أقرأ أيضاً
التاريخ: 4-4-2018
1376
التاريخ: 12-11-2015
5471
التاريخ: 29-11-2018
1064
التاريخ: 22-5-2019
947
|
الوراثة والبيئة Heredity and Environment
على الرغم من إن الكائن الحي يمثل جزء مهماً لا يمكن فصله عن العالم الطبيعي الموجود على سطح الكرة الأرضية وإن وجود هذا الكائن الحي متداخل بصورة فعالة ومنفعلة مع الظروف البيئية التي تسود محيطه الخارجي والداخلي , فأن دراسة الوراثة والبيئة وعلاقتهما ببعضهما وأرجحية أحداهما علة الأخرى والدور الذي تلعبه كل منهما في صفات وخصائص الكائن الحي , كانت وما زالت من المواضيع المهمة التي لا يتمكن أن يتجنبها الدارس في مختلف فروع العلوم والفنون والتربية .
ولكي نستطيع أن نتفهم هذه العلاقة يصبح لزاماً علينا أن نتطرق الى بعض المفاهيم والأسس والوقائع التي تلقي بعض الضوء على هذين العاملين اللذين يبدوان وكأنهما منفصلان وما هما الا في الحقيقة الا شيئين متلازمين متكاملين لا يمكن للحياة أن تستمر بدون تواجدهما جنباً الى جنب في تواقت وتناسق وتكامل وكان من ضمن ما وددنا تبيانه في هذا المقام ما يلي:
اولاً: إعادة التكون الذاتي Self Reproduction
من المعلوم إن اعادة تكوين الذات وإستمرارية الحياة Life Continuity يحدث في جميع الكائنات الحية أما بطريقة جنسية وذلك بتكوين الكميتات وإتحادها لتكوين الزيجات Zygotes أو بطريقة لا جنسية أي عن طريق أنقسام الخلايا الجسمية Somatic cells بصورة مباشرة ومن دون حدوث اتحاد خلوي مسبق . ومهما يكن الأمر فإن جميع الكائنات الحية تتكون في الأساس من خلية واحدة تنمو على حساب ما يتوفر لها من غذاء لكي تكون مماثلة للأصل الذي كانت قد تكونت منه . وعلى هذا الأساس فإن كتل أجسام الكائنات الحية تتكون من غذاء متحول Transformed food ولكننا يجب أن لا ننسى إن الغذاء المماثل يمكن أن يستعمل لبناء أجسام كائنات حية مختلفة ومتعددة كالأنسان والكلب والقط والخنزير. ولهذا السبب فإن نوعية الجسم المتكون من نفس الغذاء لا يعتمد على الغذاء المستهلك فقط بل يعتمد بصورة رئيسة على الطبيعة الوراثية للكائن الحي الذي أستهلكه وحوله .
وما يقال عن الحيوانات يقال أيضاً على النباتات فهي جميعها تصنع غذاءها من الماء وثاني أوكسيد الكاربون وبعض العناصر والطاقة الضوئية وتوفرالمادة الخضراء Chlorophyll ولكن هذا الغذاء الذي يصنعه النبات من أصول بيئية مختلفة كالهواء والتربة وضوء الشمس يستغله النبات فيحوله الى مادة بناء لإعادة تكوين الذات . ويختلف هذا التحويل الغذائي من نبات الى نبات حسب إختلاف المكونات الوراثية التي تسيطر على ذلك التحول .
وعلى هذا الأساس فإن كل كائن حي يمثل Assimilates الغذاء بطريقة معينة محدودة بشكل يؤدي بكل كائن حي الى أن يكون نسخة صادقة من أبويه واسلافه ولهذا فإن جوهر الوراثة هو إعادة تكوين الذات على حساب البيئة .
ثانياً: الطراز الوراثي والطراز الظاهري Genotype and Phenotype
إن استمرارية حياة الكائن الحي تقترن بتداخل عاملين يمثل أولهما العامل الوراثي بينما يمثل الثاني العامل البيئي . ويحدد هذا التداخل شكل الكائن الحي في لحظة زمنية كما يحدد ما سيكون عليه هذا الكائن الحي في المستقبل , وبغية تسهيل فهم هذه الناحية أقترح العالم الوراثي الدانماركي جوهانسن Johannsen سنة 1911م مصطلحي الطراز الوراثي Genotype والطراز المظهري Phenotype . ويقصد بالطراز الوراثي مجموع المكونات الوراثية التي يستلمها النسل عن أسلافه . أما الطراز الظاهري فيقصد به مظهر الكائن الحي أو مجموع خصائصه ومميزاته كاللون Color والشكل Form والحجم Size والسلوك Behavior والتركيب الكيمياوي والتركيب التشريحي . وقد حل هذان المصطلحان محل مصطلحي وايزمان البلازم الجرثومي Germ plasm والبلازم الجسمي Somatoplasm .
ومن الممكن تعيين الطراز الوراثي لفرد من الأفراد بملاحظة تأثيره على الطراز الظاهري من جهة وبدراسة سلفه وخلفه من جهة ثانية . فعند تربية عدة افراد في بيئة واحدة وظهور إختلافات في طرزها الظاهرية فهذا يؤكد لنا إن طرزها الوراثية مختلفة وللسبب ذاته يكون لون العيون لبعض الأشخاص أزرق بينما يكون قهوائياً لآخرين على الرغم من وجودهم في بيئة واحدة . ومن جهة أخرى فإن الأفراد المتشابهين في الطراز الوراثي قد تظهر بينهم إختلافات في الطراز الظاهري عندما يربون في بيئات مختلفة . ومع ذلك فإن تشابه الطراز الظاهري قد لا يدل على تشابه في الطراز الوراثي إذ قد يكون بعضها هجيناً وبعضهاً نقياً فيما يتعلق بظاهرة التغلب Dominance .
الطراز الوراثي ثابت نسبياً خلال حياة الفرد أما الطراز المظهري فهو دائم التغير , فالشخص المسن مثلاً يختلف في طرازه الوراثي عما كان عليه في عهد الصبا أو الطفولة أو عند الولادة على الرغم من إن طرازه الوراثي لم يتغير .
هذا وإن مفهوم الطراز الوراثي والطراز الظاهري والدراسات التي أجريت بهذا الصدد قد ألقت الضوء على مقدار التداخل بين العامل الوراثي والعامل البيئي . كما بينت إن العامل الوراثي هو الأساس في تحديد صفات الكائن الحي وأن العامل البيئي هو عامل محور وعلى سبيل المثال لا الحصر لو زرعت نباتا متماثلة من ناحية الطراز الوراثي كما في السلالات النقية Pure lines والسلالات الخضرية والسلالات المرباة داخلياً Inbred lines وزرعت في بيئات مختلفة فإنها تنتج أفراداً مختلفة من النواحي المورفولوجية وموعد التزهير وكمية الإنتاج وغيرها . وبالمقابل لو زرعت نباتات مختلفة من ناحية الطراز الوراثي وسلطت عليها بيئة واحدة فإن طرازها المظهري سيختلف بإختلاف طرازها الوراثي كالحنطة والشوفان والشعير .
ثالثاً: الوراثة والتغايرHeredity and Variation
ليس هناك شخصان أو فردان حتى ولو كانا من نفس الجنس يوجد بينهما تشابه تام . ويعود السبب في عدم التشابه هذا الى عدم تشابه بيئة الكائنات في الأمكنة والأوقات المختلفة . فلا يستلم نباتان ينموان جنباً الى جنب في نفس المزرعة كمية واحدة من الضوء أو كميات متساوية من الماء أو الأملاح . كما لا يحصل حيوانان يربيان في نفس الإصطبل على نفس الكمية من الغذاء . ولهذا فإن فردين يحملان نفس الطراز الوراثي سوف يكونان مختلفين في طرازهما المظهري عندما يتعرضان إلى إختلاف في كمية الغذاء أو درجة الحرارة أو الضوء أو الرطوبة أو ظروف بيئية أخرى . وتدعى مثل هذه الإختلافات بين الأحياء الحاملة لنفس الطراز الوراثي بالتغايرات البيئية أو التحورات البيئية Environmental variations or modifications .
ومع هذا فإن نفس التربة ونفس الجو سوف يؤلفان البيئة التي فيها تنبت بذرة البلوط لتكوّن شجرة بلوط وبذرة الذرة لتكوّن نبات ذرة . ونفس الغذاء يطور خلية الزايكوت الناجمة عن إتحاد حيمن رجل ببويضة إمرأة إلى إنسان بينما هو يطورها إلى كلب أو كلبة عندما يكون أساسها حيامن وبويضات كلب وكلبة . وعلى هذا الأساس فإن عملية الوراثة التي تجعل الفرد يولد شبيهاً له هي صفة عامة مقترنة مع عملية التغاير حيث دلت الدراسات على إن المشابهات الوراثية لا تعني التطابق التام .
وكثيراً ما نرى الناس يسألون السؤال الساذج التالي : أيهما أكثر أهمية في حياة الفرد الوراثة Heredity أم البيئة Environment وللجواب عن مثل هذا السؤال نقول إن مثل هذا السؤال لا معنى له .
ذلك إن الطراز المظهري لأي كائن من الكائنات الحية هو بالضرورة نتاج لتداخل فعل الطراز الوراثي مع البيئة ، أي أن كليهما ضروري بصورة مطلقة وعلى هذا الأساس فالإنسان بكل إمكاناته الطبيعية Physical والفسلجية Physiological والعقلية Mental ما هو الا نتاج للنمو Growth والتكشف Development الذي يحققه طراز وراثي معين ضمن تتابع بيئي معين , والطراز المظهري لشخص من الأشخاص في لحظة من اللحظات لا يتقيد بالعامل البيئي السائد في تلك اللحظة المعينة فقط بل هو يتعين بكل ما صادفه ذلك الشخص من تأثيرات بيئية متتابعة منذ أول تكونه الى تلك اللحظة . والجدير بالذكر إن هناك إمكانية بالضرورة للتعرف على المدى الذي تعود اليه الإختلافات في الطرز المظهرية ومقدار ما تسببه الوراثة من تلك الإختلافات ومقدار ما تسببه البيئة في ذلك .
هذا ويفتش المهتمون بتحسين النبات Plant breeding وتحسين الحيوان Animal breeding بصورة مستمرة عن تغايرات في الطرز الوراثية والتي إذا ما ربيت في البيئة الحقلية تتميز بإنتاج أكبر في الحبوب أو الألياف أو الحليب أو اللحم أو الصوف أو غيرها من المنتوجات التي يستفيد منها الأنسان بشكل أو بآخر ومع هذا فمن المعروف لهؤلاء إن الإنتاج لايقترن بالطراز الوراثي للكائن الحي فقط بل هو يتأثر أيضاً بعوامل أخرى هي العوامل البيئية كنوعية التربة وكمية الرطوبة والحرارة والضوء وكمية ونوعية السماد المستخدم . ولهذا فيجدر بمحسن النبات أو الحيوان أن يكون على يقين في معرفة أسباب الزيادة في الإنتاج وهل هي ناجمة عن عوامل وراثية أو عوامل بيئية ومدى مساهمة كل من هذين العاملين في ذلك . ونتيجة لأهمية هذه الحاجة العملية إنبثق فرع في العلوم الزراعية غايته إستخدام الوسائل الكفيلة بالوقوف على التأثير النسبي لعوامل الوراثة وعوامل البيئة في هذه المجالات . ومن ضمن هذه الوسائل زراعة النباتات على هيئة مكررات Replicates ضمن بيئة متجانسة نسبياً بغية تقليل تأثير العوامل البيئية . ونتيجة لإستخدام مثل هذا الإسلوب فإن الإختلافات في الطرز المظهرية بين أفراد ربيت تحت تأثير عوامل بيئية واحدة تكون ناجمة عن إختلافات في الطرز الوراثية . ومن الممكن التعرف على الإختلافات المسببة عن إختلاف العوامل البيئية وذلك بتربية أحياء متماثلة في الطراز الوراثي في بيئات مختلفة . وأحسن الأمثلة على ذلك ما ذكرناه سابقاً من أختيار سلالات خضرية Clones أو سلالات نقية Pure lines أو سلالات مرباة داخلياً Inbred lines وتربيتها في بيئات مختلفة وعند ذاك نلاحظ الفرق وتحسب على أنها ناجمة عن التأثيرات البيئية المختلفة .
رابعاً: تجارب على سلالات نباتية من بيئات مختلفة
لقد أجرى كل من كلوسين Clausen وكيك Keck وهيزي Hiesey دراسة مستفيضة تتعلق بالتغايرات الوراثية والبيئية في نبات Potentilla glandutosa الذي يعيش على مرتفعات مختلفة من جبال ولاية كاليفورنيا . وقد وجدوا إن هذا النبات الذي ينمو برياً في مواقع على مستوى سطح البحر في سواحل كاليفورنيا يتميز بساق طويلة وأوراق واسعة ويحتاج إلى حوالي مائتي يوم لكي يصل الى مرحلة الإزهار Flowering وقد وجد إن نفس هذا النوع من النبات ينمو برياً في جبال سيرانيفادا Sierra Nevada على إرتفاع 4000- 5000 قدم عن مستوى سطح البحر . لكن النباتات التي تنمو في هذه المنطقة تتميز بسيقان أطول بكثير وأنحف بكثير من تلك التي تنمو على سطح البحر وانها تحتاج الى 50- 60 يوماً لكي تصل الى مرحلة الإزهار . أما تلك التي تنمو على إرتفاع عشرة الآف قدم عن سطح البحر في منطقة القمم Alpines zone من جبال سيرانيفادا فتتميز بقصر طولها أو قزامتها Dwarf وإنها تحتاج الى حوالي خمسة وخمسين يوماً الى أن تصل الى موعد الإزهار في موطن نموها .
إن العوامل البيئية في الأماكن الأصلية التي تعيش فيها هذه النباتات مختلفة إختلافاً كبيراً و بصورة واضحة . ففي مستوى سطح البحر يكون الشتاء معتدل الحرارة بشكل لا يؤدي بالنباتات الى أن تمر بفترة سبات Dormancy , أما في المستوى الوسطي (4000-5000 قدم) فإن الشتاء يكون بارداً لكن الصيف بالمقابل يكون حاراً . وفي المنطقة الصنوبرية وعلى مستوى 10000 قدم على سطح البحر يكون الشتاء طويلاً وقاسياً أما الصيف فيكون قصيراً ودافئاً . وهنا ينبثق سؤال يطرح نفسه بوضوح وهو : ماهو مدى تأثير الطراز الوراثي من جهة . والعوامل البيئية من جهة ثانية على مدى الفروق بين هذا النوع من النبات الذي يعيش في بيئات ثلاث مختلفة ؟ .
وللإجابة على هذا السؤال جمعت نباتات من البيئات الثلاث فقطع كل نبات الى ثلاثة أقسام ووزعت على ثلاث حدائق تجريبية أولها في مستوى سطح البحر Stanford وثانيتها على إرتفاع 4600 قدم (Mather) وثالثتها على إرتفاع 10000 قدم (Timber line) . إن تقسيم النبات الى ثلاثة أجزاء يؤكد بصورة واضحة إن الأجزاء الثلاثة تحتوي على نفس الطراز الوراثي . إن الأختلاف بين النباتات الممثلة بالخطوط العمودية تكون إختلافات في الطراز الوراثي . أما الخطوط الأفقية فإنها تمثل نفس النبات (نفس الطراز الوراثي) مربى في ثلاث بيئات مختلفة , لذا فإن الأختلافات أو الفروق بين هذه النباتات تكون ناجمة عن تأثير العوامل البيئية .
خامساً: مدى التفاعل (التداخل) Norm of Reaction
لقد أتضح من التجربة السابقة إن الطراز الوراثي المتماثل يستجيب بردود مختلفة إذا تعرض لعوامل بيئية مختلفة ، وعلى هذا الأساس فإن مثل هذه النباتات تتكشف على هيئة صور مختلفة وبذلك فإنها تكتسب طرزاً مظهرية مختلفة .
وعلى هذا الأساس فإن مدى التداخل أو التفاعل Norm of reaction لطراز وراثي معين يتحدد بأشكال الطرز المظهرية المختلفة التي يكونها عند تعريض نفس الطراز الوراثي الى عوامل أو ظروف بيئية مختلفة . ومن الواضح أننا لا نستطيع أن نحدد مدى التفاعل بصورة مضبوطة على اعتبار أن العوامل البيئية من التعدد والتشعب مما يصعب تحديده . وإنطلاقاً من نفس المفهوم فإن محاولة التعرف على مدى التفاعل للطراز الوراثي في الأنسان يمكن أن تعطينا صورة قريبة من الوضوح وذللك بملاحظة الاختلافات بين أفراد البشر التي أدت الى تكامل المجموعة البشرية الواحدة نتيجة لحدوث الأختلافات بينها بسبب أختلافات مدى التفاعل للطراز الوراثي الواحد نتيجة لتعرضه لظروف بيئية مختلفة مما ادى الى تكوين طرز مظهرية مختلفة ومتعددة .
وبناء على ما ذكر أعلاه يكون بالإمكان إستغلال مدى التفاعل بتكشيفه تجريبياً والتعرف عليه بغية إستغلاله في تحسين حالة الإنسان وذلك بتهيئة العوامل البيئية الكفيلة بإنجاز ذلك كظروف الغذاء والسكن والثقافة والعلاقات الإجتماعية والإقتصادية والصحية وغيرها من العوامل البيئية . كما يمكن إستغلال معرفة مدى التفاعل في تحسين النبات والحيوان وذلك بتهيئة العوامل البيئية المختلفة كالتربة والمناخ ونوعية وكمية الأسمدة والوسائل الكفيلة بالتقليل من تأثير الأمراض وذلك في سبيل تكوين سلالات تتميز بكثرة نموها ووافر إنتاجها وبقابليتها في مقاومة الأمراض وغيرها من الظروف المؤثرة على طرزها المظهرية .
هذا وإن بعض إمكانات الطرز الوراثية لا يمكن أن تعرف إلا صدفة خصوصاً عندما توجد مثل هذه الطرز في بيئات نادرة أو إصطناعية . فمن المعروف مثلاً وجود سلالة نقية من الأرانب تدعى بسلالة الهيمالايا Himalaya تتميز بعيون وردية ولون أبيض للفرد ما عدا أطراف الجسم كالذنب والأرجل والأذنين وبروز الفم فيكون لون الفرو فيها أسود . وبطبيعة الحال تنتج هذه الأرانب سلالات مماثلة لها من جيل إلى آخر ولكن التجارب أثبتت إن الفرو الأبيض إذا قطع وربيت هذه الأرانب في جو بارد فإن فرواً أسود ينمو ليحل محل الفرو الأبيض. وإذا ما قطع الفرو الأسود وغطي بغطاء فإن فرواً أبيض ينمو ليحل محل الفرو الأسود . يتضح من هذه التجربة إن ما هو موروث فيما يتعلق بلون الفرو في هذا الحيوان هو قابلية تلون الفرو في بعض أجزاء الجسم وإن هذه القابلية محكومة بدرجة الحرارة وفي وقت معين .
وعلى هذا الأساس فإن أية صفة من صفات الكائن الحي إنما هي نتيجة لتفاعل الوراثة مع البيئة أو بعبارة أخرى إن أي طراز مظهري صحياً كان أو مرضياً إنما يتكون نتيجة لتأثير أي بيئة موجودة في الطبيعة أو مصنعة من قبل الأنسان وإن هذا التأثير إنما يقع ضمن التفاعل Norm of reaction للطراز الوراثي الذي يكون مسؤلاً عن تكوينه .
سادساً: تكيف الفرد والمواءمة Individual Adaptation & Homeostasis
إن دراسة مجال أو مدى التفاعل تلقي ضوءاً واضحاً على حقيقة بايولوجية على درجة عالية من الأهمية . فقد وجد إن كثيراً من مجالات التفاعل بين الطرز الوراثية والعوامل البيئية لا تسلك سلوكاً عشوائياً أو إعتباطياً بل هي على العكس من ذلك تؤلف سلوكاً تكيفياً كأن تكون متعلقة بتحسين الصحة والإستمرار في البقاء والتكاثر . وتلاحظ مثل هذه الظاهرة بوضوح عندما تتعرض طرز وراثية إعتيادية وصحية إلى عوامل بيئية مختلفة وتنجح هذه الأنواع في إستمرارها في العيش . وعندما لا تستطيع الطرز الوراثية أن تتكيف بالنسبة للتغيرات البيئية المختلفة فإن هذه الطرز الوراثية تسبب ما يسمى بالأمراض الوراثية .
ويكون التفاعل التكيفي Adaptive reaction على أشكال متعددة منها تفاعلات المواءمة الفسلجية Physiological homeostatic reactions وهي التي تمكن عمليات الحياة بالإستمرار دون حدوث خلل على الرغم من الهزات البيئية التي تحاول إحداث الخلل فيها . ففي الإنسان مثلاً يحدث الموت إذا إرتفعت درجة حرارة الجسم أو إنخفضت درجات حرارية قليلة عن الحد الإعتيادي . ومع ذلك فإن مثل هذه التغايرات الخطرة لا تحدث في العادة حتى يتعرض الجسم إلى إرتفاع أو إنخفاض في درجات الحرارة الخارجية . فعندما ترتفع درجة حرارة الجو يستجيب الجسم إلى ذلك بإخراج العرق عن طريق الجلد . وعند تبخر العرق فإن ذلك يساعد على تبريد الجسم . كذلك يساعد توسع الأوعية الدموية القريبة من الجلد على إشعاع الحرارة الزائدة . أما في البيئات الباردة فيحدث العكس للتقليل من تبذير الحرارة من الجسم حيث تقل نسبة العرق الخارجة على سطح الجلد وتتقلص الأوعية الدموية القريبة من سطح الجلد لكي تقلل من تسرب الحراة من الجسم الى خارجه . ومثال آخر عن تفاعل المواءمة الفسلجية هي المحافظة على ضغط أوزموزي ثابت وعلى تركيز أيون الهايدروجين pH ثابت أيضاً في الدم . وهذا يعود إلى عمل الكلية المضبوط بصورة مذهلة والى وجود مواد دارئة Buffering في الدم تمنعه من الإرتفاع بدرجة الحموضة أو الإرتفاع بدرجة القاعدية .
وبالأضافة الى تفاعلات المواءمة الفسلجية هناط نوع آخر بتفاعلات الموءمة التكشفية Developmental homeostasis reactions فمن المعلوم إن تكشف الكائنات الحية في بيئات مختلفة يسير في خطوط مختلفة ولكن جميع هذه الخطوط على إختلافها تؤدي الى تكوين أنماط مظهرية تكون في صالح بقاء الكائن الحي وأستمراريته عن طريق التناسل في هذه البيئات المختلفة . فكثير من الحشرات على سبيل المثال يتحدد حجم الحشرة الناضجة بكمية الغذاء المتوفرة لليرقات . فعندما يكون الغذاء نادراً فإن الحشرة قد تحافظ على بقائها لكنها تتكشف عن حشرة قزم بمقارنتها بالحشرة التي يتوفر لها غذاء كافٍ . وفي الإنسان وحيوانات أخرى تلتئم كسور العظام بشكل يمكن العظام الملتئمة من مقاومة الضغوط الميكانيكية المسلطة عليها . وعندما تصاب إحدى الكليتين بمرض يوقفها العمل أو عندما تنزع إحدى الكليتين بعملية جراحية فإن الكلية الثانية تزداد في الحجم والوظيفة بحيث تؤدي عمل الكليتين معاً والعضلات التي تستخدم بكثرة تنمو فيزداد حجمها كما تزداد قوتها بينما تضعف العضلات التي لاتستعمل فيصغر حجمها وتقل قوتها . وتكتسب كثير من الكائنات الحية مناعة مؤقتة أو دائمية عند إصابتها بمرض من الأمراض .
ويصعب وضع حد فاصل واضح وحاد بين تفاعلات المواءمة الفسلجية وتفاعلات المواءمة التكشفية وذلك بسبب وجود حالات وسطية كثيرة بين هاتين الظاهرتين . وخير مثال على ذلك هو عدد الكريات الحمرالموجودة في حيز معين من الدم . فقد وجد إن عدد الكريات الحمر يزداد في دم الأنسان واللبائن الأخرى كلما زاد إرتفاع موطنها عن سطح البحر وإن هذا العدد يرجع إلى حالته الطبيعية إذا أنتقل الأنسان ليعيش بمستوى سطح البحر . إن زيادة عدد الكريات الحمر في الدم يولد للأنسان نوعاً من المواءمة الفسلجية ذلك إن زيادة عدد الكريات الحمر يعوض عن قلة نسبة الأوكسجين في الإرتفاعات العالية وبذلك يمكن الأنسان من العيش بصورة طبيعية في تلك المرتفعات .
سابعاً: النافذية والتعبيرية Renetrance and Expressivity
لقد ذكرنا سابقاً إن أغلب الطرز المظهرية المشاهدة إنما هي تتكون نتيجة لتداخل الفعل من الطراز الوراثي والبيئة . ومن الممكن تبسيط هذه الناحية على الشكل التالية :
الطراز المظهري = الطراز الوراثي + البيئة
فالكائن الحي بصورة عامة يرث طرازاً وراثياً معيناً لكن هذا الطراز الوراثي خلال تكشفه قد يتعرض الى مختلف العوامل البيئية التي قد تؤدي به الى شكل من أشكال التحول فالعوامل البيئية الخارجية كدرجة الحرارة والضوء والتغذية , والعوامل البيئية الداخلية كالجنس Sex والعمر Age وتوفر المواد الأساس Substrates قد تشترك مع بعضها لتؤلف كلاً يؤدي الى تحوير في تعبير الطراز الوراثي .
فإذا كان التعبير عن طراز وراثي معين من الممكن أن يتحور نتيجة لتأثير عوامل بيئية معينة وجينات أخرى , فأن هذا يعني إن مظهر الكائن الحي هو ليس ناجماً عن تركيبه الوراثي فقط . وعند مقارنه التأثيرات المشاهدة للجينات مع التركيب الوراثي يصبح لزاماً علينا تفهم ظاهرتين معينتين هما :
1. النفاذية Penetrance
ويقصد بها نسبة أفراد نوع معين من الطراز الوراثي التي تبرز الطراز المظهري المتوقع تحت مجموعة من ظروف بيئية معروفة . وإذا كانت جميع الأفراد الحاملة لجين طافر متغلب تؤدي الى إبراز الطراز المظهري الطافر فعند ذاك يقال عن هذا الجين بأنه كامل النفاذية Complete penetrance .
2. التعبيرية Expressivity
ويقصد بها درجة Degree أو قوة Strength تعبير جين من الجينات في إظهار طراز مظهري معين بدلالة الإنحراف عن الطراز المظهري الأعتيادي Normal phenotype .
وفي الصفات Traits التي درسها مندل كان الطراز المظهري الطافر يعبر عنه من قبل جميع الأفراد الحاملة للجينات الطافرة عندما تكون في حالة نقية Homozygous condition أي ان النفاذية في مثل هذه الحالات تكون 100٪ أما تعبير الجينات الطافرة فقد أظهرت قليلاً من التغاير . وعلى هذا الأساس فإن الجينات الطافرة التي درسها مندل كانت ذات نفاذية كاملة . وإن التأثيرات البيئية فيها كانت طفيفة . وعلى العكس من هذا ما نلاحظه على بعض الجينات في الأنسان كالجين المسؤول عن سرطان العين Retinoblastoma فهذا الجين الطافر يعبر متغلباً لأن الأفراد الهجينة نستطيع أن نعبر عن نفسها في الطراز المظهري ولكن نفاذية هذا الجين غير كاملة على إعتبار إن جزء من الأفراد الحاملة لهذا الجين هي التي تستطيع أن تعبر عن نفسها بإظهار هذا المرض . ويختلف تعبيرهذا الجين كذلك ففي بعض الأفراد يكون شديداً بينما لا يكون كذلك في أفراد أخرى .
ولو إفترضنا إن زوجاً من الجينات قد أنعزلت بطرز وراثية بنسبة 1 : 2: 1 فإذا كان كل صنف من أصناف الطرز الوراثية متميزاً على نطاق الطراز المظهري وغير متأثر بدرجة كبيرة بالعوامل البيئية فإن الطرز الوراثية تنعكس صورتها على نسبة الطرز المظهرية وتكون عند ذاك نسبة الطرز المظهرية 1 : 2 : 1 ايضاً . أما اذا كانت الطرز الوراثية متأثرة بالعوامل البيئية فإن أصناف الطرز المظهرية ستكون مختلفة تتراكب على بعضها بحيث ينتج عن ذلك توزيع واسع لهذه الطرز المختلفة حول متوسط مركزي Central mean وعند ذاك يصعب وجود طريقة للتأكد من إنعزال هذين الجينين . ويمثل الشكل (1) تغاير الطراز المظهري عندما تكون البيئة ذات تأثير طفيف على تعبير الطراز الجيني .
شكل (1) توضيح تغاير الطراز الوراثي عندما تكون البيئة ذات تأثير طفيف على تعبير الطراز الجيني .
وتختلف الطرز الوراثية بدرجة تعبيرها وتداخلها مع عامل أو عوامل بيئية معينة . فإذا ما عرض طراز وراثي الى مدى معين من عوامل بيئية مختلفة فإن تعبيرها سوف يكون ضمن نطاق معين من الطرز المظهرية وسوف يختلف التعبير من طراز وراثي الى طراز وراثي آخر وقد ذكرنا سابقاً إن مدى التفاعل Norm of reaction هو المدى الكامل للبيئات والذي يغير تعبير الطراز الجيني ضمن مداه . ومن الممكن إن يكون مدى التفاعي ضيقاً في بعض الطرزالوراثية أو واسعاً في طرز وراثية أخرى . وعلى سبيل المثال لا الحصر يكون مدى التفاعل في المجاميع الدموية A-B-O- للأنسان ضيقاً جيداً بحيث يكاد يكون التغاير معدوماً . وعلى العكس من ذلك يكون مدى التفاعل واسعاً .
ثامناً: النسخ المظهرية Phenocopies
لقد وجد أن تأثير البيئة على نوعية الطراز المظهري قد يؤدي الى نتائج مرغوبة كما قد يؤدي الى نتائجسيئة غير مرغوبة . وقد تكون العوامل البيئية من السعة والعمق في التأثير بحيث أنها تؤدي الى تغيير الطراز المظهري الى شكل مسبب عن طفرة جينية . ويسمى الطراز المظهري الذي تسببه عوامل بيئية معينة والذي يكون مماثلاً لطراز مظهري مسبب عن طفرة جينية , يسمى النسخة المظهرية Phenocopy وهناك أمثلة كثيرة تنطبق على هذه الظاهرة وتوضحها ففي الأنسان مثلاً وجدت عقاقير كثيرة تؤدي الى أنتاج طرز مظهرية مشابهة لنفس الطرز المظهرية المسببة عن الطفرة . وكان من ضمن الحوادث المؤسفة ما قد حدث سنة 1960م من النسخ المظهرية المستحثة في الأنسان وكان السبب في ذلك هو كثرة استعمال المادة المهدئة ثاليدومايد Thalidomide من قبل النساء الحوامل خصوصاً في الأسبوع السادس من حملهن وقد ولد نتيجة لذلك أطفال في ألمانيا وفي انكلترا بتعبير مظهري يدعى فوكوميليا Phocomelia والذي فيه تختزل بعض الأطراف الى زرائد تشبه الزعانف Flipper-like Appendage . وقد تبين أن هذا الدواء يتداخل مع مفتاح التفاعلات الأيضية في الوقت الذي تتكون فيه الأطراف , وعلى هذا الأساس تؤدي الى تكوين الفوكوميليا كنسخة مظهرية للطفرة الجينية المتغلبة في الأنسان والتي تؤدي الى هذه الحالة .
وأكتشفت حالات اخرى يسببها تناول عقار Lysergic acid diethylamide فمن المعروف أن مرض انفصام الشخصية Schizophrenia يتميز بأنعدام التوازن العاطفي Emotional stability وان هذا المرض محكوم بالوراثة الى حد كبير . وقد وجد أن تناول هذا العقار يستحث النسخة المظهرية لهذا المرض .
ومن المعروف كذلك أن مرض البول السكري Diabetes Mellitus يعتبر من الأمراض الوراثية الى درجة ما وهناك رأيان لتفسير وراثته فهو أما أن يسيطر عليه من قبل جينات متعددة Polygenes أو انه يورث بواسطة جين منتحٍ Recessive بنفاذية واطئة . ومهما يكن من أمر فإن ظاهرة النسخة المظهرية واضحة في هذا المرض ذلك أن المصاب به يستطيع أن يكون مشابهاً للفرد الأعتيادي بتناوله جرعات معينة من هرمون الأنسولين الذي لا يتكون في المصاب وبعبارة أخرى إن الفرد المصاب استطاع بتأثير بيئي معين من أن يغير الطراز المظهري بحيث أصبح مماثلاً لما يتحكم به جين من الجينات .
وهناك أمثلة كثيرة توضح ظاهرة النسخ المظهرية غير أن لون الجسم في حشرة الدروسوفلا يعتبر من أوضح الأمثلة وأسهلها تطبيقاً في المختبر . فمن المعروف أن هناك جين طافر في هذه الحشرة يخص لون الجسم وهو جين مرتبط بالجنس وعند توفره بصورة نقية يجعل لون الجسم أصفر بدلاً من اللون الطبيعي (الوحشي) . وقد وجد أن الافراد الوحشية أذا ربيت على غذاء يحتوي على نسبة معينة من نترات الفضة فإن الجيل الناتج سيكون فيه أصفر بدلاً من الوحشي وبذلك فهو يماثل الأفراد التي يتوفر فيها الجين الطافر الخاص بلون الجسم . ووجد كذلك إن افراد هذا الجيل اذا ربيت على غذاء لا يحتوي على نترات الفضة فإن الجيل الناتج سيكون لون جسمه وحشياً بدلاً من الأصفر .
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|