أقرأ أيضاً
التاريخ: 27-7-2017
2826
التاريخ: 27-7-2017
16499
التاريخ: 29-09-2015
5880
التاريخ: 29-09-2015
2253
|
إذا كان الشعر تعبيرا عن اللحظات الخاصة في الحياة، فالقصة هي التعبير عن الحياة. والحياة بتفصيلاتها وجزئياتها كما تمر في الزمن، ممثلة في الحوادث والمشاعر الداخلية. بفارق واحد: هو ان الحياة لا تبدأ من نقطة معينة، ولا تنتهي الى نقطة معينة، ولا يمكن فرز لحظة منها تبتدئ فيها حادثة ما بكل ملابساتها عن اللحظة التي قبلها، ولا تقف هي عند لحظة ما لتضع خاتمة لهذه الحادثة بكل ملابساتها. اما القصة فتبدأ وتنتهي في حدود زمنية معينة، وتتناول حادثة او طائفة من الحوادث بين دفتي هذه الحدود.
والحياة تتداخل فيها الاسباب والمسببات، وتتوالى
فيها الحوادث والاحداث منذ الأزل الى الابد لغاية غير معلومة للإنسان، غاية بعيدة
في مجاهيل الأبد. وكل حادثة هي جزء من حادثة اخرى أكبر منها، وكل غاية هي وسيلة
لغاية أشمل. فتتبع سياقها – كما هي – لا ينتهي الى غاية معينة نبصرها في جيل او
عدة اجيال. ولكن القصة اختيار وتنسيق، اختيار الحادثة او عدة حوادث، تبدأ وتنتهي
في زمن محدود وتصور غاية معينة، وتساق جزئياتها سياقة معينة لتؤدي الى تصوير هذه
الغاية. فليست مجرد تسجيل لخط سير الزمن والحوادث بلا بدء لا انتهاء، ولا لتسجيل
خواطر وانفعالات بلا ترتيب ولا تنسيق.
هي أشبه شيء بالصورة الشمسية تلتقط لحظة خاصة
من سلسلة اللحظات الزمنية والحسية والشعورية للإنسان او للأشياء، وتفرزها عن سائر
اللحظات الدائبة السير والتحول. وكذلك تصنع القصة وهي تصور فترة من الحياة
بأحداثها ووقائعها ذات بدء ونهاية، ثم تزيد فتنسق جزئيات هذه الفترة بحيث تكون لها
خاتمة، كأنما تقف الحياة عندها لحظة – وهي لا تقف ابداً – قبل ان تتابع السير الى
اجلها المرسوم. وهذا التنسيق هو العمل الفني فيها، وهو الذي يختلف فيه قصاص عن
قصاص، وتعدد فيه النماذج.
وانه ليستوي ان يتناول في هذا التنسيق فترة
واقعة بالفعل، وحوادث تمت على هذه الارض، واشخاصا عاشوا هذه الحياة، او ان يتناول
فترة ولدت في الخيال، وحوادث تمت في النفس، واشخاصا عاشوا في الضمير. فالمهم هو
طريقة التنسيق: بالحذف هنا والاضافة هناك، وبالتقديم والتأخير في الجزئيات،
وبقيادة سير الحوادث والخوالج، لتؤدي الى تصوير خاص لهذه الفترة، يفرزها من شريط
الزمن الذي لا يقف، ويضع لها طابعا موسوما بنظرة صاحبها الى الحياة.
والحرية التي تتمتع بها القصة في أن تطول كما
تشاء وتتسع جوانبها وأطرافها كما تشاء، تهيئ لها ان تتناول موضوعها من أول نقطة،
وان تلم بجميع ملابساته وجزئياته، والا تقتصر على عدد معين من الشخصيات والأحداث،
والا تقف دون حادثة خارجية او خالجة داخلية .. وهذا ما يؤهل القصة لأن تتولى
التعبير الكامل عن التجربة الشعورية التي تختارها، أيا كانت طبيعتها ولونها،
ومجالها في الزمن أو في الشعور.
هذه الحرية ليست متاحة للأقصوصة مثلا. فهي
مقيدة بأن تتبع خط سير واحد حول حادثة بارزة، او حالة شعورية معينة، او شخصية
خاصة؛ ولا تتوسع لتتناول جميع ملابساتها وجزئياتها، وما يتصل بها من حالات وأسباب
في محيط الحياة العام. وليست متاحة للتمثيلية وهي مقيدة بزمن التمثيل وقيود المسرح
وطاقة الممثلين. وليست متاحة للملحمة. وهي مقيدة بتصوير الشخصيات والأحداث الخارقة
لأنها شعر، والشعر – كما قلنا-لا تتم جودته الا في جو خاص، ولأنها بطبيعتها لا
تصلح للحياة العادية التي تتبع خط الزمن المنساب.
وبين الشعر الجيد والقصة تشابه في تتبع
جزئيات لتجربة الشعورية وتصور الخواطر والانفعالات المصاحبة لها خطوة خطوة، ليشارك
الاخرون صاحبها انفعالاته وجوه الشعوري العام. ولكن مجال القصة في هذا أفسح وأشمل،
لأنها تملك تصوير جميع اللحظات والحالات، في حين يقتصر الشعر على الحالات الخاصة
والمشاعر الفائقة، ولا يهمه تتبع الاسباب والملابسات، وليس من طبيعته التشعب
والاستطراد.
لهذا تملك القصة ان تنوب عن الشعر في بعض
المواقف –الى حد اما-فترتفع الى مستوى يقرب من مستواه. ولكن بقدر ما تؤدي واجب
اللحظة المعينة الصغيرة في السياق، فالحالات التي تقتضي الشعر نوبات عابرة لا
تدوم؛ فاذا تجاوزها سياق القصة وجب ان تعود الى طبيعة الحياة العادية، فتتحدث
باللغة العادية وبالإيقاع العادي المناسيب لسياق الحياة المعتادة.
***
والقصة ليست هي مجرد الحوادث او الشخصيات.
إنما هي – قبل ذلك – الاسلوب الفني، او طريقة العرض التي ترتب الحوادث في مواضعها.
وتحرك الشخصيات في مجالها، بحيث يشعر القارئ ان هذه حياة حقيقية تجرى، وحوادث
حقيقية تقع، وشخصيات حقيقية تعيش. وهذا يتضمن:
أولا: ترتيب الحوادث بحيث تجرى كما لو كانت
تجرى في الحياة بلا تعمل او افتعال. وهذا وهم بطبيعة الحال، فالحوادث في الحياة لا
تقف عند حد لتؤدي الى غاية محدودة، بينما هي في القصة تساق على وضع خاص لإبراز
غاية معينة في زمن معين. ولكن براعة القصاص هي التي تجرى الحوادث في هذا السياق
المعين بلا تعمل ولا افتعال، وكأنما الحياة قد سارت بطبيعتها فيه سيرها الطبيعي
المعتاد. ولكل قصاص طريقته وأسلوبه الذاتيان. ولكن هذا هو الشرط العام.
ثانيا: صحة رسم الشخصيات بحيث تتضح سماتها
وملامحها، وكلما وضحت السمات والملامح كاملة من الخارج والداخل كان ذلك أكمل. ولكل
قصاص طريقته في رسم الشخصيات. فبعضهم يستعين على رسمها بوصف الملامح الخارجية او
الداخلية او هما معا. وبعضهم يدع الحركات والحوادث ترسمها. وبعضهم يستخدم هذه
الطريقة وتلك. وبين ذلك كله طرائق شتى تتبع مزاج كل قصاص وميوله وثقافته.
وليس المهم هو نوع الحادثة وضخامتها، ولا لون
الشخصية وعظمتها، فالحياة تجرى بالجميع. إنما المهم هو الطريقة: طريقة تناول
الموضوع والسير فيه بحيث تؤدي الى رسم صورة معينة للحياة، وكأنها تجرى في طريقها
الطبيعي. وطريقة رسم الشخصيات وتلوينها، بحيث تكشف لنا عن أكبر قدر من خصائصها،
وتعيش في اوسع مجال تظهر فيه طاقاتها. ثم التعبير عن ذلك بعبارات وألفاظ تتناسق مع
الجو والسياق والشخصيات. ويستوي ان يتخذ القصاص مادة قصته من الحوادث الضخمة ذات
البريق والضجيج، والشخصيات العظيمة ذات السمت والبروز. او يتخذها من الحوادث
الصغيرة العادية. والشخصيات المكرورة المغمورة. او يتخذها من هذه وتلك ومن هؤلاء
وهؤلاء. ما دام يجري الحياة في مجراها الطبيعي، ويحرك شخوصه وحوادثه كما يتحرك
امثالهم في الحياة، ولا يشعرنا انه واقف خلف ستار (خيال الظل) يحرك دمى صغيرة او
كبيرة، كما يشاء هو، لا ما تشاء طبائع الاشياء! ولقد نرى شخصيات اسطورية تعيش
فنراها طبيعية حية، ونرى شخصيات (واقعية) فنحس بالتزوير في وجودها. وهذا وذلك راجع
الى طريقة العرض وصدق التصوير او زيفه للحياة والاحياء.
وهناك طرق شتى للعرض. فبعض القصاصين يوقظنا
بعنف منذ اللحظة الأولى لأنه يبدأ قصته بانفعال حار، او حركة عنيفة، او مشهد صاخب.
وبعضهم يبدأ حديثه هونا وبأشياء عادية جداً، ولا يكاد يشعرنا بأن هناك شيئا ذا بال
وقع او سيقع. وشيئا فشيئا يزحم إحساسنا بالمشاعر، ويملأ خيالنا بالصور، ويطبع في
حسنا الموقف كله كأننا عشناه.
كما ان بعض القصاص يضع للحوادث والشخصيات
إطارا من مناظر الطبيعة والمشاهد المصنوعة كأننا في المسرح، ويصل بعضهم في هذا الى
حد ان يجعلنا نشعر بأن هذه المناظر والمشاهد هي بعض الشخصيات العاملة في جو القصة،
لأنها لا تنفصل عن شخصياتها وحوادثها ومجراها. وهذا هو الابداع الفني. وبعضهم
يجعلنا مجرد إطار، وكثيرا ما يخفق هؤلاء في اشعارنا بأهمية هذه المناظر والمشاهد
فيبقى وصفها حشوا لا يتسق مع القصة ولا يعبر عن شيء فيها.
وهناك من يجرد الجو من المناظر والمشاهد،
ويلتفت الى الحادثة أو الشخصية وحدهما كما لو كان يقعان في محيط مجرد من الزمان
والمكان والاشياء! ويحتاج هؤلاء الى قوة بارعة لغمر القارئ في جو القصة، وغرقه في
لجتها، فلا ينتبه الى المحيط الخارجي، ولا يخرج من سحر الشخصية او أسر السياق.
بقي عنصر آخر له وزن في القصة. هو القيمة
الشعورية. فقد كان حديثنا الى هذه اللحظة عن القيم التعبيرية: عن الاسلوب الفني في
العرض، وعن طريقة التعبير. وقد حرصنا على ان نبين ان الموضوع ذاته لا يؤثر في
الوزن الفني للقصة فكل موضوع صالح، إنما طريقة عرضه هي التي تعين قيمته الفنية.
ولكن هناك الآفاق الشعورية التي يرتفع إليها
الموضوع، والتي تصور في ظلها الحوادث والشخصيات. وهناك نوع الاحساس بالحياة:
حوادثها واشخاصها، مصائرها وغاياتها. هناك الزاوية التي يطل منها القصاص على هذا
العالم، والاشعة التي يراه على ضوئها. هناك المدى يتعمقه القصاص في النفس
الانسانية وفي الحياة من حولها، وفي الكون وما فيه ومن فيه .. ومن هنا تختلف
الافاق التي يبلغها القصاص.
ولا شك ان للقيم التعبيرية – طريقة العرض
وطريقة التعبير – قيمتها في تحديد قيمة القصة، ولكنها وحدها لا تستقل بالتقويم،
ولابد من النظر الى هذه الافاق الشعورية ومدى مطابقة القيم التعبيرية لها.
بعض القصاص يصور لنا الحوادث والشخصيات بغاية
الدقة والبراعة من الناحية القصصية، ولكنه لا يتجاوز بنا محيط هذه الحوادث
والشخصيات المحدودة، ولا محيط الفترة الزمنية التي تجرى فيها الحوادث. من هؤلاء
اندريه جيد في (الباب الضيق والسمفونية الريفية) – على رغم ما فيهما من شذى روحي –
وأوسكار ويلد في (صورة دوريان جراي وشبح كنترفيل) وبرناردشو في (جان دارك وتابع
الشيطان). وبعضهم يقفنا – بعد الحوادث – وجها لوجه امام الحياة كلها: سننها
الخالدة، وأوضاعها الكونية، وأقدارها الشاملة. وهذا البعض لا يحدثنا عن هذه الشئون
حديثا مباشرا، إنما يدعنا نتسرب من خلال الشخصيات المعينة الى الانسانية الخالدة –
كما ترتسم في بصيرته – فتلك الحادثة جزء وكل، وهذه الشخصية فرد ونموذج. ويبلغ
بعضهم في الابداع الى الحد الذي تصبح نماذج البشرية أبقى وأحيي من المخلوقات
الانسانية، وتصبح احداثه ووقائعه سمة على الكون والدهر أوضح من الحوادث التاريخية.
ومن هؤلاء تولستوي في (البعث) وتوماس هاردي في (تس) و (جود المغمور) دستويفسكي في
(المقامر) وأرزيباشيف في (ابن الطبيعة) ... إلخ.
هذا المستوى ارفع وأضخم من المستوى الأول بلا
جدال. وهذا البيان يفيدنا في تحديد ما نعنيه بأن القصة هي الحياة. فليس الواقع
المحدود الصغير هو مجال القصة وحده. إنما هو الواقع الابدي – كما يبدو من خلال
الواقع الوقتي. وهو النماذج الانسانية – كما تبدو من خلال الشخصيات الفردية – وهذه
آفاق القصاص الكبيرة، كما هي آفاق الشاعر الكبير سواء بسواء. والقصاص في هذا الوضع
شاعر. والقصة لون من الشعر، من ناحية القيم الشعورية.
تقرأ (البعث) أو (تس) أو (وجو المغمور) او
(المقامر). او (ابن الطبيعة) فتجد نفسك امام شخصيات واحداث. حتى إذا انتهيت وجدت
نفسك امام ناس وأقدار. فتنسى الاشخاص والحوادث في النهاية، لتذكر الضعف الانساني
إزاء القوى الكونية والغرائز والشهوات والنزعات، دون ان يقول لك القصاص شيئا من
هذا او يصوغه صياغة فلسفية. ولكنها الحوادث والوقائع تقسرك قسرا على هذا الاتجاه
الكوني العام. وذلك افسح من آفاق القصة المحدودة بحدود الزمان والمكان.
ومن هذا النوع في القصة العربية الحديثة. مع
فارق في المستوى والمحيط – نجد (خان الخليلي) لنجيب محفوظ الشاب. وإنه ليسرني ان
ألمح هذا الشبه العام في اتجاه الآفاق أيا كانت المسافة بين الطبيعة وآماد الآفاق!
فهذه السمة سمة كبار القصاص، والقصة وليدة في الأدب العربي. فحسبها ان تبلغ الآن
ما بلغته في فن هذا الشاب.
ويغلو بعض كتاب القصة في هذه الايام في اتجاهين:
الاتجاه الى الصراع الاجتماعي، ,الاتجاه الى التحليل النفسي., وليس لنا من اعتراض
على اي اتجاه، ما دام لا يؤثر في سمة العمل الانسانية، ولا يغطى على حقائقه
الفنية. ومن واجب الفنون كلها ان تحيا في محيطها. ولكن الغلو في الاتجاه الاجتماعي
كاد يحيل القصة توجيهات اجتماعية مباشرة او نبوءات اجتماعية موجهة، على نحو ما
يصنع ويلز في معظم قصصه، لا عملا فنيا يخاطب الحاسة الفنية، ويجرى في تاريخ الحياة
الطبيعي المرسوم. والغلو في التحليل النفسي كاد يحيل القصة تسجيلا لمشاهدات معملية
او محضرا لجلسة تحليل نفسي!
وهذا وذاك ليس فنا، ولو اخذ الشكل الظاهري للفنون!
وكذلك حاول بعضهم في وقت ما أن ينشئ قصة رمزية، فانتهينا الى معميات لا ترسم حياة،
ولا تصور نفوسا، ولست أحسب القصة ميدانا للاتجاه الرمزي، إذا صح ان الشعر يقبل هذا
الاتجاه.
فالقصة من عمل الوعي، ونصيب اللاوعي فيها
محدود؛ وأثره لا يبدو على كل حال في التصميم الفني، ولا في التعبير عنها إلا
بمقدار؛ فقد يكون له أثر في تلوين الشخصيات وتصوراتها وافعالها؛ ولكن أثره ضعيف في
التعبير عن هذه التصورات والافعال، لان التعبير في القصة يتم في حالة وعي كامل، لا
كما يتم في الشعر في بعض الاحيان تحت تأثير تيارات لا شعورية تغمر الوعي وتغرقه
لحظات.
فيجوز ان يعبر الشاعر عن حالة غامضة في
شعوره، وعن احساس مبهم له تعبيرا رمزيا. ولكن القصاص. القصاص الذي يجب ان يصور لنا
الحوادث كأنها تقع، والشخصيات كأنها تعيش، والحياة كأنها تجرى، ولو كان يصور حياة
أبطال الأساطير. هذا القصاص كيف يختار طريقة الرمز، فيدعنا في غموض وإبهام؟ ويدع
الحياة ملفعة بالضباب والغيوم؟ إلا ان يكون ذلك افتعالا وتحكما.
ان لحظات الغموض والإبهام ليست دائمة في نفس
الشاعر. ونادرون جدا اولئك الشعراء الذين يعيشون حياتهم الشعورية كلها في ضباب.
فاذا عبر الشاعر في بعض الاحيان تعبيرا رمزيا عن شعور لا يتبينه في نفسه واضحا،
كان ذلك مقبولا. اما ان يجيء قصاص فيصور حياة طويلة الشخصيات وحوادث في فترات
مختلفة تصويرا رمزيا، فذلك هو الافتعال، فضلا عن ما فيه من مخالفة طبيعة القصة
ومجالها الطبيعي.
ويجوز ان توجد أقصوصة رمزية، لأن الأقصوصة قد
تكون مجرد تصوير لحالة نفسية مفردة كالقصيدة. والحالات النفسية المفردة تحت
الرمزية. فأما تصوير عدد من الاحداث وعدد من الاشخاص، وفترة كاملة من الحياة في جو
رمزي، فنحسبه مخالفة لطبيعة الاشياء، ومسألة تراد إرادة ويعدل بها عن طريقها
الطبيعي. وأشد ما يفسد العمل الفني ألا تكون طبيعته هي التي توحى باتجاهه، وان
يستمد هذا الاتجاه من مذهب مقرر سابق، يحدد القوالب والأشكال. وهذا هو عيب
(المدارس) الفنية على وجه الإجمال.
بقيت كلمة أخيرة في لغة القصة. وقوام كل عمل
أدبي هو مطابقة قيمه التعبيرية لقيمه الشعورية ومناسبة استخدام الاداة لطبيعة
العمل الذي تستخدم فيه واتجاهه. والقصة – كما قلنا-تهدف الى تصوير الحياة في
محيطها الطبيعي، وفي هذا المحيط تختلف الاجواء والحالات الشعورية. ومن هذه
الاعتبارات كلها يخلص لنا أن لغة القصة ينبغي ان تكون لغة نثرية لا شعرية – الا في
اللحظات التي يفيض فيها الشعور ويرتفع ويتوهج، او يراد وضع إطار من وصف الطبيعة او
وساها تعيش في داخله لحظات حالمة مشرقة او كئيبة آسية، في سياق القصة – وكلما عبر
كل شخص فيها بلغته حسب مستواه فيها ووضعه، كان ذلك أكمل، لأنه يساعد على نسياننا
للمؤلف، وشعورنا بان الحياة تجري طبيعية أمامنا دون ان يعترضها تنسيقه المفتعل.
وقد يجد المؤلفون في اللغة العربية بعض الصعوبة لتطويعها لجميع المستويات الفكرية
والشعورية، لأنها بطبيعتها لغة الخواص ولكن هذا التطويع ممكن حسب المواقف بدون
خروج عن حسب طبيعة اللغة واساليبها. وخير ما يضرب به المثل على هذا التطويع اسلوب
المازني في (ابراهيم الكاتب) و (إبراهيم الثاني) بل في سائر ما كتب من الاقاصيص
والصور. والامر الذي يمكن مرة يمكن مرة اخرى، إذا صحت النية، وانتفى الكسل
والمحال.
اما الاقصوصة فهي شيء اخر غير القصة فليست
الاقصوصة (قصة قصيرة) وتسميتها هكذا Short story قد توجد شيئا من اللبس. ولعله
أولى ان نصطلح في اللغة العربية على تسمية القصة (رواية) (1) لنبعد ما بين اللفظين
من الاشتباه.
ليست الاقصوصة قصة قصيرة وحجم الاقصوصة ليس
هو السمة التي تعين طبيعتها، فالاختلاف بينها وبين القصة لا يقف عند حجمها إنما
يتعداه الى طبيعتها ومجالها.
تعالج القصة فترة من الحياة بكل ملابساتها
وجزئياتها واستطراداتها وتشابكها. وتصور شخصية واحدة او عدة شخصيات في محيط واسع
في الحياة. ويجوز أن تصف مولد هذه الشخصية، وكل ما أحاط به، وتتدرج معها فتصف كل
ما وقع لها، وتستطرد الى الشخصيات والأحداث التي اعترضت طريقها، فتصفها وتحللها،
وتدخل في السياق – المرة بعد المرة – شخصيات جديدة، ومعالم طبيعية، وحوادث تعترض
مجرى القصة الأولى، وتتفرع الى جداول ومنعرجات تؤثر في اتجاهها، وتشمل على وجه
العموم كل شخص او حادث او مناسبة أو منظر له علاقة بمجرى الرواية من قريب او من
بعيد، ما دام اشتمالها عليه ليس متكلفا ولا مفتعلا.
اما الاقصوصة فتدور على محور واحد، في خط سير
واحد، ولا تشمل من حياة اشخاصها الا فترة محدودة، او حادثة خاصة، او حالة شعورية
معينة، ولا تقبل التشعب والاستطراد الى ملابسات كل حادث وظروف كل شخصية، اذا كان
ذلك يوجه النظر بعيدا عن الشخصية الاساسية او الحالة الاساسية.
ولابد في القصة من بدء ونهاية للحوادث، لتصل
الى غاية مرسومة – كما قلنا – اما الاقصوصة فلا يشترط لها بدء ولا نهاية من هذا
الطراز، فقد تصف حالة نفسية اعترت شخصا ما في لحظة ما، فاذا صورتها صورة مؤثرة
موحية فقد انتهت مهمتها. ولقد تعالج الاقصوصة حادثة ذات أثر معين في حياة معينة،
فيكون لها بدء ونهاية. ولكن هذا ليس شرطاً فيها، ولا يخل عدم وجوده بوجودها،
والحادثة على العموم في الاقصوصة هي آخر مقوماتها واقل قيمها.
ولأن الاقصوصة تعتمد على قوة الايحاء والتصوير،
قبل ان تعتمد على الحادثة ولا على الشخصية، كان من الضروري ان تتبع طريقة اداء
قوية موحية منذ اللحظات الأولى، وان تعتمد على تعبير لفظي حافل بالصور والظلال
والايقاع. كالشعر، لأن الفرصة التي أمامها للإيحاء محدودة، وحبكة الحوادث التي قد
تغنى في القصة ليست ميسرة لها، ومجالها المحدود يحتم عليها التركيز والاندفاع.
لذلك تسقط الاقصوصة البطيئة الحركة الباردة
العبارة، لان الاقصوصة كلها تتركز في الحركة السريعة والعبارة المشعة. وليس معنى
هذا هو الافتعال في السياق ليكون حارا، وفي العبارة لتكون رنانة؛ ولكن معناه البدء
بنقطة حية، والتعبير بعبارة فيها لون شعري على قدر الامكان، لا كما قد تبدأ القصة
بحادثة تافهة وعبارة ساذجة، ثم تأخذ في الحرارة بعدها والاندفاع، لان الفرصة هنا
محدودة، والشوط كذلك قريب.
وقد تبلغ الاقصوصة في الايحاء والتأثير
السريعين القويين ما تبلغه القصيدة. وتصل بالنفس في نهايتها الى شعور مطلق مبهم
تنسى فيه احداثها الجزئية ومعانيها التفصيلية، كما تصنع المقطوعة الجيدة من الشعر
او الموسيقى.
وما زلت استعيد حالات شعورية من هذا القبيل
كلما تذكرت أقصوصة (رجل للبحر) للقصاص (هـ. أ. مانهود) في مجموعة (من الأدب الفرنسي
للزيات). او أقصوصة (دفن روجن ما لفن) للقصاص (ناثاينيل هوثورن) في مجموعة
(مختارات من الأدب الانجليزي للمازني) أو أقصوصة (الصمت) للقصاص (أندرييف) في
مجموعة (ألوان من الحب لعبد الرحمن صدقي) أو أقصوصة (حارس المنارة) للقصاص
(سينكوكز) في مجموعة (الخطايا السبع لعلي أدهم) أو أقصوصة (الأحمر) للقصاص (سومرست
موم) في مجموعة (أمطار للسيدة أمينة السعيد)، أو أقصوصة (رسالة من امرأة مجهولة)
للقصاص (زفابج) في مجموعة (سخريات صغيرة لمحمد قطب) او أقصوصة (ليرضي امرأته)
لتوماس هاردي في نفس المجموعة. ومن هذا الاتجاه في اللغة العربية (قنديل ام هاشم)
ليحيى حقي. و(وسوسة الشيطان) لعبد الحميد جودة السحار.
وهي حالات شعورية ترتفع الى مستوى ارفع
الحالات التي خالجتني وانا اقرأ لكبار الشعراء.
ولعل هذا يصور لكتاب الاقصوصة عندنا ما في
طاقة الفن الذي يزاولونه ان يبلغه، لو رزقوا الموهبة. ولعله يصور كذلك للقراء بعد
الغالبية مما يقرءون من أقاصيص عما تستطيع الاقصوصة بطبيعتها ان ترقى إليه من
آفاق.
ولقد نستطيع – وهذا مجرد اقتراح – ان نسمي:
اقصوصة وقصة ورواية. فتكون الأقصوصة وتكون الرواية بالوصف الذي أسلفنا. أما القصة
فتكون وسطا بينهما – لا في الحجم فالحجم يعني شيئا – ولكن في المحيط الذي تشمله.
يكون لها بدء ونهاية في الزمن حتما كالرواية. ولكنها لا تتسع اتساعها، ولا تشمل
مساحة واسعة من الحياة ومن الشخصيات ومن الاحداث كما تشمل الرواية. إنما تقوم على
محور ضيق ومحيط محدود من الشخصيات والاحداث والمشاعر.
وأضرب المثل بالباب الضيق لأندريه جيد،
والمقامر لدستويفسكي، لأن حجمهما متقارب مع اختلاف المحيط أو الحوادث والشخصيات
فالباب الضيق تصلح مثلا طيبا للقصة ذات الاتجاه الواحد، اذ هي صورة حب خاص في نفس
خاصة. بينما المقامر على صغرها تشمل حشدا من الشخصيات والاحداث بجانب شخصية البطل
.. وعلى كل فهذا مجرد اقتراح.
________________
(1)
كذلك صنع عبد الحميد جودة السحار في مقدمته
لكتاب (همزات الشياطين) عن الأقصوصة والرواية.
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|