أقرأ أيضاً
التاريخ: 29-09-2015
3405
التاريخ: 29-09-2015
2735
التاريخ: 30-09-2015
1994
التاريخ: 14-08-2015
13726
|
لم
تبرز الواقعية مدرسةً مستقلّةً واضحة السّمات إلا بعد منتصف القرن التاسع عشر؛
إلاّ أن معالمها بدأت بالتكوّن والظهور منذ عام 1826 أي في إبّان الفترة
الرومانسية ولم يكن اصطلاح (الواقعية) قد ظهر بعدُ. لأن الاصطلاح يأتي متأخراً، إذ
يضعه النقاد عادةً بعد أن تظهر بوادر أدبية جديدة وتكثر حتى تلفت النظر والتأمّل
وتقتضي الدراسة والوصف والتصنيف وحين ذاع هذا الاصطلاح كان يقصد منه المذهب الذي
يستقي عناصره من الطبيعة مباشرةً، لا من النماذج الكلاسيكية، وفهم بعضهم منه
التفصيلات المستمدة من البيئة المحليّة التي تشعر القارئ الانطلاق من صميم الواقع
وصدق التصوير. وكثيراً ما وضع النقاد تحت عنوان الواقعية ذلك الأدب الذي صدر عن
كتّابٍ رومانسيين مثل بلزاك وهوغو... ولكن النقاد
ما لبثوا أن لاحظوا بروز مذهب جديد في الأدب قوامه تصوير العالم الحقيقي تصويراً
أميناً، ووصفُ الحياة المعاصرة بطريقة الملاحظة والتحليل والعرض الموضوعي، بمنأىً
عن الذاتية والانفعال الخاص، وشيئاً فشيئاً تبلور هذا المذهب وانسلخ عن الرومانسية
وأصبح له أعلامه الكبار مثل بلزاك وستندال وفلوبير وميريميه والأخوان غونكور
ودوماس الصغير وغيرهم... لقد كوَّن هؤلاء مدرسة
ذات معالم جديدة دون أن يُعترفَ بها رسميّاً في عالم الأدب والنقد، ودون أن
يَعُوها هم؛ حتى إن فلوبير كان يغضب حين يوصف أدبُه بالواقعية. وكان لهذا الاتجاه
خصومٌ رفضوا الاعتراف به وأخذوا عليه الإفراط في التفصيلات الماديّة وإهمال
المثاليات واختفاء شخصية الكاتب.. وقد برز هذا الصراع جلياً حين ظهرت قصة (أسرار
باريس) عام 1843 للكاتب الفرنسي أوجين سو. وهي قصة مأخوذة من الواقع الشعبيّ
تصوِّر آلام الطبقة الفقيرة ومخاطر البؤس، والمكائد التي تحصد الشعب وتحرمه من كل
رعاية وحماية؛ كما تصوّر الأفكار والعقائد والمشاعر العامة.
وقد
نزل فيها الكاتب إلى صفوف المسحوقين والأشقياء والمساجين والعاهرات.. ورأى بعضهم
في هذه القصة مجموعة ألاعيب بهلوانية تشبه ألاعيب الأراجوز، لا همّ لها سوى الإبهار،
أو تشبه أقاصيص ألف ليلة وليلة، خاليةً من التحليل والحلّ الجذريّ. والحلّ فيها هو
أن يعطف الأغنياء على الفقراء... ورأى فيها آخرون تبشيراً
بقيام عالم جديد.
أما
في ألمانيا فكانت الأفكار الاشتراكية الخيالية قد راجت لدى الشعراء الذين لم يجدوا
حلاًّ لمشكلات البؤس والفقر سوى التألّم والعطف والإحسان واللجوء إلى اللَّه! وقد
بشّر الشاعر ألفرد مايسنر بالسلام بين الشعوب وتحويل السيوف إلى محاريث ومناجل..
ولكن كيف؟ لا جواب على ذلك.
ولهذا
سخِر كتاب الواقعية من تلك الاشتراكية المزعومة. ثم جاءت ثورة عام 1848 لتعصف بها
وبأفكارها وحلولها وأحلامها، ممهّدة الطريق للأفكار الاشتراكية التي تبنت
الواقعيّة وآزرتها وأكدتْ على منهج بلزاك.
وفي
انجلترا نجحت في النصف الأوّل من القرن التاسع عشر جهود الروائيين الكبار مثل
ديكنز وثاكري وبرونتي في تعرية البورجوازية والرأسمالية والروح العسكرية
الاستعمارية ومادية العصر الفظة والقيم الزائفة، وفضحوا أكاذيب السلطة والطبقات
العليا فيما تصدره من قوانين...
أما
في إيرلندة فقد ظهر الكاتب توماس كارلايل الذي أصدر كتابه (الماضي والمستقبل) عام
1843 وحكم فيه على المجتمع البورجوازي بالانحلال، وانتقد تكدّس الثروات وبذخ
الأغنياء بينما يموت الشعب من الفاقة والبطالة، وشخَّص عيوب النظام الرأسمالي
الجشع وتناقضاته والآفات الاجتماعية والأخلاقية... ولكنه أخطأ الحلّ حين ناطه بالكنيسة والسلطة المستبدة. ذلك
لأنّه في الأصل أخطأ إدراك الأسباب الحقيقيّة للظواهر الاجتماعية، فقد رأى أن
الإلحاد والفوضى الاقتصادية والأفكار الديمقراطية الجديدة هي أساس البلاء! ولم
يكتف بذلك بل مجدَّ البورجوازيّ القوي ودعا العمال إلى الانصياع لأوامره وأوامر
قادة الصناعة، وطالب باستعمار الشعوب الضعيفة وتسخيرها والتمييز بين العروق
الممتازة والعروق المنحطة، وكرّس التفاوت الطبقي... وأخذ يمنّي الناس ويعللّهم بظهور نبيّ مخلّص أو بطلٍ عبقري عظيم...!
ولم
تتبلور المدرسة الواقعية الحقيقية في الأدب الانجليزي والأمريكي إلاّ في الربع
الأخير من القرن التاسع عشر بتأثير المدرسة الفرنسية.
أما
في روسيا فقد بشر غوغول بالواقعية في النصف الأول من القرن التاسع عشر ثم جاء
دوستويفكسي ليؤكد هذا الاتجاه. وكانت الواقعية الروسيّة أكثر تعمقاً في النفس
الإنسانية. وقد ألحّ تولستوي على عنصري الحقيقة والصّدق دون أن يذكر قطّ مصطلح
الواقعية.