أقرأ أيضاً
التاريخ: 18-4-2018
735
التاريخ: 18-4-2018
1076
التاريخ: 9-08-2015
1447
التاريخ: 9-08-2015
2599
|
استدلّ كثير من الفلاسفة والمتكلمين ، بالبراهين العقلية المجرّدة ، على حتمية المعاد ووجوبه ، كما جاء في الكتاب الكريم أيضاً الكثير من الأدلّة العقلية والبراهين الوجدانية على ثبوت حقيقة المعاد والحياة الآخرة ، للردّ على منكري المعاد ، وإثبات كونه قطعي الوجوب وحتمي الحدوث، وفي ما يلي نذكر بعض تلك البراهين :
أولاً ـ
برهان المماثلة:
قال
العلاّمة الحلي : العالم المماثل لهذا العالم ممكن الوجود ، لأن هذا العالم ممكن
الوجود ، وحكم المثلين واحد ، فلمّا كان هذا العالم ممكناً وجب الحكم على الآخر
بالإمكان(1).
وقد ورد
في القرآن الكريم بعض الأمثلة ، في المساواة بين الإحياء في الدنيا والإحياء في
الآخرة ، وذلك من خلال نمطين في المماثلة ؛ الأول : مماثلة النشأة الاُولى من
العدم بالنشأة الآخرة ، والثاني : مماثلة إحياء الأرض بعد موتها بالإحياء في
الآخرة ، والعقل يحكم بتساوي الأمثال في الحكم ، ومنه يتبيّن أن القادر على
الإحياء الأول قادر على الإحياء الآخر ؛ لأنهما مثلان.
النمط الأول
من المماثلة : ونريد به البرهان على المعاد من خلال المبدأ ، عن طريق المماثلة
بينهما ، فقد أكّد الكتاب الكريم على إمكان المعاد عن طريق ثبوت مثله أولاً ، وذلك
بالمماثلة بين إيجاد الانسان في هذه الدنيا بعد أن كان عدماً ـ كما في خلق آدم
عليه السلام ابتداءً من غير مادة لأبٍ واُمّ ـ وبين إعادته إلى الحياة بعد الموت
والفناء ؛ فقال تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ
الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ
عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ
لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ
نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى
وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ
عِلْمٍ شَيْئًا} إلى قوله تعالى : {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ
وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج: 5،6].
فالإنسان
لم يكن شيئاً مذكوراً ، فأوجده الله تعالى من تراب ، وأخرجه من العدم إلى حيّز
الوجود، ووهبه النطق والعقل ، وجعله في أحسن تقويم ، فلا ريب إذن في إمكان بعثه
بعد الموت وتفرّق الأجزاء ، لأنه يماثل خلقه وإيجاده في هذه الدنيا بعد أن كان
عدماً ، ولأن حكم الأمثال واحد ، والعقل لا يفرّق بين المتساويين ، بل يجعل وجود
أحدهما دليلاً على إمكان وجود المساوي الآخر ، فضلاً عن أن النشأة الاُولى أعظم
وأجلّ ، قال تعالى : {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ
أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }
[الروم: 27].
ويدخل في
هذا البرهان جميع الآيات التي تساوي بين المبدأ والمعاد من حيث الحكم ، منها قوله
تعالى : {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
} [الروم: 11] وقوله تعالى : {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي
فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 51] وقوله تعالى : {كَمَا بَدَأْنَا
أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:
104].
النمط
الثاني من المماثلة : أكدّ الكتاب الكريم في كثير من آياته(2)على إثبات المعاد عن
طريق المماثلة بين إحياءٍ محسوس ومشاهد ، وهو إحياء الأرض بعد موتها ، بخروج النبات
منها وعودة نشاطه الحيوي بعد جفافه أو ركوده وتوقّفه عن العمل في الشتاء ، وبين
إحياء الأموات يوم القيامة ، قال تعالى : {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ
اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ
الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الروم: 50].
وقال
تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ
حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ
فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ
نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 57].
هذه الآية
الكريمة والتي قبلها في معرض مناشدة العقل السليم الذي يقرّر أن حُكم الأمثال واحد
، فإذا تحقّق الإحياء في الأرض بعد موتها ، أمكن تحققه في الإنسان بعد موته ، وفي
غيره من الأحياء.
قال السيد
الطبطبائي : المراد بقوله : ( إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى ) الدلالة على
المماثلة بين إحياء الأرض الميتة وإحياء الموتى ، إذ في كل منهما موت ، وهو سقوط
آثار الحياة من شيء محفوظ ، وحياة وهي تجدّد تلك الآثار بعد سقوطها ، وقد تحقّق
الإحياء في الأرض والنبات ، وحياة الإنسان وغيره من ذوي الحياة مثلهما ، وحكم
الأمثال في ما يجوز وفي ما لا يجوز واحد ، فإذا جاز الإحياء في بعض هذه الأمثال ،
وهو الأرض والنبات ، فليجز في البعض الآخر(3).
وقد أشار
الكتاب الكريم إلى ما يقرّب هذا المعنى ، وهو كون خلق الإنسان كالإنبات وكذلك
إعادته ، قال تعالى : {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ
يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} [نوح: 17، 18].
ثانياً :
برهان القدرة:
لمّا كانت
قدرة الخالق العظيم غير متناهية ، جاز تعلّقها بكلّ شيءٍ مقدور ، وكانت نسبتها إلى
ما هو سهل في نفسه أو صعب على حدّ سواء ، وهو المستفاد من قوله تعالى : {إِنَّ
اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، وقد أشارت الآيات القرآنية إلى صورتين من
الاستدلال على المعاد ، بذكر عموم القدرة الإلهية وعدم تناهيها :
الصورة
الأُولى : بيّن تعالى قدرته على المعاد في الآخرة مرتباً على ذكر المبدأ في
الاُولى في آيات كثيرة(4) ، إشارة إلى أن القادر على الإيجاد من العدم ابتداءً ،
فهو على إعادة الموجود أقدر ، قال تعالى : {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ
اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ
سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ
يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
[العنكبوت: 19، 20].
فالآيتان
تحثّان الإنسان على النظر في أمر الخلق الأول ، ليصل باستقلال عقله إلى معرفة
خالقه ومدبّره ، وليكون ذلك مقدّمة للاحتجاج على المعاد بعموم القدرة الالهية وعدم
تناهيها ، وأكدّ الكتاب الكريم على تلك المقدّمة في آيات اُخرى كثيرة ؛ فقال تعالى
: { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، وقال
سبحانه : {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ } [الواقعة: 57]، إلى أن
قال : {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ}
[الواقعة: 62].
ولا يخفى
أن الإنسان قد علم النشأة الاُولى ، وعرف من خلالها أن الذي أوجده ، وقدّر له
خصوصيات خلقه ، ودبّر له أمره ، هو الله خالق كلّ شيء ، وليس ثمّة أحد غيره ، قال
تعالى : {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}
[يونس: 34]. وقال تعالى : {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا
فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
[البقرة: 28].
وممّا
تقدم تبيّن أن نسبة قدرة الله تعالى غير المتناهية إلى الإحياء الأول والثاني على
حدّ سواء ، فلا يخالطها عيّ أو عجز ، ولا يطرأ عليها نصب أو تعب ، قال تعالى :
{أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ }
[ق: 15]، وقد بيّن تعالى أن قدرته على الخلق الأول والخلق الجديد ، من حيث الامكان
والتأتّي ، كخلق نفسٍ واحدةٍ ، فقال تعالى : {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ
إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28] فلا يوجد بالنسبة إلى الخالق جلّ وعلا شيء
أسهل أو أصعب من شيء ، وفي ذلك برهان متين يقود الإنسان إلى الإيمان باليوم الآخر
والتصديق بأمر المعاد.
الصورة
الثانية : بيّن تعالى قدرته على المعاد في الآخرة مرتّباً على ذكر خلق السماوات
والأرض ، فقال سبحانه : {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا
لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [الإسراء: 98،
99]، وقال تعالى : { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ *
إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [يس:
81، 82]. وقال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ
يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الأحقاف: 33].
فالتأمل
في خلق السماوات والأرض يقودنا إلى الإيمان بعالم الآخرة ، ذلك لأنّ الذي خلق
عوالم السماوات والأرض ـ بما فيها من سعة الخلقة البديعة وعجيب النظام العام
المتضمّن لما لا يُحصى من الأنظمة الجزئية المدهشة للعقول والمحيرة للألباب ،
والعالم الإنساني جزء يسير منها ـ كيف لا يقدر أن يخلق الناس خلقاً جديداً في يوم
القيامة ؟ وخلق الإنسان في نفسه أسهل وأهون من خلق السماوات والأرض ، قال تعالى :
{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [غافر: 57] وقال تعالى : {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ
خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا... وَالْأَرْضَ
بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا }[النازعات: 27، 30].
وفي هذا
السياق يأتي إبطال القرآن الكريم ما تمسك به أهل الجاهلية في استبعادهم المعاد :
{وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا
جَدِيدًا} [الإسراء: 49] فردّهم سبحانه بتذكيرهم بالقدرة المطلقة {قُلْ كُونُوا
حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ}
[الإسراء: 50، 51] فأمرهم أمر تسخير أن يكونوا حجارة أو حديداً أو شيئاً ممّا
يتصورّون أن تبديله إلى إنسانٍ أبعد وأصعب من تبديل الرفات أو التراب إليه ،
فليكونوا ما شاءوا ، فإنّ الله تعالى سيعيد إليهم خلقهم الأول بعد بعثهم ، وفي ذلك
إشارة إلى أن القدرة الإلهية المطلقة لا يشقّها شيء تريد تجديد خلقه ، سواء أكان
عظاماً أو رفاتاً أو حجارةً أو حديداً أو غير ذلك(5).
ثالثاً :
برهان الحكمة:
إن الله
تعالى حكيم في أفعاله ، وكلّ ما يصدر منه جلَّ وعلا في عالمي التكوين والتشريع
يخضع لمبدأ الحكمة والهادفية ، فالمنظومة الكونية في نظامها العجيب تسير بكل
جزئياتها وفق حركة هادفة ، وتتّجه صوب نهاية مرسومة بدقة وإحكام ، وكذلك تخضع
المفردات التشريعية في وجودها وحركتها وتفاعلها إلى مبدأ الحكمة الإلهية والغاية
الحكيمة التي تتجافى عن العبث واللغو والباطل ، قال تعالى : {أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ }
[المؤمنون: 115]، وقال تعالى : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا
بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27] وقال تعالى {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ
يُتْرَكَ سُدًى } [القيامة: 36].
ويمكن
صياغة صورة هذا البرهان على شكل قياس، يتركب من مقدمتين :
الاُولى :
إن الله حكيم. الثانية : الحكيم لا يفعل العبث ، إذن فالله تعالى لا يفعل العبث ،
ولو لم يكن للإنسان معاد لكان خلقه عبثاً ، ومقتضى الحكمة الالهية أن الله تعالى
لا يفعل العبث ، إذن فلابدّ للإنسان من معادٍ يوم القيامة تتجلّى فيه الحكمة
الالهية.
فلو كان
الإنسان ينعدم بالموت ، دون أن تكون هناك نشأة اُخرى يعيش فيها بما له من سعادة أو
شقاء ، لكان خلقه في هذا العالم عبثاً وباطلاً ، لأن الفعل لا يخرج عن العبثية
إلاّ إذا ترتّب عليه فائدة أو غاية عقلائية ، وترتب الفائدة أو الغاية موقوف على
وجود المعاد ، لأنّه إذا انعدم الإنسان بالموت ، فذلك يعني أنه ليس ثمّة غاية من
خلقه غير هذه الحياة المحدودة التي تعجّ بالمتضادات ، والمحفوفة بأنواع المصائب
والبلايا والفتن والفجائع ، ويعني أيضاً أن الله تعالى قد اقتصر في خلقه على
الإيجاد ثم الاعدام ، ثم الإيجاد ثم الاعدام ، وهكذا دون أي هدفٍ غائي في أفعاله
سبحانه ، وذلك ما لا نقبله على الإنسان العاقل ، فكيف نقبله على فعل الخالق ، جلّت
حكمته ، الذي لا يعتريه الباطل ولا يتجافى عن الحكمة ؟! تعالى الله عن ذلك عُلواً
كبيراً.
وعليه فلا
بد من وجود عالم آخر يتّضح فيه هدف الخلقة ، وذلك هو عالم البقاء الأبدي المعبّر
عنه بالحيوان ، قال تعالى : {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ
وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا
يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].
ومن هنا
أكدت الآيات القرآنية على أن وجود عالم الآخرة يقتضيه خلق العالم بحكمة ، قال تعالى
: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ
كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [الروم: 8].
وقال
تعالى : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ
* مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ *
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ } [الدخان: 38، 39, 40].
رابعاً :
برهان العدالة:
1 ـ وجود
التكليف يقتضي وجود المعاد:
من
المعلوم أن الله تعالى جعل الحياة الدنيا دار امتحان وابتلاء للإنسان ، ووهبه
النوازع الخيّرة إلى جنب النوازع الشريرة ، لتتمّ بذلك حقيقة الابتلاء ، وأعطاه
العقل الذي يميّز بين الخير والشر ، وبعث له الأنبياء والرسل ليحدّدوا له طريق
الخير وطريق الشرّ ، ثم كلّفه باتباع سبيل الخير والحق ، وتجنّب سبيل الشرّ
والباطل ، وأعطاه الإرادة والاختيار ليستحقّ الثواب أو العقاب ، قال تعالى :
{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ
عَمَلًا} [الملك: 2] ، وقال سبحانه : { وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ
وَالسَّيِّئَاتِ } [الأعراف: 168]، وقال تعالى : {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ
وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35].
وعليه فإن
واقع الحياة الدنيا بما يحمل من متناقضات الراحة والعناء ، والصحة والمرض ، والغنى
والفقر ، والإقبال على الأشرار والإدبار عن الأخيار ، هو امتحان وابتلاء ، وليس
فيه ما يصلح للمكافأة والجزاء ، وبما أن ضرورة التكليف تقتضي ضرورة المكافأة ، لذا
يجب المعاد ليجازى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ، وإلاّ لبطلت فائدة التكليف ،
ولكان عبثاً ولغواً.
وفي بيان
ذلك يقول الفاضل المقداد : لو لم يكن المعاد حقاً لقبح التكليف ، والتالي باطل ،
فالمقدم مثله ، ذلك أن التكليف مشّقة مستلزمة للتعويض عنها ، فإن المشّقة من غير
عوض ظلم ، وذلك العوض ليس بحاصل في زمان التكليف ، فلا بدّ حينئذٍ من دار اُخرى
يحصل فيها الجزاء على الأعمال ، وإلاّ لكان التكليف ظلماً ، وهو قبيح ، تعالى الله
عنه (6).
2 ـ العدل الإلهي يستلزم وجود اليوم الآخر:
يقول النصير الطوسي في إثبات وجوب المعاد : وجوب إيفاء
الوعد والحكمة يقتضي وجوب البعث. وذكر العلاّمة الحلي في شرحه : إن الله تعالى وعد
بالثواب ، وتوعّد بالعقاب مع مشاهدة الموت للمكلفين ، فوجب القول بعودهم ليحصل
الوفاء بوعده ووعيده (7).
إذ لا ريب
أن الناس لا يصلون إلى الثواب أو العقاب الملائم لأعمالهم في هذا الزمان المحدود ؛
فالمحسنون الذين قضوا أعمارهم في العبادة ونشر الفضائل والإصلاح في الأرض ،
وتحمّلوا الكوارث والمحن والأرزاء في هذا السبيل ، لا يمكن لأي سلطة في الأرض أن
تعطيهم مرادهم، وتوصلهم إلى ثوابهم ، والمجرمون الذين ارتكبوا الجرائم الفظيعة
بحقّ الإنسانية ، وتوفّروا على النعم والملذّات والحياة الرغيدة أكثر من غيرهم ،
قد لا يقعون في قبضة القانون ، وإذا وقعوا فإن عقابهم لا يتناسب مع الجرائم التي
ارتكبوها ، فقد يقتص منهم مرة واحدة ، وتبقى أكثر الجرائم التي ارتكبوها تمرّ بلا
عقاب ، وعليه فليس ثمّة قوة في هذه النشأة المحدودة تستطيع استرداد جميع الحقوق
المهضومة للناس.
وإذا كان
الإنسان ينعدم بالموت ، ويفد الظالمون والمظلومون والمصلحون والمفسدون إلى مقابر
الفناء دون محكمة عادلة تثيب المحسنين وتضع المجرمين في أشدّ العذاب ، فإن ذلك
خلاف العهد الإلهي الذي يقتضي التفريق بين الفريقين من حيث المصير والثواب والعقاب
، وبما أن ذلك غير متحقق في النشأة الاُولى ، فيجب أن يكون المعاد لتجسيد العدالة
الإلهية تجسيداً عملياً ، وتحقيق الوعد الرباني الصادق في الوفاء للأنبياء
والأولياء والشهداء والأبرار من عباد الله الصالحين والانتقام من الظالمين
والمفسدين.
وقد صرحت
الآيات الكريمة بهذا الدليل على مستويين :
الأول :
التأكيد على الفرق بين العاصي والمطيع في النشأة الاُخرى ، لتحقيق الثواب والعقاب
، والوعد والوعيد ، وذلك مقتضى العدل الإلهي.
قال تعالى
: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ
الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ
بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } [يونس: 4] ، وقال تعالى : {فَأَمَّا مَنْ طَغَى *
وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا
مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ
هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37 - 41].
والثاني :
التنديد بالتسوية بين الفريقين وإنكارها:
قال تعالى
: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18]
، وقال تعالى : {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:
28]، وقال تعالى : {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ
نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ
وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21]. وقال تعالى : {إِنَّ
لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * أَفَنَجْعَلُ
الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 34 - 36].
_________________
(1) كشف المراد / العلاّمة الحلي : 424 ـ
انتشارات شكوري ـ قم.
(2) اُنظر : سورة الروم :
30/19 ، وفاطر : 35/9 ، وفصلت : 41/39 ، والزخرف : 43/11 ، وق : 50/11.
(3) تفسير الميزان ـ مؤسسة
الأعلمي 16 : 203 ، وراجع 17 : 21.
(4) راجع سورة يونس : 10/4 و34 ، والنمل :
27/64 ، والروم : 30/11 ، ونوح 71/17ـ 18 ، والبروج : 85/13.
(5) اُنظر : الميزان / الطباطبائي
13 : 116.
(6) النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي
عشر / الفاضل المقداد : 86 ـ 87 ـ انتشارات زاهدي ، ونحوه عن العلاّمة الحلي في
مناهج اليقين في اُصول الدين : 337 ـ تحقيق محمد رضا الأنصاري.
(7) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد /
العلاّمة الحلي: 431.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
العتبة الحسينية تطلق فعاليات المخيم القرآني الثالث في جامعة البصرة
|
|
|