أقرأ أيضاً
التاريخ: 30-03-2015
2247
التاريخ: 12-12-2018
1513
التاريخ: 13-12-2018
1352
التاريخ: 11-08-2015
886
|
القيامة : يوم البعث ، يقوم فيه الخلق بين يدي الحيّ القيوم ، قيل : أصله مصدر ، يقال : قام الخلق من قبورهم قيامةً ، وقيل : هو تعريب قِيَمْثا ، وهو بالسريانية بهذا المعنى(1).
وسئل رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم عن سبب تسمية القيامة ، فقال: «لأنّ فيها قيام الخلق
للحساب»(2).
واُشير إلى
يوم القيامة بأسماء عديدة وردت في القرآن الكريم ، كالآزفة ، والحاقة ، والقارعة ،
والطامة الكبرى، والواقعة، والصّاخّة، والساعة، ويوم الجمع، ويوم التغابن، واليوم
الموعود، واليوم المشهود، ويوم التلاقي، ويوم التنادي، ويوم الحساب ، ويوم الفصل ،
ويوم الحسرة ، ويوم الوعيد.
والقيامة من
المنازل الشديدة والمواقف العصيبة على ابن آدم ، لما فيها من شدّة الأهوال ، ورهبة
الفزع ، وطول الوقوف ، قال تعالى : {يَا أَيُّهَا
النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ
تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ
حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ
شَدِيدٌ } [الحج: 1، 2].
قال أمير
المؤمنين عليه السلام : « كلّ شيءٍ من الدنيا سماعه أعظم من عيانه ، وكلّ شيء من
الآخرة عيانه أعظم من سماعه ، فيكفيكم من العيان السماع ، ومن الغيب الخبر »(3).
ومواقف
القيامة كثيرة ، وساعاتها طويلة ، ومقاماتها مختلفة ، قال الإمام الصادق عليه
السلام : « حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا عليها ، فانّ للقيامة خمسين موقفاً ،
كلّ موقف مقداره ألف سنة » ثمّ تلا قوله تعالى : { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ
خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4](4).
وفيما يلي
نذكر تلك المشاهد من نفخة الصور إلى انتظار النداء بفصل القضاء ، إما بالإسعاد في
الجنة ، أو الإشقاء في النار :
1 ـ نفخة
الصعق ، أو صيحة الموت : قال تعالى : {وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ
اللَّهُ} [الزمر: 68] وقال سبحانه : {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا
صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً
وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس: 49، 50].
ورد في
التفسير أن الصور : هو قرن ينفخ فيه ، وقيل : هو جمع صورة ، فإن الله سبحانه يصوّر
الخلق في القبور كما صورهم في أرحام الاُمهات ، ثم ينفخ فيهم الأرواح كما نفخ وهم
في أرحام اُمّهاتهم(5).
لكن ظاهر
الآيات وصريح الأحاديث يدلان على المعنى الأول ، فقد ورد في الأخبار المتضافرة أن
الله تعالى خلق إسرافيل وخلق معه صوراً له طرفان : أحدهما في المشرق ، والآخر في
المغرب ، وهو قابض عليه ، منتظرٌ لأمر الله تعالى ، فإذا أمره نفخ فيه(6).
ومن نتائج
تلك النفخة أن لا يبقى ذو روح في السماوات والأرض إلاّ صعق ومات ، ولا يبقى للحياة
عين ولا أثر إلاّ ما شاء الله سبحانه {لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
[القصص: 88].
قال أمير المؤمنين
عليه السلام : « وإنّه سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه ، كما كان قبل
ابتدائها ، كذلك يكون بعد فنائها ، بلا وقتٍ ولا مكانٍ ، ولاحينٍ ولا زمانٍ ، عدمت
عند ذلك الآجال والأوقات ، وزالت السنون والساعات ، فلا شيء إلاّ الله الواحد
القهّار الذي إليه مصير جميع الاُمور »(7).
2 ـ تغيير
النظام الكوني : الحياة في الآخرة هي نشأة ثانية تقوم على نظام جديد يكتسب صفة
الخلود ، ويشتمل على محض السعادة أو الشقاء ، ويتمّ ذلك بعد تغيير النظام السائد
في النشأة الدنيا القائمة على الزوال والفناء ، قال تعالى : {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ
الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48].
وقد وصف الله
تعالى ذلك التغيير الحاصل في السماوات والأرض في آيات كثيرة ، يدلّ مضمونها على
تسيير الجبال ونسفها حتى تكون قاعاً صفصفاً ، أو كثيباً مهيلاً ، أو كالعهن
المنفوش ، وتفجير البحار وتسجيرها ، وتكون الأرض بارزةً كما دحاها أول مرة ، لا
ترى فيها عوجاً ولا أمتاً ، ثم تتزلزل وترتجف وتندكّ ، وتتكور الشمس ، ويخسف القمر
، وتتهافت النجوم وتنكدر ويذهب نورها ، وتحمرّ السماء ، فتكون وردةً كالدهان ،
وتنشقّ وتتصدّع ، وتُطوى كطيّ السجل للكتب.
قال أمير
المؤمنين عليه السلام في وصف ذلك اليوم : « يوم عبوس قمطرير ، ويوم كان شرّه
مستطيراً ، إنّ فزع ذلك اليوم ليرهب الملائكة الذين لا ذنب لهم ، وترعد منه السبع
الشداد ، والجبال الأوتاد ، والأرض المهاد ، وتنشقّ السماء فهي يومئذ واهية ،
وتتغيّر فكأنّها وردة كالدهان ، وتكون الجبال كثيباً مهيلاً بعدما كانت صُمّاً
صلاباً... »(8).
3 ـ نفخة
الإحياء ، أو صيحة البعث : وهي النفخة التي تحيا بها جميع الكائنات في النشأة
الآخرة، قال تعالى : {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ
فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا
مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ
* إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ}
[يس: 51 - 53].
وقال سبحانه
: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ
كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق: 20، 21].
قال أمير
المؤمنين عليه السلام : « لا تنشقّ الأرض عن أحدٍ يوم القيامة إلاّ وملكان آخذان
بضبعيه ، يقولان : أجب ربّ العزّة »(9).
فيجيبون
الداعي بعد أن تشقّق الأرض عنهم ، سراعاً إلى عرصة الموقف ، خشّعاً أبصارهم ،
ترهقهم ذلّة ، كأنّهم جراد منتشر ، أو فراش مبثوث ، قال تعالى : {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ
* خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا
يُوعَدُونَ} [المعارج: 43، 44].
4 ـ الحشر :
الحشر : الجمع ، يقال : حشر القوم : جمعهم وساقهم ، ويراد بالحشر هنا : اجتماع
الخلق يوم القيامة حيث يحشرون حشراً عاماً لا يستثني أحداً ، قال تعالى : {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا } [الكهف: 47] ويشمل الوحوش والدوابّ والطيور ، لقوله
تعالى : {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير: 5] وقوله : {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا
فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } [الأنعام: 38].
والحشر من
المنازل التي تذهل العقول وتروّع القلوب حتى تبلغ الحناجر ، حيث يُساق الخَلْق إلى
أرض المحشر في يوم الفزع الأكبر ، كما خلقهم ربهم أول مرّة ، حفاةً عُراةً غُرلاً
، قد ألجمهم العرق من ضيق المكان.
يقول أمير
المؤمنين عليه السلام : « وذلك يوم يجمع الله فيه الأولين والآخرين ، لنقاش الحساب
وجزاء الأعمال ، خضوعاً ، قياماً ، قد ألجمهم العرق ، ورجفت بهم الأرض ، فأحسنهم
حالاً من وجد لقدميه موضعاً ولنفسه متّسعاً »(10).
وعن الإمام
الصادق عليه السلام : « مثل الناس يوم القيامة إذا قاموا لربّ العالمين ، مثل
السهم في القرب ، ليس له من الأرض إلاّ موضع قدمه ، كالسهم في الكنانة ، لا يقدر
أن يزول هاهنا ولا هاهنا »(11).
ويعرض الناس
على ربهم صفاً لفصل القضاء ، لا تفاضل بينهم في نسب أو مال أو جاه أو مقام، بارزين
لا تخفى منهم خافية {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ
لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18] فيتبدّل الغيب شهادةً ، والسرّ علناً {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 9] وتظهر كلّ فعلةٍ أو عقيدة خافية ظهوراً
بارزاً في أرض الموقف {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ
لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ} [غافر: 16].
ويتفاوت حشر
الناس بحسب أعمالهم الظاهرة ، فيحشر المتقون ركباناً { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم: 85] وعلى وجوههم مظاهر الفرح والسرور {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ } [عبس: 38،
39] بما اُعدّ
لها من الثواب والفوز العظيم ، ولهم نور وبهاء يميزهم عن أهل الموقف {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد: 12].
ويحشر
المجرمون من الكافرين والمشركين مقرّنين مع أوليائهم من الشياطين جثياً {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ
جَهَنَّمَ جِثِيًّا} [مريم: 68] ومع ما كانوا يعبدون من دون الله سبحانه {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الفرقان:
17] ويتميزون عن أهل الموقف
بوجوههم المسودّة ومظاهرهم الكئيبة {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } [عبس: 40، 41].
ويسحبون على
وجوههم إلى النار وقد خبت حواسّهم {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء: 97].
5 ـ المحكمة
الإلهية : قال تعالى : {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ
بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ
بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ
وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} [الزمر: 69، 70] تلك هي المحكمة الإلهية التي لا تشبه محاكم
الدنيا في شيء ، لأن قاضيها يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، وشهودها الأنبياء
والمرسلون ، وأعضاء المتهم، وأعماله التي تتجسّد أمامه ، وصحائف الأعمال التي لا
تغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصتها ، فأنّى للمتّهم الإنكار والأعمال محضرة ،
والصحف منشورة ، والشهود قائمة ، والجوارح ناطقة؟!
وفيما يلي
نذكر بعض ما يتعلق بفصل القضاء في تلك المحكمة من السؤال والحساب والشهود ، وهي
كما يلي :
أولاً : السؤال
: وهو واقع على جميع الخلق لقوله تعالى : {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
[الحجر: 92، 93] وقوله تعالى : {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ
أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6] يعني عن الدين ، وأمّا الذنب فلا يُسأل عنه
إلاّ من يُحاسب ، وكل محاسب فهو معذّب ولو بطول الوقوف(12).
وتُسأل
الأعضاء والجوارح ، لما روي عن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى : {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}
[الإسراء: 36] أنه قال : «
يُسأل السمع عما سمع ، والبصر عما يطرف ، والفؤاد عما يعقد عليه »(13).
والسؤال
يستغرق كلّ وجود الانسان وكيانه واعتقاده ، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم أنّه قال : « لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع : عن
عمره فيما أفناه، وعن جسده فيما أبلاه ، وعن ماله مما اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن
حبّنا أهل البيت »(14).
والمراد بأهل
البيت الذين يُسأل الناس عن محبّتهم ، هم المنصوص على عصمتهم في قوله تعالى : {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } [الأحزاب: 33] والذين باهَلَ بهم رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم نصارى نجران استناداً إلى قوله تعالى : {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ
وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى
الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61] وهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم
السلام والتسعة المعصومون من ذريته دون غيرهم من الخلق.
وإنّما يُسأل
عن محبّة أهل البيت عليهم السلام لأنّ الله سبحانه فرض مودتهم على الخلق في قوله
تعالى : {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا
الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] كمبدأ عقائدي يجسّد عمق الانتماء للإسلام
وأصالة الارتباط بالعقيدة ، وأكّد ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في
أحاديث كثيرة منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « أحبوا الله لما يغذوكم من
نعمه ، وأحبّوني لحبّ الله ، وأحبوا أهل بيتي لحبّي »(15).
والمسؤول عنه
ليس مجرد الحبّ والمودّة ، بل اعتقاد الموالاة لهم عليهم السلام باعتبارهم أوصياء
معصومين وقادة رساليين للاُمّة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد جاء
عنه صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى : {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 24] أنّه قال : «يعني عن ولاية علي بن أبي طالب
»(16).
ثانياً :
الحساب : قال تعالى : {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ
* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } [الغاشية: 25، 26] الحساب : هو المقابلة بين الأعمال والجزاء
عليها ، والمواقفة للعبد على ما فرط منه ، والتوبيخ له على سيئاته ، والحمد له على
حسناته ، ومعاملته في ذلك باستحقاقه(17).
والله تعالى
يخاطب عباده من الأولين والآخرين بمجمل حساب عملهم مخاطبةً واحدةً ، يسمع منها كلّ
واحد قضيته دون غيرها ، ويظنّ أنه المخاطب دون غيره ، لا تشغله تعالى مخاطبة عن
مخاطبة ، ويفرغ من حساب الأولين والآخرين في مقدار ساعة من ساعات الدنيا(18).
وفي قوله
تعالى : {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة:
202] ورد في
الخبر أنه تعالى يحاسب الخلائق كلّهم في مقدار لمح البصر ، وروي بقدر حلب شاةٍ(19).
وعن الإمام
الصادق عليه السلام في قوله تعالى : {فِي يَوْمٍ
كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [المعارج: 4] قال : « لو ولي الحساب غير الله لمكثوا فيه
خمسين ألف سنة من قبل ان يفرغوا، والله سبحانه يفرغ من ذلك في ساعة »(20).
وسئل أمير
المؤمنين عليه السلام : كيف يحاسب اللهُ الخلقَ على كثرتهم ؟ فقال : « كما يرزقهم
على كثرتهم » قيل : فكيف يحاسبهم ولا يرونه ؟ قال : « كما يرزقهم ولا يرونه »(21).
وعن الإمام
الباقر عليه السلام : « إن أوّل ما يُحاسب به العبد الصلاة ، فان قُبلِت قُبِل ما سواها»(22).
ولا ينجو من
أهوال يوم الحساب إلاّ من حاسب نفسه في الدنيا ، ووزن أعماله وأقواله بميزان
الشريعة ، قال أمير المؤمنين عليه السلام : « عباد الله ، زنوا انفسكم من قبل أن
تُوزنوا ، وحاسبوها من قبل أن تُحاسبوا ، وتنفّسوا قبل ضيق الخناق ، وانقادوا قبل
عنف السياق »(23).
ثالثاً :
الشهود وتطاير الكتب : وهي من أهوال القيامة المروّعة ، لانّ العبد يجد نفسه أمام
عدة شهود لا تُدحض حجّتهم ، ولا يكذّب قولهم ، فلا محيص له إلاّ الإقرار بالذنب
والاعتراف بالخطيئة ، ومن الشهود :
أ ـ الله
سبحانه : فهو تعالى محيط بكلّ شيءٍ علماً ، وعلى كلّ شيء شهيد ، يشهد على العبد في
خلواته ، ويعلم ما يكنّه ضميره ، وهو أقرب إليه من حبل الوريد ، قال تعالى : {وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا} [يونس:
61] وقال سبحانه : {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ
إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ
أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ
اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7].
وعن أمير
المؤمنين عليه السلام : « اتقوا معاصي الله في الخلوات ، فإنّ الشاهد هو الحاكم»(24).
ب ـ الأنبياء
والأوصياء : دلّ الكتاب الكريم على أنّ الله سبحانه يستشهد كلّ نبي على اُمّته يوم
القيامة ، ويستشهد نبينا صلى الله عليه وآله وسلم على اُمّته ، قال تعالى : {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى
هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41].
وفي قوله
تعالى : {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا
عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ} [النحل:
89] بيّن سبحانه أيضاً أنه
يبعث في يوم القيامة من كلّ اُمّة شهيداً ، وهم الأنبياء والعدول من كلّ عصر ،
يشهدون على الناس بأعمالهم(25).
وفي هذه
الآية دلالة على أن كل عصر لا يجوز أن يخلو ممّن يكون قوله حجّة على أهل عصره ،
وهو عدل عند الله تعالى ، وهو قول الجبّائي وأكثر أهل العدل ، وهذا يوافق ما ذهب
إليه الإمامية ، وإن خالفوهم في أن ذلك العدل والحجّة من هو(26).
ومن المعلوم
أن الاُمّة كلّها لا تتصف بالخيار والعدل ، وكونهم شهداء على الناس ، فإنّ فيهم
الكثير ممن لا يخفى حاله ، فهذه الصفات إنما تكون باعتبار البعض ، والموجّه إليه
الخطاب هو ذلك البعض.
وقد روى
العياشي عن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ
وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] أنه قال : « فإنّ ظننت أنّ الله تعالى عنى
بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحّدين ، أفترى أنّ من لا تجوز شهادته في الدنيا
على صاعٍ من تمر ، يطلب الله شهادته يوم القيامة ، ويقبلها منه بحضرة جميع الأُمم
الماضية ؟ كلا لم يعنِ الله مثل هذا من خلقه ، يعني الاُمّة التي وجبت لها دعوة
إبراهيم عليه السلام {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ
أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] وهم الاُمّة الوسطى ، وهم خير اُمّة اُخرجت للناس »(27).
وعن الإمام
الباقر عليه السلام قال : « نحن الاُمّة الوسطى ، ونحن شهداء الله على خلقه ،
وحججه في أرضه »(28).
ج ـ الملائكة
: جعل الله تعالى على الانسان حفظةً من الملائكة ، يصاحبونه ويسجّلون كلّ أعماله ،
قال تعالى : {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ
وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}
[ق: 17، 18] وحينما يرد
العبد صعيد الحساب تشهد عليه الملائكة بما عمل في الدنيا من خير أو شرّ ، قال
تعالى : {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ
* وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق: 20، 21].
قال أمير
المؤمنين عليه السلام : « سائق يسوقها إلى محشرها ، وشهيد يشهد عليها بعملها»(29).
د ـ الأعضاء
والجوارح : وفي بعض مواقف القيامة يختم الله تبارك وتعالى على أفواههم ، وتشهد
أيديهم وجميع جوارحهم بما كانوا يعملون ، قال تعالى : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ
بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 24].
والمراد
بالشهادة شهادة الأعضاء على السيئات والمعاصي بحسب ما يناسبها ، فما كان منها من
قبيل الأقوال كالقذف والكذب والغيبة ونحوها ، شهدت عليه الألسنة ، وما كان منها من
قبيل الأفعال كالسرقة والمشي للنميمة والسعاية وغيرها ، شهدت عليه بقية الأعضاء(30).
هـ ـ صحائف
الأعمال : ذكرنا أنّ أعمال الانسان وأقواله تضبط في صحف عند الحفظة من الملائكة ،
قال تعالى : {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا
كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10 - 12].
وفي يوم
القيامة تُنشَر صحف الأعمال ، فيخرج الله سبحانه لكلّ اُمّةٍ كتاباً ينطق بجميع
أقوالهم وحقائق أفعالهم ، قال تعالى : {وَتَرَى كُلَّ
أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا
نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 28، 29].
ويخرج لكلّ
إنسانٍ كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ، ويجعل الله سبحانه الإنسان
حسيب نفسه والحاكم عليها ، قال تعالى : {وَكُلَّ إِنْسَانٍ
أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا
يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}
[الإسراء: 13، 14].
ويشفق
المجرمون من الكافرين والمشركين مما في تلك الكتب من المتابعة والرصد الدقيق {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ
يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا
أَحْصَاهَا } [الكهف: 49].
و ـ ظهور
الأعمال أو تجسّمها : قال تعالى : {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ
أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ } [الزلزلة: 6]. وقال تعالى : {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ
مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران:
30].
فالأعمال
شهود على الإنسان في النشأة الآخرة ، لكن اختلف المفسرون في بيان طريقة إحضارها ،
فبعضهم تأوّل ذلك بإحضار جزاء الأعمال من الثواب والعقاب ، أو بإحضار صحائف
الأعمال وما فيها من الحسنات والسيئات ، بناءً على أن الأعمال أعراض ، والأعراض تنعدم(31)
، أو بظهورها عياناً ، لأنّ الإحضار يدلّ على أن الأعمال موجودة ومحفوظة عن
البطلان ، لكنها غائبة عنا في هذا العالم ، ويحضرها الله تعالى لخلقه يوم القيامة،
ومن هنا قيل : بأن كتاب الأعمال يتضمن نفس الأعمال بحقائقها.(32)
وعليه فإن
إظهار الأعمال بأعيانها يدلّ على أنّها تُحفَظ في العالم الخارجي بطريقة غيبية هي
أقرب إلى التصوير فضلاً عن الحفظ والتدوين ، وتعرض على العبد يوم القيامة فيراها
عياناً ، ولا حجة كالعيان.
6 ـ الميزان
: الميزان في اللغة : آلة توزن بها الأشياء ، أو هو المعيار الذي يُعرَف به قدر
الشيء ، ومن مشاهد القيامة نصب الموازين الحق لتمييز أهل الطاعة والإيمان عن أهل
الجحود والعصيان ، قال تعالى : {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ
الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ
حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47].
ولا يقام
للكافرين والمشركين وزن يوم القيامة ، بل تبطل أعمالهم ، ويحشرون إلى جهنّم زمراً،
قال تعالى : {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ
وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}
[الكهف: 105].
وعن الإمام
علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام ـ في حديث ـ قال : « اعلموا عباد الله أن
أهل الشرك لا تُنصَب لهم الموازين ، ولا تُنشَر لهم الدواوين ، وإنّما يحشرون إلى
جهنّم زمراً ، وإنّما نصب الموازين ونشر الدواوين لأهل الإسلام ، فاتقوا الله عباد
الله »(33).
وأصل الميزان
لا خلاف فيه بين طوائف الاُمة المختلفة ، لدلالة الكتاب عليه ، وإخبار المعصوم عنه
، لكن وقع الاختلاف في مفهومه ومعناه على أقوال بعضها يستند إلى الروايات وأهمها :
أوّلاً ـ إن
في القيامة موازين كموازين الدنيا ، لكلّ ميزان لسان وكفّتان ، تُوزَن به أعمال
العباد من الحسنات والسيئات ، أخذاً بظاهر اللفظ ، واختلفوا في الموزون هل هو
الأعمال ، أو صحائف الأعمال ، أو غيرها ، على عدّة أقوال(34).
ثانياً ـ
الميزان كناية عن العدل في الآخرة ، وأنه لا ظلم فيها على أحدٍ ، ووضع الموازين هو
وضع العدل ، وثقلها رجحان الأعمال بكونها حسنات ، وخفّتها مرجوحيتها بكونها سيئات
، أي إن الترجيح بالعدل ، فمن رجحت أعماله لغلبة الحسنات فأولئك هم المفلحون ، ومن
لم ترجح أعماله لقلّة الحسنات فأولئك الذين خسروا أنفسهم(35).
ويؤيد هذا
المعنى ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام وقد سأله الزنديق : أوليس توزن
الأعمال ؟ فقال عليه السلام : « لا ، إنّ الأعمال ليست بأجسام ، وإنّما هي صفة ما
عملوا ، وإنّما يحتاج إلى وزن الشيء من جهل عدد الأشياء ، ولا يعرف ثقلها أو
خفّتها ، وإنّ الله لا يخفى عليه شيء ».
قال : فما
معنى الميزان ؟ قال : « العدل » قال : فما معناه في كتابه {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ } [الأعراف: 8] ؟ قال : « فمن رجح عمله »(36).
ثالثاً ـ
الميزان : هو الحساب ، وثقل الميزان وخفّته كناية عن قلّة الحساب وكثرته ، لما روي
عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال : « ومعنى قوله : ( فَمَن ثَقُلَتْ
مَوَازِينُهُ) ، ( وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ) فهو قلة الحساب وكثرته ، والناس
يومئذٍ على طبقات ومنازل ، فمنهم من يحاسب حساباً يسيراً وينقلب إلى أهله مسروراً
، ومنهم الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، لأنهم لم يتلبّسوا من أمر الدنيا بشيء ،
وإنّما الحساب هناك على من تلبّس هاهنا ، ومنهم من يحاسب على النقير والقطمير ،
ويصير إلى عذاب السعير ، ومنهم أئمة الكفر وقادة الضلال ، فأولئك لا يقيم لهم
وزناً ، ولا يعبأ بهم ، لأنهم لم يعبأوا بأمره ونهيه ، فهم في جنهم خالدون ، تلفح
وجوههم النار ، وهم فيها كالحون »(37).
رابعاً ـ
الموازين : الأنبياء ، والأوصياء ، لما روي عن الإمام الصادق عليه السلام في قوله
تعالى : {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}
[الأنبياء: 47] قال : «
الموازين : الأنبياء والأوصياء »(38) فهم عليهم السلام المعايير التي يعرف بها
الحق والعدل ، ورجحان الأعمال إنما هو بقدر الإيمان بخطّهم ، واعتقاد محبّتهم
وطاعتهم ، والاقتداء بهديهم وآثارهم.
هذه هي أهم
الأقوال والأخبار الواردة في معنى الميزان ، ولعلها تمثّل بعض مصاديقه ، ولا
يلزمنا الاعتقاد بها على التفصيل ، إنما الواجب هو الإيمان بالميزان على الجملة
دون الخوض في التفاصيل والماهيات.
7 ـ الصراط :
الصِّراط في اللغة : الطريق ، أو السبيل الواضح ، وهو لغة في ( السِّراط ) بالسين
، والصاد أعلى لمكان المُضارعة(39) ، وإن كانت السين هي الأصل ، والصاد لغة قريش
التي جاء بها الكتاب ، وعامة العرب تجعلها سيناً ، قال تعالى : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة: 6] أي ثبّتنا على المنهاج الواضح(40).
والصراط من
منازل المعاد ، ويراد به الجسر الذي يُنصَب على جهنّم ، ويُكلّف جميع الخلق المرور
عليه ، ويكون أدقّ من الشعرة ، وأحدّ من السيف ، فأهل الجنة يمرون عليه لا يلحقهم
خوف ولا غمّ ، والكفار يمرون عليه عقوبةً لهم وزيادة في خوفهم ، فإذا بلغ كلّ
واحدٍ إلى مستقره من النار سقط من ذلك الصراط(41).
وتتفاوت سرعة
العابرين على الصراط بحسب ما قدّموا من أعمال في الدنيا ، فالمؤمنون يعبرونه
كالبرق الخاطف ، والكافرون يتعثّرون من أول قدم ، ويتهافتون إلى النار ، قال
الإمام الصادق عليه السلام : « الناس يمرون على الصراط طبقات ، والصراط أدق من
الشعرة ، وأحدّ من السيف ، فمنهم من يمرّ مثل البرق ، ومنهم من يمرّ مثل عدو الفرس
، ومنهم من يمر حبواً ، ومنهم من يمرّ مشياً ، ومنهم من يمرّ متعلقاً ، قد تأخذ
النار منه شيئاً وتترك شيئاً»(42).
وقيل :
الصراط في الآخرة هو نموذج يُعبّر عن صراط الدنيا ، فمن استقام في هذا العالم على
الصراط المستقيم ، خفّ على صراط الآخرة ونجا ، ومن عدل عن الاستقامة في الدنيا ،
وأثقل ظهره بالأوزار وعصى ، تعثّر في أول قدمٍ من الصراط وتردّى(43).
قال الإمام
الصادق عليه السلام في بيان معنى الصراط : « هو الطريق إلى معرفة الله عزَّ وجلَّ
، وهما صراطان : صراط في الدنيا ، وصراط في الآخرة ، وأمّا الصراط الذي في الدنيا
فهو الإمام المفترض الطاعة ، من عرفه في الدنيا واقتدى بهداه ، مرّ على الصراط
الذي هو جسر جهنم في الآخرة ، ومن لم يعرفه في الدنيا ، زلّت قدمه عن الصراط في الآخرة
، فتردّى في نار جهنم »(44).
ويدلّ عليه
حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « إذا كان يوم القيامة ، ونُصب الصراط
على شفير جهنّم ، لم يجز إلاّ من معه كتاب علي بن أبي طالب »(45).
وطريق الأئمة
عليهم السلام هو منهاجهم الواضح المعبّر عن الاستقامة والاعتدال في محبّتهم ،
والتمسك بالحدّ الوسط الذي يقع بين الأفراط والتفريط ، أو الغلو والتقصير ، وهو
الحبّ الذي أُمرنا به ، وعلينا أن ندين به ونلقى الله عليه.
قال الإمام
الحسن العسكري عليه السلام : « الصراط المستقيم هو صراطان : صراط في الدنيا، وصراط
في الآخرة ، فأمّا الصراط المستقيم في الدنيا ، فهو ما قصر عن الغلوّ ، وارتفع عن
التقصير ، واستقام فلم يعدل إلى شيء من الباطل ، أما الصراط الآخر فهو طريق
المؤمنين إلى الجنة ، الذي هو مستقيم لا يعدلون عن الجنة إلى النار ، ولا إلى غير
النار سوى الجنة »(46).
عقبات الصراط
: الصراط من المنازل المروّعة ، لما فيه من العقبات التي لا بدّ للعبد من المرور
عليها ، قال أمير المؤمنين عليه السلام : « واعلموا ان مجازكم على الصراط ، ومزالق
دَحْضِهِ ، وأهاويل زللهِ ، وتارات أهواله »(47).
قال الشيخ
الصدوق : وعلى الصراط عقبات تسمّى بأسماء الأوامر والنواهي كالصلاة ، والزكاة،
والرحم ، والأمانة ، والولاية ، فمن قصّر في شيءٍ منها حُبِس عند تلك العقبة ،
وطُولب بحقّ الله فيها ، فإن خرج منها بعملٍ صالح قدّمه أو رحمةٍ تداركته ، نجا
منها إلى عقبة اُخرى ، فلا يزال كذلك حتى إذا سلم منها جميعاً انتهى إلى دار
البقاء ، فيحيا حياة لا موت فيها أبداً ، ويسعد سعادة لا شقاوة معها أبداً ، وإن
لم يسلم زلّت قدمه عن العقبة فتردّى في نار جهنّم(48).
وقال الشيخ
المفيد : العقبات : عبارة عن الأعمال الواجبة والمُساءلة عنها ، والمواقفة عليها ،
وليس المراد بها جبال في الأرض تُقطَع ، وإنما هي الأعمال شُبّهت بالعقبات ، وجعل
الوصف لما يلحق الانسان في تخلّصه من تقصيره في طاعة الله كالعقبة التي يجهد
صعودها وقطعها ، قال الله تعالى : {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ
* وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 11 - 13] فسمّى سبحانه الأعمال التي كلّفها العبد
عقبات ، تشبيهاً لها بالعقبات والجبال ، لما يلحق الانسان في أدائها من المشاقّ ،
كما يلحقه في صعود العقبات وقطعها.
قال أمير
المؤمنين عليه السلام : « إن أمامكم عقبة كؤوداً ومنازل مهولة ، لا بدّ لكم من
الممر بها ، والوقوف عليها ، فإمّا برحمةٍ من الله نجوتم ، وإمّا بهلكةٍ ليس بعدها
انجبار » أراد عليه السلام بالعقبة تخلّص الإنسان من التبعات التي عليه(49).
____________
(1) لسان العرب / ابن منظور ـ قوم ـ 12 : 506.
(2) علل الشرائع / الصدوق : 470.
(3) نهج البلاغة / صبحي الصالح : 170/ الخطبة (114).
(4) الكافي / الكليني 8 : 143/108 ، أمالي الطوسي : 36/38.
(5) مجمع البيان / الطبرسي 6 : 766.
(6) راجع : تفسير القمي 2 : 257 ، بحار الأنوار 6 : 324/2.
(7) نهج البلاغة / صبحي الصالح : 276/ الخطبة (186).
(8) أمالي الطوسي : 28/31.
(9) الأمالي / الصدوق : 497/681.
(10) نهج البلاغة / صبحي الصالح : 147 / الخطبة (102).
(11) الكافي / الكليني 8 : 143/110.
(12) الاعتقادات / الصدوق : 74.
(13) تفسير العياشي 2 : 292/75.
(14) الخصال / الصدوق : 253/125 ، الأمالي / الطوسي : 593/1237 ، المعجم الكبير/
الطبراني11 : 83/11177 ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ، مجمع الزوائد / الهيثمي
10 : 346 ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت.
(15) سنن الترمذي 5 : 664/3789 ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ، حلية الأولياء
/ أبو نعيم 3 : 211 ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت ، تاريخ بغداد / الخطيب 4 : 159 ـ
دار الكتب العلمية ـ بيروت ، أُسد الغابة / ابن الأثير 2 : 13 ـ دار إحياء التراث العربي
ـ بيروت ، المستدرك / الحاكم 3 : 150 وصححه ـ دار المعرفة ـ بيروت.
(16) عيون أخبار الرضا عليه السلام / الصدوق 1 : 313/86 ، معاني الأخبار / الصدوق
: 67/7 ، الصواعق المحرقة / الهيتمي : 149 باب 11 فصل 1 قال : أخرجه الديلمي ، الأمالي
/ الطوسي : 290/564 ، تفسير الحبري : 312/60 مؤسسة آل البيت عليهم السلام ـ قم ، المناقب
/ ابن شهر آشوب 2 : 152 دار الأضواء ـ بيروت ، مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام
/ الخوارزمي : 195 ، تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي : 17.
(17) تصحيح الاعتقاد / المفيد : 113.
(18) الاعتقادات / الصدوق : 75.
(19) مجمع البيان / الطبرسي 2 : 531.
(20) مجمع البيان / الطبرسي 10 : 531.
(21) نهج البلاغة / صبحي الصالح : 528 / الحكمة (300).
(22) الكافي / الكليني 3 : 268/4 التهذيب / الطوسي 2 : 239/ 946.
(23) نهج البلاغة / صبحي الصالح : 123 / الخطبة (90).
(24) نهج البلاغة / صبحي الصالح : 532 / الحكمة (324).
(25) مجمع البيان / الطبرسي 6 : 584.
(26) مجمع البيان / الطبرسي 6 : 586.
(27) تفسير العياشي 1 : 63/114.
(28) الكافي / الكليني 1 : 146/2 و147/4 ، بصائر الدرجات / الصفار : 183/11
و102/3 ـ مؤسسة الأعلمي ـ طهران ، تفسير العياشي 1 : 62/110.
(29) نهج البلاغة / صبحي الصالح : 116 / الخطبة (85).
(30) تفسير الميزان / الطباطبائي 15 : 94.
(31) مجمع البيان / الطبرسي 2 : 732 ، تفسير الرازي 8 : 16.
(32) راجع : الميزان / الطباطبائي 3 : 156 و 13 : 55 .
(33) الكافي 8 : 75/29 ، الأمالي / الصدوق : 595/822 ـ مؤسسة البعثة
ـ قم.
(34) راجع : كشف المراد / العلاّمة الحلي : 453 ، تفسير الميزان / الطباطبائي
8 :14 ، حق اليقين / عبدالله شبر 2 : 109.
(35) راجع : تصحيح الاعتقاد / المفيد :114 ، تفسير الميزان / الطباطبائي 8
: 12 ـ 13.
(36) الاحتجاج / الطبرسي : 351.
(37) الاحتجاج / الطبرسي : 244.
(38) الكافي / الكليني 1 : 347/36 ، معاني الأخبار / الصدوق : 31/1 ، الاعتقادات
/ الصدوق : 74.
(39) أي مضارعة الطاء.
(40) لسان العرب ـ سرط ـ 7 : 313 ـ 314.
(41) كشف المراد / العلاّمة الحلي : 453.
(42) الأمالي / الصدوق : 242/257 ، تفسير القمي 1 : 29.
(43) إحياء علوم الدين / الغزالي 5 : 363.
(44) معاني الأخبار / الصدوق : 32/1.
(45) الصواعق المحرقة / ابن حجر : 149 ، مناقب علي بن أبي طالب / ابن المغازلي
: 242/289 ، فرائد السمطين / الجويني 1 : 289/228 ، الأمالي/ الطوسي : 290/564.
(46) معاني الأخبار / الصدوق : 33/4.
(47) نهج البلاغة / صبحي الصالح : 111 ـ الخطبة (83).
(48) الاعتقادات / الصدوق : 71 ـ 72.
(49) تصحيح الاعتقاد / المفيد : 112 ـ 113.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|