أقرأ أيضاً
التاريخ: 17-3-2016
3658
التاريخ: 16-3-2016
3827
التاريخ: 19-10-2015
3258
التاريخ: 22-3-2016
3499
|
تلخيص وتقديم[1]
إنّ جولةً على كتب التراجم والببلوغرافيا في القرنين الثالث والرابع الهجريّ تكشف بوضوح عن أنّ كتاب "الفتوح" ومؤلّفه لم يحظيا بالمكانة التي تليق بهما. فإنّنا لا نستطيع أن نجد ترجمةً دقيقةً لابن أعثم الكوفيّ، ولا نستطيع أن نقف بدقّة على سمات شخصيّته، أو على مذهبه، أو سائر مؤلّفاته، أو سائر الجوانب في سيرته وحياته.
وتأتي هذه الدراسة التي بين يدي القارئ الكريم للتعريف بكتاب "الفتوح"، والحديث عن أحوال مؤلّفه.
ومع أنّ البعض حاول أن يهمّش كتاب الفتوح، نظراً لاشتماله على أخبارٍ ونقولاتٍ لا تنسجم ولا تتلاءم مع معتقدات مذهب التسنّن، لكنّنا مع ذلك نستطيع أن نستنتج من نفس هذا الكتاب أنّ مؤلّفه كان في الحقيقة والواقع من أتباع مدرسة الخلفاء، بل ومن الشديدين في ذلك. ومع أنّ ابن أعثم لا يكشف لنا, بالشكل الكافي, عن المصادر التي اعتمد عليها في أخباره، لكنّ كتاب "الفتوح" مع ذلك يقدّم لقرّائه نوعاً من الاطمئنان العرفيّ إلى ما اشتمل عليه من أخبار، ويعود الفضل في ذلك إلى تخصّص مؤلّفه بهذا المجال، وكون الكتاب كتاباً تخصّصيّاً، وكون الأخبار الواردة فيه متناسبة من ناحية الهندسة التاريخيّة للأحداث.
كلمات مفتاحيّة: ابن أعثم الكوفيّ، الفتوح، مذهب، تاريخ، وثائق، واقعة كربلاء.
مقدّمة
يُعدّ وجود المصادر والمنابع التاريخيّة واحداً من الأمور الضروريّة والأساسيّة للغاية في إعادة خلق وتصوير الحوادث والوقائع التاريخيّة. وبعد بدء مرحلة التأريخ للأحداث، صحيح أنّ المصادر غير المدوّنة لم تفقد أهمّيّتها، لكنّها لا تملك نفس أهمّيّة وقيمة المصادر المدوّنة والمكتوبة، لجهة الشفافيّة وبيان التفاصيل ودائرة الشمول. وإنّ كلّ أمّةٍ أو شعبٍ يملك مصادر مدوّنةً تتحدّث عن تاريخ أسلافه، القدماء منهم والمتأخّرين، يمكن له أن يتعرّف على ماضيه بشكلٍ أفضل وأدقّ بكثيرٍ من أولئك الذين يفتقدون وجود مثل هذه الكتب والمصادر التاريخيّة المدوّنة. وفي هذا المجال، يمكن لنا أن نمتلك الجرأة الكافية لندّعي أنّه لا يوجد دين أو أمّة تمتلك ما يمتلكه الإسلام والمسلمون من المصادر التاريخيّة المكتوبة. وبديهيّ أنّ المقصود من المصادر التاريخيّة هو تلك الكتب التي أُلّفت لعرض أحداث التاريخ ووقائعه.
وبالرغم من كثرة المصادر المكتوبة في تاريخ الإسلام، فإنّ هذه المصادر لم تخلُ من الكثير من المشكلات والسلبيّات، ويمكن أن نعدّ من بين هذه النواقص: الأخبار والنقولات النابعة من التعصّب المذهبيّ، والتفرقة السياسيّة، وإثارة النزاعات القبليّة بما يخدم موقف الحكّام و..[2].
ومن هنا، فقد عدّوا التفرقة وسلطة حكّام الجور والاستبداد من أهمّ العوامل التي أدّت إلى التحريف والانحراف في مجال تدوين التاريخ الإسلاميّ[3]، وقد انعكس ذلك بشكلٍ سلبيٍّ جدّاً على واقع المصادر المدوّنة في تاريخ الإسلام، فبدت فيها أنفاس الطائفيّة والمذهبيّة، إن من جهة تحريف الوقائع التاريخيّة، أو من جهة إنكار وتجاهل بعض الوقائع التاريخيّة. وإنّ كتاب "الفتوح"، هذا الكتاب القديم، والقيّم في بابه، هو من جملة الكتب التي لم تبقَ بمأمنٍ ومنأى عن أعراض هذا النفس الطائفيّ وتداعياته، ولأنّه اشتمل على بعض العناوين التي يمكن أن يُستشعَر منها توجّه شيعيّ لدى مؤلّفه، فقد جرى التعامل مع هذا الكتاب بنوعٍ من القسوة، وجرى اعتباره كتاباً ضعيفاً[4]. ويمكن أن نعزو السبب في رمي هذا الكتاب بالضعف إلى نقله لبعض الأحداث التاريخيّة وعرضه لها بما لا يتماشى مع مذاق المذهب السنّيّ[5].
وإذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ أكثر المؤرّخين المسلمين هم من أتباع فرقةٍ خاصّة، فمن البديهيّ أن يثير ذلك بعض القلق في نفوس أتباع الفرق المخالفة لهم فيما يرتبط بنقل كافّة الأحداث والوقائع والمقاطع الحسّاسة من تاريخ الإسلام، من قبيل واقعة الغدير، وحادثة السقيفة، وأمثالهما، وأن يكون التحريف الحاصل بنظرهم في هذه الحوادث، أو إنكارها، أو السكوت عن بعض تفاصيلها، باعثاً لديهم على عدم تقبّل هذه الأخبار، وعدم الركون والاطمئنان إليها. ومن هنا، يبدو من الضروريّ جدّاً أن نتعرّض بالدراسة لكتبٍ ككتاب الفتوح لابن أعثم، الذي نقل وقائع وأحداثاً سكت عنها غيره من المؤرّخين من أهل السنّة، وأن نتعرّف أكثر على ما جاء فيه. أضف إلى ذلك، أنّ كتاب الفتوح يُعدّ من المصادر القديمة في مجال تاريخ الإسلام التي لو استطعنا أن نُثبت مدى إتقانه واعتباره من الناحية التاريخيّة لكان دليلاً إضافيّاً على صدق ما يدّعيه الشيعة في موارد متعدّدة، حيث إنّه يقترب إلى حدٍّ ما من كثيرٍ من دعاواهم التاريخيّة.
وهنا، وانطلاقاً من هذه الضرورة التي رأيناها، عقدنا الدراسة في هذا المقال، على أن يكون الهدف هو التعرّف على كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفيّ، وإجراء دراسة إجماليّة في بعض مقاطعه التي أرّخ فيها لوقعة كربلاء. وفي هذا الضوء، يمكن لنا أن نطرح السؤال الأصليّ والأسئلة الفرعيّة في هذا البحث على الشكل التالي:
السؤال الأصليّ: من هو ابن أعثم الكوفيّ، وما هي الموقعيّة والمكانة التي يحتلّها كتاب الفتوح؟
الأسئلة الفرعيّة:
1- ما هي الصفات الحقيقيّة التي حملتها شخصيّة ابن أعثم؟
2- في أيّ حقبةٍ زمنيّة كان يعيش؟
3- ما هو مذهب ابن أعثم؟
4- ما هي المطالب التي تضمّنها كتاب الفتوح؟
5- ما هو الأسلوب المعتمد في كتاب الفتوح؟
6- ما هو النسق الذي اعتُمد في تنظيم المباحث الواردة في كتاب الفتوح؟
7- ما هو حال المصادر والمسانيد التي استند إليها كتاب الفتوح؟
8- ما هي درجة اعتبار كتاب الفتوح؟ و... وها نحن نقسّم مقالتنا هذه إلى قسمين، نتحدّث في القسم الأوّل منهما عن ابن أعثم الكوفيّ وكتابه الفتوح، ونتعرّض في القسم الثاني للحديث عن ما ذكره ابن أعثم حول واقعة كربلاء وثورة الإمام الحسين عليه السلام.
أ- ابن أعثم الكوفيّ وكتاب الفتوح
1 ـ ابن أعثم الكوفيّ
لا نعرف الكثير عن ابن أعثم الكوفيّ، وقد سكتت عنه أكثر كتب التراجم، كما أنّ الذين تعرّضوا لترجمته منهم لم يقدّموا لنا معلوماتٍ دقيقة ترتبط بحياة الرجل. ومن هنا، فلا نجد اتّفاقاً بينهم حتّى على اسمه ونسبه، بل نُقل في هذا المجال أقوال مختلفة. فذكره بعضهم باسم محمّد بن عليّ بن أعثم الكوفيّ[6]، وبعضهم باسم أحمد بن أعثم الكوفيّ[7]، وفي قولٍ ثالثٍ حصل ترديد بين كلا هذين الاسمين: محمّد وأحمد، فذُكر اسمه على الشكل التالي: محمّد بن عليّ (أبو محمّد أحمد بن عليّ) المعروف بـ ابن أعثم الكوفيّ، أو أبو محمّد أحمد (محمّد) ابن عليّ الكوفيّ[8]. وذُكر اسمه في قولٍ رابع بعنوان: أحمد بن محمّد بن عليّ بن أكثم الكوفيّ، وقيل: إنّه يُكنّى بـ (أبي محمّد)[9]. والذي يُستفاد من مجموع أقوال العلماء هو أنّ (أعثم) هو لقب والد ابن أعثم وجدّه الأوّل والثاني. وحسبما ورد في معجم الأدباء لياقوت الحمويّ فإنّ ابن أعثم يُسمّى أحمد[10]. ويؤيّد ذلك ما ذُكر في أقوالٍ أُخرى، كقول بروكلمان في تاريخ الأدب العربيّ[11]، وعليّ أكبر دهخدا في لغت نامه دهخدا[12]. وهذا الكلام من ياقوت يمكن أن يكون صحيحاً، لأنّه من الناحية الزمنيّة كان أقرب إلى عصر ابن أعثم، وهو أوّل من اعتنى بالتأريخ لابن أعثم وذكره في كتابه معجم الأدباء. أضف إلى ذلك، أنّ من المحتمل أن يكون (محمّد) تصحيفاً لـ (أبو محمّد)، ويكون (أبو محمّد) كنيةً لابن أعثم[13]. ويدلّ تلقيب الرجل بـ (الكوفيّ) على أنّ ابن أعثم كان من أهل الكوفة، وإذا نظرنا إلى مدحه لقبيلة الأزد، فيمكن أن نعدّ الرجل أزديّ النسب[14].
لم يُنقل لنا شيء عن حياة وأحوال ابن أعثم، كما أنّ تاريخ ولادته غير معلوم لدينا. وما ذُكر عنه في عديد المصادر، وبصورةٍ مختلفٍ فيها أيضاً، إنّما هو تاريخ وفاته. حيث ذكر بعضهم أنّ وفاته كانت سنة 214 هـ[15]، وذكر آخرون أنّها كانت سنة 314 هـ[16]. وبالنظر إلى المساحة الزمنيّة التي يغطّيها كتاب الفتوح، والتي تمتدّ من زمن خلافة أبي بكر إلى عصر المقتدر العبّاسيّ، نستطيع أن نجزم بأنّ وفاة ابن أعثم لم تكن سنة 214 هـ قطعاً. كما أنّ ياقوت الحمويّ ذكر أنّ لابن أعثم كتابين، أحدهما باسم كتاب الفتوح، وتمتدّ أحداثه إلى أيّام هارون الرشيد، والآخر باسم كتاب التاريخ، وتمتدّ أحداثه من عهد المأمون إلى آخر عهد المقتدر[17]، الأمر الذي يجعلنا نجزم بأنّ تاريخ وفاة ابن أعثم لم يكن أيضاً سنة 314 هـ، وذلك لأنّ مقتل المقتدر العبّاسيّ كان في العام 320 هـ، الأمر الذي يحتّم أن تكون وفاة ابن أعثم بعد سنة 320 هـ[18].
1ـ 1 مذهب ابن أعثم
هذا الاختلاف والتعدّد في الأقوال حول هويّة ابن أعثم وتاريخ وفاته انسحب أيضاً خلافاً حول مذهبه. ففي كثيرٍ من المصادر عُدّ ابن أعثم شيعيّاً، وأصرّ جملة من أهل السنّة على دعوى تشيّعه استناداً إلى وجود أخبارٍ تفرّد بنقلها في كتابه[19]. كما أنّ كبار علماء التراجم من الشيعة أكّدوا على تشيّع الرجل[20]. وعدّه القاضي نور الله التستري من أتباع المذهب الشافعيّ[21]، وهناك من صرّح أيضاً بكون ابن أعثم سنّيّاً[22]، وقد ذكر العلّامة المجلسيّ كتاب الفتوح بوصفه واحداً من المصادر التي اعتمد عليها في كتابه بحار الأنوار، عادّاً إيّاه من كتب أهل السنّة (العامّة)[23].
وبما أنّ شيئاً لم يصل إلينا عن سيرة وحياة ابن أعثم وأحواله، فإنّ الطريق الوحيد المتاح لنا للتعرّف على مذهبه يكمن في الرجوع إلى ما أورده هو في كتابه. وقد استُدلّ لتشيّع ابن أعثم بفقراتٍ مأخوذة من كتاب الفتوح، ومن بينها: أنّه أكثر من الثناء على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وطعن في جميع من كان مخالفاً لعليّ عليه السلام، كما أنّه قدّم صورةً سلبيّةً لكلٍّ من عثمان وعائشة، وأورد في كتابه أخباراً تضع فكرة عدالة الصحابة تحت مطرقة المساءلة[24].
لكنّ الاستدلال بهذه الفقرات وحدها من كتاب ابن أعثم ليس بمجرّده كافياً لإثبات تشيّع الرجل، ذلك لأنّ الحديث عن الإمام عليّ عليه السلام وإن كان يشغل حيّزاً كبيراً من كتاب الفتوح، حيث خُصّص له العديد من الفقرات والمقاطع من الكتاب، لكنّ الكتاب اشتمل أيضاً على الثناء والمديح لأبي بكر وعمر، وذكر فضائلهما، بما يزيد على ما ذكره في حقّ أمير المؤمنين عليه السلام، كما أنّه نقل فيهما أخباراً لا تنسجم ولا تتماشى مع المعتقد الشيعيّ.
ومن هنا نقول: إنّ الكتاب اشتمل على العديد من الموارد التي تؤشّر إلى تسنّن ابن أعثم، نشير إلى جملةٍ منها فيما يلي:
1- خبر عجيب في دفن أبي بكر (لمّا دنت الوفاة من أبي بكر) دعا بابنته عائشة فقال لها: يا بنيّة إنّ على أبيكِ ديناً لا يجده، فهل أنتِ مؤدّيته من بعدي؟ فقالت: نعم يا أبتِ، ولمَ لا أؤدّيه؟ فقال: إنّه قد دنا الأمر وأرجف الأجل، فإذا أنا متّ فاغسلوني وكفّنوني وحنّطوني وصلّوا عليّ ثمّ ائتوا بي إلى قبر حبيبي محمّد صلّى الله عليه (وآله) وسلّم فاستأذنوا وقولوا: السلام عليك يا رسول الله، هذا أبو بكر بالباب، فإن أذن لكم في دفني إلى جانبه فادفنوني، وإن لم يُؤذن لكم في ذلك فأتوا بي إلى مقابر المسلمين، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون[25].
وفي خبرٍ آخر:
أنّه يوم وفاة أبي بكر هاج النّاس وماجوا في المدينة، وعلا البكاء والنحيب، وكان يوماً مشهوداً لا يعدله إلّا يوم وفاة رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم، فلمّا غسّلوه وحنّطوه وكفّنوه وصلّوا عليه أخرجوه إلى الروضة الشريفة ووضعوه على الأرض، وكان النّاس في انتظار ما يحدث، فلمّا وقفوا على الباب سقط القفل وانفتح الباب وإذا بهاتفٍ يهتف من القبر: أدخِلوا الحبيب إلى الحبيب، فإنّ الحبيب إلى الحبيب مشتاق[26].
2- خبر عجيب آخر في آخر عمر الخليفة الثاني: لمّا تأكّد عمر بن الخطّاب من اقتراب أجله دخل إلى منزله وأرسل إلى وجوه أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم فأحضرهم، ثمّ أرسل إلى جاثليق النصارى فدعاه، فلمّا دخل عليه أمره بالجلوس فجلس، ثمّ قال: يا جاثليق! اصدقني عمّا أسألك عنه، قال: سل يا أمير المؤمنين! قال: تجدون نعت نبيّنا في الإنجيل؟ قال: نعم، إنّي لأجده فارقليط، قال عمر: وما معنى ذلك؟ قال الجاثليق: معناه أنّه يفرق بين الحقّ والباطل، فقال عمر ومن حضر: الحمد لله الذي جعلنا من أمّته، ولكن كيف تجدنا في كتابكم؟ فقال الجاثليق: أجد بعد محمّد رجلاً عظيم الذكر مبارك الأمر، فقال عمر: يرحم الله أبا بكر! قال: ثمّ ماذا ويحك يا جاثليق؟ فقال: من بعده قرن من حديد قويّ شديد، قال عمر: ثمّ ماذا؟ قال: ثمّ من بعده خليفة يؤثر أقاربه على من سواهم، قال: فنظر إلى عثمان بن عفان، قال: ثمّ ماذا ويحك يا جاثليق؟ قال: ثمّ سيف مسلول ودم مهراق، قال: فضرب عمر بإحدى يديه على الأُخرى، ثمّ التفت إلى عثمان فقال: أبا عمرو! اتّقِ الله عزّ وجلّ! وإن وليت هذا الأمر من بعدي فلا تحملنّ آل معيط على رقاب المسلمين، وأنت يا أبا الحسن فاتّقِ الله! وإن وليت هذا الأمر من بعدي فلا تحملنّ آل أبي لهب على رقاب النّاس[27].
3- خبر إقامة الجنّ العزاء على عمر حتّى كان صوتهم يصل إلى مسامع أهل المدينة[28].
4- خبر مدح عليّ بن أبي طالب عليه السلام وثنائه على عمر، بما يظهر منه التأييد المطلق له، وبخاصّةٍ ما زعمه من قوله فيه: والله ما من أحدٍ من عباد الله عزّ وجلّ أحبّ إليّ من أن ألقى الله عزّ وجلّ بمثل عمله من هذا المجيء بين أظهركم.
5- زيادة عبارة "وسيرة الخلفاء الراشدين المهديّين" في وصيّة الإمام الحسين عليه السلام لأخيه محمّد بن الحنفيّة، وأنّه جاء في هذه الوصيّة: أن يعمل بسيرة جدّي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وأبي عليّ وسيرة الخلفاء الراشدين[29].
هذا مع قطع النظر عن ملاحظاتٍ أُخرى، فإنّ القبول بهذا الخبر الذي نقله ابن أعثم في وصيّة الإمام الحسين عليه السلام يؤدّي إلى القبول بمفارقةٍ تاريخيّةٍ واضحة، إذ طبقاً لما رواه ابن أعثم، فإنّ الحسين بن عليّ أوصى باتّباع سيرة أبيه عليّ وسيرة الخلفاء الراشدين، مع أنّ أباه عليّ بن أبي طالب عليه السلام تمنّع عن قبول الخلافة على شرط اتّباع سيرة الشيخين في شورى الستّة التي كان قد دعا إليها عمر[30].
6- إطلاق اسم "الروافض" على الشيعة، واتّهامهم بتهمٍ باطلة في حادثة السقيفة. نعم، هذا المورد لم نجده في كتاب الفتوح، لكنّه موجود في ترجمته الفارسيّة[31].
7- كيفيّة ذكر ابن أعثم لاسم النبيّ الأكرم والخلفاء الراشدين، وكيفيّة إطلاقه للألقاب والجمل الدعائيّة المعترضة فيهم، والذي ينسجم مع طريقة علماء العامّة في هذا المجال[32].
النقطة التي يمكن أن تكون إلى حدٍّ ما مساعدةً على توضيح المسألة هي أنّه وبالرغم من أنّ كلمة "شيعة" خلال المراحل التاريخيّة المختلفة كانت تنصرف إلى كلّ من كان يعتقد بالإمامة والخلافة لعليّ بن أبي طالب عليه السلام نصّاً ووصيّةً، أو, بعبارةٍ أُخرى, إلى كلّ من كان يعتقد، فضلاً عن عصمة الأنبياء والأئمّة عليهم السلام، بالتنصيص على عليّ عليه السلام من قبل النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بوصفه الإمام والخليفة له من بعده بلا فصل[33]، سواء كان هذا الاعتقاد مبنيّاً على وجود النصّ الجليّ، كما هو رأي غالبيّة الشيعة، أو مبنيّاً على وجود النصّ الخفيّ، كما قال به الزيديّ[34]. بالرغم من ذلك كلّه، فإنّ هذه الكلمة ـ "الشيعة" ـ كانت تُطلق في اصطلاح المتقدّمين من علماء الرجال والتراجم من أهل السنّة على معنىً أوسع من ذلك، حيث كانت تُطلق حتّى على جملةٍ من الفرق التي كانت تعتقد اعتقاداً كاملاً بخلافة الشيخين، بل ولم يكن لها اعتقاد أيضاً بعصمة الأنبياء والأئمّة، ولا بالتنصيص على إمامة عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وإنّما كان يُطلق عليهم وصف الشيعة من باب أنّهم يقدّمون عليّاً عليه السلام على عثمان، أو يُظهرون الحبّ والمودّة لأهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، نظير سفيان الثوريّ الذي كان من شيوخ الإفتاء بالعراق، وكان يفتي على المباني الفقهيّة عند أهل السنّة، لكنّ ابن قتيبة, مع ذلك, عدّه من زمرة الشيعة[35]. كما نجد أيضاً ابن النديم صاحب الفهرست، يعدّ الشافعيّ، وهو إمام أحد المذاهب الفقهيّة الأربعة عن أهل السنّة، شيعيّاً، ويقول في حقّه: "كان الشافعيّ شديداً في التشيّع"[36].
مع العلم بأنّه لا يوجد أدنى شكٍّ في تسنّن سفيان الثوريّ والشافعيّ وأمثالهما، لكنّ مجرّد المحبّة لأهل البيت عليهم السلام كان كافياً لتصحيح إطلاق كلمة الشيعة عليهم، الأمر الذي يكشف عن سعة المعنى المستعمل فيه لفظ "الشيعة" في ذلك الزمان، بحيث كان هذا اللّفظ يحكي عن المحبّين لأهل البيت عليهم السلام، لا عن الشيعة بالمعنى العقائديّ المصطلح في زماننا.
وفي الحروب التي دارت زمن أمير المؤمنين عليه السلام، وبخاصّةٍ حرب صفّين، نجد أنّ أكثر الجند الذين كانوا معه عليه السلام هم من الأشخاص الذين كانوا يقولون بخلافة الشيخين، باستثناء عددٍ قليلٍ من خواصّ الشيعة[37]. وفي هذا الضوء، يمكن لنا أن نصنّف ابن أعثم الكوفيّ على أنّه شيعيّ، لكن من النوع الذي كان يرى إمامة الشيخين، غير أنّه على المستوى الفقهيّ والكلاميّ كان تابعاً بالكامل لمدرسة التسنّن، وفي الوقت عينه كان يكنّ محبّةً لأهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وبخاصّةٍ عليّ بن أبي طالب عليه السلام، لا أن نصنّفه شيعيّاً بالمعنى الخاصّ للشيعة.
ومن جملة الأدلّة التي تمسّك البعض بها لإثبات تشيّع ابن أعثم أنّه نقل جملةً من الوقائع المنافية لعدالة الصحابة. ولكن في هذا المجال ينبغي أن يُقال:
أوّلاً: إنّ وضع مبدأ عدالة الصحابة تحت مجهر المساءلة من خلال نقل وقائع تاريخيّة لا يكفي بمجرّده لإثبات أنّ الناقل من المغرضين تجاه الصحابة. أضف إلى ذلك أنّ القبول بعدالة جميع الصحابة هو محلّ بحثٍ وتأمّل كبيرين، حتّى أنّ فرقة المعتزلة, وهي واحدة من الفرقتين الكلاميّتين البارزتين عند أهل السنّة, أنكروا ثبوت العدالة لجميع الصحابة، حيث قالوا: "الصحابة عدول إلّا من قاتل عليّاً"[38].
2ـ 1 كتب ومؤلّفات ابن أعثم الكوفيّ
ذُكر لابن أعثم الكوفيّ ثلاثة مؤلّفات، هي: الفتوح، والمألوف، والتاريخ[39]. لكنّ ما وصلنا من هذه الثلاثة واحد فقط، وهو كتاب الفتوح. وقد ورد في معجم الأدباء أنّ ابن أعثم لم يكن له سوى كتابين، وأنّ ياقوت الحمويّ قد رأى كلا الكتابين، أحدهما: كتاب الفتوح، الذي تضمّن أخباراً حتّى عصر هارون الرشيد، والآخر: كتاب التاريخ، الذي يبدأ بعصر المأمون وينتهي إلى آخر عصر المقتدر[40]. لكن تبقى نقطة، وهي حجم ومدى شموليّة كتاب الفتوح، الذي يبدأ من زمن خلافة أبي بكر ويستمرّ حتّى خلافة المستعين بالله. هذا في وقتٍ صرّح فيه ياقوت الحمويّ بأنّ كتاب الفتوح استمرّ حتّى عهد هارون الرشيد.
2- كتاب الفتوح
لتدوين التاريخ الإسلاميّ الكثير من الفروع، والكثير من الأبواب، ولعلّ أهمّ هذه الفروع هو ما يرتبط بتدوين أخبار الفتوح. الفتوح جمع فتح، ويُطلق في اصطلاح علم التاريخ الإسلاميّ على كيفيّة استيلاء المسلمين أو تصرّفهم بأراضي غير المسلمين[41]. ومع أنّ كتاب الفتوح لابن أعثم تناول موضوع فتوحات البلدان في طيّاته، وتحدّث عن الفتوحات التي حدثت في عصر الخلفاء الأوائل وبعد ذلك بقليل، لكن مع ذلك يمكن عدّه كتاباً كسائر كتب التاريخ الإسلاميّ العامّ، كـ تاريخ الطبريّ، والأخبار الطوال، والكامل لابن الأثير وغيرها[42].
وقد سُمّي كتاب الفتوح في بعض المصادر باسم فتوح الإسلام[43]، وفي بعضٍ آخر باسم فتوح الشام[44]. وسمّاه العلّامة المجلسيّ في كتابه بحار الأنوار باسم تاريخ الفتوح[45]، وسمّاه ياقوت الحمويّ كتاب الفتوح، وأضاف: كتاب الفتوح المعروف والمشهور[46]. وقد حُفظت النسخة الخطّيّة من كتاب الفتوح في مكتبة اسطنبول في مجلّدين، ذيل أحمد 3، برقم 2956.[47] غير أنّ المتن الذي هو مورد دراستنا في هذا المقال هو النسخة التي طبعتها دار الأضواء البيروتيّة في العام 1411 هـ / 1991م، بتحقيق عليّ شيري، في ضمن مجلّداتٍ تسعة، تاسعها خُصّص لذكر فهرستٍ للمطالب الواردة في الكتاب، وتشكّل الثمانية الأُولى متن الكتاب الأصليّ، والتي ورد في كلٍّ منها أخبار لمرحلةٍ تاريخيّة محدّدة.
يبدأ المجلّد الأوّل من أخبار سقيفة بني ساعدة، وما جرى من أحداثٍ رافقت تولّي أبي بكر للخلافة، وحروب الردّة، وخلافة عمر، والأحداث التي حصلت في عهده. واشتمل المجلّد الثاني على تتمّة في أخبار عهد عمر، ثمّ خلافة عثمان، وبدء عهد أمير المؤمنين عليّ عليه السلام. وتناول المجلّد الثالث أخبار خلافة عليّ عليه السلام والأحداث التي جرت في تلك الحقبة. وفي المجلّد الرابع تتمّة في أخبار خلافة الإمام عليّ عليه السلام، ثمّ خلافة الإمام الحسن وحادثة صلحه مع معاوية، واستمرّ حتّى بدء ثورة الإمام الحسين عليه السلام. وتناول المجلّد الخامس أحداث ثورة الإمام الحسين عليه السلام وواقعة شهادته، وتحدّث في قسمٍ منه عن عبد الله بن الزبير وخلافة مروان بن الحكم. وأمّا المجلّد السادس، فقد اشتمل على أخبار وقائع صغيرة وكبيرة مختلفة، كأخبار الأزارقة، وحادثة المهلّب، وثورة التوّابين، وثورة المختار الثقفيّ، وأخبار محمّد بن الحنفيّة، وقسمٍ من أخبار خلافة عبد الملك بن مروان. وتعرّض في المجلّد السابع لأخبار ثلاثةٍ من خلفاء بني أميّة، وهم عبد الملك بن مروان، وسليمان بن عبد الملك، وعمر بن عبد العزيز. وفي النهاية، بدأ المجلّد الثامن من أخبار خلافة يزيد بن عبد الملك، ثمّ خلافة هشام بن عبد الملك، وإمارة الوليد بن يزيد بن عبد الملك، ثمّ خروج العبّاسيّين على المروانيّين، وتشكّل الدولة العبّاسيّة، ثمّ خلافة المنصور العبّاسيّ، فالمهديّ، فالهادي، فخلافة هارون الرشيد، ثمّ خلافة الأمين، وخلافة المأمون، وخلافة المعتصم. وضمّنه إشاراتٍ إلى كلٍّ من هارون والواثق والمتوكّل والمنتصر، واختتمه بأخبار وصول المستعين بالله إلى الخلافة.
وكما أشرنا، فإنّ ياقوت الحمويّ ذكر أنّ كتاب الفتوح يحتوي أخباراً حتّى أيّام هارون الرشيد[48]، غير أنّ كتاب الفتوح الموجود حاليّاً اشتمل على أكثر بكثيرٍ ممّا أخبرنا به الحمويّ، إذ جاء شاملاً لأخبارٍ امتدّت حتّى أيّام خلافة المستعين بالله. وحتّى لو قلنا بأنّه جرى دمج الكتابين: الفتوح والتاريخ، أحدهما بالآخر، وأُخرجا لنا في قالب كتابٍ واحدٍ حمل اسم كتاب الفتوح، فإنّه مع ذلك يبقى الإشكال، ذلك لأنّ كتاب التاريخ استمرّ حتّى آخر عهد المقتدر[49]، والحال أنّ كتاب الفتوح الموجود حاليّاً لا يذهب أبعد من عهد المستعين بالله. اللّهمّ إلّا أن يُقال: إنّ كتاب التاريخ قد أُرفق بذيل كتاب الفتوح، وشكّلا معاً كتاباً واحداً شاملاً لآخر عهد المقتدر. لكنّ الذي يُستفاد من آخر كتاب الفتوح الموجود حاليّاً بين أيدينا أنّ شخصاً يُدعى محمّد بن عليّ بن محمّد الطبنذي كان هو من أعاد كتابته واستنساخه، ومن المحتمل أنّ المستنسخ المذكور كان قد أودعه في مجلّدين حتّى عصر المستعين بالله، لكنّه لم يتمكّن من إتمام نسخه، إمّا أنّه لم يوفّق لإتمامه، أو أنّه كان قد نسخه في مجلّد مستقلّ غير أنّه لم يصل إلينا.
1 ـ 2 الاستفادة من الترجمة الفارسيّة لكتاب الفتوح في التحقيق الجديد للمتن العربيّ لهذا الكتاب
في العام 596 هـ / 1200م قام محمّد بن أحمد المستوفي الهرويّ بترجمة كتاب الفتوح ونقله إلى اللّغة الفارسيّة، وقدّم هذا الكتاب للصدر افتخار أكابر خوارزم، وهو علاء الدّين تكش، أو علاء الدّين محمّد الخوارزمشاهي[50]. هذا ما احتمله محمّد حسين روحانيّ[51]. وقد طُبعت هذه الترجمة في طبعة مفتخرة، وهي تُعتبر نوعاً من الترجمة الحرّة، وهي تحظى بدرجةٍ عالية من الأهمّيّة الأدبيّة. وتُختتم هذه الترجمة لكتاب الفتوح بأخبار الأحداث المرتبطة بقيام الإمام الحسين عليه السلام. هذه الترجمة لكتاب الفتوح يمكن أن تكون مكمّلةً للمتن العربيّ لهذا الكتاب، والذي كان بمرور الأيّام عرضةً للعديد من المشاكل والنواقص. وفي تحقيقه لكتاب الفتوح، اعتمد الأستاذ عليّ شيري على هذه الترجمة لأجل تعويض النقص الموجود في جملةٍ من الموارد، ولهذا السبب، فإنّنا نجد مقاطع كثيرة من مجلّدات كتاب الفتوح مأخوذة من النصّ الفارسيّ، فمثلاً: نجد في المجلّد الأوّل موْرِدَيْن من الفارسيّة: (المورد الأوّل، يبدأ من صفحة 91 بالكتاب الذي أرسله أبو بكر إلى خالد بن الوليد وأمره إيّاه بالتوجّه إلى العراق، ويستمرّ حتّى صفحة 100. والمورد الثاني، يبدأ من صفحة 319 برسالة الخليفة الثاني إلى يزيد بن أبي سفيان وعيّاض بن غنم الفهريّ بالشام، ويستمرّ حتّى ما قبل انتهاء المجلّد الأوّل بقليل).
وفي المجلّد الثاني، نجد موارد متعدّدة بالفارسيّة: المورد الأوّل من صفحة 95، والذي يبدأ بحادثة قتل عمر وانعقاد الخلافة لعثمان ويستمرّ حتّى صفحة 107. والمورد الثاني يبدأ من صفحة 193 بكتاب عثمان إلى مالك الأشتر وما جرى قبل ذلك بقليل، ويستمرّ حتّى صفحة 208. والمورد الثالث بلغ حدود صفحة ونصف الصفحة تقريباً، ونجده في الصفحتين 242 و 243 بعد حادثة قتل عثمان. الأمر الذي يكشف عن أنّ كتاب الفتوح الموجود حاليّاً لم يأتِ شاملاً لجميع ما ورد في المتن الأصليّ للكتاب. كما أنّ السيّد ابن طاووس نقل مورداً من كتاب الفتوح، لكن لا يمكن العثور عليه في النسخة الحاليّة من الكتاب[52].
2 ـ 2 خصائص العرض التاريخيّ في كتاب الفتوح
في كتابة التاريخ الإسلاميّ، توجد طريقتان لتنظيم الموادّ التاريخيّة: طريقة استعراض الأحداث التاريخيّة بحسب سِني وقوعها. وطريقة العرض الموضوعيّ للموادّ. فبحسب الطريقة الأُولى، تكون السنوات هي المحور الذي على أساسه يتمّ تنظيم الموادّ والأخبار التاريخيّة، فتُذكر الحوادث والوقائع بترتيب حصولها في السنوات. وأمّا في الطريقة الثانية، فيُصار إلى اعتماد محاور أُخرى، كالشخصيّات المهمّة، أو العائلات والأسر، أو الدول والحكومات، أو الحروب والمقاتل، أو الفتوح، أو الطبقات، أو الأنساب، أو المدن، أو... ويمكن أن نشير إلى جملةٍ من الكتب التي اعتمدت الطريقة الموضوعيّة في العرض التاريخيّ، ككتاب المعارف لابن قتيبة، ومروج الذهب للمسعوديّ[53]، ومقتل الحسين، وواقعة صفّين، ومقاتل الطالبيّين، وفتوح البلدان، وأمثالها[54].
وكتاب الفتوح هو واحد من الكتب التي اعتمدت هذه الطريقة أيضاً، فلا مدخليّة للسنوات في تدوين الأخبار وعرضها، وإنّما اعتمد الكتاب تاريخ الخلفاء وفتوحاتهم وحروبهم محوراً لتنظيم الأخبار التي أتى على ذكرها. وإذا جاز لنا أن نعتبر قول ابن أعثم "وقد جمعتُ كلّ ما سمعته منه من أخبار متفرّقة، ثمّ رتّبتها وألّفتها على نسقٍ واحد"[55]، إذا جاز لنا أن نعتبره إشارةً من ابن أعثم إلى اعتماده الطريقة التركيبيّة في عرض الأخبار والموادّ، فإنّه يمكن لنا أن نصف أسلوب العرض التاريخيّ في كتاب الفتوح بأنّه أسلوب تركيبيّ.
3 ـ 2 الأسانيد والمصادر
بالرغم من الرواج الكبير لظاهرة ذكر سلسلة الأسانيد والمصادر المعتمد عليها في نقل الأخبار التاريخيّة في القرنين الثالث والرابع الهجريّين، وجري عادة المؤرّخين على التصريح بأسماء الشيوخ المحدّثين والمؤرّخين، فإنّ ابن أعثم الكوفيّ ابتعد عن هذه الطريقة، ولم يعتمد عليها، وإنّ ترك اعتماده على ذكر سلسلة الأسانيد والمصادر والكتب التي كان يستقي أخباره منها، إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ ابن أعثم كان من المؤرّخين الذين لا يرون أهمّيّةً لذكر المصادر والكتب والأسانيد. وإن كان كثير من الأخبار التي أوردها في كتاب الفتوح يمكن العثور عليها بسهولة في كتب المدائنيّ وأبي مخنف ونصر بن مزاحم وهشام الكلبيّ وآخرين. كما أنّ ابن أعثم نفسه قد أشار في بعض الموارد إلى جملةٍ من المصادر والمسانيد التي اعتمد عليها في النقل، ويمكن بالتتبّع في الكتاب الوقوف على هذه المصادر. وفي هذا المقطع من الدراسة، نشير إلى أسماء الأشخاص الذين نقل ابن أعثم أخباراً عنهم مصرّحاً بلفظ "حدّثني" في حقّهم:
1- جعال بن أسيد السكاسكيّ (عن أبيه أسيد بن علقمة)[56].
2- نعيم بن مزاحم[57].
3- إسحاق بن يوسف الفزاريّ[58].
4- عليّ بن عاصم[59].
5- هشام بن محمّد بن السائب الكلبيّ[60].
6- أبو الحسن عليّ بن محمّد المدائنيّ[61].
7- عثمان بن سليم[62].
8- لوط بن يحيى بن سعيد الأزديّ (أبو مخنف)[63].
9- عبد الحميد بن جعفر[64].
10- أبو عبد الله محمّد بن عمر الواقديّ[65].
11- أبو يزيد المهليّ[66].
12- إبراهيم بن عبد الله بن العلاء القرشيّ[67].
13- أبو حاتم سهل بن محمّد الصانع[68].
14- عبد الله بن عبد الرحمن الخزاعيّ[69].
15- عبد الله بن محمّد البلويّ[70].
16- سليم[71].
نقل ابن أعثم عن هؤلاء الأشخاص أخباراً، وعبّر عن ذلك بلفظ "حدّثني"، وهو في اصطلاح علم الحديث، دالّ على أنّه نقل عنهم بغير وساطة، والمراد منه أنّ الراوي قد سمع هذا المتن المكتوب عن شيخه، وهو ما يُعبّر عنه أيضاً بـ السماع[72]. مع أنّ نقل ابن أعثم حديثاً عن كثير من هؤلاء بالسماع والنقل المباشرين يُعدّ أمراً غير ممكنٍ في العادة من ناحيةٍ زمنيّة، فإنّ جعال بن أسيد السكاسكيّ, مثلاً, هو ابن أسيد بن علقمة، من أصحاب عيّاض بن غنم الفهريّ، المتوفّى سنة 20 للهجرة، كما أنّ عبد الحميد بن جعفر توفّي سنة 153 هـ، وتوفّي هشام بن محمّد بن السائب الكلبيّ عام 204 هـ[73]، وكانت وفاة محمّد بن عمر الواقديّ سنة 207 هـ[74]، وتوفّي المدائنيّ سنة 225 هـ[75].
نعم، من المحتمل جدّاً أن يكون النّاسخ أو الشخص الذي أعاد كتابة الفتوح قد استبدل هذه التعبيرات واستخدمها دون التفاتٍ منه إلى المصطلحات الحديثيّة والرجاليّة، أو أنّه أضاف تعبيرات لم تكن موجودةً في النصّ الأصليّ للكتاب. فإذا صحّ ذلك، أمكن القول بأنّ كتاب الفتوح واجد لمعايير الصحّة في النقل والعرض التاريخيّين، إذ بعد الالتفات إلى كون المؤلّف نفسه من المتخصّصين في هذا المجال، وكون الكتاب نفسه يُعدّ كتاباً تخصّصيّاً في العرض التاريخيّ، والتناسب الهندسيّ القائم بين مختلف الأخبار التاريخيّة التي أوردها، فإنّ الاطمئنان العرفيّ، الذي هو أهمّ معايير صحّة النقل التاريخيّ يحصل لدى القارئ بلا شكّ. وإنّ الأخبار التاريخيّة التي نُقلت في كتاب الفتوح، من ناحية اعتبارها وقدرتها على بعث الاطمئنان بصحّتها في نفس القارئ، ينبغي أن تُعدّ في درجة الروايات والأخبار الواردة في الكتب التاريخيّة غير المسندة، كما في كتاب الأخبار الطوال أو تاريخ اليعقوبيّ، وإلّا، كان هذا من الترجيح بلا مرجّح، ذلك لأنّ احتمال الوضع والتأليف والكذب موجود في جميع هذه الكتب غير المسندة، أضف إلى ذلك: أنّ اتّهام ابن أعثم بأنّه كان "قصّاصاً" ما هو إلّا اتّهام وجّهه إليه بعض المخالفين له والمنزعجين من الأخبار التي نقلها في كتابه بغرض الطعن فيه.
ب- نظرة إجماليّة إلى بعض أخبار كتاب الفتوح في باب واقعة كربلاء
خصّص ابن أعثم الكوفيّ قسماً معتدّاً به من كتاب الفتوح لنقل الأخبار والروايات المتعلّقة بحادثة كربلاء. وبصرف النظر عن صحّة أو سقم رواياته في هذا الباب، فإنّ سعة وتفصيل الروايات التي نقلها ابن أعثم في خصوص واقعة كربلاء، تُعدّ أمراً لافتاً للنظر، ولا سيّما أنّ هذا الكتاب يعود إلى القرنين الثالث والرابع الهجريّين. وفي هذا المجال، إنّ استعراض كافّة الروايات والأخبار التي نقلها ابن أعثم في باب واقعة كربلاء ليس أمراً متاحاً ومتيسّراً، مضافاً إلى أنّه من غير المناسب التعرّض له في قسمٍ فرعيٍّ من هذه الدراسة، بل إنّ البحث عنها يحتاج إلى متّسع أكبر وإلى دراساتٍ ومقالات أُخرى. ومن هنا، فإنّنا نكتفي في المقام بنظرةٍ إجماليّة إلى جملةٍ من هذه الأخبار.
1- إخبار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بشهادة الإمام الحسين عليه السلام
يبدأ الحديث عن واقعة كربلاء في كتاب الفتوح برواية إخبار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن شهادة الإمام الحسين عليه السلام. ومع أنّ هذا الحديث قد ذُكر في مصادر عديدة برواية أمّ الفضل، زوجة العبّاس بن عبد المطّلب، وأمّ سلمة، زوج النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم[76]، لكنّه في الفتوح ذكر هذا الحديث بشكلٍ مفصّلٍ جدّاً، وبأشكالٍ مختلفة:
عن ابن عفّان، عن أمّ الفضل بنت الحارث بن حزن امرأة العبّاس بن عبد المطلب أنّها قالت: رأيتُ في منامي رؤيا هالتني وأفزعتني، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: يا رسول الله! رأيتُ كأنّ قطعةً من جسدك قد قطعت فوضعت في حجري، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: خيراً رأيت يا أمّ الفضل! إن صدَقَتْ رؤياكِ فإنّ فاطمة حامل، وستلد غلاماً فأدفعه إليك لترضعيه. قالت أمّ الفضل: فوضعت فاطمة بعد ذلك غلاماً، فسمّي بالحسين، ودفعه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إليّ فكنتُ أرضعه، قالت أمّ الفضل: فدخل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم والحسين في حجري فأخذه وجعل يلاعبه وهو مسرور به، قالت أمّ الفضل: فبال الحسين فقطر من بوله على ثوب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقرصته فبكى، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: مهلاً يا أمّ الفضل! فهذا الذي أصاب ثوبي يغسل، وقد أوجعت ابني. قالت: فتركته في حجره وقمت لآتيه بماءٍ أغسل ثوبه، فلمّا جئتُ نظرتُ إليه وعيناه تذرفان بالدموع فقلت: فداك أبي وأمّي يا رسول الله! دفعتُه إليك وأنتَ به مسرور ثمّ رجعت إليكم وعيناك تذرفان بالدموع! فلماذا يا رسول الله؟ فقال: نعم يا أمّ الفضل! أتاني جبريل فأخبرني أن أمّتي تقتل ولدي هذا بشطّ الفرات، وقد أتاني بتربة حمراء[77].
وقد نقل هذا الخبر أيضاً بطريقةٍ أُخرى عن ابن عبّاس، مفادها: أنّه رأى جبريل وجمعاً من الملائكة وفدوا على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم و... وروى أيضاً عن شرحبيل بن أبي عون:
إنّ الملك الذي جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إنما كان ملك البحار، وذلك أنّ ملكاً من ملائكة الفراديس نزل إلى البحر الأعظم ثمّ نشر أجنحته عليه وصاح صيحة وقال: يا أصحاب البحار! البسوا ثياب الحزن فإنّ فرخ محمّد مذبوح مقتول، ثمّ جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا حبيب الله! يقتتل على هذه الأرض فرقتان من أمّتك، إحداهما ظالمة معتدية فاسقة، يقتلون فرخك الحسين ابن ابنتك بأرض كرب وبلاء، وهذه تربته يا محمّد[78]!
وفي الخبر أيضاً عن شرحبيل بن أبي عون:
فلمّا أتى على الحسين من مولده سنة كاملة هبط على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اثنا عشر ملكاً، أحدهم على صورة الأسد، والثاني على صورة الثور، والثالث على صورة التنّين، والرابع على صورة ولد آدم، والباقون الثمانية على صور شتّى محمرّة وجوههم، قد نشروا أجنحتهم وهم يقولون: يا محمّد! إنّه سينزل بولدك الحسين ابن فاطمة ما نزل بأبيك من قابيل، وسيعطي هابيل أخو قابيل، وسيحمل على قاتله مثل وزر قابيل[79].
وقد ورد حديث إخبار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بشهادة الإمام الحسين عليه السلام في مصادر متعدّدة، فمن هنا لا يمكن الشكّ في أصل وقوع ذلك، وفي الروايات التي نقلها ابن أعثم ذُكر هذا الحديث بصورٍ مختلفة، أُشير في جميعها إلى قاتل الإمام الحسين عليه السلام والوزر العظيم الذي عليه. نعم، من الصعب القبول بجميع الأخبار التي نقلها في الفتوح عن هذه الحادثة، وبخاصّةٍ أنّ ابن أعثم قد مضى في السرد القصصيّ بعيداً، حيث أورد خبراً مضمونه أنّ الملائكة تشكّلت على صور حيواناتٍ مفترسةٍ وأليفة، إضافةً إلى أنّه كيف استطاع الراوي أن يعرف أنّ هذه الحيوانات التي حضرت عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كانت من الملائكة؟ وكذلك في الخبر الذي نقله أنّ ابن عبّاس ادّعى رؤية جبريل، يُطرح السؤال التالي، وهو أنّ ابن عبّاس هل كانت لديه القدرة واقعاً على أن يرى ملك الوحي؟ وكذلك، فهل كان ابن أبي عون، الذي قال: إنّه رأى ملك البحار نزل إلى البحر الأعظم وفرش جناحيه عليه وأعلن العزاء في سكّان هذا البحر، هل كانت لديه هو أيضاً القدرة المعنويّة إلى هذا الحدّ بحيث يستطيع أن يرى الملك، وأن يرى البحر الأعظم من مكانه في الحجاز، تلك الجزيرة الجافّة؟! و...
2- وصيّة معاوية لابنه يزيد في الإمام الحسين عليه السلام
بعد حديثه عن واقعة أخذ معاوية البيعة لابنه يزيد، ينتهي ابن أعثم إلى واقعة موت معاوية، وخلال حديثه عن الأحداث التي ترافقت مع موت معاوية، يتعرّض للحديث عن وصيّته، ويذكر فيها: أنّ معاوية أوصى يزيدَ بشأن الإمام الحسين عليه السلام وقال له:
وأمّا الحسين بن عليّ فأوه أوه يا يزيد! ماذا أقول لك فيه! فاحذر أن لا يتعرّض لك ومدّ له حبلاً طويلاً وذره يضرب في الأرض حيث شاء ولا تؤذه، ولكن أرعد له وأبرق، وإيّاك والمكاشفة له في محاربة سلّ سيف أو محاربة طعن رمح، ثمّ أعطه ووقّره وبجّله، فإن حال أحد من أهل بيته فوسّع عليهم وأرضهم فإنّهم أهل بيت لا يرضيهم إلّا الرضا، ولا يسعهم إلّا المنزلة الرفيعة، وإيّاك يا بني أن تلقى الله بدمه فتكون من الهالكين، فإنّ ابن عبّاس حدّثني فقال: إنّي حضرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في السياق وقد ضمّ الحسين بن عليّ إلى صدره وهو يقول: هذا من أطائب أرومتي وأنوار عترتي وخيار ذرّيتي، لا بارك الله فيمن لا يحفظه بعدي! قال ابن عبّاس: ثمّ أغمي على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ساعة ثمّ أفاق وقال: يا حسين! إنّ لي ولقاتلك يوم القيامة مقاماً بين يدي ربّي وخصومة، وقد طابت نفسي إذ جعلني الله خصيماً لمن قتلك يوم القيامة. يا بنيّ! هذا حديث ابن عبّاس، وأنا أحدّثك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمّ أنّه قال: أتاني جبريل يوما فخبّرني وقال: يا محمّد! إنّ أمّتك ستقتل ابنك حسيناً، وقاتله لعين هذه الأمّة، ولقد لعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يا بنيّ قاتل الحسين مراراً، فانظر لنفسك ثمّ انظر أن لا يتعرض له بأذيّة، فحقّه والله يا بنيّ عظيم، ولقد رأيتني كيف كنت أحتمله في حياتي وأضع له رقبتي وهو يواجهني بالكلام الذي يمضّني ويؤلم قلبي، فلا أجيبه ولا أقدر له على حيلة، فإنّه بقيّة أهل الأرض في يومه هذا، وقد أعذر من أنذر[80].
هذه الوصيّة من معاوية إلى ابنه يزيد والتي يطلب منه فيها أن يُحسن معاملة الإمام الحسين قد نُقلت في غير هذا الكتاب من الكتب والمصادر، لكنّ الخبر الذي نقلها ابن أعثم بوساطته له لون ورائحة خاصّة، بحيث يمكن لنا أن نحمله على ميلٍ منه إلى المبالغة. ذلك أنّ هذه الوصيّة من معاوية إلى يزيد في شأن الإمام الحسين عليه السلام هي, بلا شكٍّ ولا ريب, تأتي في سياق تعليم معاوية لولده يزيد كيفيّة ممارسة حيل السياسة ومكرها، يريد أن يقول له: يا يزيد، إذا أردت لحكمك أن يقوم ويستمرّ فإنّ عليك أن تداري الحسين بن عليّ، لا أنّ معاوية أوصى يزيدَ بذلك من باب أنّه كان حقيقةً يعتقد ويدرك حرمة الإمام الحسين وعظمة مقامه. وإذا كان معاوية يرى حرمة الإمام عليه السلام ويعتقد أنّ له هذا المقام العظيم، فلماذا إذاً لم يتنازل له عن سدّة الحكم والخلافة؟ ولماذا إذاً أقدم هو على اغتيال الإمام الحسن عليه السلام وقتله؟ وفي تاريخ الطبريّ والأخبار الطوال نُقلت وصيّة معاوية إلى يزيد باللّفظ التالي: "... وأعلِماه أنّي لسْتُ أخاف عليه إلّا أربعة رجال: الحسين بن عليّ، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن الزبير. فأمّا الحسين بن عليّ فأحسب أهل العراق غير تاركيه حتّى يُخرجوه، فإن فعل، فظفرْتَ به، فاصفح عنه"[81].
3- رؤيا الإمام الحسين عليه السلام بجنب قبر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
خرج الحسين بن عليّ من منزله ذات ليلة وأتى إلى قبر جدّه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله! أنا الحسين ابن فاطمة، أنا فرخك وابن فرختك وسبطك في الخلف الذي خلفت على أمّتك، فاشهد عليهم يا نبيّ الله أنّهم قد خذلوني وضيّعوني وأنّهم لم يحفظوني، وهذا شكواي إليك حتّى ألقاك ـ صلى الله عليك وسلّم ـ. ثمّ وثب قائماً، وصفّ قدميه، ولم يزل راكعاً وساجداً. قال: وأرسل الوليد بن عتبة إلى منزل الحسين لينظر هل خرج من المدينة أم لا، فلم يصبه في منزله فقال: الحمد لله الذي لم يطالبني الله عزّ وجلّ بدمه! وظنّ أنّه خرج من المدينة. قال: ورجع الحسين إلى منزله مع الصبح، فلمّا كانت اللّيلة الثانية خرج إلى القبر أيضاً فصلّى ركعتين، فلمّا فرغ من صلاته جعل يقول: اللّهمّ! إنّ هذا قبر نبيّك محمّد وأنا ابن بنت محمّد وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، اللّهمّ! وإنّي أحبّ المعروف وأكره المنكر، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحقّ هذا القبر ومن فيه ما اخترت من أمري هذا ما هو لك رضا. قال: ثمّ جعل الحسين يبكي حتّى إذا كان في بياض الصبح وضع رأسه على القبر فأغفى ساعة، فرأى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد أقبل في كبكبة من الملائكة عن يمينه وعن شماله ومن بين يديه ومن خلفه حتّى ضمّ الحسين إلى صدره وقبّل بين عينيه وقال: يا بنيّ! يا حسين! كأنّك عن قريب أراك مقتولاً مذبوحاً بأرض كرب وبلاء من عصابة من أمّتي وأنت في ذلك عطشان لا تُسقى، وظمآن لا تُروى، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي، ما لهم لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة! فما لهم عند الله من خلاق، حبيبي يا حسين! إنّ أباك وأمّك (وأخاك) قد قدموا عليّ وهم إليك مشتاقون، وإنّ لك في الجنّة درجاتٍ لن تنالها إلّا بالشهادة. قال: فجعل الحسين ينظر في منامه إلى جدّه صلى الله عليه وآله وسلم ويسمع كلامه وهو يقول: يا جدّاه! لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا أبداً فخذني إليك واجعلني معك إلى منزلك. قال: فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: يا حسين! إنّه لا بدّ لك من الرجوع إلى الدنيا حتّى ترزق الشهادة وما كتب الله لك فيها من الثواب العظيم فإنّك وأباك وأخاك وعمّك وعمّ أبيك تُحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة حتّى تدخلوا الجنّة. قال: فانتبه الحسين من نومه فزعاً مذعوراً، فقصّ رؤياه على أهل بيته وبني عبد المطلب، فلم يكن ذلك اليوم في شرق ولا غرب أشدّ غمّاً من أهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولا أكثر منه باكياً وباكية[82].
ومع أنّ خبر منام الإمام الحسين عليه السلام لم يرد ذكر له في جملةٍ من المصادر كـ تاريخ الطبريّ والأخبار الطوال، لكنّ كتباً آخر نقلته[83]. وقد نقله الشيخ الصدوق في كتاب الأمالي مسنداً عن الإمام الصادق عليه السلام[84]. وقد نقل ابن شهر آشوب حادثة رؤيا الإمام الحسين عليه السلام مسنداً إيّاها إلى جماعةٍ فيهم ابن بابويه القمّيّ والسيّد الجرجانيّ وعبد الله بن حنبل الشاكريّ وشاكر بن غنمة وأبو الفضل الهاشميّ وآخرون[85]. فمن ناحية صحّة النقل التاريخيّ الظاهر أنّه يمكن الاطمئنان إلى أصل وقوع هذه الحادثة، بدليل نقل أمالي الصدوق ومناقب ابن شهر آشوب لها، لكنّ الكيفيّة التي رواها بها ابن أعثم أكثر ما تنسجم مع دعوى الذين لا يرون في فلسفة قيام الإمام الحسين عليه السلام إلّا أنّه قام لأجل الاستشهاد فقط، علماً بأنّ كلمات وخطابات الإمام الحسين عليه السلام تقودنا إلى شيءٍ آخر مختلفٍ تماماً. وإذا كان الغرض من قيام الإمام الحسين عليه السلام هو طلب الشهادة فقط فلماذا إذاً عزم على الانصراف والرجوع إلى المدينة عندما قابل جيش الحرّ الرياحيّ؟[86].
4- وصيّة الإمام الحسين عليه السلام لأخيه محمّد بن الحنفيّة
كتب الإمام الحسين عليه السلام في وصيّته إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به الحسين بن عليّ بن أبي طالب لأخيه محمّد ابن الحنفيّة المعروف ولد عليّ بن أبي طالب رضيّ الله عنه: إنّ الحسين بن عليّ يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنّ محمّداً عبده ورسوله، جاء بالحقّ من عنده، وأنّ الجنّة حقّ والنّار حقّ. وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور، وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب النجاح والصلاح في أمّة جدّي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وسيرة أبي عليّ بن أبي طالب وسيرة الخلفاء الراشدين المهديّين رضي الله عنهم[87].
خبر الحديث الذي دار بين الإمام الحسين عليه السلام وبين أخيه محمّد بن الحنفيّة حين حركته من المدينة إلى مكّة نُقل في العديد من الكتب والمصادر. وقد نصحه محمّد بن الحنفيّة بأن لا يخرج، وما شاكل ذلك، وشكره الإمام عليه السلام على النصح، وتحدّث معه بكلامٍ رقيق[88]. لكنّ وصيّة الإمام عليه السلام لمحمّد بن الحنفيّة بهذا النحو المدوّن في كتاب الفتوح لا يمكن العثور عليه في أيّ كتابٍ أو مصدرٍ آخر. نعم، نقله الخوارزميّ في مقتله[89]، لكنّه بحسب الظاهر أخذه من كتاب ابن أعثم. وأمّا هذه العبارة الموجودة في رواية ابن أعثم، وهي عبارة "وسيرة الخلفاء الراشدين المهديّين"، فليس لها عين ولا أثر في خبر مناقب ابن شهر آشوب، ولا في بحار الأنوار، ولا في أعيان الشيعة للسيّد محسن الأمين العامليّ[90].
5- جملة من الحوادث التي جرت خلال المسير من مكّة إلى العراق
بعد خبر مفصّل نقله ابن أعثم عن ورود الإمام الحسين عليه السلام إلى مكّة، وتفاصيل ترتبط بمدّة إقامته عليه السلام في مكّة، والوقائع التي جرت في خلال ذلك، وتفصيل رسائل أهل الكوفة إلى الإمام عليه السلام، وردّه على رسائلهم، وإرساله مسلم بن عقيل إلى الكوفة. وبحسب خبر ابن أعثم، فإنّ الإمام عليه السلام كان لا يزال في مكّة حين بلغه خبر استشهاد مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة المذحجيّ. وأمّا خبر سفر الإمام من مكّة إلى العراق فقد نقله ابن أعثم بالكيفيّة التالية:
قال: وخرج الحسين من مكّة يوم الثلاثاء، يوم التروية، لثلاثٍ مضين من ذي الحجّة، ومعه اثنان وثمانون رجلاً من شيعته وأهل بيته... وسار الحسين حتّى نزل الخزيميّة وأقام بها يوماً وليلة، فلمّا أصبح أقبلت إليه أخته زينب بنت عليّ، فقالت: يا أخي! ألا أخبرك بشيءٍ سمعْتُه البارحة؟ فقال الحسين: وما ذاك؟ فقالت: خرجْتُ في بعض اللّيل لقضاء حاجة، فسمعْتُ هاتفاً... فقال لها الحسين: يا أختاه! المقضيّ هو كائن. قال: وسار الحسين حتّى نزل الثعلبيّة، وذلك في وقت الظهيرة، فنزل وترك أصحابه، ثمّ وضع الحسين رأسه ونام، ثمّ انتبه من نومه باكياً، فقال له ابنه: ما لك تبكي يا أبتِ لا أبكى الله لك عيناً؟ فقال الحسين: يا بنيّ إنّها ساعة لا تكذب فيها الرؤيا، أُعلمك أنّي رأيتُ فارساً على فرس حتّى وقف عليّ فقال: يا حسين! إنّكم تُسرعون المسير والمنايا بكم تسرع إلى الجنّة، فعلمْتُ أنّ أنفسنا قد نُعيت إلينا. فقال له ابنه: يا أبتِ ألسنا على الحقّ؟ قال: بلى يا بنيّ والذي ترجع العباد إليه! فقال عليّ رضي الله عنه: إذاً لا نبالي بالموت... قال: وسار الحسين حتّى نزل الشقوق، فإذا هو بالفرزدق بن غالب الشاعر قد أقبل عليه. فسلّم ثمّ دنا منه فقبّل يده، فقال الحسين: من أين أقبلت يا أبا فراس؟ فقال: من الكوفة يا بن بنت رسول الله! فقال: كيف خلّفت أهل الكوفة؟ فقال: خلّفت النّاس معك وسيوفهم مع بني أميّة، والله يفعل في خلقه ما يشاء! فقال: صدقت وبررت، إنّ الأمر لله يفعل ما يشاء وربّنا تعالى كلّ يوم هو في شأن، فإن نزل القضاء بما نحبّ فالحمد لله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يعتد من كان الحقّ نيّته، فقال الفرزدق: يا بن بنت رسول الله! كيف تركن إلى أهل الكوفة وهم قد قتلوا ابن عمّك مسلم بن عقيل و شيعته؟ قال: فاستعبر الحسين بالبكاء ثمّ قال: رحم الله مسلماً!... قال: وسار الحسين عليه السلام حتّى نزل في قصر بني مقاتل، فإذا هو بفسطاط مضروب ورمح منصوب وسيف معلّق وفرس واقف على مذوده، فقال الحسين: لمن هذا الفسطاط؟ فقيل: لرجلٍ يقال له عبيد الله بن الحرّ الجعفيّ... فقام الحسين ثمّ صار إليه.. ودعاه إلى نصرته[91].
ومن الأخبار التي رواها ابن أعثم بالتفصيل ما يتعلّق بالتقاء ركب الإمام عليه السلام مع جيش الحرّ بن يزيد الرياحيّ، وخطاب الإمام عليه السلام في محفل جيش الحرّ، والحوار الذي دار بينه وبين الحرّ، وغير ذلك من الحوادث التي جرت بين الإمام وبين جيش الحرّ، وصولاً إلى اقتراب الإمام الحسين عليه السلام من نينوى[92]. وطبقاً لنقل ابن أعثم، فإنّ الإمام الحسين عليه السلام بعد اقترابه من نينوى، كتب رسالةً إلى الكوفيّين الذين كان يظنّ فيهم الثبات على رأيهم. وفي هذه الرسالة ذكر الإمام عليه السلام أسماء جماعةٍ منهم سليمان بن صرد الخزاعيّ والمسيّب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد وعبد الله بن وال و... وذكّرهم بالعهود والمواثيق وبالرسائل التي كانوا أرسلوها إليه، مذكّراً إيّاهم بقول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، قائلاً: "فقد علمتم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قال في حياته: من رأى سلطاناً جائراً مستحلّاً لحرام، أو تاركاً لعهد الله ومخالفاً لسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، ثمّ لم يغيّر عليه بقولٍ ولا فعل، كان حقّاً على الله أن يُدخله مدخله".
ثمّ طوى الكتاب وختمه ودفعه إلى قيس بن مسهّر الصيداويّ وأمره أن يسير إلى الكوفة[93].
هذا الجزء من أخبار ابن أعثم في جملةٍ من موارده لا ينسجم مع ما ورد في مصادر أُخرى. فعلى سبيل المثال، طبقاً للخبر الذي نقله ابن أعثم، فإنّ الإمام الحسين عليه السلام كان لا يزال في مكّة حين تلقّى خبر شهادة مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة المذحجيّ، مع أنّ الوارد في أخبار أُخرى أنّ الإمام الحسين عليه السلام تلقّى خبر شهادة مسلم بينما كان سائراً على الطريق من مكّة إلى العراق (في الثعلبيّة أو في زرود)[94]. وإنّ عزم الإمام وإصراره على السفر إلى العراق يؤكّد هذا الأمر، وهو أنّه لم يتلقّ خبر شهادة مسلم وهو في مكّة، وإلّا، فإنّ خبر استشهاد مسلم كان سيؤثّر في قرار الإمام عليه السلام، وعلى الأقلّ، كان سيؤخّر سفره إلى العراق. وكذلك، فبحسب خبر ابن أعثم، محلّ لقاء الإمام مع الفرزدق الشاعر كان في منزل شقوق، بينما ذُكر في مصادر أُخرى أنّ اللّقاء كان في الصفاح[95]، وقد ورد في الشعر المنسوب إلى الفرزدق ذكر الصفاح، حيث قال: "لقيت الحسين بأرض الصفاح..."[96].
وكذلك ورد في خبر ابن أعثم أنّ الإمام عليه السلام بعث برسالته إلى الكوفيّين بينما كان قريباً من أرض نينوى، مع أنّ الموجود في رواية الطبريّ وغيره أنّ الإمام قد بعث بهذه الرسالة إلى الكوفيّين في منزل حاجز أو حاجر[97]، وبينما كان خبر استشهاد مسلم لم يبلغه بعد، يعني أنّه في الواقع كان قد أرسل بهذه الرسالة جواباً على رسالة مسلم إليه، والتي كان يحثّ فيها الإمام عليه السلام على الخروج إلى العراق[98]. كما أنّ مضمون هذه الرسالة، طبقاً لرواية ابن أعثم، يختلف عمّا ورد بشأنها في مصادر أُخرى. فمثلاً: الحديث الذي تلاه الإمام عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان قد تلاه في خطابٍ له بجيش الحرّ في منطقة بيضة[99]. وكذلك، فإنّ حادثة الرؤيا التي رآها الإمام وسماعه صوت هاتفٍ ينادي: إنّكم تُسرعون المسير والمنايا بكم تسرع إلى الجنّة.. هذه الحادثة بحسب نقل الطبريّ لها كانت قد حصلت على مشارف "قصر بني مقاتل"[100]، بينما نقل ابن أعثم حصولها عند منزل "الثعلبيّة".
6- يوم عاشوراء في رواية ابن أعثم
تحدّث ابن أعثم عن عدم تكافؤ عدديّ بين المعسكرين كان واضحاً وجليّاً منذ بداية المعركة، قال: فوثب أصحاب الحسين فخرجوا من باب خندقهم، وهم يومئذٍ اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً، والقوم اثنان وعشرون ألفاً لا يزيدون ولا ينقصون، فحمل بعضهم على بعض فاقتتلوا ساعة من النهار حملة واحدة، حتّى قتل من أصحاب الحسين نيّف وخمسون رجلاً ـ رحمة الله عليهم ـ... قال: ثمّ صاح الحسين: أما من مغيثٍ يغيثنا لوجه الله؟ أما من ذابٍّ يذبّ عن حرم رسول الله؟
قال: فإذا الحرّ بن يزيد الرياحيّ قد أقبل يركض فرسه حتّى وقف بين يدي الحسين رضي الله عنه، فقال: يا ابن بنت رسول الله! كنت أوّل من خرج عليك، أفتأذن لي أن أكون أوّل مقتول بين يديك، لعلّي أبلغ بذلك درجة الشهداء فألحق بجدّك صلى الله عليه وآله وسلم! فقال الحسين: يا أخي! إن تبت كنت ممّن تاب الله عليهم، إنّ الله هو التوّاب الرحيم.
وبعد انقضاء المعركة الأُولى، بقي من أصحاب الإمام الحسين عليه السلام رجال قلائل أخذوا يبرزون إلى الميدان فارساً بعد فارس، وراجلاً بعد راجل، حتّى استُشهدوا. وكان أوّل من تقدّم إلى القوم الحرّ بن يزيد الرياحيّ واستشهد بعد أن قاتل جيش ابن سعد، ثمّ برز إلى الميدان برير بن خضير الهمدانيّ. وبعده كان وهب بن عبد الله الكلبيّ ثالث من برز لقتال القوم، حتّى أُثخن بالجراح، واستشهد. وكان الرابع خالد بن وهب، والخامس شعبة بن حنظلة التميميّ، ثمّ برز بالترتيب: عمرو بن عبد الله المذحجيّ، ومسلم بن عوسجة الأسديّ، وعبد الرحمن بن عبد الله، وقرّة بن أبي قرّة الغفاريّ، ومالك بن أنس الباهليّ، وعمرو بن مطاع الجعفيّ، وحبيب بن مظاهر الأسديّ، وحويّ مولى أبي ذرّ الغفاريّ، وأنيس بن معقل الأصبحيّ، ويزيد بن مهاجر الجعفيّ، والحجّاج بن مسروق، وسعيد بن عبد الله الحنفيّ، وزهير بن القين البجليّ، وهلال بن رافع البجليّ، وجنادة بن الحارث الأنصاريّ، وعمرو بن جنادة، برزوا كلّهم إلى الميدان وقاتلوا حتّى قُتلوا...
وأمّا الذين استشهدوا في ركاب الإمام الحسين عليه السلام من بني هاشم، فأوّلهم عبد الله بن مسلم بن عقيل، ثمّ برز إلى الميدان ثانياً وثالثاً جعفر بن عقيل وعبد الرحمن بن عقيل، حتّى استشهدا، وبعدهم بالترتيب برز محمّد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وعون بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب، وعمر بن عليّ بن أبي طالب، وعثمان بن عليّ بن أبي طالب، وجعفر بن عليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن عليّ بن أبي طالب، والعبّاس بن عليّ بن أبي طالب، و عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، برزوا جميعاً إلى ميدان القتال وقاتلوا حتّى قُتلوا[101].
وفي هذا القسم ممّا نقله ابن أعثم يمكن الوقوف على جملةٍ من الموارد التي لا تنسجم مع ما ورد في كتبٍ ومصادر أُخرى. فعلى سبيل المثال، روى ابن أعثم أنّ عبد الله بن مسلم بن عقيل كان أوّل الشهداء من بني هاشم، مع أنّ الذي ورد في مصادر أُخرى هو أنّ عليّ بن الحسين كان أوّل من برز إلى الميدان وأوّل من قضى شهيداً من بني هاشم[102]. ولم يذكر ابن أعثم من أولاد الإمام الحسن عليه السلام الذين استشهدوا في كربلاء سوى عبد الله بن الحسن، بينما نجد في مصادر أُخرى ذكراً لثلاثةٍ من أولاده عليه السلام، وهم عبد الله بن الحسن والقاسم بن الحسن وأبو بكر بن الحسن، وثلاثتهم قضوا شهداء في كربلاء[103]. وفي خبر ابن أعثم، ذُكر أنّ للإمام الحسين عليه السلام ولدين باسم عليّ، أحدهما كان في السابعة من عمره، والآخر كان رضيعاً، واستشهد في حضن أبيه الإمام الحسين عليه السلام. ولكن في المصادر الأُخرى، ذُكر أنّ اسم الطفل الرضيع الذي استشهد في كربلاء كان يُدعى عبد الله. وكذلك، فإنّ الذي بقي حيّاً أيضاً من أولاد الإمام الحسين عليه السلام هو الإمام السجّاد عليه السلام، والذي ذكر الشيخ المفيد في كتابه الإرشاد، والطبرسيّ في كتابه إعلام الورى، أنّه هو المسمّى بـ عليّ الأكبر، وقد كان عمره في كربلاء 23 عاماً، لأنّ ولادته كانت سنة 38 للهجرة، والشابّ الذي استشهد في كربلاء هو عليّ الأصغر، والطفل الشهيد هو عبد الله. نعم، أكثر المؤرّخين على الاعتقاد بأنّ عليّ الأكبر هو الذي استشهد بكربلاء، وأنّ الإمام زين العابدين عليه السلام هو عليّ الأصغر، وأمّا أنّه عليه السلام كان يبلغ من العمر سبع سنواتٍ في كربلاء، فهذا أمر لا حقيقة له.
تعقيب واستنتاج
اتّضح أنّ الرأي الذي نختاره أنّ الشخص المدعوّ بـ ابن أعثم هو أبو محمّد أحمد بن أعثم الكوفيّ، وينتهي نسبه إلى قبيلة أزد. وهو في عين أنّه كان يعيش الحبّ والمودّة لأهل البيت عليهم السلام، قد كان شديداً في اتّباع مدرسة الخلفاء. وبعبارةٍ أُخرى، في عين التشيّع العاطفيّ الذي كان لديه، فيمكن لنا أن نصنّفه بأنّه من أهل السنّة. ويُعدّ كتاب الفتوح أهمّ كتب ابن أعثم الكوفيّ، وهو كتاب مرتّب ومنسّق على الطريقة الموضوعيّة، كما أنّه, حسبما صرّح به المؤلّف نفسه, اعتمد الأسلوب التركيبيّ في عرض الأحداث والوقائع.
وبالرغم من أنّ الأخبار والروايات والنقولات التاريخيّة التي نقلها ابن أعثم في كتاب الفتوح موجودة أيضاً في كتب المدائنيّ وأبي مخنف ونصر بن مزاحم المنقريّ وهشام الكلبيّ وآخرين، لكنّ ابن أعثم لم يُصرّح, كما ينبغي, بالكتب والمصادر التي اعتمد عليها في النقل، غير أنّ تخصّص الرجل في المجال التاريخيّ، وكون الكتاب نفسه كتاباً تخصّصيّاً، والتناسب الهندسيّ للنقولات التاريخيّة الواردة فيه، يمكن له أن يعطي اطمئناناً عرفيّاً بأنّ الكتاب واجد لأهمّ معايير الصحّة في النقل التاريخيّ. كما أنّ دراسة رواية حادثة كربلاء في كتاب الفتوح ترشد، وبوضوح، إلى وجود فوارق واختلافاتٍ بينه وبين سائر الكتب والمصادر، ولو كانت فوارق جزئيّة ومحدودة.
[1] نعمت الله صفري فروشاني، محمد علي توحيدي.
[2] رسول جعفريان، منابع تاريخ اسلام، ص88 ـ 98.
[3] أبو الفضل شكوري، در آمدى بر تاريخ نكري و تاريخ نكاري مسلمانان، ص77.
[4] المصدر نفسه.
[5] محيي الدّين المامقانيّ، مستدرك تنقيح المقال، ج5، ص135.
[6] علي أكبر دهخدا، لغت نامه دهخدا، ج2، ص291.
[7] ياقوت الحمويّ، معجم الأدباء، ج1، ص429.
[8] حاجي خليفة، كشف الظنون، ج2، ص227.
[9] خير الدّين الزركليّ، الأعلام، ج1، ص206.
[10] ياقوت الحمويّ، معجم الأدباء، ج1، ص429.
[11] نقلاً عن: محمّد جبر أبي سعدة، ابن أعثم الكوفيّ ومنهجه التاريخيّ، ص39.
[12] علي أكبر دهخدا، لغتنامه دهخدا، ج2، ص291.
[13] الشيخ آقا بزرك الطهرانيّ، الذريعة إلى تصانيف الشيعة، ج3، ص221.
[14] محمّد جبر أبو سعدة، ابن أعثم الكوفيّ ومنهجه التاريخيّ، ص45.
[15] دائرة المعارف الشيعيّة، ج1، ص303.
[16] الشيخ آقا بزرك الطهرانيّ، الذريعة إلى تصانيف الشيعة، ج3، ص221.
[17] ياقوت الحمويّ، معجم الأدباء، ج1، ص429.
[18] محمّد جبر أبو سعدة، ابن أعثم الكوفيّ ومنهجه التاريخيّ، ص44.
[19] ياقوت الحمويّ، معجم الأدباء، ج1، ص429.
[20] الشيخ آقا بزرك الطهرانيّ، الذريعة إلى تصانيف الشيعة، ج3، ص220.
[21] القاضي نور الله الشوشتريّ، مجالس المؤمنين، ج1، ص278.
[22] محيي الدّين المامقانيّ، مستدرك تنقيح المقال، ج5، ص335.
[23] محمّد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، ج1، ص25.
[24] محمّد جبر أبو سعدة، ابن أعثم الكوفيّ ومنهجه التاريخيّ، ص138 ـ 164.
[25] ابن أعثم الكوفيّ، الفتوح، ج1، ص155.
[26] ابن أعثم الكوفيّ، الفتوح، ترجمة مستوفى هروى،، ص80.
[27] ابن أعثم الكوفيّ، الفتوح، ج2، ص87.
[28] المصدر نفسه، ص93.
[29] ابن أعثم الكوفيّ، الفتوح، ج5، ص34.
[30] محمّد بن جرير الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص233.
[31] ابن أعثم الكوفيّ، الفتوح، ترجمة مستوفى هروى،، ص8.
[32] عليّ غلامي دهقي "بررسي تطبيقي و مقايسهاي فتوح ابن اعثم باترجمه فارسي آن" (دراسة تطبيقيّة مقارنة بين فتوح ابن أعثم وبين ترجمته الفارسيّة، مجلّة تاريخ در آينه پزوهش، پيش شماره 1، خريف سنة 1381 هـ ش، ص200.
[33]عبد الكريم الشهرستانيّ، الملل و النحل، ج1، ص31.
[34] محمّد جواد مشكور، تاريخ الشيعة والفرق الإسلاميّة حتّى القرن الرابع، ص45.
[35] ابن قتيبة الدّينوريّ، المعارف، ص624.
[36] ابن النديم، الفهرست، ص259.
[37] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج15، ص185.
[38] محمّد جبر أبو سعدة، ابن أعثم الكوفيّ ومنهجه التاريخيّ، ص138.
[39] دائرة المعارف الشيعيّة، ج1، ص303.
[40] ياقوت الحمويّ، معجم الأدباء، ج1، ص429.
[41] صادق آئينه وند، علم تاريخ در كستره تمدن اسلامي (علم التاريخ في نطاق الحضارة الإسلاميّة)، ج1، ص292.
[42] عليّ غلاميدهقي، "بررسي تطبيقي و مقايسهاي فتوح ابناعثم با ترجمه فارسي آن"، (دراسة تطبيقيّة مقارنة بين فتوح ابن أعثم وبين ترجمته الفارسيّة، مجلّة تاريخ درآيينه پزوهش، پيششماره1، خريف 81، ص194.
[43] الشيخ آقا بزرك الطهرانيّ، الذريعة، ج16، ص119.
[44] حاجي خليفه، كشف الظنون، ج2، ص225.
[45] محمّد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، ج1، ص25.
[46] ياقوت الحمويّ، معجم الأدباء، ج1، ص429.
[47] محمّد حسين روحاني، "تاريخ اعثمكوفي وترجمهآن" (تاريخ وترجمة ابن أعثم الكوفيّ)، مجلة راهنماى كتاب، رقم166، ص452.
[48] ياقوت الحمويّ، معجم الأدباء، ج1، ص429.
[49] المصدر نفسه.
[50] محمّد حسين الجلاليّ، فهرس التراث، ج1، ص345.
[51] محمّد حسين روحاني، "تاريخ اعثمكوفي وترجمهآن" (تاريخ وترجمة ابن أعثم الكوفيّ)، مجلة راهنماى كتاب، رقم166، ص460.
[52] اتان كلبرك، كتابخانه ابن طاووس (مكتبة ابن طاووس)، ترجمة علي قلي قرايي و رسول جعفريان، ص562.
[53] محمّد جبر أبو سعيدة، ابن أعثم الكوفيّ و منهجه التاريخيّ، ص119.
[54] صادق سجّادي و هادي عالم زاده، تاريخ نكاري در اسلام (كتابة التاريخ في الإسلام)، ص112ـ 115.
[55] ابن أعثم الكوفيّ، كتاب الفتوح، ج2، ص344 و 147.
[56] المصدر نفسه، ص230 و 270.
[57] المصدر نفسه، ص344 و 347. وقد نقل ابن أعثم عن هذا الشخص روايتين، إحداهما في بداية خلافة عثمان، والأُخرى في وقعة صفّين.
[58] المصدر نفسه، ص342 ـ 347، نقل عنه خبراً في بداية خلافة عثمان، وخبراً في حرب الجمل.
[59] المصدر نفسه، ج4، ص209، نقل عن هذا الشخص روايةً في ابتداء مقتل مسلم بن عقيل.
[60] المصدر نفسه، ج2، ص147.
[61] المصدر نفسه، ج8، ص159.
[62] المصدر نفسه، ج2، ص147.
[63] المصدر نفسه.
[64] المصدر نفسه.
[65] المصدر نفسه.
[66] المصدر نفسه، ج8، ص288.
[67] المصدر نفسه، ص82.
[68] المصدر نفسه، ج4، ص209.
[69] المصدر نفسه، ج8، ص312.
[70] المصدر نفسه، ج4، ص36. نقل عن هذا الشخص روايةً في حوادث ما بعد صفّين. وقال الذهبيّ: إنّ عبد الله بن محمّد البلويّ كان يضع الحديث على عمّار بن يزيد. انظر: الذهبيّ، ميزان الاعتدال، ج2، ص391.
[71] ابن أعثم الكوفيّ، كتاب الفتوح، ج2، ص344.
[72] صادق سجّادي و هادي عالم زاده، تاريخ نكاري در اسلام، (تاريخ كتابة التاريخ في الإسلام)، ص38.
[73] ابن حجر العسقلانيّ، تهذيب التهذيب، ج6، ص196.
[74] ابن حجر العسقلانيّ، تهذيب التهذيب، ج9، ص317.
[75] صادق سجّادي و هادي عالم زاده، تاريخ نكاري در اسلام، (تاريخ كتابة التاريخ في الإسلام)، ص63.
[76] راجع على سبيل المثال: البيهقيّ، دلائل النبوّة، ج6، ص468 / ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج8، ص218 / الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص129 / ابن كثير، البداية والنهاية، ج6، ص230.
[77] ابن أعثم الكوفيّ، كتاب الفتوح، ج4، ص323.
[78] ابن أعثم الكوفيّ، كتاب الفتوح، ص324.
[79] المصدر نفسه.
[80] ابن أعثم الكوفيّ، كتاب الفتوح، ص349 ـ 350.
[81] أبو حنيفة الدّينوريّ، الأخبار الطوال، ترجمة محمود مهدوي دامغانيّ، ص274 / محمّد بن جرير الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج5، ص322.
[82] ابن أعثم الكوفيّ، الفتوح، ج5، ص18 ـ 19.
[83] تاريخ امام حسين عليه السلام، ج1 ص290 ـ 298، سازمان پزوهش و برنامه ريزي آموزش وزارت آموزش و پرورش.
[84] الشيخ الصدوق، كتاب الأمالي، ترجمة كمرى اى، ص152.
[85] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج4، ص88 ـ 89.
[86] محمّد بن جرير الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج5، ص34.
[87] ابن أعثم الكوفيّ، كتاب الفتوح، ج5، ص34.
[88] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص33.
[89] الخوارزميّ، مقتل الحسين عليه السلام، ص33.
[90] محمّد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، ج44، ص329 ـ 330 / السيّد محسن الأمين العامليّ، أعيان الشيعة، ج1، ص588 / ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج4، ص89.
[91] ابن أعثم الكوفيّ، كتاب الفتوح، ج5، ص120 ـ 132.
[92] ابن أعثم الكوفيّ، كتاب الفتوح، ص134 ـ 242.
[93] المصدر نفسه، ص142 ـ 145.
[94] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج5، ص379 / أبو حنيفة الدّينوريّ، الأخبار الطوال، ص274 / ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج4، ص42.
[95] الطبريّ، المصدر نفسه، ج5، ص386/ أبو حنيفة الدّينوريّ، المصدر نفسه، ص246/ ابن الأثير، المصدر نفسه، ج4، ص16.
[96] محمّد تقي بحر العلوم، مقتل الحسين عليه السلام، ص176، في الهامش.
[97] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج5، ص395/ الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص70 / البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص166. والمذكور في أنساب الأشراف هو "حاجز"، وفي الأخبار الطوال "بطن الرمّة"، ص246.
[98] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص40.
[99] محمّد بن جرير الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج5، ص188 ـ 210.
[100] المصدر نفسه، ص407.
[101] ابن أعثم الكوفيّ، كتاب الفتوح، ج5، ص188 ـ 210.
[102] أبو حنيفة الدّينوريّ، الأخبار الطوال، ص256.
[103] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج5، ص467/ الشيخ المفيد، الإرشاد، ج، ص125.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|