور مذكورة في الأخبار، فكانوا يدعون أنهّا قرآن، ويرتبون آثار القرآن وأحكامه عليها عملًا .

وأمّا التنقيص الإجمالي الذي لا يترتب عليه أثر عملي فما كان محلّ دعواهم، وما كان لهم نظرٌ اليه، فهؤلاء الأصحاب القدماء المذكورون قد وافقوا سائر المسلمين في إنكار التنقيص العيني الذي هو مدّعى الحشوية، وليس إنكارهم ونفيهم ناظراً إلى التنقيص الإجمالي أبداً .

فالشيخ الصدوق بعد نفيه قرآنية غير ما في الدفتين مما في سائر الأخبار، وجوابه عنها : بحمل ما فيها على الوحي الغير القرآني، وبأنّها نظير الحديث القدسي وليس قرآناً قال ما لفظه « 18 » :

« ولو كان قرآناً لكان مقروناً به وموصولًا اليه غير مفصول عنه، كما كان أمير المؤمنين  ( عليه السلام )  جمعه، فلمّا جاء به فقال : هذا كتاب ربكم كما أنزل على نبيكم لم يزد فيه حرف ولم ينقص منه حرف » فقالوا : « لا حاجة لنا فيه عندنا مثل الذي عندنا مثل الذي عندك »، فانصرف وهو يقول : {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 187] الخ .

فهو بعد ردَّه على الحشوية بما مرّ يعرف بأنّ الذي كان موصولًا في جمع أمير المؤمنين  ( عليه السلام )  كان قرآناً، وقد نبذوه وراء ظهورهم، واكتفوا بما عندهم الموجود بين الدفتين، وهذا هو عين التنقيص الإجمالي المدّعى وقوعه فإنّ ما في جمعه  ( عليه السلام )  إن كان كلّه عين ما هو الموجود بين الدفتين فما نبذوا شيئاً من القرآن، ومن ذلك يظهر أنّ كل من التزم بنبذهم شيئاً من القرآن فهو قائل بوقوع التنقيص الاجمالي وإنْ لم يصرَّح به أو التزم بعدم التنقيص العيني .

وأمّا السيد الشريف المرتضى علم الهدى المبالغ في نفي التنقيص في المسائل الطرابلسية فكلامه أصرح في أنّ مراده نفي التنقيص العيني وإنكاره، حيث أنّه صرّح بأنّ المخالف ليس إلا الحشوية وأصحاب الحديث، وهم المدّعون للتنقيص العيني بالآيات والسور المذكورة في أخبار الآحاد، فأنكر عليهم السيد أشدّ الإنكار .

وردّهم بأنّ مستندهم أخبار آحاد ظنية فلا يرجع بمثلها عن المقطوع بصحته، يعني : لا يلصق هذه المظنونات بالقرآن المتواتر عن النبي  ( صلى الله عليه واله وسلم ) المقطوع صحته .

وأمّا التنقيص الإجمالي فليس في كلامه تصريح أو ظهور في نفيه، بل ليس كلامه ناظراً إليه، لأنه مسوق لإنكار دعوى الحشوية، وهذا النكير منه في محله، باتفاق جميع المسلمين كما مرّ .

نعم تأكيده لهذا الإنكار بدعوى : أنّ هذا القرآن كان مجموعاً مؤلّفاً في عصر النبي  ( صلى الله عليه واله وسلم ) كذلك ليس بسديد ؛ لمنافاته لما علم بالتواتر المعنوي من الأخبار والسير أن الجمع في موضع واحد وعلى الترتيب الذي عليه اليوم إنما حدث بعد رحلته  ( صلى الله عليه واله وسلم ) مع أنه ما أستند في هذه الدعوى إلا بما ليست دالة على مدّعاه، ولا حجة عنده ؛ لكونها آخبار آحاد .

إلا أن الإنصاف إنّ نسبة القول بنفي التنقيص حتى الإجمالي منه إلى علم الهدى خلاف الإنصاف بعد أنه ما ستر على عقيدته بل أعلن بها في زوايا كلمته ففي كتابه الشافي « 19 » عند ذكر المطاعن، عدّ من عظيم ما أقدم عليه عثمان حمله جميع الناس على قراءة مصحف زيد، وجعله الإمام، وإبطاله سائر المصاحف وإعدامها .

( 20 ) قال في الشافي نسخة المطبوعة سنة 1301 عند ذكر مطاعن عثمان ما لفظه : « ومن ذلك أنه أقدم على كبار الصحابة بما لا يحل نحو إقدامه على ابن مسعود عندما أحرق المصاحف ثم ذكر إقدامه على عمار حتى فتق وإقدامه على أبي ذر ونفيه إلى قوله « ثم عظيم ولعل أصل النسخة كان هكذا » « ثم من عظيم ما أقدم عليه جمعه » ما أقدم عليه من جمعه الناس على قراءة زيد وإحراقه . المصاحف وابطاله ما شك انه منزل من القران وانه مأخوذ عن الرسول  ( صلى الله عليه واله وسلم ) ولو كان مما يسو الخ سبق اليه الرسول ولفعله أبو بكر وعمر وذكر الشيخ الطوسي بعين ما ذكره السيد الشافي سنذكره .

فإنّ السيد المرتضى ( رحمه الله ) لو كان عالماً بأنه لم يكن  شيْ  مما أنزل قرآناً في جميع ما أبطله عثمان مما كان موجوداً وثابتاً في سائر المصاحف، وكان معترفاً بأنه إنمّا أعدم وأبطل غير القرآن، وأبقى القرآن بتمامه وكماله بلا نقص  شيْ  ما منه، ثم حمل الناس عليه .

أما كان من الواجب عليه حينئذٍ أنْ يعدّ هذا من مناقب عثمان وفضائله، حيث أنّ الذي أبقى القرآن الكامل التام للمسلمين، وألغى ما كانوا يلصقونه بكرامته، فعدّ السيد هذا الإبقاء والإلغاء لعناً عظيماً عليه، مع علمه واعترافه بما مرّ إما يكون لعدم تمييزه بين المنقبة والمنقصة حتى عدّ المنقبة منقصة جهلًا بهما، أو لتعمّده بطعن البرئ والافتراء عليه، وإشاعة الفاحشة في المسلمين علناً، وغير ذلك من الخيانات بالدين .

أفيرضى عاقلٌ أنْ ينسب إحدى هذه الأمور إلى مثل عَلَمِ الهُدى، وينكشف لكل عاقل من هذا الطعن الواقع منه كذلك في الشافي إنه ما كان عالماً ولا جازماً ولا معترفاً بعدم وقوع التنقيص الإجمالي، بل كان عالماً بوقوعه أو محتملًا له .

وإنّ مراده من نفي التنقيص في المسائل الطرابلسية ما كان إلا نفي التنقيص العيني الذي تدّعيه الحشوية، وأمّا التنقيص الإجمالي فما أراد من إطلاق كلامه نفيه، ولا إنكار وقوعه ؛ لأنه يدل طعنه المذكور على أنّه أمّا كان في عقيدته قاطعاً بوقوع التنقيص الإجمالي أو محتملًا له ومجوّزاً وقوعه .

وعلى التقديرين، فطعنه وارد على مَنْ عيّن مصحفاً ألغى منه شيئاً مما في سائر المصاحف ؛ لأنّ الملغى ما دام لم يثبت عدم قرآنيته، ولم يعلم بأنه ليس من القرآن، فلا محالة يدور أمره بين أنْ يكون قرآناً أو محتملًا للقرآنية، وأيّاً منهما كان لا يجوز إلغائه وإبطاله وإعدامه .

بل صريحُ لفظ السيد من الشافي أنّه « أبطل بإحراقه ما شك أنّه منزل من القرآن » كما نقلناه في الهامش، وكذلك الشيخ الطوسي مع صراحة كلامه في أنّ المخالف هم المتمسكون بأخبار الآحاد، وأنّه ينفى ما يدّعونه من التنقيص العيني المذكور في الأخبار ؛ لكونها آحاداً صرّحَ أيضاً في تلخيص الشافي بثبوت هذا الطعن، وهو إبطال ما شك في قرآنيته ويظهر من ثبوته عنده أنّه ليس منكراً للتنقيص الإجمالي، كما ظهر أنّه لا ينكره الشيخ الصدوق والسيد المرتضى، وهم القدماء الذين صرّحوا بنفي التنقيص، ومرادهم نفي العينّي منه لا الإجمالي .

ومن اتفاق سائر الأصحاب على ثبوت هذا الطعن يظهر أنه ليس فيهم من قطع بعدم وقوع تنقيص  شيْ  مما نزل قرآناً، ومن أنكر التنقيص الإجمالي رأساً، بل هم بين قاطع بوقوعه لثبوت قرآنية المنقوص الإجمالي عنده بالتواتر المعنوي كما مّرَ، وبين من يحتمل وقوعه ؛ لأنّ المنقوص يدور أمره عنده بين أنْ يكون قرآناً أو غير قرآن، فهو يحتمل تنقيص  شيْ  مما نزل قرآناً .

فظهر أنّه ليس فيما بين الإمامية من القدماء والمتأخرين من ينكر وقوع التنقيص الإجمالي ويدّعي القطع واليقين بعدم وقوعه، وهذا مراد العلامة المتكلم المفسّر الفقيه النسابة المولى أبي الحسن الشريف الفتوني الأصفهاني الغروي الجدّ الأعلى من طرف الام للعلّامة صاحب الجواهر في كتابه مرآة الأنوار من قوله : « إنّ التحريف - أي : التنقيص الاجمالي - من ضروريات مذهب الشيعة » « 21 »، يعني : أنّه لا ينكره أحدٌ منهم، بل إنما يُذعِنُ بوقوعه أو يظنه أو يحتمله لا أقل .

بل لا يزال ينقدح هذا الاحتمال في ذهن كل من لا يتعسف في المقال، وينتصف للحق في كل حال إذا أمعن النظر، في ما ورد في التواريخ والسير من بدوّ نزول الآيات منجّماً من البعثة إلى الرحلة، وجمعها بعد الارتحال في المصاحف إلى الجمع الأخير في عصر عثمان كما عليه اليوم، وتَفَطَّنَ لكيفية جمع المصاحف، وصدوره عن من لم يبلغ رتبة العصمة الإلهية والطهارة عن الرجس والدنية، ولم تنتف عنه مقتضيات الطبيعة البشرية من وقوع الخطأ والغلط والزلة والعصيان، والسهو والنسيان عنه في أموره، حتى في النقل والرواية والاجتهاد والدراية .

وكون الجامع بعد إسلامه محكوماً بالعدالة في طول عمره لا يقتضى أزيد من عدم الاقتحام في الكبائر، وترك الاصرار على الصغائر عن علم وعمد، وأما مع الجهل بالحكم، أو الموضوع، أو بهما، عمداً، أو خطأً، أو النسيان كذلك للحكم، أو الموضوع، أولهما فهو في تلك الأحوال معذور في الاقتحام في أكبر الكبائر إلا في بعض ما استثنى .

وامّا لو لم تثبت العدالة رأساً، أو زالت عنه فاحتمال العمد يزيد على المحتملات .

وبعد التفطن لبواعث هذه الاحتمالات فإنْ لم ينقدح في قلبه  شيْ  منها وبقي قاطعاً بعدم تنقيص  شيْ  مما نزل قرآناً لا علماً ولا جهلًا، لا عمداً ولا سهواً، لا غفلة ولا غلطاً، فنراهُ مختلطاً أو مغالطاً .

نعم القطع بعدم النقص بالنسبة إلى مصحف أمير المؤمنين  ( عليه السلام )  في محلّه ؛ لأنه المعصوم من كل زلة من الولادة إلى الشهادة، والمطّهر من كل دنّيةٍ باتفاق جميع الأمّة، كاتب جميع ما أوحي إلى النبي ( صلى الله عليه واله وسلم )، وباب علمه من كافة تلك الآيات بكلماتها وحروفها، وجميع ما يتعلق بكل آية منها من أنواع علوم القرآن، وأدّى إليه كلّ ما استفاده  ( صلى الله عليه واله وسلم ) من علم الله تعالى.

وعرّفه كيفية جمع آيات القرآن وسوره، والترتيب المرعيّ بين الآيات وبين السور، والحدود التي جعلها الله لهما بدواً وختماً، وتقديماً وتأخيراً على ما أراده الله تعالى، واختاره  وجرى عليه قضاؤه في كتابه، وتعلقت به مشيئته في العلم الآلهي المسطور في اللوح المحفوظ .

وأوصى اليه بجمعه، فبادر إلى إنفاذ وصيته، وما ارتدى عقيب وفاته حتى جمعه وألّفه بحروفه وكلماته، وحدود سوره وآياته، تماماً كاملًا كما علّمه وعيّنه على مراد الله تعالى ومرضاته، ومشيئتة ومختاره، وعرضه على الأمّة لكنّهم ابتلوا بالخذلان، فأعرضوا عنه، وما رزقوا منه إلا الحرمان، مع أنّه  ( عليه السلام )  أخبرهم بقوله الصادق : إنه ليس فيه زيادة حرف، ولا نقص حرف ».

فعلمنا عدم التنقيص فيه من إخبار المعصوم  ( عليه السلام )  به، كما كان التنقيص الإجمالي في غير مصحفه، مع كونه ممكناً في نفسه، ومحتمل الثبوت على مجرى العادة الانسانية، والطبيعة البشرية الغير المعصومة من الخطأ والزلل، بحيث لا يمكن لعاقل الجزم بنفيه، وإنما قطعنا بوقوعه من أخبار المعصوم  ( عليه السلام )  الذي وصلنا بالتواتر المعنوي والعلم الاجمالي، وليس للبشر طريق يوصله إلى العلم بشيء أقوى من أخبار المعصومين ( عليهم السلام ) الذين هم معادن علم الله، وحملة وحيه، وخزان حكمته .

والحمد لله الذي جعلنا ممن لا يقول بغير علم، بتوفيق اتباعنا لهم والأخذ عنهم قال أمير المؤمنين  ( عليه السلام ) « 22 »

« يا كميل لا تأخذ إلا عنّا تكن منا ».

ولنختم الكلام بحمد من هدانا لدين الاسلام، وحبانا بفصل الخطاب المنزّه عن وقوع خلاف فيه، أو تحريف أو ارتياب، وأرشدنا في محلّ الخلاف إلى رفض التعصب والاعتساف، والأخذ بسنّة الإنصاف » من الجزم، بأنّ بقية ما أنزل المذخورة عند الأطهار قد وضعت عنا مالها من الآثار ؛ لحجبها عن الأبصار إلى أنْ تظهر بظهور صاحب الدار وجعلنا له من الأنصار وصلى الله عليه وعلى جده ووآبائه ماكرّ الليل والنهار.

وإنّ جميع تلك الآيات المجموعة الموجودة بين الدفتين المتواترة عن النبي  ( صلى الله عليه واله وسلم ) كلها بعينها موجودة في مصحف أمير المؤمنين  ( عليه السلام )  لكنها على ترتيب النزول وعلى ما أختاره الله تعالى وأعربه الرسول  ( صلى الله عليه واله وسلم ) لا على الترتيب الموجود الذي اختاره بعض الأصحاب - أي : أصحاب النبي - واستنسخه الباقون بآرائهم واجتهادهم بعد الإعراض عمّا رتبه أميرُ المؤمنين  ( عليه السلام ).

بدعوى : عدم الحاجة اليه مصرّحين بعدم استنادهم بهذا الترتيب إلى تعليم النبي  ( صلى الله عليه واله وسلم ) وتعيينه وإرشاده ودلالته .

ومعترفين بعدم صدور هذا الجمع عنهم بإيصائه وأمره، أو إذنه وإجازته، بل بدعوى : حبّ الدين وحفظ الكتاب المبين باشروا بجمع القرآن .

واستبدوا بترتيبه كذلك اجتهاداً منهم بأنّ كتاب الله تعالى غنيٌّ عن رعاية الإرتباط والانسجام، ومنزّه عن عنايات خاصة بنظم جمل الكلام، وأسلوب القضايا والأحكام، أو سوق حكمه وأمثاله وقصصه، أو ترتيب سوره وآياته وحكاياته وخطاباته، أو تعيين ما يليق بفاتحته وخاتمته، ويستحسن في خطته وديباجته، وغير ذلك مما يراعيه كافّة الخطباء والمتكلمين، وعامة الكتاب والمؤلفين، واعتقاداً منهم بأنه ما كان على الله إلا إنزال الآيات ولمّا فرغ عن الانزال فوّض سائر أمور المنزل إلى العباد يعالجونه بحسب الرأي والاجتهاد .

وكما اعتقدوا واقبل ذلك بتفويض ما هو أعظم من ذلك إليهم، من نصب الخليفة واختيار الإمام ؛ إذ بوقوع اختيارهم على غير أهله هَدَمَوا أساس الإسلام .

وأمّا بوقوع اختيارهم على غير ترتيب النزول وإنْ خالفوا مرادات الله تعالى في نظم كتابه وترتيبه، ولكنهم حفظوا أساسه وجمعوا بين الدفتين نفس مراد تلك الآيات الآلهية التي هي القرآن المتواتر بعينها وبسورتها الشخصية، باستثناء ما علمنا نقصه إجمالًا بالتواتر المعنوي والعلم الإجمالي عن المصحف المذخور عند أهل البيت ( عليهم السلام ) الذي فيه تمام ما أنزل قرآناً على ما أراده الله تعالى من النظم والترتيب، وقد كان ابن سيرين يتأسف عليه ويقول : « إنه لو أصيب لوجد فيه علم كثير » .

ويحق لكل مسلم أنْ يتأسى بابن سيرين في الأسى ويتأوّه على وقوع ما جرى، ويتحسر لحرمانه عمّا في ذلك الكتاب من أنواع المعارف والعلوم، وأنوار الهدى، وينتظر الفرج بحضور ذلك المستور عن الأبصار وظهور مهدي فإنه إنه أفضل الأعمال لقوله ( صلى الله عليه واله وسلم )

« افضلُ أعمال أمتّي انتظارُ الفرج « 23 ».

اللهمّ عجل فرجه وسهّل مخرجه، واجعلنا من أنصاره وأعوانه وخدّامه ومقوّية سلطانه صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين المعصومين والحمد لله رب العالمين .

فرغ من تدقيقه كاتبه الجاني محمد بن محسن المدعو آغا بزرك الطهراني أوائل الأيّام المعلومات من سنة ثلاثة وخمسين وثلاثمائة وألف سنة 1353 .

قد فرغت من استنساخ هذا الكتاب على نسخة بخط السيد مهدي بن السيد أحمد الطباطبائي الدماوندي وعليها تصحيحات وزيادات بخطّ المؤلّف في الثامن والعشرين من شهر محرم من لسنة الثامنة والثمانين بعد الثلثمائة والألف، وأنا العبد الفاني المذنب العاصي علي بن موسى الدبستاني النجفي عفا الله عنه وعن والديه .

 

______________

(1) الإتقان : 1 / 194، 195 .

(2)البخاري : 6 / 99، ط استانبول، باب جمع القرآن .

(3) الصحاح : 3 / 1108، مادة ( حرف )، والمفردات 119 ( حرف ) .

(4) تاج العروس : 12 / 135 .

(5) من لا يحضره الفقيه : 1 / 123، فضيلة يوم الجمعة واستحباب الإكثار من الدعاء . . . رقم 1240 .

( 6 ) طب الأئمة : 1 / 123 .

( 7 ) ثواب الأعمال : 110، ثواب قراءة سورة الأحزاب .

( 8 ) الاحتجاج - 7 .

( 9 ) كلمة أضفناها لتصحيح العبارة .

( 10 ) أمالي الطوسي : 606 مجلس يوم الجمعة 7 ربيع 2 / 457، المستدرك للحاكم 2 / 228 .

( 11 ) الترمذي : 4 / 348 أخر تفسير سورة التوبة .

( 12 ) الصواعق المحرقة : 111.

( 13 ) المسائل السروية : 78 / 79 .

( 14 ) المسائل السروية : 81 / 82 .

( 15) هذا غريب جداً فإنه عبّر عن الروايات بأنها ( ( فاقدة للحجة ) ) فإذا كان كل رواية بحد ذاتها فاقدة للحجة وانضمت إليها روايات آخر فاقدة للحجة أيضاً فكيف يكون الناتج عنها وهو مضمونها حجة ثم كيف يصير متواتراً . فإن المتواتر هو ما كان فيه روايات كثيرة كل واحدة منها معتبرة شرعاً بأن تكون صحاح أو حسان أو موثقات وهكذا أما أن تكون الروايات ضعيفة السند أو مُعرضٌ عنها تجتمع مع بعضها فلا تورث الاطمئنان البتة فليت شعري كيف يصير مضمونها متواتراً خصوصاً مع إمكان حمل بعضها على محمل حسن كالتفسير مثلًا مع أن المسألة في غاية الخطورة فهي تمس جوهرة الاسلام الخالدة .

( 16 ) كفاية الأصول : 285 / « حجيّة ظواهر الكتاب » .

( 17 ) فصل الخطاب : ط حجر، أخر المقدمة الثانية .

( 18 ) الاعتقادات في دين الإمامية : 86 .

( 21 ) إنها دعوى بلا دليل، ومحض توهّم من الفتوني ومن العلامة أغابزرك فإن نقل القدماء بعض الروايات التي يظهر فيها سقوط بعض الكلمات من القرآن الكريم ليست كافية لإثبات أن قدماء الأصحاب يقولون بنقص القرآن - والعياذ بالله - فإن كل أصحاب النبي كانوا يكتبون التفسير مع آيات الكتاب فلذلك خيف على القرآن أن يختلط بالحديث النبوي الشريف . أما سكوت الكثيرين من قدماء علمائنا عن التعرّض لهذه الروايات فلأن القرآن فوق ان يُشتبه في نصه المبارك فلذلك نقلوا الروايات وسكتوا عن التعليق عليها وما ذكره اغابزرك من ضمّ كلمات السيد الشريف المرتضى إلى بعضها غريب جداً فإن السيد الشريف المرتضى ( قدس سره ) من القائلين بالصَرفَة وله كتاب في ذلك، فمن يقول بأن الله صرف العباد عن معارضة القرآن كيف يقول بأن الله تعالى ترك العباد يعبثون بالقرآن على أهوائهم .

( 22 ) تحف العقول : 171 وصية علي  ( عليه السلام )  لكميل .

( 23 ) كمال الدين وتمام النعمة : 644 باب 55 الحديث 3 وأخرجه بعض علماء أهل السنة ومنهم الترمذي بألفاظ مقاربة وحملوه على معان أخرى فانظر كتبهم .

 




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .