أقرأ أيضاً
التاريخ: 6-9-2016
8346
التاريخ: 17-6-2017
11413
التاريخ: 17-9-2019
2112
التاريخ: 25-12-2015
30118
|
لا نكاد نتقدم في النصف الثاني من القرن السادس الهجري، حتى يقوم الخلاف العنيف بين شاور وضرغام وزيري العاضد، وسرعان ما تتأجج نيران الحروب بينهما، فيستعين شاور بنور الدين صاحب حلب، وهو أكبر شخصية حينئذ كانت تعني بحرب الصليبيين، ودفع موجاتهم إلى البحر المتوسط وما وراءه، وحدث أن ضرغامًا استعان بهم ضد خصمه، فخشي نور الدين أن يستولي الصليبيون على مصر، وأن يندفعوا منها إلى الاستيلاء على العالم العربي، لذلك أرسل إلى شاور بنجدة كبيرة، على رأسها أحد قواده، وهو أسد الدين شيركوه، وجاء أسد الدين إلى مصر، ومعه ابن أخيه صلاح الدين، فهزم الصليبيين، ورد الأمر إلى شاور إلا أنه قتل، فحل محله أسد الدين في وزارة العاضد، ولكن الموت عاجله، حينئذ نرى صلاح الدين يتولى الوزارة مكان عمه، وينبهم الموقف فالخليفة شيعي، ووزيرها سني، وهو يتبعه من جهة، كما يتبع نور الدين من جهة أخرى، ويرسل نور الدين إلى صلاح الدين أن ينقل الخطبة في المسجد الجامع إلى الخليفة العباسي، ويقضي على نظام الحكم الشيعي، فيصدع صلاح الدين بالأمر، وينفذ مشيئة نور الدين، ثم تخدم الظروف صلاح الدين، فإذا نور الدين يتوفى بعد قليل، فيستقل هو بمصر، بل نراه يذهب إلى الشام، فيستولي على ممتلكات نور الدين، حتى يوحد العالم الإسلامي أمام الصليبيين، ويستمر فيستولي على أجزاء من الموصل، كما يستولي على بلاد العرب، ويؤسس في مصر دولة عظيمة هي الدولة الأيوبية، التي كان أصحابها يلقبون أنفسهم بالملوك.
كانت الدولة الأيوبية دولة سنية، لذلك أخذت تناهض التشيع الفاطمي، ومظاهره في مصر، واتخذت لذلك طريقة منظمة هي إنشاء المدارس، والمعاهد السنية، وقد بدأ صلاح الدين هذه الحركة، فأنشأ طائفة من المدارس كي يدعم الدعوة السنية، يقول ابن خلكان: لما ملك السلطان صلاح الدين الديار المصرية، لم يكن بها شيء من المدارس، فإن الدولة المصرية، كان مذهبها مذهب الإمامية، فلم يكونوا يقولون بهذه الأشياء، فعمل في القرافة الصغرى المدرسة المجاورة لضريح الإمام الشافعي رضي الله عنه، وبنى مدرسة بالقاهرة في جوار المشهد المنسوب إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما، وجعل عليها وقفًا كبيرًا، وجعل دار سعيد السعداء خادم الفاطميين خانقاه، ووقف عليها وقفًا طويلًا، وجعل دار عباس المذكور في ترجمة الظافر العبيدي، والعادل ابن السلار مدرسة للحنفية، وعليها وقف جيد كبير أيضًا، والمدرسة التي بمصر المعروفة بزين التجار وقفًا على الشافعية، وقفها جيد أيضًا(1)، وكما عني صلاح الدين بمحاربة التشيع في مصر، عني أيضًا بمحاربة التفلسف عناية شديدة، يقول القاضي ابن شداد في سيرته: كان مبغضًا لكتب الفلاسفة أرباب المنطق ومن يعاند الشريعة، ولما بلغه عن السهروردي ما بلغه أمر ولده الملك الظاهر بقتله(2)، وأكبر الظن أن لصلاح الدين يدًا في ضعف الحركة الفلسفية بمصر منذ عصره، فقد تبعه العلماء يعنون بالدراسات الدينية، والتاريخية واللغوية، مهملين للدرسات الفلسفية، واستمر ذلك طوال العصر الأيوبي وعصر المماليك أيضًا، يقول بهاء الدين السبكي، وهو من علماء عصر المماليك: إن أهل مصر صرفوا همهم إلى علوم اللغة، والنحو والفقه، والحديث وتفسير القرآن بخلاف أهل المشرق، الذين استوفوا هممهم الشامخة في تحصيل العلوم العقيلة والمنطق(3)، ومعنى ذلك أن مصر استمرت مطبوعة بالطابع، الذي كان أراده لها صلاح الدين، حتى عصر المماليك وبعد عصرهم أيضا، وكأنما إعجاب المصريين بصلاح الدين، وحروبه الصليبية جعلهم يقتدون بسيرته في حياته العقلية.
ومن يرجع إلى سيرة مدلوك الدولة الأيوبية بعد صلاح الدين، يجدهم يهتمون اهتمامًا بالغًا بالدراسات السنية، وخاصة دراسة الحديث، ومما يروى بصدد ذلك أن ابنه العزيز الذي خلفه على مصر، سمع الحديث من الحافظ السلفي، والفقيه أبي طاهر بن عوف الزهري، وأبي محمد بن بري النحوي وغيرهم(4)، وكان عمه العادل الذي ولي مصر بعده معنيًا بأرباب السنة، صنف له فخر الدين الرازي كتاب تأسيس التقديس، وذكر اسمه في خطبته، وسيره إليه من بلاد خراسان(5)، وكان الكامل ابنه يحب العلماء، والأماثل ويلقي عليهم المشكلات(6)، وكان محبًا للحديث وأهله، حريصًا على حفظه ونقله، وللعلم عنده شرف، خرج له أبو القاسم بن الصفراوي أربعين حديثًا، وسمعها جماعة ويقولون: إن ابن بري وغيره أجازوا له رواية الحديث(7)، وقد بنى مدرسة عرفت باسم دار الحديث الكاملية، وهي ثاني دار عملت للحديث، أما أول دار فهي الدار التي أسسها نور الدين بدمشق(8)، نستمر حتى نلتقي بالملك الصالح، نجم الدين أيوب فنراه يبني المدرسة الصالحية، وكانت تدرس فيها المذاهب الأربعة(9)، وما من ريب أن في ذلك كله يدل عن أن الأيوبيين بعثوا في مصر اهتمامًا واسعًا بالدراسات الدينية.
وإذ تركنا الدراسات الدينية إلى الكتابة الأدبية، وجدنا الأيوبيين يجنون في عصرهم ثمار النهضة الفنية، التي رأيناها في العصر الفاطمي، وقد ظفروا فيما ظفروا من هذه الثمار بالقاضي الفاضل، أحد كتاب دواوين العصر الفاطمي، وقربه منه صلاح الدين، واتخذه وزيره وكاتبه، وكنا أبلغ كتاب عصره، فدفع الصعر الأيوبي كله من ورائه في دوائر نماذجه، وما أتاحه لهذه النماذج من صفات أدبية، وأعانته في ذلك شخصية كبيرة أتت من المشرق، هي شخصية عماد الدين الأصبهاني، الذي نشأ بأصبهان، ثم قدم بغداد وتخرج في المدرسة النظامية، ولما تخرج فيها خدم الوزير، يحيى بن هبيرة ببغداد، ثم انتقل إلى دمشق وسلطانها يومئذ نور الدين، فألحقه بديوان الإنشاء، وتعرف أثناء ذلك بصلاح الدين، وقامت بينهما مودة وثيقة، ولما أنشأ نور الدين المدرسة النورية في دمشق أسندها إليه، واستمر في هذا العمل حتى توفي نور الدين، فانتقل إلى صلاح الدين وتعلق به، ومدحه كثيرًا كما مدح القاضي الفاضل، رجاء أن ينظمه في سلك سلطانه، وعمل القاضي الفاضل على ذلك، فقربه من صلاح الدين، وأصبح الكاتب الثاني في الدولة الصلاحية بعد القاضي الفاضل، وكان العماد أديبًا كبيرًا، وله ديوان شعر ورسائل كثيرة، كما أن له الكتاب المشهور: الفيح القسي في الفتح القدسي، يصف فيه فتح بيت المقدس على يد صلاح الدين، وأيضًا له الخريدة، وهو ينهج في كتاباته نهج أصحاب التصنع في عصره، وقد كان القاضي الفاضل يذهب غالبًا هذا المذهب مستنا في ذلك بكتاب العصر الفاطمي، وعلى رأسهم ابن الشخباء، فتآلف الكاتبان فنيًا كما تآلفا اجتماعيًا، ولعل مما يثبت عناية بالتصنيع ما يروى من أن العماد لقي القاضي الفاضل يومًا وهو راكب على فرس، فقال له: سر فلا كبا بك الفرس، فقال له القاضي الفاضل توًّا: دام علا العماد(10)، وأكبر الظن أن القارئ لا يزال يذكر ما مر بنا عند الحريري، مما كان يسميه ما لا يستحيل بالانعكاس، وكان الحريري يأتي به ليدل على مقدرته البالغة، وها نحن الآن في مصر بعد الحريري بنحو نصف قرن، نقرأ في آثار مشاهير الكتاب، فإذا هم يتجهون نفس الوجهة من الإطراف بغرائب العبارات، وهو إطراف لا يأتي من المعنى، وإنما يأتي من الشكل الخارجي، إذ يستطيع الأديب أن يستخدم عقدة من عقد التعبير، وهو غالبًا لا يأتي بعقد جديدة، وإنما يستخدم بعض العقد السابقة، فإذا القاضي والعماد جميعًا يعمدان في جملتين إلى استخدام ما لا يستحيل بالانكاس، فيهما حتى يدلًا على مقدرتهما وبراعتهما، وأنهما يستطيعان أن يأتيا بعبارات تقرأ طردًا وعكسًا، والغريب أن العماد مع أنه جاء من المشرق موطن التصنع، لم يستطع أن يتفوق على القاضي الفاضل، الذي تخرج في ديوان الفاطميين، وهذا نفسه دليل واضح على أن هذا الديوان ارتقت فيه الكتابة في العصر المتأخر رقيًا، لا يقل عن رقيها في المشرق.
ومهما يكن فإن القاضي الفاضل كان أستاذ عصره غير منازع، وشهد له ابن خلكان بذلك، إذ وازن بين كتبه في فتح بيت المقدس وما كتبه العماد وغيره، فقال: إنه رئيس هذا الفن، وإذا شرع في شيء من هذا الباب، لا يستطيع أحد أن يجاريه ولا يباريه(11)، ومن أجل ذلك سنقف عنده لنتبين نهضة الكتابة الفنية في العصر الأيوبي، وما امتازت به من خصائص أدبية، وهي خصائص استمرت تخضع لها الأجيال التالية خضوعًا شديدًا.
القاضي الفاضل:
هو، عبد الرحيم البيساني، ولد في عسقلان، فهو عسقلاني الأصل كابن الشخباء؛ وولي أبوه قضاه بيسان من قبل الفاطميين، فنسب هو إليها، ولما شب أرسل إلى ديوان الإنشاء في القاهرة لتخرج فيه، فحضر إلى مصر في عهد الحافظ(12) 524-544هـ، وتتلمذ على أشهر الكتاب، وكان الموفق ابن الخلال حينئذ رئيس ديوان الإنشاء، وكان معه ابن قادوس الأديب المشهور، فلزمهما، ويقول الرواة: إنه لم مثل بين يدي الموفق سأله: ماذا أعددت لفن الكتابة؟ فأجابه: إني أحفظ القرآن الكريم وديوان الحماسة، فأمره أن يحل شعر الحماسة كله (13)، ثم ما زال به يدربه على الكتابة حتى نبغ فيها، ولكنه لم يستمر مع الموفق، بل ذهب إلى قاضي الإسكندرية المسمى بابن حديد، فكتب عنه كتبًا حبرها تحبيرًا ممتازًا، ويقال إن الوزير: العادل ابن رزيك 556-558هـ اطلع على بعضها: فأعجب بها، وطلبه ليسلكه في كتاب ديوانه، فعاد إلى القاهرة، ومكث في ديوان الإنشاء حتى وفد أسد الدين شيركوه، فقربه منه واتخذه كاتبه، ولما توفي استخدمه صلاح الدين. ويظهر أنه أخلص لهذه الأسرة منذ قدومها، فإننا نجد صلاح الدين يتخذه وزيره، ومشيره كما يتخذه كاتبه، وروي عنه أنه قال: والله ما ملكت البلاد بسيوفكم ولا برماحكم، ولكن بقلم القاضي الفاضل، ويقول ابن فضل الله العمري: كان القاضي الفاضل هو الدولة الصلاحية كان كاتبها ووزيرها، وصاحبها ومشيرها، والحاكم في كلها، والمجهز لبعوثها، ومع هذا كله كان لا يزال منكدًا مبتلى بضنا قلبه وجسمه، ومرض همه وسقمه ...
ولهذا كان لا يتكلف مع السلطان سفرًا في كل مرة، وكان العماد ينوب عنه(14)، وذكر القاضي نفسه علته في أحد خطاباته فقال: والمملوك في حال تسطير هذه الخدمة جامع بين مرضى قلب وجسد، ووجع أطراف وعليل كبد(15)، وكنا كان القاضي عليلا كان -على ما يظهر- تزور عنه العين، قال الأسعد: بن مماني: كان القاضي الفاضل دميم الخلقة، وكان له حدبة ظاهرة خلف ظهره وكان يسترها بالطيلسان، حتى لا تظهر للناس(16).
وهذا الرجل العليل القبيح بلغ من فن الكتابة، وتجويده ما لم يبلغه أحد في عصره، يقول العماد الأصبهاني في حقه: رب القلم والبيان، واللسن واللسان، والقريحة الوقادة والبصيرة النقادة، والبديهة المعجزة، والبديعة المطرزة، والفضل الذي ما سمع في الأوائل، ممن لو عاش في زمانه لتعلق بغباره، أو جرى في مضماره، فهو كالشريعة المحمدية التي نسخت الشرائع، ورسخت بها الصنائع، يخترع الأفكار، ويفترع الأبكار، ويطلع الأنوار، ويبدع الأزهار(17).
ويقول النويري: إلى القاضي الفاضل انتهت صناعة الإنشاء ووقفت، وبفضله أقرت أبناء البيان واعترفت، من بحر علمه رويت ذوو الفضائل واغترفت، وأمام فضله ألقت البلاغة عصاها، وبين يديه استقرت به نواها، فهو كاتب الشرق والغرب في زمانه وعصره، وناشر ألوية الفضل في مصره وغيره مصره، ورافع علم البيان لا محالة، والفاضل بغير إطالة(18)، وقد أشاد به وبفنه كل من تعرضوا لترجمته، كما أشار كثير منهم -وعلى رأسهم العماد الأصبهاني- إلى أنه صاحب طريقة، أو كما يقول العماد: شريعة جديدة، ولكن ينبغي أن لا نظن من ذلك أن القاضي الفاضل ابتكر مذهبًا جديدًا، في تاريخ النثر العربي، إنما كل ما هناك أنه قلد أصحاب التصنع فأحسن التقليد، ومن المهم أن نعرف أن الكتاب في الأقاليم المختلفة، منذ القرن السادس أخذوا يغمرون بذوق التصنع في الكثير الأكثر، وقلما تركوا هذا الذوق إلى ذوق التصنيع، وبدأت هذه المرجة في مصر لا بالقاضي الفاضل، ولكن بابن الشخباء الذي عرضنا له في العصر الفاطمي، والقاضي الفاضل نفسه حين كان يكتب في العصر الفاطمي، كان يكتب بهذا الذوق، وانظر إليه يستهل رسالة كتب بها عن العاضد آخر الخلفاء الفاطميين(19): كتابنا -أطال الله بقاء المليك- عن مودة ظاهرة الأسباب، متظاهرة الأنساب، ضافية جلباب الشباب، وعوائد عوراف لا يتنكر معروفها، ووفود فوائد لا يتصدع تأليفها، ومساعي مساعد لا ينقض معروفها، ولا ينقض مسوفها(20)، وسعادة بالخلافة التي عذق(21)، به أمرها، وأوضح سرها، وملأ سرائرها وسريرها، وأطلع شمسها وقمرها.
وهذه الصورة من التعبير، وما يطوى فيها من تشخيص وجناس، وإمعان في هذا الجناس هي الصورة العامة لكتابة القاضي الفاضل؛ ومن يرجع إلى بقية هذه الرسالة في صبح الأعشى، يجد فيها ما اشتهر به من اقتباسه لآي الذكر الحكيم، كما يجد اهتمامه البالغ بالتنظير، بحيث لا نغلوا إذا قلنا: إن فن القاضي الفاضل استوى له نهائيًا في العصر الفاطمي، ونحن نعرض على القارئ قطعًا من رسالة تعبر أشهر ما دبجه -وهي رسالته عن صلاح الدين إلى الخليفة ببغداد، يزف إليه البشرى بفتح بيت المقدس- حتى يطلع على خصائصه الأدبية في أروع أثر أدبي عني به وبتدبيجه، وهو يستهلها على هذا النمط(22):
أدام الله الديوان العزيز النبوي الناصري، ولا زال مظافر الحد بكل جاحد غني التوفيق، عن رأي كل رائد، موقوف المساعي على اقتناء مطلقات المحامد، مستيقظ النصر والسيف في جفنه راقد، وارد الجود والسحاب على الأرض غير وارد، متعدد مساعي الفضل وإن كان لا يلقى إلا بشكر واحد، ماضي حكم القوم بعزم لا يمضي إلا بنسل غوي وريش راشد، ولا زالت غيوث فضله إلى الأولياء أنواء إلى المرابع، وأنوارًا إلى المساجد، وبعوث رعبه إلى الأعداء خيلًا إلى المراقب، وخيالا إلى المراقد.
وأنت ترى القاضي الفاضل في هذه القطعة الصغيرة عني -كما عني في مستهل الرسالة العاضدية- بألوان البديع وخاصة لون الجناس، وذهب يطيل في عباراته، حتى يحقق ما يريد من جناس وتنظير وتشخيص، وما من شك في
أننا نحس في كل ذلك ذوق أصحاب التصنع، إذ نراه يحاول أن يمرن أسلوبه على أن يحمل أوسع ما يمكن، من جناسات منقوصة، وغير منقوصة، واستمر في الرسالة، فستراه يقول عن صلاح الدين، وفتحه لبيت المقدس إنه:
فاز من بين المقدس بذكر لا يزال الليل به سميرًا، والنهار به بصيرًا والشرق يهتدي بأنواره، بل إن أبدي نورًا من ذاته هتف به الغرب بأن واره؛ فإنه نور لا تكنه أغساق السدف، وذكر لا تواريه أوراق الصحف، وكتاب الخادم هذا، وقد أظفر الله بالعدو الذي تشظت قناته شفقًا، وطارت فرقه فرقًا....
وعثرت قدمه وكانت الأرض لها حليفة، وغضت عينه وكانت عيون السيوف دونها كسيفة، ونام جفن سيفه، وكانت يقظته تريق نطف الكرى من الجفون، وجدعت أنوف رماحه وطالما كانت شامخة بالمنى أو راعفة بالمنون، وأضحت الأرض المقدسة الطاهرة وكانت الطامث، والرب المعبود الواحد، وكان عندهم الثالث، فبيوت الشرك مهدومة، ونيوب الفكر مهتومة، وقد ضربت عليهم الذلة والمسكنة، وبدل الله مكان السيئة الحسنة، ونقل بيت عبادته من أصحاب المشأمة إلى أصحاب الميمنة.
وواضح أن سمات القاضي الفاضل، التي رأيناها منذ مطلع الرسالة لا تزال هي نفسها، فهو يعمم في جميع جوانبها ميله الشديد إلى التشخيص، كما يعمم ميله إلى ألوان البديع وخاصة لون الجناس، وكان ما يزال يستخدمه في جميع أشكاله من تامة وغير تامة، واستهدفت في أثناء ذلك؛ لأن يوري بين كلمة بأنواره وكلمة بأن واره، وقاده استهدافه لهذا النوع من الجناس إلى أن يستخدم التورية كثيرًا في نثره، وقد نسب القدماء إليه استخدامه هذا اللون لأول مرة في تاريخ أدب مصر الإسلامية(23)، ولكن من يقرأ شعر الشريف العقيلي في المغرب(24)، والخريدة(25) يجد أن هذا اللون عرف في مصر منذ أوائل القرن الخامس، وكل ما يمكن أن يضاف إلى القاضي الفاضل، أنه ربما كان من أوائل من نقلوه من الشعر إلى النثر، ومهما يكن فقد كان القاضي الفاضل، يعنى بأن تضم كتبه عناصر مذهب التصنع، وخاصة عنصر الجناس والتشخيص، وتضمين الشعر ثم عنصر الاقتباس من آي القرآن الكريم، على نحو ما نجد في القطعة السابقة، إذ نظم في عبارته قوله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} ، وكذلك قال: وبدل الله مكان السيئة الحسنة وقال: من أصحاب المشأمة إلى أصحاب الميمنة، وفي هاتين العبارتين ألفاظ من القرآن الكريم. ومع ذلك فعناصره الفنية التي يستخدمها لم نتبينها كلها حتى الآن، فهناك عنصر مهم كان يستخدمه في كتابته، وهو عنصر التصنع لمصطلحات العلوم، واستمر في الرسالة الآنفة فستراه يقول:
كان يبدل المذابح منائر والكنائس مساجد، ويبوئ بعد أهل الصلبان أهل القرآن للذب عن دين الله مقاعد، ويقر عينه وعيون أهل الإسلام أن تعلق النصر منه، ومن عساكره بجار ومجرور، وأن ظفر بكل سور ما كان يخاف زلزاله، وزياله إلى يوم النفخ في الصور.
ولا شك أن القارئ قد لاحظ ما نريد أن نشير إليه، وهو أن القاضي الفاضل تصنع هنا لذكر الجار والمجرور، وراعى النظير، فذكر كلمة تعلق وكل ذلك ليستتم ما يدل به على براعته في فنه، وهو حقًا لم يكن يكثير من التصنع لمصطلحات العلوم، ولكنه يظهر على كل حال في رسائله، واستمع إليه يقول من رسائله أخرى(26):
سلام الله الأطيب، وبركاته التي يستدرها الحضر والغيب، وزكواته التي ترفع أولياءه إلى الدرج، ونعمه التي لم تجعل على أهل طاعته في الدين من حرج، على مولانا سيد الخلق، وساد الخرق، ومسدد أهل الحق، وواحد الدهر الذي لا يثنى، وإليه القلوب تشنى، ولا يقبل الله جميعًا لا يكون لولاته جمع سلامة لا جمع تكسير، ولا استقبال قبلة ممن لا تكون بحته في قلبه تقيم، واسمه في عمله إلى الله يسير.
وقد بدت هنا رغبة القاضي في التصنع لمصطلحات النحو، بأكثر مما بدت في رسالة فتح القدس، فهناك كان يتخفف، أما هنا فإنه يطيل في تصنعه لمصطلحات النحو، إطالة تجعل الإنسان يلاحظها، إذ نراه يذكر الواحد والمثنى ثم الجمع، ولا يكتفي بذلك، بل يقف ليذكر جمع السلام وجمع التكسير، وأكبر الظن أن فن القاضي الفاضل قد أتضح لنا الآن، فهو لا يعدو في عناصره الأساسية، ما سبق أن رأيناه عند ابن الشخباء، وهذا نفسه هو ما يجعلنا نؤمن بأن القاضي الفاضل، لم يأت بطريقة جديدة تخالف الطرق الموروثة، بل لقد كان يعيش -كغيره من أدباء عصره- في الإطار الفني العام لمذاهب المشرق، وكان يعجب خاصة بمذهب التصنع، وما وصل إليه ابن الشخباء مواطنه في استخدامه، فذهب يتعلق بطرائفه من مصطلحات العلوم، والمصطلحات الأخرى من التشخيص، ومراعاة النظير وألوان البديع من طباق وغيره، وتعلق بالجناس خاصة على سنة أصحاب التصنع، فاستخرج منه غرائب كثيرة، كقوله في إحدى رسائله(27):
الحمد لله الذي صدقه وعده، وأورثه الأرض وحده، وجدد علاه، وأعلى جده، وأسعد نجمه، وأنجم سعده، ووعده نجحه، وأنجح وعده، وأورده وصفه، وأصفى ورده.
وفي هذه القطعة ما يدل على مدى احتفال القاضي الفاضل باستخراج كل ما يمكن من أشكال الجناس الهندسية، ولعل القارئ يلاحظ أنه تفد عليه الآن صور الجناس المعقدة، التي مرت بنا عند الحريري، والحصكفي خاصة، إذ كان يعجب بهذا الضرب من الجناس المقلوب، ونما هذا الذوق في الأقاليم المختلفة، وكان القاضي الفاضل داعيته في مصر، إذ كان ينحو بأسلوبه جملة نحو أصحاب التصنع، وليس معنى ذلك أن أسلوبه كان ضعيفًا، أو رديئًا فقد كان لديه من البراعة الفنية، ما جعله ينهض بصعوبات التصنع دون أن يستشعر الإنسان ما فيها من أثقال، ولكنا لا نستمر بعده، حتى نحس أنها أصبحت أثقالًا غليظة، وقد ذكرنا أنه عني في كتابته بالتورية، وساق صاحب خزانة الأدب من أمثلتها قوله(28):
في يوم شديد المطر والبرد، والخادم في رأس جبل يتلقى الرحمة غضة قبل أن يبتذلها الناس، ويصافح الرياح عاصفة قبل أن تقتسمها الأنفاس، ويتلقى الرعد بالرعدة، وإذا السماء انشقت استصحاها المملوك بالسجدة.
فقد ورّى تورية واضحة في كلمتي وإذا السماء انشقت والسجدة، ولكن يظهر أن القاضي لم يكن يكثر من ذلك في رسائله، ونحن لا نستطيع أن نزعم بأن هذا العمل مذهب جديد للقاضي الفاضل، فهو ليس أكثر من لون من ألوان البديع، وجده مستخدمًا قبله عند الشعراء الفاطميين، فأدخله في نثره، ومن يدري؟ ربما سبق بمن استخدمه قبله من الكتاب في العصر الفاطمي نفسه. ومهما يكن فإن القاضي الفاضل، كان أبلغ كتاب العصر الأيوبي، وقد ظلت المصطلحات، التي يستخدمها في فنه أساسية عند جميع الكتاب المصريين من بعده، حتى ليقول النويري: إن كل فاضل بعد الفاضل فضلة(29)، ولم يكن هذا إحساس النويري وحده، بل كان إحساس جميع الكتاب بعده، فقد اتخذوا آثاره مثلهم الأعلى الذي يحتذونه ويقلدونه، ومن أجل ذلك كنا لا نخطئ إذا قلنا: إن العصور التي تلته في مصر، كان أصحابها يصوغون دائمًا على مثاله، وينسجون على منواله.
__________
1- وفيات الأعيان 2/ 402.
2- النجوم الزاهرة 6/ 9.
3- عروس الأفراح للسبكي 1/ 5.
4- النجوم الزاهرة 6/ 127.
5- النجوم الزاهرة 6/ 163.
6- نفس المصدر 6/ 227.
7- النجوم الزاهرة 6/ 228.
8- النجوم الزاهرة 6/ 229.
9- حسن المحاضرة 2/ 156.
10- معجم الأدباء 19/ 18 وفيات الأعيان 2/ 75.
11- وفيات الأعيان 2/ 395.
12- تختلف الروايات في الخليفة، الذي جاء القاضي الفاضل في عصره إلى مصر هل هو الحافظ أو هو ابنه الظافر، ورجحنا الأولى؛ لأنها هي التي تتلاءم مع تاريخ القاضي الفاضل، انظر ابن خلكان 2/ 408.
13- وفيات الأعيان 2/ 408.
14- مسالك الأبصار: نسخة خطية بدار الكتب منقولة عن نسخة فوتوغرافية بها، الجزء السابع، ورقة 656.
15- النجوم الزاهرة 6/ 128.
16- بدائع الزهور لابن إياس طبع بولاق 1/ 75.
17- وفيات الأعيان 1/ 284.
18- نهاية الأرب طبع دار الكتب 8/ 1.
19-صبح الأعشى طبع دار الكتب 7/ 79.
20- مسوفها: مؤجلها.
21-عذق به: اختص.
22- صبح الأعشى 6/ 496 وابن خلكان 20/ 392.
23- خزانة الأدب للحموي طبع المطبعة الخيرية ص241.
24- المغرب لابن سعيد طبع جامعة القاهرة ص207، 244.
25- الخريدة: قسم شعراء مصر. طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر 2/ 63.
26- صبح الأعشى 6/ 515.
27- صبح الأعشى 6/ 511
28- خزانة الأدب ص243.
29- نهاية الأرب للنويري 8/ 2.
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|