أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-01-31
1070
التاريخ: 2024-10-21
311
التاريخ: 2023-07-04
1075
التاريخ: 2023-06-26
1452
|
ليس في مقدور التاريخ أن يصدر حكمًا سليمًا على هذا الشاب؛ فقد تولى أمر بلاده في بداية العقد الثاني من عمره، وتُوفي ولما يبلغ ختام هذا العقد، وهو غير مسئول بداهة عن الأعمال التي تمت في مستهل حكمه؛ إذ كان قاصرًا، ولم يكن له من الأمر شيء، بل كان في الواقع لعبة يتقاذفها الكاهن «آي» والقائد «حور محب»، يتلقفها هذا مرة وذاك أخرى، واستكانت اللعبة أخيرًا في يد القائد «حور محب» الذي سيطر على شئون الدولة، وهيمن على كل مرفق داخل البلاد وخارجها، فهذان اللاعبان اللذان تناوبا أمور البلاد في هذه الفترة هما المسئولان عما جرى فيها، ولقد كان من سوء طالع التاريخ أو من سوء طالع أمير البلاد الصغير أن القدر لم يمهله حينما قارب النضوج، وأخذ يدب فيه روح الرجولة، فاختفى فجاءة من مسرح الحياة دون أن يترك لنا كلمة عن حياته ونشأته، ومراميه التي كان يهدف إلى تحقيقها، وهو على سرير الملك، ولكنه ترك لنا في الصور التي أمر بنقشها على أثاثه الجنازي ما يكاد يغني عن الكتب المخطوطة، والوثائق المسطورة، فعرفنا منها ميوله وأخلاقه، وكثيرًا عن حياته الخاصة إذا كان فعلًا يقصد ما صوَّره.
شكل 1
وإن من ينعم النظر في تلك الصور التي خلَّفها لنا «توت عنخ آمون» على آثاره ليؤمن تمام الإيمان بأن المصور المفتن لا يقل قدره عن إبراز أفكاره للناس من الكاتب اللبق؛ ترينا هذه الصور الناطقة مواقف «لتوت عنخ آمون» تفيض بسالة وإقدامًا، وأخرى تتدفق حبًّا وحنانًا، تلمس فيها عاطفة العاشق، ووله الزوجة المغرمة الوفية، وبأس الملك الصغير الشهم، تلمس فيه تلك الصور حياة وحركة وقوة على التعبير تجعلك حائرًا مشدوهًا؛ فهنا الملكة الشابة «عنخس إن آمون» تتحسس بيدها صدر زوجها الشاب تعطر ما أحاط به من ثياب، وتعدل ما شذ عن معيار الهندمة والتنسيق من ملابسه، في رفق وحنان وإعجاب، حتى لا يغادر بعلها حجرته الخاصة ليرأس اجتماع مجلس البلاط إلا في أتم زينة وأجمل رونق (1) ( انظر شكل رقم 1). ويظهر أنه كان سعيدًا بحياته الزوجية؛ فنراه ممثلًا على محرابه الذهبي، ومعه شبله الصغير وزوجته المحبوبة في رياضة خلوية ممتعة، يحمل فيها قوسه ونشابه، ويلهو بصيد الوز البري (انظر شكل رقم 2)، وزوجه الجميلة تجلس أمامه على أديم الأرض تناوله بإحدى يديها سهمًا وتشير بالأخرى إلى وزة سمينة قد حطت على سوق البردي اليانع (2)، وكأنها تقول لزوجها: «البدار يا زوجي المحبوب، فهذا صيد سمين ساقه الله إليك، فسدد نحوه رميتك تشبع رغبتك، وتكسب جولتك.» كما نرى على نفس المحراب هذه الزوجة الشابة تقدم لقسيمها في الحياة يانع الأزهار، وجميل القلائد، وتطوِّق جيده بما يزينه من ملبس. وفي موقف آخر بدت الملكة تصحب «توت عنخ آمون» في نزهة أخرى لصيد الطيور، يقضيها في قارب (3) من سيقان البردي، وقد استند ذراعه عليها كأنها تعينه على احتمال مهام الدولة التي أنهكته. وقد رأينا في صورة جميلة ما يدل على ذلك الحب العميق الذي غرسه الله في قلب هذين الزوجين المتحابين، فها هما ذان الزوجان يجلسان في حجرتهما الخاصة في جلسة أسرية هنيئة، وها هو ذا الزوج يعبر عن عاطفة نحو زوجته فيصيب في راحتها قدرًا من العطر (4) الذكي الغالي.
شكل 2: توت عنخ آمون مع زوجه في أوضاع مختلفة للصيد والتنزه.
فأي شيء يترجم عن هذه العواطف المشبوهة بين الزوجين أكثر من هذه المناظر التي استعرضناها (انظر شكل رقم 2). وقد دلتنا تلك الصور وغيرها مما رأيناه على أنه كان يُغرم بالصيد، ولعل ذلك قد نسل إليه بالوراثة؛ فآباؤه وأجداده ملوك الأسرة الثامنة عشرة لهم قدم سابقة في هذا المضمار، بل كانت هذه الهواية موضع المناقشة بين هؤلاء الفراعنة، وكان كل منهم يحرص أشد الحرص على تسجيل مغامراته في هذا المضمار على ما خلفه من الآثار، وبخاصة «أمنحتب الثالث» الذي أنفق جزءًا عظيمًا من وقته في صيد الأسود والظباء، ومن قبله «تحتمس الثالث»، وابنه «أمنحتب الثاني»، وقد أسهبنا القول في مناقبهما في هذا المضمار، «فتوت عنخ آمون» لم يند عما كان عليه أسلافه من الإغرام بالصيد والمباهاة بالتبريز فيه، فنشاهده في بعض نقوشه التي خلفها على مقبض (5) مروحته التي وُجدت معه في قبره خارجًا من «منف» ليصيد النعام من صحراء «عين شمس» وليصنع من ريش ما يصطاده مروحة تعجبه، ثم نراه في نقش آخر على نفس المقبض، وقد عاد من رحلته مظفرًا منصورًا يحمل تحت إبطه ريش النعام، وخلفه أتباعه يحملون صيده المؤلف من نعامتين، ويظهر أن ذلك الريش الذي تأبطه هو الذي صُنعت منه تلك المروحة التي صاحبته في قبره.
وقد وجدنا «توت عنخ آمون» في بعض نقوش يتمرَّن على الصيد، ومعه مجموعة من أدواته (6) وقد رُصع بعضها بالأحجار الكريمة، وغُطي بصفائح من الذهب المطرز، ويدل حجم هذه الأدوات الصغير على أن الفرعون كان يستعملها منذ نعومة أظفاره، وقد طغى إغرامه بالصيد على كل ما عداه، فصوَّر على قراب خنجره الذهبي الجميل وعلى قارورة (7) عطوره ثيرانًا وأسودًا وظباء، وأرانب برية، وكلاب صيد، ويظهر أنه كان لهذه الأخيرة شأن كبير في هذه الرياضة؛ إذ لا يكاد يخلو منها منظر من مناظر صيده التي سجلها على آثاره. ولقد كانت صحراء «رستاو» التي تشمل «منف» و«الجيزة» وأرباضهما، وبخاصة وادي الغزال تزخر بحيوان الصيد، فكان انتقال «توت عنخ آمون» إلى «منف» أحيانًا فرصة مكنته من إشباع رغبته، كما كان من قبله ملوك الأسرة الثامنة عشرة يفدون إلى هذا المعالم على كل ضامر من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم فيصطادوا ويؤدوا مناسك الحج لهذا الإله العتيق الرابض في صحراء الجيزة «حور إم-أختي» (حور الأفق)، الذي كان يمثل إله الشمس «بولهول»، وكان كل فرعون يحرص على أن يسجل هذه الزيارة الميمونة لهذا المعبود العظيم عند كل توليته الملك، فيضع أثرًا يخلد به ذكرى هذا الحج المبرور. ومن الذين حجوا إلى هذا المشعر المقدس، وسجلوا تأديتهم لهذه الشعيرة الدينية «أمنمس بن تحتمس الأول»، وهو أول من سنَّ هذه البدعة على ما نعلم، ثم «تحتمس الثالث» وابنه «أمنحتب الثاني»، ثم «تحتمس الرابع» ثم «أمنحتب الثالث» ثم بطلنا «توت عنخ آمون»، فلم يمنعه صغر سنه أن يؤدي مناسك الحج، ويصطاد في حماه في وادي الغزال ويترك لنا لوحة تذكارية عثرنا على جزء منها في حفائر الجامعة المصرية سنة 1936، وقد بدا فيها «توت عنخ آمون» وزوجه «عنخس-إن-آمون» يتعبدان «لبولهول»، وقد مُحي من اللوحة صورة «بولهول»، وهُشم جزء من اسم الملك كما مُحي اسم الملكة، وشُوِّه وجهاهما، ولا يبعد أن يكون هذا فعل بعض المتعصبين لعبادة «آتون«. وقد ترك لنا «توت عنخ آمون» في هذه المنطقة أثرًا آخر، وهو نزل من اللبن في الجنوب الغربي من معبد الوادي، وبابه من الحجر الأبيض، وقد كُتب عليه اسم «بوالهول» ثم اسم الملك ثم اسم الملكة، ولكن اسم «توت عنخ آمون»، قد غُطي بطبقة من الملاط بأمر «رعمسيس الثاني» الذي نقش اسمه مكانه؛ كما كانت عادته في اغتصاب الآثار. ومما يستحق التنويه عنه هنا أن اسم «بولهول» قد نُقش على هذا الباب، وأول ظهوره على الآثار المصرية المعروفة كان في عهد «أمنحتب الثاني»، وقد نُقش بلفظ «حولنا»؛ مما يدل على أن المستعمرين من أهل فلسطين الذين استوطنوا هذه المنطقة قبل عهد «توت عنخ آمون» كانوا قد بدئوا في عبادة معبودهم «حولنا» أو «حول»، وهو اسم إله الكنعانيين الذي يشبه «حور أختي»، وهو اسم «بولهول» الأصلي، ومن ثم اشتُق اسم «بولهول» (فلفظ «بو» معناها مكان، و«حول» أي المعبود «حول»). ومن الجائز أن هذا البناء وما حوله من الأبنية كان ديرًا للكهنة، واستراحة لرواد الصحراء الصائدين. على أن النزل الذي كان يأوي إليه «توت عنخ آمون» بعد صيده كان مجهزًا بحمام يأوي إليه مليكنا الشاب ليغتسل ويزيل آثار وعثاء المطاردة والصيد، ويعطي جسمه حقه من النظافة والاستجمام، بعد هذه الرياضة الشاقة في تلك الصحراوات الرملية الحارة. هذا وقد نُقل بناء هذا الحمام بهيئته التي كان عليها إلى جهة أخرى بجوار الهرم الثاني ليُحفظ هناك تذكارًا من آثار هذا الشاب. وإذا كان «توت عنخ آمون» مغرمًا هذا الإغرام بصيد الحيوان وطرده فلا بد أن يكون شجاعًا جريئًا، وقد رأينا قطعة من الحجر الجيري أمام مقبرة هذا الفرعون تؤكد لنا هذه الشجاعة الفائقة ظهر فيها هذا الملك يطعن بحربته أسدًا (8) ضاربًا طعنة نجلاء، ويساعده في مهمته كلبه الأمين، والصور تمتاز بقدرتها على تمثيل حركات الطعن تمثيلًا رائعًا، وفيها من الحياة والحركة ما يعجب ويغرب، والعثور عليها أمام قبره كان بشيرًا بما يحويه ذلك القبر من ذخائر الفن والتراث المجيد، وقد صدقت البشرى ووُجد القبر عامرًا بكل تليد. فهذا صندوق (9) صغير من الخشب المطلي، وعلى وجوهه سلسلة من المناظر الملونة البديعة، وهذا غطاؤه المحدب يزدان بمناظر صيد مختلفة وبخاصة صيد الأسود (انظر شكل رقم 3)، وهذه جوانبه ملأى برسوم الوقائع الحربية يقاتل فيها «توت عنخ آمون» وحاشيته قتالًا عنيفًا، ويُرى على طرفي الصندوق مليكنا في صورة أسد يدوس الأعداء بقدميه. ولا نزاع في أن الخيال وقوة التأثير والحياة التي ظهرت في هذه المناظر تفوق حد المألوف، بل ليس لها نظائر في الفن المصري، وإن كانت لا تخلو أحيانًا من المبالغة، فقد جاء في بعضها صورة الملك النحيل، وقد بدا فيها عملاقًا ضخمًا حتى يتفق ذلك مع ما نُسب إليه من عمل جبار، كما رأينا في بعضها الآخر مليكنا يصوب سهامه من عربته فلا يكاد يصل إلى الأعداء حتى يحدث في صفوفهم الرعب والفزع، وتتساقط القتلى، ويتلاحق الصرعى، وتحل بالقوم الهزيمة، كما رأينا من مناظر الصيد ما يدل على قسوته، فنراه يطارد الحيوان على عربته التي تجرها الجياد المطهمة في غير هوادة، ونرى قطعانًا تطلق لساقيها العنان هربًا من سهامه الفتاكة، وهو يلاحقها في غير إشفاق حتى يودي بحياتها أو يتركها تعاني الآلام وهي مضرجة بدمائها والسهام لا تزال عالقة بأجسامها.
على أن هذه الصرامة في المعاملة لم تكن مسيطرة على خلقه بل كانت له نواح أخرى أظهرنا جوانب منها تدل على رقة القلب ودماثة الطبع.
شكل 3: توت عنخ آمون يصطاد الأسود.
وقد دلَّ الفحص الطبي لجسمه (10) على أنه كان نحيل القوام عظيم الرأس تشبه ملامحه وجوه تماثيله التي عُثر عليها في «الكرنك»، كما أن في تركيب بعض أعضائه ما يتفق مع أخيه «إخناتون «. وبعد فهذا قل من كثر من تاريخ هذا الشاب العظيم، وإنا لنعلق كثيرًا من آمالنا في معرفة ما خفي من تاريخ هذا الشاب على معول رجال الآثار، وإن كانت تلك البوادر التي كشفناها وحققناها تدل على أن هذا الفتى الصغير كان شهمًا، وقد خلد للبلاد مجدًا فنيًّا عظيمًا، ولو كان القدر قد أمهله لأرانا كثيرًا من عظمته، فمخايله في صباه كانت تبشر بما ننتظر منه في كهولته وشيخوخته.
وإذا رأيت من الهلال نموه أيقنت أن سيصير بدرًا كاملًا
..........................................
1- راجع: Carter, “The Tomb of Tutankhamon” , Vol. I, Pl. II.
2- راجع: Carter, “The Tomb of Tutankhamon”, Vol. II, Pl. Ib .
3- راجع: Ibid, PP. 14-15 .
4- راجع: Ibid, Pl. Ia .
5- راجع: Ibid. Pl. LXII.
6- راجع: Carter, Ibid. p. 15.
7- راجع: Steindorff, “Die Kunsi der Agypter”, PP. 305 and 273 Carter, Ibid, Pls. L, LI.
8- راجع: Carter, Ibid. Pl. II.
9- راجع: Carter, Ibid, I, Pls. L–LIII, see also Pl. III.
10- راجع: Ibid. II, PP. 143ff.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|