أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-03-18
530
التاريخ: 21-9-2016
1140
التاريخ: 21-9-2016
948
التاريخ: 9-4-2019
776
|
في العبادات:
وهي وإن كانت من حقوق الله اللازمة مراعاتها في تحقّق معنى الفضيلة الرابعة أي العدالة كسائر ما أسلفناه في الباب السابق الا أنّها لمّا كانت أصلاً كبيراً مشتملاً على جزئيات كثيرة أفردناها عن أخواتها، ولمّا كانت من أعظم شروطها التي تتوقّف صحّتها عليها ظاهراً وباطناً النيّة، ومن شرط النيّة الإخلاص وهي وإن تكرّر ذكرها في الكتب الفقهيّة الا انّ لها دقائق وشعباً قلّما فصّلت فيها، التزمنا القول في حقيقتها وشعبها ودقائقها وشروطها تفصيلاً لا يخلو عن إجمال مقدّمة عليها، ثم نذكر كلاً من العبادات التي هي صنوف الطاعة المفسّرة بالتخضيع والخشوع والتمجيد لله الملك المجيد في عدّة فصول، وهو المؤمّل في بلوغ كلّ مأمول.
مقدّمة:
النيّة عبارة عن انبعاث النفس إلى ما تراه موافقاً لغرضها حالاً ومآلاً ويرادفها القصد والإرادة وضدّها الغفلة أي فتورها عن التوجّه إلى ما فيه غرضها، وهي كسائر ما تقدّم واسطة بين علم هو مبدؤها وعمل هو ثمرتها، إذ ما لم يعلم أمراً يقصده، وما لم يقصد لم يفعل، فكلّ فعل يصدر عن الفاعل المختار لا يتمّ الا بعلم وشوق وإرادة وقدرة، وذلك لموافقة بعض الأمور لغرضه ومخالفة بعضها له فاحتاج إلى جلب الموافق ودفع المخالف الموقوفين على إدراكهما إذ ما لم يعرف ذلك لم يعقل طلبه له أو هربه عنه وهو العلم، وعلى الميل والرغبة والشهوة الباعثة عليه وهو الشوق لعدم الاكتفاء في الطلب والهرب بمجرّد الإدراك من دون شوق، وعلى القصد والتوجّه إليه وهو النيّة، إذ كم من مدرك للذّة الطعام شائق إليه راغب فيه لصدق شهوته غير مريد له لعذر من الأعذار المانعة له عنه، وعلى القدرة المحرّكة للأعضاء إلى جلب الملائم ودفع المضارّ، وبها يتمّ الفعل، فهي كالجزء الأخير للعلّة التامّة التي بها يصدر الفعل عن الفاعل المختار، فلا تتحرّك الأعضاء نحو الفعل أو الترك الا بالقدرة المنتظرة للقصد المنتظر للداعي الباعث أي الشوق المنتظر للعلم أو الظنّ بكون ما يفعله أو يتركه موافقاً لغرضه أو منافياً.
ثم الباعث قد يكون متّحداً كالانزعاج الحاصل من مشاهدة السبع مهتجماً عليه، وحينئذ يسمّى إخلاصاً، والنيّة خالصة عن ممازجة الغير، وقد يتعدّد مع استقلال كلّ بالباعثية والانهاض لو انفرد كالذي يسأله الفقير القريب له فيقضي حاجته لفقره وقرابته مع العلم بأنّه لولا الفقر لحصل القضاء أيضاً بمجرّد القرابة وبالعكس، أو عدمه مع الانفراد كمن يقصده الفقير الأجنبي أو الغني القريب فلا يعطيه ويعطي قريبه الفقير والمتصدّق للثواب وثناء الناس، ولو انفرد كلّ واحد لم يفعل، أو استقلال أحدهما به دون الآخر وإن أعانه الآخر عليه وسهل الفعل بسببه على الفاعل كالذي يكون له ورد في العبادات وعادة في الصدقات فاتّفق حضور جماعة فصار بسبب ذلك أنشط على الفعل مع العلم بأنّه لو انفرد لم يترك ورده وعادته، والباعث الذي يكون رفيقاً أو شريكاً أو معيناً نذكر حكمه في الإخلاص.
واعلم أنّ الطاعة غذاء للقلب والمقصود منها شفاؤه وبقاؤه وسلامته وتنعّمه بلقائه تعالى وسعادته، ولن يتنعّم بلقائه تعالى إلا من مات محبّاً لله عارفاً به، ولن يحبّه إلا من عرفه، ولن يعرفه إلا من دام فكره، ولن يأنس به الا من طال ذكره ولن يتفرّغ القلب لهما إلا مع الفراغ عن شواغل الدنيا، ولن يفرغ عنها إلا مع الانقطاع عن شهواتها حتى يميل إلى الخير ويريده وينفر عن الشر ويبغضه، ولا يتحقّق الميل والنفرة إلا مع العلم بإناطة السعادة بذلك.
وإذا حصل أصل الميل بسبب المعرفة قوي بالعمل بمقتضاه والمواظبة عليه، إذ المواظبة على صفات القلب وإرادتها بالعمل تجري مجرى الغذاء والقوت لتلك الصفة حتّى تقوى بسببها فالمائل إلى العلم أو الرئاسة لا يكون ميله إليهما في الابتداء الا ضعيفاً فإن اتّبع مقتضاه واشتغل به تأكّد ميله ورسخ وعسر عليه النزوع والا ضعف وانكسر، بل ربّما زال وانمحى، وكذا سائر الصفات والخيرات، فإنّ الطاعات ما يراد للآخرة والشرور ما يراد للدنيا، فميل النفس إلى الأولى وانصرافها عن الأخرى هو الذي يفرغها للذكر والفكر ولن يتأكّد الا بأعمال الطاعات وترك المعاصي والمواظبة عليهما بالجوارح؛ لأنّ بين القلب والجوارح ارتباطاً تامّاً يتأثّر كلّ منهما بتأثّر الآخر الا أنّ القلب هو الأصل والأمير والجوارح كالخدّام والرعايا له تؤكّد صفاتها فيها، وحينئذٍ يظهر أنّ أعمال القلب أفضل من الجوارح، وانّ النيّة من بينها أفضل؛ لأنّها عبارة عن ميل القلب إلى الخير وإرادته له وليس الغرض من أعمال الجوارح الا تعويد القلب على ذلك حتّى يتفرّغ عن الشهوات وينكبّ على الذكر والفكر، وهذا كما أنّ تداوي المعدة [بالشرب خير من طلاء الصّدر، إذ لم يرد من الطّلاء الا سراية الأثر من الصّدر إلى المعدة، وتأثّر المعدة] (1) من الشرب أكثر.
ومنه يظهر معنى قوله صلى الله عليه وآله: « نية المرء خير من عمله » (2) أي إذا اجتمع العمل مع النيّة كان هذا الجزء أنفع من الجزء الآخر فلا تظنّن أنّ في وضع الجبهة على الأرض غرضاً من حيث لصوقها بها، بل لتأكيده صفة التواضع في القلب، وكذا مسح رأس اليتيم يؤكّد الرقّة في قلبه، ولهذا قيل: «لا عمل الا بنية» (3)، فإنّ الماسح لرأس اليتيم إذا كان غافلاً أو ظانّاً أنّه يمسح ثوباً لم ينتشر من أعضائه أثر إلى قلبه بتأكّد الرقّة، ونحوه الساجد الذاهل، فكان وجودهما كعدمهما في الغرض المطلوب منهما فيكونان باطلين لغوين.
وإن انضمّ إليه قصد رياء مثلاً ازداد شرّاً لتأكّد الصفة التي أريد قمعها، أي الرياء الذي هو من جملة الميل إلى الدنيا، وبه يظهر سرّ ما ورد مِن أنَّ «مَن همّ بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة» (4) لأنّ همّ القلب ميله إلى الخير وانصرافه عن الشر، وذلك غاية الحسنات، وإنّما العمل مؤكّد له.
واعلم أنّ المعاصي لا تتغيّر عن موضوعاتها ولا تنقلّب طاعة بالنيّة فمن يغتاب إنساناً مراعاة لغيره أو يطعم فقيراً من مال غيره ويبني مسجداً او رباطاً أو مدرسة من مال حرام وقصده الخير ونحو ذلك فهو جاهل، إذ لا تؤثّر في إخراجها عن كونها ظلماً وعدواناً، بل قصد الخير بالشرّ على خلاف مقتضى الشرع شرّ آخر لمعاندته للشرع مع علمه وعصيانه بجهله معه، إذ طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة، والجاهل غير معذور، الا إذا كان قريب عهد بالإسلام ولم يجد بعد مهلة التعلّم، ومن ذلك تعليم العلم للسفهاء المقصور همّتهم على مماراة العلماء ومباراة السفهاء واستمالة وجوه الناس وجمع حطام الدنيا وأخذ أموال السلاطين والمساكين وهم قطّاع طريق الله تعالى يتّبعون الهوى ويتباعدون عن التقوى ويستجرئ الناس بسبب مشاهدتهم على معاصي الله، ثم ينتشر ذلك العلم إلى أمثالهم وهكذا ووبال الجميع على المعلّم الذي علّم العلم أوّلاً مع علمه بفساد نيّته.
والعجب من جهل هذا المعلّم حيث يقول: إنّما الأعمال بالنيّات، وقد قصدت به نشر الدين فإن استعمله في الفساد كان المعصية منه لا منّي، وهذا تلبيس من الشيطان عليه بواسطة حبّ الرئاسة وغرور منه، فهو كمن وهب سيفاً قاطعاً من قاطع طريق وأعدّ له أسبابه وقال: أردت البذل والسخاء وقصدت به أن يغزو بها في سبيل الله تعالى، فإنّه من أعظم المثوبات، فإن هو صرفه إلى المعاصي كان هو العاصي، ولا شكّ في حرمة ذلك، بل إذا لاح له من عادته الاستعانة بها على الشرّ وجب السعي في سلب سلاحه لا إعانته بسلاح آخر، والعلم أيضاً سلاح يقاتل به الشيطان فمن لايزال مؤثراً لدنياه على دينه وهو عاجز عن الميل إلى الآخرة لضعف يقينه، فكيف يجوز إمداده بنوع علم يتمكّن معه من الوصول إلى شهواته، فإذن المعصية لا تنقلب طاعة بالنيّة وإن تضاعف وزرها بانضمام مقاصد خبيثة إليها كما أشرنا إليها وعظم وبالها كما أشرنا إليه في باب التوبة.
وأمّا الطاعة فهي مرتبطة بالنيّة في أصل صحّتها بأن ينوي بها عبادة الله لا غير فلو نوى الرياء صارت معصية كما مرّ، وفي زيادة فضلها أيضاً بكثرة النيّات الحسنة فيكون له بكلّ نيّة ثواب كالقعود في المسجد الذي هو طاعة ويكثر ثوابه بكثرة النيّات الحسنة كاعتقاد أنّه بيت الله فيقصد به زيارة مولاه رجاء لما عوده الرسول وانتظار الصلاة بعد أخرى والترهّب بكفّ السمع والبصر سائر الأعضاء، فإنّ الاعتكاف في المسجد نوع من الصوم الذي هو الكفّ، ولذا ورد: «رهبانية أمّتي القعود في المساجد»(5) وعكوف الهمّ على الله تعالى ولزوم السرّ للفكر في الآخرة ورفع الشواغل عن نفسه بالاعتزال في المسجد والتجرّد لذكر الله تعالى أو استماعه أو التذكّر به لما روي أنّ من فعل ذلك كان كالمجاهد في سبيل الله (6) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ لا يخلو المسجد عن تارك معروف أو الآتي بمنكر، أو استفادة أخ في الله لكون المسجد معشر (7) أهل الدين المحبّين لله وفي الله، وترك المعاصي حياء من الله وخوفاً من هتك حرمته، وقس عليه سائر الطاعات.
وأمّا المباحات فما من شيء منها إلا ويحتمل نيّة أو نيّات يصير بها من محاسن القربات وما بها يصير من المساوي والسيّئات، فما أخسر من ذهل عنها وتعاطاها تعاطي البهائم المهملة عن شهوة وغفلة، فلا ينبغي استحقار خطرة أو خطوة أو لحظة؛ لأنّ كلّ ذلك مسؤول عنه يوم القيامة، فمن تطيّب بطيب يمكنه أن يقصد التنعّم بلذّات الدنيا الذي هو مباح أو التفاخر بكثرة المال أو رياء الخلق ليتحبّب به إلى الناس أو يتودّد به إلى قلوب النساء الأجنبيّات ونحو ذلك من الأغراض الفاسدة التي تجعل الفعل معصية أنتن من الجيفة، أو اتّباع سنّة الرسول صلى الله عليه وآله وتعظيم المسجد واحترام بيته تعالى وترويح جيرانه ليستريحوا من روائحه في المسجد ونحوه ودفع الروائح الكرية المؤدّية إلى إيذاء الناس ومعالجة دماغه ليزيد به ذكاءه ويسهل عليه الفكر ونحو ذلك، ولذلك قيل: « [إنّي] لأستحبّ أن يكون لي نيّة في كلّ شيء حتّى الأكل والشرب والنوم ودخول الخلاء» (8) ونحوها، إذ كلّ ذلك إنّما يمكن أن يقصد به وجه الله تعالى كالتقوّي على العبادة من الأكل، وتحصين دينه وتطييب قلب أهله وحصول ولد يعبد الله ويكثر به أمّة محمّد صلى الله عليه وآله من الجماع.
فإيّاك أن تستحقر شيئاً من حركاتك وسكناتك، فلا تحترز من غرورها وشرورها ولا تعدّ جوابها يوم السؤال والحساب، فإنّ الله مطّلع عليك وشهيد. {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].
فراقب أحوالك ولا تسكن ولا تتحرّك ما لم تتأمّل أوّلاً أنّك لم تتحرّك ولم تسكن وماذا تقصد وما الذي تنال به من الدنيا وما يفوتك به من الآخرة وبماذا ترجّح الدنيا على الآخرة، فإذا علمت أنّه لا باعث الا الدين فامضِ على عزمك، وراقب أيضاً قلبك في إمساكك وتركك، فإنّ ترك الفعل أيضاً فعل، ولا بدّ أيضاً له من نيّة صحيحة، فلا يكون لداعي هوى خفيّ لا تطّلع عليه ولا تغرّنك ظواهر الأمور.
فقد روي أنّ زكريّا عليهالسلام كان يعمل بالطين في حائط وكان أجير القوم فقدّموا إليه رغيفين إذ كان لا يأكل الا من كسب يده، فدخل عليه قوم فلم يدعهم إلى الطعام حتى فرغ، فتعجّبوا منه لما علموا من سخائه وزهد، فقال: إنّي أعمل للقوم بأجرة وقدّموا إليّ الرغيفين لأتقوّى بهما على عملهم، فلو أكلتم معي لم يكفكم ولم يكفني وضعفت عن عملهم (9).
فإنّ ضعفه عن العمل نقص في فرض وترك الدعوة إلى الطعام نقص في نفل (10) ولا حكم للفضائل مع الفرائض، فهكذا ينبغي للبصير أن ينظر إلى البواطن بنور الله تعالى.
واعلم أنَّ النية لا تحصل بمجرّد حديث النفس وحديث اللسان أو الانتقال من خاطر إلى خاطر، بل هي على ما عرفت انبعاث النفس وميلها إلى ما ظهر لها أنّ فيه غرضاً عاجلاً أو آجلاً، فلا يمكن اختراع الميل بمجرّد الارادة كما لا يمكن أن يقول الفارغ: نويت أن أعشق فلاناً وأحبّه، بل لا طريق إلى اكتساب الميل الا باكتساب أسبابه المقدورة تارة وغير المقدورة أخرى، وإنّما تنبعث النفس إلى الفعل إجابة إلى الغرض الباعث الموافق للنفس وما لم يعتقد الإنسان أنّ غرضه منوط بفعل لم يتوجه إليه قصده، وذلك ممّا لا يقدر عليه كلّ حين، وإذا اعتقد فإنّما يتوجّه القلب إذا كان فارغاً غير مصروف عنه بشاغل أقوى، وذلك لا يمكن في كلّ حين، والدواعي والصوارف لها أسباب كثيرة بها تجتمع، وتختلف ذلك بالأشخاص والأحوال والأعمال، فمن يغلب عليه شهوة النكاح من دون اعتقاد غرض صحيح في الولد ديناً ودنيا لا يمكنه الوقاع على نيّة الولد إذ النيّة إجابة الباعث ولا باعث الا الشهوة، ومن لم يغلب عليه عظم فضل النكاح اتّباعاً لسنّة الرسول صلى الله عليه وآله لا يمكنه نيّة اتّباع السنّة الا بحديث اللسان أو النفس.
نعم طريق اكتسابها تقوية إيمانه بالشرع أوّلاً وبعظم ثواب كثرة أمّة النبي صلى الله عليه وآله ثانياً، ودفع منفّرات الولد من ثقل المؤونة وطول التعب وغيره عن نفسه ثالثاً، فإذا فعل ذلك انبعثت رغبته إلى تحصيل الولد للثواب وحركة أعضائه لمباشرة العقد، فإذا انتهضت القدرة المحرّكة للّسان لقبول العقد طاعة لهذا الباعث الغالب على القلب كان ناوياً، والا كان ما يقدّره في نفسه ويردّده من قصد الولد وسواساً وهذياناً، ولمّا كان الانبعاث المذكور يجري مجرى الفتوح من الله تعالى يتيسّر في بعض الأوقات دون بعض الا لمن كان الغالب عليه أمر الدين وقلبه مائل إلى الخيرات إجمالاً، فإنّه ينبعث إلى التفاصيل غالباً امتنع أكابر السلف في كثير من الأوقات عن جملة من الطاعات، إذ لم يحضرهم النيّة خالصاً له تعالى، والعمل بدونها رياء موجب للمقت دون القرب فالطاعة على نيّة إجلال الله تعالى واستحقاقه الطاعة والعبوديّة لا يتيسّر للراغب في الدنيا فهذه أعزّ مراتب النيّة وأعلاها ويعزّ من يفهمها فضلاً عمّن يتعاطاها.
وأمّا العمل إجابة لباعث الخوف من النار أو رجاء الجنّة فهو وإن كان من جملة النيّات الصحيحة لكونه ميلاً إلى الموعود في الآخرة، الا أنّه نازل بالنسبة إلى الأوّل لكونه من جنس المألوف في الدنيا، وباعثه باعث البطن والفرج الذي موضع قضاء وطره الجنّة، وعبادة المقرّبين العارفين لا يجاوز ذكر الله والفكر لجلاله وعظمته ودرجتهم أرفع من الالتفات إلى المنكوح المطعوم في الجنّة وإنّما يدعون ربّهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه لا غير، ويتنعّمون بلقاء الله تعالى كما يتنعّم عبد البطن بأكل الحلاوات ولحوم الطير ويسخرون ممّن يتنعّم بالنظر إلى الحور العين، كما يسخر ذلك ممّن يتنعّم بالنظر إلى الصور المصنوعة من الطين، بل أشدّ من ذلك وأعظم بيقين، بل عمى أكثر القلوب عن إبصار جماله وجلاله أيضاً هي عمى الخنفساء عن إدراك جمال النساء، ولا يزال الفرق يختلفون {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53].
وبالجملة؛ فالنيّات متفاوتة الدرجات ومن غلب على قلبه واحدة منها لم يتيسّر له العدول عنها، ومعرفة هذه الحقائق تورث أعمالاً يستنكرها أكثر الخلائق من الظاهريّين الذين لم يتفطّنوا لهذه الدقائق، فمن حضرت له نيّة في مباح ولم تحضر له في فضيلة، فالمباح أولى وانتقل (11) إلى الفضيلة كما انتقلت إلى النقيصة، فالأكل والشرب والنوم بنيّة التقوّي للعبادة في المستقبل مع عدم انبعاثها نحو الصوم والصلاة هو الأفضل.
تلخيص:
قد علم ممّا ذكر، أنّ النيّة روح الأعمال ففي الحقيقة يترتّب الجزاء عليها.
قال النبيّ صلى الله عليه وآله: «إنّما الأعمال بالنيّات، وإنّما لكلّ امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوّجها فهجرته إلى ما هاجر إليه» (12).
وعن النبي صلى الله عليه وآله: «انّ العبد ليعمل أعمالاً حسنة فتصعد بها الملائكة في صحف مختّمة فتلقى بين يدي الله تعالى فيقول: ألقوا هذه فإنّه لم يرد بها وجهي، ثم ينادي الملائكة اكتبوا له كذا وكذا، فيقولون: ربّنا إنّه لم يعمل شيئاً من ذلك، فيقول: إنّه نواه، إنّه نواه» (13).
وقال الصادق عليهالسلام: «إنّما خلّد أهل النار في النار؛ لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا الله أبداً وإنّما خلّد أهل الجنّة في الجنّة؛ لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبداً فبالنيّات خلّد هؤلاء وهؤلاء، ثم تلا قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84] أي على نيّته» (14).
واعلم أيضاً أنّ أعلى مراتبها إرادة وجهه تعالى من حيث كونه أهلاً للعبادة ومحبّته له واستغراقه في بحار جلاله وعظمته ومشاهدته فأنس به وفرح بعبادته وإلى هذه المرتبة أشار علي عليهالسلام بقوله: «إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنّتك لكنّي وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك» (15).
وأدنى منها قصد الثواب أو الخوف من العقاب كما أشرنا إليه ولا تصغِ إلى من قال ببطلان العبادة بذلك زعماً منه أنّه منافٍ لقصد الاخلاص الّذي هو إرادة الله وحده؛ لأنّه قصد جلب نفع لنفسه ودفع ضرّ عنها لا وجه الله تعالى، فإنّ أكثر الناس لإلفهم بالمحسوسات يتعذّر عليهم الوصول إلى مرتبة فهم تلك المرتبة، فلا يعرفون منه تعالى الا المرجوّ والمخوف فلو كلّفوا بذلك عموماً كان تكليفاً بما لا يطاق لما عرفت من عدم إمكان حصولها الا بعد قطع الشهوات وقمعها والإعراض عن الدنيا بالكليّة والإقبال إلى الله وحبّه وأنسه المتفرّعين على كمال معرفته وحصولها لعامّة الناس غير ممكن ولو كلفوا بذلك لفسدت المعائش وبطل النظام.
والمراد من الاخلاص المشروط في صحّة النيّة المشروطة في العبادة ألّا تكون مشوبة بحظوظ الدنيا والأغراض النفسانيّة دون الحظوظ الأخرويّة وإن كانت ممّا يشابهها، ولو كان ذلك مفسداً للعبادة بطل الوعد والوعيد والترغيب والترهيب بالجنّة والنار.
وأمّا قول الصادق عليه السلام: «العبّاد ثلاثة: قوم عبدوا الله خوفاً فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا الله طلباً لثوابه فتلك عبادة الأجراء، وقوم عبدوا الله حبّاً له فتلك عبادة الأحرار، وهي أفضل العبادة» (16) فهو وإن دلّ على ذمّ القسمين ونقصان درجاتهما الا أنّ آخره صريح في صحّتهما، بل كونهما مستلزماً لفضل وإن كان أقلّ وهو عين ما حقّقناه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ساقط من «ج».
(2) المحجّة البيضاء: 8 / 109، وفيه: «نيّة المؤمن».
(3) الكافي: 2 / 84، كتاب الإيمان والكفر، باب النيّة، ح 1، عن زين العابدين عليهالسلام.
(4) الكافي: 2 / 428، كتاب الإيمان والكفر، باب من يهمّ بالحسنة أو السيّئة، ح 1.
(5) المحجّة البيضاء: 8 / 117.
(6) المحجّة البيضاء: 8 / 117.
(7) كذا، وفي المحجّة البيضاء: (8 / 117): معشّش.
(8) المحجّة البيضاء: 8 / 119.
(9) المحجّة البيضاء: 8 / 120 ـ 121.
(10) كذا، وفي المحجّة البيضاء: «فضل» ويؤيّده التعليل.
(11) أي انتقل المباح في حقّه إلى الفضيلة، كما انتقلت الفضيلة إلى النّقيصة.
(12) المحجّة البيضاء: 8 / 103.
(13) المحجّة البيضاء: 8 / 103.
(14) الكافي: 2 / 85، كتاب الإيمان والكفر، باب النيّة، ح 5.
(15) بحار الأنوار: 41 / 14، غوالي اللئالي: 10 / 404.
(16) الكافي: 2 / 84، كتاب الإيمان والكفر، باب العبادة، ح 5، مع اختلاف.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
معهد الكفيل للنطق والتأهيل: نعمل باستمرار على مواكبة التطورات الحديثة لتقديم أفضل رعاية للأطفال
|
|
|