أقرأ أيضاً
التاريخ: 8-7-2022
1731
التاريخ: 20-8-2022
1540
التاريخ: 14-6-2022
7528
التاريخ: 10-6-2022
3073
|
السؤال : قرأت في الكثير من المواقع السنّية عن زواج الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام من ابنة أبي جهل جويرية ، ولكن رسول الله غضب من ذلك ، وأخبره بأنّ ابنة رسول الله لا تجتمع مع ابنة عدوّ الله.
فهل هذه الرواية صحيحة؟ أي أنّ الإمام علي عليه السلام قد خطب ابنة أبي جهل عدوّ الله ورسوله ، وأنّه تركها بعدما غضب النبيّ صلى الله عليه وآله ، أليس رسول الله قال : « فاطمة بضعة منّي من أغضبها فقد أغضبني ».
ومن يغضب رسول الله فقد أغضب الله تعالى ، والإمام علي إمام معصوم ، فهل هذه الرواية صحيحة؟ وإن كان الإمام علي عليه السلام قد خطبها فعلاً ثمّ تركها ، هل يعدّ ذلك من موارد إغضاب رسول الله صلى الله عليه وآله؟
أرجو إفادتي بالجواب سريعاً ، ولكم جزيل الشكر والتقدير.
الجواب : أشاعوا أنّ الإمام علي عليه السلام خطب ابنة أبي جهل ـ عدوّ الله ورسوله ـ ، وبلغ ذلك السيّدة فاطمة عليها السلام فغاضها ذلك ، حتّى خرجت مغاضبة من بيتها ومعها حسن وحسين وأُمّ كلثوم ، فدخلت حجرة النبيّ صلى الله عليه وآله ، فلمّا جاء النبيّ ورآها قالت له : « يزعم قومك أنّك لا تغضب لبناتك ، وهذا علي ناكح بنت أبي جهل » ، فخرج وصعد المنبر وخطب ، فقال : « إنّ فاطمة بضعة منّي ، يريبني ما رابها ، ويؤذيني ما آذاها ، وأنا أتخوّف أن تفتن في دينها ».
ثمّ ذكر صهراً له من بني عبد شمس ، فأثنى عليه في مصاهرته إيّاه ، وقال : « حدّثني فصدّقني ، ووعدني فوفى لي ، وإنّي لست أحرّم حلالاً ، ولا أحلّ حراماً ، ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدوّ الله أبداً ، وإنّ بني هشام بن المغيرة استأذنوني في أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب ، فلا آذن ، ثمّ لا آذن ، إلاّ أن يريد ابن أبي طالب أن يطلّق ابنتي ، وينكح أبنتهم ... » (1).
هذا هو ما افتراه قالة السوء ، و هذه الفرية لا تثبت سنداً ولا متناً ، ولو أردنا كشف حال جميع ما ورد في ذلك من أحاديث في مختلف المصادر لاحتجنا إلى تأليف خاصّ به ولسنا بصدده ، ويكفي أن أشير إلى مصدر واحد يعدّ من أقدم المصادر الحديثية ، وذلك هو كتاب المصنّف للصنعانيّ ـ المتوفّى 211هـ ـ فقد أورد الحديث أربع مرّات ، لم يخل واحد منها عن إعضال وإرسال ، مع وجود المجروحين في رجال الأسانيد.
والمهمّ معرفة حال الرواة الذين تنتهي إليهم أسانيد الحديث ، ثمّ بيان المؤاخذات على ما جاء في المتن.
أمّا رجال الإسناد من الصحابة فتنتهي إلى ثلاثة ، كلّهم من المنحرفين عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، وهم : أبو هريرة الدوسيّ ، وعبد الله بن الزبير ، والمسور بن مخرمة ، كما يروي عن ابن عباس.
أقول : أمر عظيم كهذا يغضب النبيّ صلى الله عليه وآله حتّى يصعد المنبر ، ويخطب الناس تتوفّر الدواعي على نقله ، ثمّ لا ينقله إلاّ هؤلاء الثلاثة من الصحابة ، لقرينة على وضع الحديث.
ويكفي كشف حال هؤلاء الثلاثة عن البحث في بقية من هم دونهم من التابعين ، وفيهم من لا تلتقي بذمّه الشفتان ، ولا يؤبه به في الميزان ، لما فيه من حسيكة ، أمثال الزهريّ ، وابن أبي مليكة لما سنذكره عنهما ، وعروة بن الزبير ، وعامر الشعبيّ ، وحالهم كمن سبق ، ويأتي ذكر محمّد بن الحنفية ، وعلي بن الحسين ، وسويد بن غفلة.
أمّا حال الصحابة الثلاثة فهم :
أوّلاً : أبو هريرة الدوسيّ : ذكر الإسكافي ـ كما في شرح نهج البلاغة ـ : « إنّ معاوية وضع قوماً من الصحابة ، وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي عليه السلام ، تقتضي الطعن فيه والبراءة منه ، وجعل لهم على ذلك جعلاً يرغب في مثله ، فاختلقوا ما أرضاه ، منهم أبو هريرة ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين عروة بن الزبير ....
وأمّا أبو هريرة فروى عنه الحديث ، الذي معناه : إنّ علياً عليه السلام خطب ابنة أبي جهل في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله فأسخطه ، فخطب على المنبر ، وقال : « لا والله ، لا تجتمع ابنة ولي الله وابنة عدوّ الله أبي جهل ، إنّ فاطمة بضعة منّي ، يؤذيني ما يؤذيها ، فإن كان علي يريد ابنة أبي جهل ، فليفارق ابنتي ، وليفعل ما يريد » ، أو كلاماً هذا معناه ، والحديث مشهور من رواية الكرابيسي.
قلت : هذا الحديث أيضاً مخرج في صحيحي مسلم والبخاريّ عن المسور بن مخرمة الزهريّ ، وقد ذكره المرتضى في كتابه المسمّى « تنزيه الأنبياء والأئمّة » ، وذكر أنّه رواية حسين الكرابيسيّ ، وأنّه مشهور بالانحراف عن أهل البيت عليهم السلام ... » (2).
أقول : ولنعد إلى أبي هريرة ، ولنقرأ عنه ما يثبت انحرافه عن الإمام علي عليه السلام ، مضافاً إلى كذبه الشائع الذائع على النبيّ صلى الله عليه وآله ، حتّى لقد ذكر ابن أبي الحديد وغيره ، ضرب عمر له بالدرّة ، وقال : « قد أكثرت من الرواية ، وأحر بك أن تكون كاذباً على رسول الله صلى الله عليه وآله » (3).
أو قول عمر له : « لتتركن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، أو لألحقنّك بأرض دوس » (4).
وأكذبه غير واحد من الصحابة ، فقال فيه الإمام عليه السلام : « ألا إنّ أكذب الناس ـ أو قال أكذب الأحياء ـ على رسول الله صلى الله عليه وآله أبو هريرة الدوسي » ، كما عن الإسكافي في شرح النهج (5).
فحديث أبي هريرة ـ إن صحّ عنه ـ كبقية أحاديثه التي رواها ، ولم يكن حاضراً فيها زمان صدورها ، وقد مرّت الإشارة إلى نماذج من ذلك ، كحديث تبليغ براءة ، وحديث الثقلين , وحديث الغدير ، وغيرها ممّا زعم سماعها ، وهو لم يكن وقتها حاضراً ، بل كان بالبحرين.
ثمّ إنّ الرجل لو لم يكن إلاّ اعتزاله للإمام عليه السلام أيّام خلافته ، وضلوعه في ركاب معاوية لإشباع نهمته لكفى ذلك في ردّ روايته ، فقد روى الأعمش : لمّا قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة ، جاء إلى مسجد الكوفة ، فلمّا رأى كثرة من استقبله من الناس جثاً على ركبتيه ، ثمّ ضرب صلعته مراراً وقال : يا أهل العراق أتزعمون أنّي أكذب على الله ورسوله ، وأحرق نفسي بالنار؟ والله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : « إنّ لكلّ نبيّ حرماً ، وإنّ حرمي بالمدينة ما بين عير إلى ثور » ـ وهذا من بيّنات كذبه ، فعير وثور اسم جبلين ، أحدهما بالمدينة وهو عير ، وثانيهما بمكّة وهو ثور ، فكيف يحدّد ما بينهما ويجعله حرماً للمدينة؟! وإنّما الصحيح : ما بين عير إلى وعير ، وهما لابتا المدينة جبلان من جانبيها ـ « فمن أحدث فيها حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، وأشهد بالله أنّ علياً أحدث فيها » ، فلمّا بلغ معاوية قوله ، أجازه وأكرمه ، وولاّه إمارة المدينة (6).
قال الثقفيّ في كتابه الغارات : « لمّا دخل معاوية الكوفة دخل أبو هريرة المسجد ، فكان يحدّث ويقول : قال رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقال أبو القاسم ، وقال خليلي! فجاءه شاب من الأنصار يتخطّى الناس حتّى دنا منه فقال : يا أبا هريرة حديث أسألك عنه ، فإن كنت سمعته من النبيّ صلى الله عليه وآله فحدّثنيه ، أنشدك بالله سمعت النبيّ صلى الله عليه وآله يقول لعلي : « من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه »؟ قال أبو هريرة : نعم ، والذي لا إله إلاّ هو لسمعته من النبيّ.
أقول : لقد كذب حتّى في حلفه هذا ، لأنّ الحديث هو حديث الغدير ، وكان في حجّة الوداع ، ولم يكن أبو هريرة حاضراً ، إذ كان بالبحرين منذ شهر ذي القعدة سنة 8 من الهجرة ، وحتّى سنة عشرين حين استقدمه عمر في خلافته للشهادة على قدامة بن مظعون لشربه الخمر ، فكلّ ما يرويه من أحاديث نبوية وأحداث حجازية ، ممّا زعم فيه عنصر المشاهدة والسماع في تلك المدّة فهو كاذب ، وإن أقسم ألف يمين.
فقال له الفتى : لقد والله واليت عدوّه ، وعاديت وليّه ، فتناول بعض الناس الشاب بالحصى ، وخرج أبو هريرة فلم يعد إلى المسجد حتّى خرج من الكوفة » (7).
أقول : روى ذلك أيضاً ابن أبي شيبة في مصنّفه (8) ، وأبو يعلى في مسنده (9) ، وابن عساكر في تاريخه (10) ، إلاّ أنّه لم يذكر الزمان والمكان ، ممّا أسدل غشاء الإيهام على حديثه ، وكذلك رواه ابن كثير في البداية والنهاية (11) ، وصنع كما صنع ابن عساكر من إهمال ذكر المكان والزمان ، نقلاً عن الحافظ أبي يعلى الموصلي ، وعن ابن جرير في الكتاب الذي جمع فيه طرق حديث الغدير وألفاظه.
وأظنّ إنّما فعلا ذلك رعاية لصحبة أبي هريرة ، ولا غضاضة فابن عساكر شاميّ شافعيّ ، وكذلك ابن كثير ، ولو كانا كوفيين حنفيين لاستثنياه من جماعة الصحابة المعدلين ، كما صنع أبو حنيفة ، فقد استثناه واستثنى أَنساً وآخرين من عدالة الصحابة (12).
فهذا أبو هريرة كيف يصدّق في حديثه عن خطبة الإمام لابنة أبي جهل؟ وهو يوالي عدوّه ، ويعادي وليّه على حدّ قول الشاب الأنصاري.
ثانياً : عبد الله بن الزبير : وعداوته للإمام أظهر من أن تحتاج إلى بيان ، بل بلغ في نصبه الغاية ، حتّى أنّه ترك الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وآله أيّام قيامه بمكّة ، فعيب عليه ذلك ، وأنكر فعله المسلمون ، فقال : إنّ له أهيل سوء ، إذا ذكرته اشرأبّت أعناقهم.
قال ابن أبي الحديد : « روى عمر بن شبة وابن الكلبي والواقدي وغيرهم من رواة السير : أنّه مكث أيّام ادعائه الخلافة أربعين جمعة ، لا يصلّي فيها على النبيّ صلى الله عليه وآله ، وقال : لا يمنعني من ذكره إلاّ تشمّخ رجال بآنافها.
وفي رواية محمّد بن حبيب ، وأبي عبيدة معمّر بن المثنى : أنّ له أهيل سوء ينغضون رؤوسهم عند ذكره » (13).
ولئن قيل عن المسور : إنّه كان مع خاله عبد الرحمن بن عوف مقبلاً ومدبراً في أمر الشورى كما سيأتي ، فإنّا نقول عن ابن الزبير : لقد كان مقبلاً ومدبراً في حرب الجمل مع خالته عائشة ، وكان هو الذي زيّن لها مسيرها إلى البصرة.
وهو الذي أتى إليها بأربعين شاهد زور شهدوا حين نبحتها كلاب الحوأب ، وأرادت الرجوع لتحذير النبيّ صلى الله عليه وآله لها من ذلك ، لكن ابن الزبير جاءها بالشهود ، فشهدوا أنّ ذلك المكان ليس هو الحوأب ، فكانت أوّل شهادة زور في الإسلام.
وهو الذي عيّر أباه بالجبن حين عزم على الرجوع عن محاربة الإمام بعد تذكير الإمام له بقول النبيّ صلى الله عليه وآله : « أمّا إنّك ستقاتله وأنت له ظالم » (14). فرجع فتلقّاه ابنه عبد الله ، فعيّره مستثيراً له على حرب الإمام.
ويكفينا قول الإمام فيه : « ما زال الزبير منّا حتّى نشأ بنوه ، فصرفوه عنّا » (15) ، وفي رواية ابن أبي الحديد : « حتّى نشأ ابنه عبد الله ، فأفسده » (16).
أليس هو الذي كان يحقد على الإمام لقتله عمّ أبيه نوفل بن خويلد ، الذي كان يقال له أسد قريش وأسد المطيّبين؟ وقتل الإمام له هو قول عامّة الرواة ، كما يقول ابن حزم (17).
أليس هو الذي حبس ابن عباس وابن الحنفية ومن معهما من أهلهما في سجن عارم ، وأمّلهم إلى الجمعة إن لم يبايعوا ، وجعل الحطب على بابه ، ففاجأه أبو عبد الله الجدليّ الذي أرسله المختار في جماعة ، فدخلوا المسجد الحرام مكبّرين وعليهم السلاح ، فخرج ابن الزبير طالباً لنفسه النجاة ، وذهب الجدليّ ومن معه فأخرجوا بني هاشم من سجن عارم (18).
وهو القائل لابن عباس وكان يبلّغه تأنيبه وذمّه : « والله إنّي لأكتم بغضكم أهل هذا البيت منذ أربعين سنة » (19).
قال ابن أبي الحديد : « وكان سبّاباً فاحشاً ، يبغض بني هاشم ، ويلعن ويسبّ علي بن أبي طالب عليه السلام » (20).
فمن كان هذا حاله ومقاله وفعاله ، كيف يصدَّق في حديثه لخطبة علي لابنة أبي جهل؟ فيما أخرجه عنه الترمذيّ في سننه ، قال : حدّثنا أحمد بن منيع ، أخبرنا إسماعيل بن علية ، عن أيوب عن ابن أبي مليكة ، عن عبد الله بن الزبير : أنّ علياً ذكر بنت أبي جهل ، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وآله فقال : « إنّما فاطمة بضعة منّي ، يؤذيني ما آذاها ، وينصبني ما أنصبها ».
ثمّ قال الترمذيّ : « هذا حديث حسن صحيح ، هكذا قال أيوب عن ابن أبي مليكة عن ابن الزبير ، وقال غير واحد عن ابن أبي مليكة عن المسور بن مخرمة ، ويحتمل أن يكون ابن أبي مليكة روى عنهما جميعاً » (21).
وأخرج هذا الحديث الحاكم في المستدرك فقال : « حدّثنا بكر بن محمّد الصيرفيّ ، حدّثنا موسى بن سهل بن كثير ، حدّثنا إسماعيل بن علية ... » ، ثمّ ساق السند والحديث كما مرّ عن الترمذيّ وقال : « هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه » (22).
والذي يلفت النظر في المقام : إنّ الذهبيّ أهمل هذا الحديث في تلخيصه المطبوع بذيل المستدرك ، وظنّي أنّ إهماله كان عن عمد لا عن سهو.
ومهما يكن فسند الحديث غير نقيّ ، ويكفي روايته عن ابن أبي مليكة ، وهو مؤذّن ابن الزبير وقاضيه ، وقد مرّ بنا حال ابن الزبير وعداوته لأهل البيت ، ويبدو لي أنّ ابن الزبير كان بارعاً ـ إن صحّ الحديث عنه ـ فلم يذكر له ما يحاقق عليه من زعم حضور أو سماع ، مع أنّ سنّه عند وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله كانت تسع سنين ، فكان أكبر من المسور بسنة ، الذي زعم أنّه سمع النبيّ صلى الله عليه وآله يخطب وهو يومئذ محتلم ، مع أنّ عمره كان يومئذ ثمان سنين!!
والآن فلنطوي صفحة ابن الزبير ، ولنقرأ المسور فيما قاله عنه مترجموه ، ثمّ ننظر في حديثه.
ثالثاً : المسور بن مخرمة بن نوفل الزهريّ : أمّا أبوه فكان من مسلمة الفتح ، ومن المؤلّفة قلوبهم ، فقد ذكر ابن هاشم في سيرته نقلاً عن ابن إسحاق أسماء من أعطاهم النبيّ صلى الله عليه وآله مائة من الإبل ، وعد منهم أبا سفيان وابنه معاوية وآخرين ، ثمّ قال : وأعطى دون المائة رجالاً من قريش ، منهم مخرمة بن نوفل الزهريّ ، وسمّى آخرين (23).
وأبوه الذي قال عنه صلى الله عليه وآله ـ فيما روته عائشة ـ : « بئس أخو العشيرة » وذلك حين استأذن ، فلمّا دخل أدناه وبشّ به حتّى خرج ، فلمّا خرج قالت عائشة : يا رسول الله ، قلت له وهو على الباب ما قلت ، فلمّا دخل بششت به حتّى خرج؟ قال : « أعهدتني فحّاشا؟ إنّ شرّ الناس من يُتّقى شرّه » (24).
وأمّا أُمّه فهي عاتكة بنت عوف أخت عبد الرحمن بن عوف.
وأمّا عن مولده ، فقالوا بعد الهجرة بسنتين بمكّة ، وقدم المدينة مع أبيه بعد الفتح سنة ثمان ، وهو غلام أيفع ابن ست سنين ، وعدّه ابن الأثير وابن عبد البرّ وابن حجر في كتبهم من الصحابة ، إلاّ أنّ ابن قتيبة قال في المعارف : « وكان يعدل بالصحابة وليس منهم » (25).
وأمّا عن سلوكيته فقالوا : « لم يزل مع خاله عبد الرحمن بن عوف مقبلاً ومدبراً في أمر الشورى ، وكان مع عثمان في الدار إلى أن قتل ، فانحدر إلى مكّة ، ولم يزل بها موالياً لمعاوية حتّى قال عروة بن الزبير : فلم أسمع المسور ذكر معاوية إلاّ صلّى عليه » (26).
وأمّا عن فضله ، فقال القرطبي وغيره : « وكان المسور لفضله ودينه وحسن رأيه تغشاه الخوارج ، تعظّمه وتنتحل رأيه ، وقد برّأه الله منهم »! (27).
وأمّا عن موته فقالوا : كان مع ابن الزبير ، فلمّا حاصر الحصين بن نمير مكّة ، ورمى الكعبة بالمنجنيق أصابه حجر فشجّه ، ثمّ مات بعد خمسة أيّام.
هذه هوية الرجل نسباً وحسباً وديناً وسلوكاً. وكان مع خاله عبد الرحمن ابن عوف في أمر الشورى ، وموقف ابن عوف فيها معلوم ، حتّى عناه الإمام بقوله في خطبته الشقشقية : « ومال الآخر لصهره ... ».
لأنّ أُمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط كانت تحته ، وأُمّ كلثوم هذه هي أُخت عثمان من أُمّه (28).
وقال الإمام علي عليه السلام لعبد الرحمن : « والله ما ولّيت عثمان إلاّ ليرد الأمر إليك » (29).
وممّا يزيدنا وضوحاً في عثمانيّته أنّه لم يبايع الإمام بعد مقتل عثمان ، وخرج من المدينة إلى مكّة ، ثمّ هو الذي كان يصلّي على معاوية إذا ذكره ، كما مرّ ذلك عن عروة بن الزبير.
وأخيراً : دخل مع ابن الزبير في أمره ، وانتحل الخوارج رأيه حيث استقطبوه ، وإن قال القرطبي وابن حجر وغيرهما : « وقد برّأه الله منهم » ، ولسنا بحاجة إلى مناقشتهم في ذلك ، فمن أين علموا بتلك البراءة ، والله لم يوح إلى أحد بعد نبيّه؟ فلا تزال دعواهم تحتاج إلى إثبات ، على أن مصعب الزبيري ـ صاحب كتاب نسب قريش ـ ذكر ذلك ، ولم يزعم ما قالوه في براءته ، وهو أقدم منهما زماناً ، وأعرف بحال المسور.
ولننظر إلى حديث المسور في الفرية المزعومة ، وهو حديث أخرجه عنه البخاريّ ومسلم والترمذيّ وأحمد وغيرهم ، ولن نستقصي جميع المصادر ، بل سنكتفي بما أخرجه البخاريّ في صحيحه ، وقد نشير إلى ما ورد عند غيره ؛ وذلك لأنّ صحيحه عند المغالين به أصحّ كتاب بعد كتاب الله فيما يزعمون! ولأنّه ذكر حديث المسور في خمسة أبواب مقطّعاً أوصاله عن عمد ، حتّى يخيل للناظر أنّه ذكر خمسة أحاديث مختلفة الألفاظ ، ولكن الباحث الناقد يدرك أن اختلاف الصورة لا يغيّر الحقيقة.
وهذا ما أربك كثيراً من شرّاح الصحيح ، فحاولوا جهدهم توجيه ما فيها من تناقض وتهافت ، ولم يوفّقوا في سعيهم الحثيث ، في دفع ما يرد على الحديث ، بل شوّشوا أذهان قرّائهم ، ولم يجنوا غير مضيعة الوقت في عرض آرائهم تبعاً لأهوائهم.
ولو أنّهم صنعوا صنع ابن قتيبة لجنّبوا أنفسهم كثيراً من النقد والردّ ، فابن قتيبة في معارفه كان أوعى منهم ، حين قال عن المسور : « وكان يعدل بالصحابة وليس منهم » ، ثمّ قال : « وقد روى قوم عنه أنّه سمع النبيّ صلى الله عليه وآله يقول : لو أنّ بني هشام بن المغيرة استأذنوني في أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب فلا آذن ، ثمّ لا آذن ».
فهو حين ينفي صحابية المسور ، ينفي عنه عاصمية الصحابة ، سواء قرئت جملة وكان يعدل بالتخفيف أو التشديد ، ثمّ يمرّض القول في زعم روايته عن النبيّ صلى الله عليه وآله أنّه سمعه يقول : وهو يدلّنا على عدم قناعته بصحبة المسور ، كما كشف عن قيمة روايته عنده ، وما اقتضابه لحديثه إلاّ مؤشّر على ذلك.
ثمّ ما يعنيه بقوله : لو أنّ بني هشام ... ، فهل يدلّ على حدوث الخطبة أو إرادتها؟ وهذا ما سنقرأ الجواب عنه في الكلام على حديث المسور عند البخاريّ في صوره الآتية :
1 ـ حدّثنا سعيد بن محمّد الجرمي ، حدّثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدّثنا أبي : أنّ الوليد بن كثير حدّثه عن محمّد بن عمرو بن طلحة الذي حدّثه ، أنّ ابن شهاب حدّثه ، أنّ علي بن الحسين حدّثه ، أنّهم حين قدموا المدينة من عند يزيد ابن معاوية ، بعد مقتل حسين بن علي رحمة الله عليه ، لقيه المسور بن مخرم ، فقال له : هل لك إلي من حاجة تأمرني بها؟ فقلت له : « لا ».
فقال : فهل أنت معطي سيف رسول الله صلى الله عليه وآله ، فإنّي أخاف أن يغلبك القوم عليه ، وأيم الله لئن اعطيتنيه لا يخلص إليه أبداً حتّى تبلغ نفسي ، إنّ علي بن أبي طالب خطب ابنة أبي جهل على فاطمة عليها السلام ، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يخطب الناس في ذلك على منبره هذا ، وأنا يومئذ محتلم.
فقال : « إنّ فاطمة بضعة منّي ، وأنا أتخوّف أن تفتن في دينها » ، ثمّ ذكر صهراً له من بني عبد شمس ، فأثنى عليه مصاهرته إيّاه ، قال : « حدّثني فصدّقني ، ووعدني فوفى لي ، وإنّي لست أحرّم حلالاً ، ولا أحلّ حراماً ، ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وبنت عدوّ الله أبداً » (30).
2 ـ حدّثنا أبو الوليد ، حدّثنا ابن عينية ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن أبي مليكة ، عن المسور بن مخرمة : أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال : « فاطمة بضعة منّي ، فمن أغضبها أغضبني » (31).
3 ـ حدّثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب عن الزهريّ قال : حدّثني علي بن حسين : أنّ المسور بن مخرمة قال : إنّ علياً خطب بنت أبي جهل ، فسمعت بذلك فاطمة ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وآله فقالت : « يزعم قومك أنّك لا تغضب لبناتك ، وهذا علي ناكح بنت أبي جهل » ، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله فسمعته حين تشهّد يقول : « أمّا بعد ، فإنّي أنكحت أبا العاص بن الربيع فحدّثني وصدّقني ، وإنّ فاطمة بضعة منّي ، وإنّي أكره أن يسوءها ، والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدوّ الله عند رجل واحد » ، فترك علي الخطبة.
وزاد محمّد بن عمرو بن طلحة ، عن ابن شهاب ، عن علي عن مسور : سمعت النبيّ صلى الله عليه وآله وذكر صهراً له من بني عبد شمس ، فأثنى عليه في مصاهرته إيّاه فأحسن ، قال : « حدّثني فصدّقني ، ووعدني فوفى لي » (32).
4 ـ حدّثنا قتيبة ، حدّثنا الليث عن أبي مليكة عن المسور بن مخرمة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول وهو على المنبر : « إنّ بني هشام بن المغيرة استأذنوا في أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب فلا آذن ، ثمّ لا آذن ، ثمّ لا آذن ، إلاّ أن يريد ابن أبي طالب أن يطلّق ابنتي وينكح ابنتهم ، فإنّما هي بضعة منّي ، يريبني ما رابها ، ويؤذيني ما آذاها » (33).
5 ـ حدّثنا أبو الوليد ، حدّثنا الليث عن ابن أبي مليكة عن المسور بن مخرمة الزهريّ ، قال : سمعت النبيّ صلى الله عليه وآله يقول : « إنّ بني المغيرة استأذنوا في أن ينكح علي ابنتهم ، فلا آذن » (34).
والآن وقد انتهينا من كشف هوية الثلاثة : أبي هريرة ، وابن الزبير ، والمسور ابن مخرمة ، نختتم أوّلاً : الحديث عنهم بقوله صلى الله عليه وآله : « والذي نفسي بيده لا يبغضنا رجل إلاّ أدخله الله النار » (35).
وثانياً : نعود إلى مناقشة متن الحديث ، ننبّه القارئ بحال بعض أعلام الرواة في السند ، كابن عيّينة ـ الذي رمي بالاختلاط ، كما ذكره الحافظ سبط ابن العجمي في رسالته الاعتباط بمن رمي بالاختلاط ـ وكالزهريّ ، الذي كان من المنحرفين عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، وكان يعمل لبني أُمية ، وقد تجنّب حديثه غير واحد لذلك ، حتّى إنّ ابن عساكر أخرج في تاريخه بسنده عن جعفر ابن إبراهيم الجعفريّ قال : كنت عند الزهريّ أسمع منه ، فإذا عجوز قد وقفت عليه فقالت : يا جعفري لا تكتب عنه ، فإنّه مال إلى بني أُمية وأخذ جوائزهم.
فقلت : مَن هذه؟ قال : أختي رقية خرفت ، قالت : خرفت أنت ، كتمت فضائل آل محمّد ، وقد حدّثني محمّد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله بيد علي فقال : « من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ».
قالت : وحدّثني محمّد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : « أوثق عرى الإيمان الحبّ في الله ، والبغض في الله » (36).
وبلغ إنكار الصالحين عليه أن كتب إليه بعضهم كتاباً فيه تقريع وتوبيخ ، جاء فيه : « واعلم أنّ أيسر ما ارتكبت ، وأخف ما احتملت ، أنّك آنست وحشة الظالم ، وسهّلت سبيل الغيّ بدنوّك إلى من لم يؤدّ حقّاً ، ولم يترك باطلاً حين أدناك ، اتخذوك أبا بكر قطباً تدور عليه رحى ظلمهم ، وجسراً يعبرون عليه إلى بلائهم ومعاصيهم ، وسلّماً يصعدون فيه إلى ضلالتهم ، يدخلون بك الشكّ على العلماء ، ويقتادون بك قلوب الجهلاء ... فداو دينك فقد دخله سقم ، وهيء زادك فقد حضر سفر بعيد » (37).
فمن الغريب العجيب أن يروي الزهريّ هذا الحديث عن علي بن الحسين ، ثمّ يزعم أنّه حدّثه عن المسور بذلك ، كما مرّ في الصورة الأُولى عن البخاريّ.
وإذا عرفنا أنّ علي بن الحسين الذي ذكره بصيغة التنكير هو الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام ، الذي روى أبو هلال العسكريّ في كتابه بسنده قال : بلغ علي بن الحسين عليه السلام أنّ عروة بن الزبير وابن شهاب الزهريّ يتناولان علياً ويعبثان به ، فأرسل إلى عروة فقال : « أمّا أنت فقد كان ينبغي أن يكون نكوص أبيك يوم الجمل ، وفراره ما يحجزك عن ذكر أمير المؤمنين ، والله لئن كان علي على باطل لقد رجع أبوك عنه ، ولئن كان على حقّ لقد فرّ أبوك منه ».
وأرسل إلى ابن شهاب فقال : « وأمّا أنت يا بن شهاب فما أراك تدعني حتّى أعرّفك موضع كِير أبيك ».
فمن كان هذا حاله مع الإمام أمير المؤمنين عليه السلام كيف يصدّق في زعمه أنّ علي بن الحسين حدّثه عن المسور؟ وهو الذي قرعه ووبّخه ، لا بل حتّى عيّره بماضي أبيه الوضيع!!
ثمّ ما بال علي بن الحسين يحدّث الزهريّ ، وهو يعرف عداوته لجدّه بحديث ـ إن صحّ ـ فهو انتقاص لجدّه؟
وما بال الزهريّ وهو الذي روى عن عدّة من الصحابة ، منهم أنس ، وسهل بن سعد ، وحتّى عن ابن عمر الذي ذكروا في ترجمته أنّه روى عنه ثلاثة أحاديث ، ما باله يروي هذا الحديث عن علي بن الحسين ـ كما يسمّيه ـ وهو من التابعين ، ولا يرويه عن المسور الصحابيّ الذي هو يرويه ، وهو قد أدركه ، وكان أشدّ لصوقاً به من علي بن الحسين نسباً وسبباً فكلاهما زهري ، ولأنّ أباه والمسور كانا معاً من أصحاب ابن الزبير ، وإلى ذلك أشار عبد الملك بن مروان حين اتّصل به الزهريّ فاستنسبه فنسب نفسه ، فقال عن أبيه : « إن كان أبوك لنعاراً في الفتن » (38).
ولقد كان عمر الزهريّ عند وفاة المسور فوق عمر المسور حين سمع الحديث المزعوم ، فقد مرّ أنّه قال كاذباً : سمع الحديث وهو يومئذ محتلم! والصحيح أنّه كان ابن ثمان سنين ، بينما كان عمر الزهريّ عند وفاة المسور ثلاث عشرة سنة.
وهكذا سؤال بعد سؤال يوضّح ما في الإسناد من خلل ، مضافاً إلى ما في المتن من علل ، ويبقى بلا جواب.
ولنترك حال الرجال وما فيهم من مقال وإشكال ، ولنعد إلى متن الحديث لنتبيّن فيه مواطن العلل ، ولنقرأه ثانياً حسب وروده في كتاب البخاريّ ـ الذي هو أصحّ كتاب بعد كتاب الله عند المغالين فيه ـ ولا نحاسبه على تقطيع أوصاله إلى خمسة أحاديث ـ ولا على حشر بعضها تحت عناوين لا تمت إليها بصلة ، ولا ... ولا ، فنحن والحديث الأوّل عنده ، فنقرأ فيه :
أوّلاً : قول المسور لعلي بن الحسين ـ كما في الحديث : هل لك إليّ من حاجة تأمرني بها؟ فقال : « لا ».
فهل لنا أن نسأل المسور : أيّ حاجة تلك التي يمكن له أن يقضيها غير ما يتعلّق بالسلطة الأمويّة ، والتي كان بعد لا يزال ظالعاً معها ، لأنّ زمن السؤال قد حدّده علي بن الحسين حين قدموا المدينة من عند يزيد بن معاوية ، بعد مقتل الحسين بن علي عليهما السلام ، لقيه المسور بن مخرمة فقال له : هل لك ....
ونحن إذا نظرنا إلى طبيعة الحال في ذلك الوقت نجد أنّ مقام الإمام زين العابدين أسمى وأرفع ممّا كان عليه المسور ، فإنّ ما أظهره يزيد من التنصل من تلك الجريمة التي لا تغتفر حتّى لعن ابن زياد ، وقال : لعن الله ابن مرجانة ... فأبغضني البرّ والفاجر بما استعظموه من قتلي الحسين ، ما لي ولابن مرجانة لعنه الله وغضب عليه ....
ودعا علياً ليودّعه وقال له : لعن الله ابن مرجانة ، أما والله لو أنّي صاحبه ما سألني خصلة أبداً إلاّ أعطيته إيّاها ، ولدفعت الحتف عنه بكلّ ما استطعت ، ولو بهلاك بعض ولدي ، ولكن قضى الله ما رأيت ، يا بني كاتبني حاجة تكون لك (39).
وذكر ابن الأثير أيضاً : إنّ يزيد بن معاوية لمّا وجه مسلم بن عقبة المري ـ وهو الذي سمّي مسرفاً ـ إلى المدينة المنوّرة لمقاتلة أهلها حين خلعوا بيعته ، قال له : فإذا ظهرت عليهم فأنهبها ثلاثاً ، فكلّ ما فيها من مال أو دابة أو سلاح أو طعام فهو للجند ، فإذا مضت الثلاث فأكفف عن الناس ، وانظر علي بن الحسين فاكفف عنه ، واستوص به خيراً ، فإنّه لم يدخل مع الناس ، وإنّه قد أتاني كتابه.
وقد كان مروان بن الحكم كلّم ابن عمر لمّا أخرج أهل المدينة عامل يزيد وبني أُمية في أن يغيّب أهله عنده فلم يفعل ، فكلّم علي بن الحسين ، فقال : إنّ لي حرماً وحرمي يكون مع حرمك ، فقال : « أفعل » ، فبعث بامرأته وهي عائشة ابنة عثمان بن عفّان ، وحرمه إلى علي بن الحسين ، فخرج علي بحرمه وحرم مروان إلى ينبع ، وقيل : بل أرسل حُرم مروان ، وأرسل معهم ابنه عبد الله بن علي إلى الطائف (40).
وجاء في إرشاد المفيد : « إنّ مسرف بن عقبة لمّا قدم المدينة أرسل إلى علي بن الحسين عليهما السلام فأتاه ، فلمّا صار إليه قرّبه وأكرّمه وقال له : وصّاني أمير المؤمنين ببرّك وتمييزك من غيرك ... » (41).
فممّا تقدّم تبيّن : أنّ الإمام علي بن الحسين عليهما السلام كان أرفع مكانة وأجلّ قدراً وأقوى موقعاً لدى الحاكمين من المسور بن مخرمة ، الذي رفسه مروان برجله كما مرّ ، وجلدوه الحدّ كما تقدّم ، فهو أذلّ من أن يتمكّن من قضاء حاجة لأحد عند الأمويّين.
وثانياً : لنقرأ قول المسور لعلي بن الحسين : فهل أنت معطي سيف رسول الله صلى الله عليه وآله ، فإنّي أخاف أن يغلبك القوم عليه ، ونحن لا نناقشه في أمر السيف وكيفية وصوله إلى علي بن الحسين ، وهو من مواريث النبوّة ... وهذا عنده ، وقوله ينافي القول بعدم ميراث الأنبياء ، ولكن هل لنا أن نسأل المسور : من هم القوم الذين يخشى أن يغلبوا علي بن الحسين على سيف جدّه غير بني أُمية؟ وإذا كانوا هم ، فهل كان ذلك قبل واقعة الحرّة أو بعدها؟
فإن كان قبلها ، فالإمام علي بن الحسين كان أعزّ منه منعة ، وهم كانوا أذلّ وأضعف جنداً ، خصوصاً بعد أن أخرج الأمويّون واتباعهم من المدينة ، حتّى أنّ مروان استودع الإمام عياله كما مرّ.
وإن كان بعدها فالإمام هو الوحيد الذي لم يتعرّض له بسوء ، بوصية من يزيد ، وقد مرّ ذلك أيضاً ، فأيّ حال تلك التي كان المسور يخشاها على الإمام أن يغلب فيها على سيف جدّه؟
ولو لم يكن ثمّة تحديد زمني في الحديث ، حيث ورد أنّ المسور لقي علي بن الحسين عليهما السلام حين قدموا المدينة من عند يزيد بن معاوية بعد مقتل الحسين بن علي.
أقول : لو لم يكن ذلك التحديد لاحتملنا أنّ المسور قال ذلك بعد أن بلغه طلب عبد الملك بن مروان من الإمام علي بن الحسين ذلك السيف يستوهبه منه ويسأله الحاجة ، فأبى عليه ، فكتب إليه عبد الملك يهدّده وأنّه يقطع رزقه من بيت المال ، فأجابه عليه السلام : « أمّا بعد ، فإنّ الله ضمن للمتّقين المخرج من حيث يكرهون ، والرزق من حيث لا يحتسبون ، وقال جلّ ذكره : {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38] فانظر أيّنا أولى بهذه الآية » (42).
وفي جواب الإمام علي بن الحسين عليهما السلام هذا ما يقطع جهيزة كلّ متنطّع لتصويب عرض المسور بن مخرمة ، فهو لم يخش عبد الملك بن مروان ولا سلطته ، وهو هو في عتوّه وجبروته.
وثالثاً : لنرى ثالثة الأثافي ، وتلك هي فرية المسور في قوله : إنّ علي بن أبي طالب خطب ابنة أبي جهل على فاطمة عليها السلام ، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يخطب الناس في ذلك على منبره ، هذا وأنا يومئذ محتلم فقال : « إنّ فاطمة منّي ... ».
هنا مسائل : ما هو الربط في هذه الرواية بين قصّة طلبه السيف وبين قصّة الخطبة المزعومة؟
والجواب هو ما أربك شرّاح صحيح البخاريّ فصالوا وجالوا , ليوافقوا بين القصّتين فلم يوفّقوا.
وللطرافة ننقل للقارئ بعض ما ذكره ابن حجر في فتح الباري حيث قال : « وقال الكرماني : مناسبة ذكر المسور لقصّة خطبة بنت أبي جهل عند طلبه للسيف من جهة ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان يحترز عمّا يوجب التكدير بين الأقرباء ، أي فكذلك ينبغي أن تعطيني السيف حتّى لا يحصل بينك وبين أقربائك كدورة بسببه ، أو كما أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان يراعي جانب بني عمّه العباسيّين ، فأنت أيضاً راع جانب بني عمّك النوفليين ، لأنّ المسور نوفلي كذا قال ، والمسور زهري لا نوفلي.
قال : أو كما أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان يحبّ رفاهية خاطر فاطمة عليها السلام ، فأنا أيضاً أحبّ رفاهية خاطرك لكونك ابن ابنها ، فأعطني السيف حتّى أحفظه لك.
قلت ـ والقائل هو ابن حجر ـ : وهذا الأخير هو المعتمد ، وما قبله ظاهر التكلّف ، وسأذكر إشكالاً يتعلّق بذلك في كتاب المناقب إن شاء الله تعالى » (43).
أقول : وما ذكره في كتاب المناقب ليس إلاّ تعليقة على الحديث الثاني في شرح قوله صلى الله عليه وآله : « فاطمة بضعة منّي ، فمن أغضبها أغضبني » فقال : وهو طرف من قصّة خطبة علي ابنة أبي جهل ، وسيأتي مطوّلاً في ترجمة أبي العاص بن الربيع قريباً (44) ، وهذا ليس فيه أيّ إشكال.
وأمّا ما ذكره في كتاب المناقب أيضاً في ترجمة أبي العاص بن الربيع ، وهو الحديث الثالث كما مرّ ، فقد قال : « وإنّما خطب النبيّ صلى الله عليه وآله ليشيع الحكم المذكور بين الناس ويأخذوا به ، إمّا على سبيل الإيجاب ، وإمّا على سبيل الأولوية ، وغفل الشريف المرتضى عن هذه النكتة ، فزعم أنّ هذا الحديث موضوع ، لأنّه من رواية المسور ، وكان فيه انحراف عن علي ، وجاء من رواية ابن الزبير وهو أشدّ من ذلك ، وردّ كلامه بإطباق أصحاب الصحيح على تخريجه »! (45).
ألا على العقول العفا إن كان هذا الردّ الباهت يصلح لردّ قول الشريف المرتضى ( قدس سره ) ، وكم في تلكم الكتب من أخبار موضوعة ، وقد نقدوها سنداً ودلالة ، وابن حجر نفسه في مقدّمة شرحه التي سمّاها هدى الساري ذكر شواهد كثيرة لا يسع المقام ذكرها ، فلتراجع.
ثمّ كان ما أورده أصحاب الصحيح أنزل من اللوح المحفوظ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ولو انصف ابن حجر نفسه قبل إنصافه الشريف المرتضى ، فلم يذكر ردّه الذي هو غاية ما عنده لكان به أولى وعليه أبقى.
ثمّ إنّه أطال الكلام في الاختلاف في اسم المخطوبة من بنات أبي جهل ، كما أطال في شرح قوله : « حدّثني فصدّقني » ، ولم يأت بطائل.
ورابعاً : نعود إلى قول المسور : فسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يخطب الناس في ذلك على منبره هذا ، وأنا يومئذ محتلم.
وهذا من أكاذيبه التي أربكت شرّاح الصحيح أيضاً ، فقالوا ما قالوا ، وإلى القارئ بعض ما قالوا :
قال ابن سيّد الناس : هذا غلط ، والصواب ما وقع عند الإسماعيلي بلفظ كالمحتلم!!
قال : والمسور لم يحتلم في حياة النبيّ صلى الله عليه وآله ، لأنّه ولد بعد ابن الزبير ، فيكون عمره عند وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله ثمان سنين ....
ثمّ قال ابن حجر : قلت كذا جزم به وفيه نظر ، فإنّ الصحيح أنّ ابن الزبير ولد في السنة الأُولى ، فيكون عمره عند الوفاة النبوية تسع سنين ، فيجوز أن يكون احتلم في أوّل سني الإمكان! أو يحتمل قوله : « محتلم » على المبالغة ، والمراد التشبيه ، فتلتئم الروايتان ، وإلاّ فابن ثمان سنين لا يقال له محتلم ، ولا كالمحتلم ، إلاّ أن يريد بالتشبيه أنّه كان كالمحتلم في الحذق والفهم والحفظ ، والله أعلم (46).
فانظر بربّك إلى هذا التحمّل الفاسد في توجيه كلام المسور المعاند ، فهل تجد له في كلام أبناء آدم من شاهد؟
هذا ما يتعلّق بأوّل حديث رواه البخاريّ ، أمّا حديثه الثاني فليس فيه ما يستدعي المناقشة والوقوف عنده ، وإنّما هو جزء من الحديث الأوّل.
وأمّا الحديث الثالث ، وفيه قال المسور : إنّ عليّاً خطب بنت أبي جهل ، فسمعت بذلك فاطمة ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وآله فقالت : « يزعم قومك أنّك لا تغضب لبناتك ، وهذا علي ناكح بنت أبي جهل » (47).
أقول : ومن قول فاطمة عليها السلام لأبيها يظهر : أنّ الأذى كان قد لحق ببنات النبيّ صلى الله عليه وآله قبلها من أزواجهن فلم يغضب لهن ، حتّى ذكرت له زعم قومه أنّه لا يغضب لبناته ، مستثيرة فيه غيرته وحميّته وشففته.
وإذا صحّ زعم المسور في ذلك ، فالنقد يتوجّه إلى أصهار النبيّ صلى الله عليه وآله عدا أبي العاص الذي خصّه البخاريّ بالعنوان ، وذكره المسور في حديثه ، فلا يبقى إذاً سوى عثمان الذي كانت عنده أُمّ كلثوم ورقية وماتتا عنده ، وإليه يتوجّه النقد ، فهل شعر المسور بذلك؟ وهل يقبله وهو الذي كان مع عثمان كما مرّ؟
ولعلّ من أجل هذا أعرض شرّاح الصحيح عن شرح هذه الجملة من حديثه ، خصوصاً ابن حجر الذي تخطّى ذلك إلى شرح جملة : وهذا علي ناكح بنت أبي جهل ، فقال : في رواية الطبراني عن أبي اليمان ، وهذا علي ناكحاً بالنصب ، وكذا عند مسلم من هذا الوجه ، أطلقت عليه اسم ناكح مجازاً باعتبار ما كان قصد يفعل ، واختلف في اسم ابنة أبي جهل ....
فاستعرض الأقوال في اسمها ، ولا يعنينا تحقيق ذلك كثيراً الآن ، إلى أن قال في شرح قوله : « حدّثني فصدّقني » ، لعلّه كان شرط على نفسه أن لا يتزوّج على زينب ، وكذلك علي ، فإن لم يكن كذلك فهو محمول على أنّ علياً نسي ذلك الشرط ، فلذلك أقدم على الخطبة ، أو لم يقع عليه شرط ، إذ لم يصرّح بالشرط ، فلذلك أقدم على الخطبة ، لكن كان ينبغي له أن يراعي هذا القدر ، فلذلك وقعت المعاتبة ، وكان النبيّ صلى الله عليه وآله قلّ أن يواجه أحداً بما يعاب به ، ولعلّه إنّما جهر بمعاتبة علي مبالغة في رضا فاطمة عليها السلام ، وكانت هذه الواقعة بعد فتح مكّة ، ولم يكن حينئذ تأخّر من بنات النبيّ صلى الله عليه وآله غيرها ، وكانت أصيبت بعد أُمّها بأخوتها ، فكان إدخال الغيرة عليها ممّا يزيد حزنها.
هذا ما قاله أشهر شرّاح الصحيح ، أن لم يكن أعلمهم ، فاقرأ ذلك واحكم عليه بما تقتضيه شريعة الإنصاف دون اعتساف.
ولنعد إلى فقرات الحديث لنقارن بينها وبين ما مرّ عنه في الحديث الأوّل في تحقيق النصّ الذي سمعه من النبيّ صلى الله عليه وآله ، فسنجد بينهما من التفاوت ما يدعو إلى الريبة في الأمر ، حتّى في الصحيح ، لاتفاق سند الحديثين من الزهريّ إلى المسور ، وإنّما ذكر البخاريّ الحديث الأوّل عن محمّد بن عمرو بن طلحة عن الزهريّ ، والحديث الثاني ذكره عن شعيب عن الزهريّ ، ثمّ قال : وزاد محمّد بن عمرو بن طلحة ... ، فذكر بعضاً من تلك الزيادة خصوصاً جملة : « وإنّي لست أحرّم حلالاً ، ولا أحلّ حراماً » ، فراجع الحديث وقارن بينهما بدقّة ، لترى مدى التفاوت متناً مع اتحاد السند ، وأنّه لأمر مريب!
وأمّا الحديث الرابع ، فنلاحظ عليه :
أوّلاً : غرابة العنوان الذي جعله البخاريّ للباب الذي أورد الحديث فيه ، ولم يورد فيه غيره ، فراجع.
ثانياً : إنّه ذكره بسنده عن الليث عن ابن أبي مليكة عن المسور ، بينما أخرجه الترمذيّ عن أيوب عن ابن أبي مليكة عن عبد الله بن الزبير ، وذكر الاختلاف فيه ، ثمّ قال : يحتمل أن يكون ابن أبي مليكة حمله عنهما جميعاً.
قال ابن حجر بعد ترجيحه رواية الليث عن ابن أبي مليكة ، لكونه توبع من رواية عمرو بن دينار وغيره ، ولكون الحديث قد جاء عن المسور من غير رواية ابن أبي مليكة ، فقد تقدّم في فرض الخمس.
وفي المناقب ، من طريق الزهريّ عن علي بن الحسين بن علي عن المسور ، وزاد فيه في الخمس قصّة سيف النبيّ صلى الله عليه وآله ، وذلك سبب تحديث المسور لعلي بن الحسين بهذا الحديث ، وقد ذكرت ـ والكلام لابن حجر ـ ما يتعلّق بقصّة السيف عنه هناك.
ولا أزال أتعجّب من المسور كيف بالغ في تعصّبه لعلي بن الحسين حتّى قال : إنّه لو أودع عنده السيف لا يمكّن أحداً منه حتّى تزهق روحه ، رعاية لكونه ابن فاطمة ، محتجّاً بحديث الباب ، ولم يراع خاطره في أنّ ظاهر سياق الحديث المذكور غضاضة على علي بن الحسين ، لما فيه من إيهام غضّ من جدّه علي بن أبي طالب ، حيث أقدم على خطبة بنت أبي جهل على فاطمة ، حتّى اقتضى أن يقع من النبيّ صلى الله عليه وآله في ذلك من الإنكار ما وقع!!
بل أتعجّب من المسور تعجّباً آخر أبلغ من ذلك ، وهو أن يبذل نفسه دون السيف رعاية خاطر ولد ابن فاطمة ، وما بذل نفسه دون ابن فاطمة نفسه! أعني الحسين والد علي ، الذي وقعت له معه القصّة حتّى قتل بأيدي ظلمة الولاة!!
لكن يحتمل أن يكون عذره أنّ الحسين لما خرج إلى العراق ما كان المسور وغيره من أهل الحجاز يظنّون أنّ أمره يؤول إلى ما آل إليه والله أعلم ، انتهى كلام ابن حجر (48).
أقول : وليس فيما ذكره ابن حجر من اختلاف المسند ، ولا تعجّبه أوّلاً وثانياً ـ على ما فيهما من نقد لاذع للمسور ـ ولا في احتمال تعذيره على وهنه ما يدعونا إلى إطالة البحث فيه والتحقيق معه ، ولكن هلم الخطب في ثالثة الأثافي كما يقولون.
ثالثاً : قال المسور : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول وهو على المنبر : « إنّ بني هشام بن المغيرة استأذنوا في أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب ، فلا آذن ، ثمّ لا آذن ... » (49).
فهل لنا أن نسأل من البخاريّ ورجاله حتّى المسور عن اختلاف سبب الخطبة؟ وقد مرّ في الحديث الأوّل : أنّ علياً خطب بنت أبي جهل ، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يخطب ....
وفي الحديث الثالث : أنّ علياً خطب بنت أبي جهل ، فسمعت بذلك فاطمة ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وآله فقالت : « يزعم قومك أنّك لا تغضب لبناتك , وهذا علي ناكح بنت أبي جهل » ، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله ، فسمعته حين تشهّد يقول ....
ويمكن الجمع بين الحديثين بتوحيد السبب في خطبة النبيّ صلى الله عليه وآله ، أمّا في الحديث الرابع الذي نحن بصدده ، فقد جاء أنّ السبب هو استئذان بني هشام ابن المغيرة في أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب ، فسمعه المسور يقول : « فلا آذن ، ثمّ لا آذن ، ثمّ لا آذن ... ».
أمّا الحديث الخامس ، فهو جزء من الحديث الرابع ، إلاّ أنّ البخاريّ أغرب في وضعه تحت عنوان ليس فيه أيّة دلالة على المعنون ، فقد أورده في كتاب الطلاق في باب الشقاق ، ثمّ لم يورد غيره في ذلك الباب.
وهذا ما أربك شرّاح الصحيح ، وإلى القارئ ما قاله وحكاه عنهم ابن حجر : قال : « ثمّ ذكر ـ أي البخاريّ ـ طرفاً من حديث المسور في خطبة علي بنت أبي جهل ، وقد تقدّمت الإشارة إليه في النكاح ، واعترضه ابن التين ، بأنّه ليس فيه دلالة على ما ترجم به ، ونقل ابن بطال قبله عن المهلب قال : إنّما حاول البخاريّ بإيراده أن يجعل قول النبيّ صلى الله عليه وآله : « فلا آذن » خلعاً ، ولا يقوى ذلك ، لأنّه قال في الخبر : « إلاّ أن يريد ابن أبي طالب أن يطلّق ابنتي » ، فدلّ على الطلاق ، فإن أراد أن يستدلّ بالطلاق على الخلع فهو ضعيف ، وإنّما يؤخذ منه الحكم بقطع الذرائع.
وقال ابن المنير في الحاشية : يمكن أن يؤخذ من كونه صلى الله عليه وآله أشار بقوله : « فلا آذن » إلى أنّ علياً يترك الخطبة ، فإذا ساغ جواز الإشارة بعدم النكاح التحق به جواز الإشارة بقطع النكاح.
وقال الكرماني : تؤخذ مطابقة الترجمة من كون فاطمة ما كانت ترضى بذلك ، فكان الشقاق بينها وبين علي متوقّعاً ، فأراد صلى الله عليه وآله دفع وقوعه بمنع علي من ذلك بطريق الإيماء والإشارة ، وهي مناسبة جيّدة » (50).
وإلى هنا ننهي ما نقلناه عن ابن حجر ، ولا نعقّب بقليل أو كثير على تلك الأقوال التي لا يخفى تنطّع أصحابها وسماجتها.
والعجب من ابن حجر ـ وهو على ما عنده من المعرفة ـ كيف يذكرها ولا يعقّب عليها بنقد ، وكأنّه قد ارتضاها ، وهي كما ترى.
والآن وقد انتهينا من النظر في أحاديث البخاريّ الخمسة ، وهي أوصال متقطّعة لحديث واحد رواه المسور بن مخرمة ، نعود فنسأل المسور ورواة حديثه ، وحتّى أصحاب الصحاح ، ومن أخرجه عنه ، ثلاثة أسئلة تفرض نفسها :
الأوّل : ما بال علي يخطب ابنة أبي جهل؟ وهو الذي يعلم بعداوة أبي جهل للإسلام ونبيّه ، حتّى قتل ببدر كافراً ، وعلي نفسه قد قتل من بني هشام بن المغيرة في يوم بدر ويوم أُحد عشرة ، ثمانية منهم ببدر ، وتاسعهم كان حليفاً لهم ، وعاشرهم قتله يوم أُحد.
فما باله يخطب من أناس وترهم بآبائهم وإخوانهم ، وهو يعلم بوغر صدورهم لما لهم عنده من ترات لم يطفئ الإسلام إوار الحقد من صدورهم ، وهم كبقية قريش إنّما كانوا يبغضون علياً لأنّه قتل منهم سبعين رجلاً ، كأنّ وجوههم سيوف الذهب على حدّ قول عثمان بن عفّان (51)؟
ثمّ ما باله يخطبها من رجل سبق له أن أراد قتله يوم فتح مكّة ، فاستجار بأخته أُمّ هاني ، وهو الحارث بن هشام ، كما في حديث سويد بن غفلة وسيأتي ، فأجارته أُمّ هاني ، فدخل عليه علي وقد شهر سيفه يريد قتله ، فمنعته أُمّ هاني من ذلك ، كما منعته من قتل جميع من استجار بها ، وقال النبيّ صلى الله عليه وآله في ذلك : « قد أجرنا من أجارت أُمّ هاني » (52).
ثمّ ما الذي أغراه بها؟ علوّ النسب أو كمال الحسب؟ مع أنّها لم تكن بتلك الحسناء ، بل وصفوها بأنّها العوراء ، ولو شاء الزواج ، لِمَ لم يتزوّج بنت عمّه الحمزة ـ أسد الله وأسد رسوله ـ؟ وهو الذي كان أشار على النبيّ صلى الله عليه وآله بالزواج منها ، فقال له : « يا رسول الله ، ما لك تتوق إلى نساء قريش وتدعنا »؟ قال : « وعندكم شيء »؟ قلت : « نعم ابنة حمزة » ، فقال : « إنّها لا تحلّ لي ، فأنّها ابنة أخي من الرضاعة » (53).
فهذه تفوق بنت أبي جهل حسباً ونسباً وجمالاً وكمالاً ، وهي لم تكن ممّن يحرم عليه نكاحها.
السؤال الثاني : ما بال النبيّ صلى الله عليه وآله يغضبه خطبة علي لابنة أبي جهل ، لأنّ ذلك يسيء إلى فاطمة عليها السلام ، بينما نجده يغضب لعلي لا عليه حينما أخبره أربعة من الصحابة أنّ علياً اصطفى جارية من السبي عندما أرسله إلى اليمن ، فشكوه في المسجد ، الواحد تلو الآخر على ملأ من المسلمين ، فغضب صلى الله عليه وآله عليهم ، وحتّى أبد بعضهم بنظره ، أي نظر إليه نظراً حادّاً ، ثمّ قال : « لا تؤذوني في علي ، لا تشكوا علياً ، إنّ علياً منّي وأنا من علي ».
وقال : « من آذى علياً فقد آذاني ... » إلى آخر ما قال ، فهل اصطفاء علي عليه السلام لجارية من السبي لم يبلغ فاطمة عليها السلام ، أو بلغها ولم يسئها ذلك ، لأنّها لا تغار منها؟
السؤال الثالث : ما بال المسور واضرابه لم يسمّوا لنا تلك المخطوبة المحظوظة بهوى علي فيها ، فتركوا أصحاب الحديث والتاريخ والأنساب يخبطون خبط العشواء ، فسمّاها مصعب الزبيري « جويرية » ، فقال في كتابه نسب قريش : « وكان علي بن أبي طالب قد خطب جويرية بنت أبي جهل قبل عتاب ، وهمّ بنكاحها ، فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وقال : « إنّي لأكره أن تجمع بين بنت ولي الله وبين بنت عدوّ الله » ، فتركها علي ، وتزوّجها عتّاب ».
وسمّاها ابن حزم في الجمهرة : الحنفاء ، فقال : « وولد أيضاً أبو جهل الحنفاء ، أراد علي أن يتزوّجها ، فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله ، فتزوّجها عتّاب ابن أسيد » (54) ، وسمّاها ابن حجر في الإصابة العوراء (55) ، فلماذا هذا الاختلاف وبنات أبي جهل كما في كتب الأنساب أربع؟
وإليك أسماؤهن وأسماء أزواجهن نقلاً عن نسب قريش ، المتوّفى 236 هـ ، فهو أقرب زماناً وهوى إلى المسور وإضرابه من رواة تلك الأسطورة.
قال : وكان لأبي جهل أربع بنات : صخرة والحنفاء وأسماء وجويرية ، وأُمّهن أروى بنت أبي العيص.
1 ـ كانت الحنفاء بنت أبي جهل عند سهيل بن عمرو بن عبد شمس العامري.
2 ـ وكانت أسماء بنت أبي جهل عند الوليد بن عبد شمس بن المغيرة المخزومي ، فولدت له أُمّ عبد الله بنت الوليد ، تزوّجت أُمّ عبد الله بنت الوليد عثمان بن عفّان ، فولدت له الوليد وسعيد ابني عثمان بن عفّان.
فهل كان زواج عثمان بها بعد موت ابنتي النبيّ صلى الله عليه وآله؟ والجواب عند المسور واضرابه ، لكن ما رواه من قول فاطمة عليها السلام لأبيها : « يزعم قومك أنّك لا تغضب لبناتك ... » يأبى ذلك.
3 ـ وكانت جويرية بنت أبي جهل عند عتّاب بن أسيد بن أبي العيص ....
قال الزبيري : وكان علي بن أبي طالب قد خطب جويرية بنت أبي جهل قبل عتّاب ، وهمّ بنكاحها ، فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وقال : « إنّي لأكره أن تجمع بين بنت ولي الله وبين بنت عدوّ الله » ، فتركها علي وتزوّجها عتّاب ، فولدت له عبد الرحمن بن عتّاب ، قتل يوم الجمل ، ووقف عليه علي فقال : « هذا يعسوب قريش ، جدعت أنفي ، وشقيت نفسي ».
يا لله من قوم لا يستحيون من الكذب ، أهكذا تبلغ الوقحة بهم أن يرووا ذلك ، هم يترجمون عبد الرحمن بن عتّاب ويذكرون ولادته في آخر حياة النبيّ صلى الله عليه وآله ، فيكون عمره يوم قتل 26 سنة ، فهل يعقل أن يقول علي ذلك في إنسان حاربه مع أعدائه؟ ولم يكن له في تاريخ قريش على اختلاف بيوتاتهم ، وأيّام صولاتهم مقام مشهود ، ولا مقال محمود ، ثمّ يصفه بأنّه يعسوب قريش ، واليعسوب هو سيّد النحل وأميره ...؟!
فبماذا استحقّ منه هذا التقريض؟ ولماذا منه كلّ هذا التفجّع والتوجّع المزعوم؟!
ولعلّ قحة قائلهم تبلغ به فيزعم أنّ مبعث ذلك هو حنين نفسه إلى أُمّه ، وليعلم القارئ أنّ جويرية هذه هي التي سبق لها أن قالت يوم فتح مكّة ، وقد سمعت الأذان على ظهر الكعبة : « قد لعمري رفع لك ذكرك ، أمّا الصلاة فسنصلّي ، والله لا نحبّ من قتل الأحبّة أبداً » ، فعلي عليه السلام هو أبرز من قتل الأحبّة.
والآن بعد أن بيّنا زيف المسور في روايته ، نعود فنذكّر القارئ مرّة أُخرى بما مرّ منّا سابقاً في أوّل ذكر الرواة ، فنقول : حدث بتلك المثابة من الأهمّية يغضب فاطمة عليها السلام ، ويغضب أبوها لغضبها ، فيخرج إلى المسجد ويخطب الناس في ذلك إلى آخر ما مرّ في حديث المسور ، ثمّ لا يرويه من الصحابة الحضور ـ من مهاجرين وأنصار ـ إلاّ المسور ، مع توفّر الدواعي إلى نقله ، خصوصاً عند شانئي علي عليه السلام إنّ ذلك لعجيب!!
ولو كان الحدث بحذافيره كما يرويه المسور في حديثه لرواه المخالف قبل المؤالف ، وهذا ليس كفضائله التي أخفاها أولياؤه خوفاً وأعداؤه حسداً ، ومع ذلك شاع من بين ذين وذين ما ملأ الخافقين.
إذاً ليس من المعقول تصديق المسور في جميع زعمه لتلك القصّة بكامل تفاصيلها ، كما رواها وحده دون بقية الناس الذين خطبهم النبيّ صلى الله عليه وآله ، اللهم لا يقبل ذلك منه.
والسؤال الآن الذي يفرض نفسه : هل إنّ القصّة مفتعلة أساساً ، أم لها نصيب من الصحّة ولو كان ضعيفاً؟ إذ ليس من المقبول عقلاً أن يكون المسور على ما هو عليه من البغض والشنآن يختلق قصّة موهومة من عالم الخيال ، فيذيعها لتكون حقيقة ثابتة ، وهي ليس لها أساس لا يعقل ذلك ، إذ لا يوجد دخّان من دون نار ، ولابدّ من منشأ انتزاع.
إذاً ما هو الواقع في ذلك؟
هذا ما يجب أن نبحث عنه بصبر وأناة في مختلف المصادر الحديثية والتاريخية والنسبية ، وقد بحثت فيما وصلت إليه يدي فلم أجد سوى حديث يرويه سويد بن غفلة ، أخرجه الحاكم في المستدرك ، وفيه ما يمكن أن يجعل أساساً لتلك القصّة ، وإليك الحديث بنصّه :
قال الحاكم : « أخبرنا أحمد بن جعفر القطيعي ، حدّثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل ، حدّثني أبي ، حدّثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، أخبرني أبي عن الشعبي عن سويد بن غفلة ، قال : خطب علي ابنة أبي جهل إلى عمّها الحارث بن هشام ، فاستشار النبيّ صلى الله عليه وآله ، فقال : « أعن حسبها تسألني »؟
قال علي : « قد أعلم ما حسبها ، ولكن أتأمرني بها »؟ فقال : « لا ، فاطمة مضغة منّي ، ولا أحسب إلاّ وأنّها تحزن أو تجزع » ، فقال علي : « لا آتي شيئاً تكرهه » هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة » (56).
أقول : هذا الحديث لا يخلو أوّلاً سنده من مناقشة في رجاله ، ويكفي وجود الشعبي الذي كان مائلاً لبني أُمية ، ومرّ بيان حاله فيما سبق ، ولا حاجة إلى إعادته.
قال معمر : « وبلغني أنّ الشعبي كان يلعب بالشطرنج ، ويلبس ملحفة حمراء ، ويرمي بالجلاهق ... » (57).
وثانياً : هو حديث منقطع الإسناد ، لأنّ سويد بن غفلة ، وإن كان معدوداً من المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام ، إلاّ أنّه لم يسمع من النبيّ صلى الله عليه وآله حديثه ، ولذلك عقّب الذهبيّ على تصحيح الحاكم ، فقال : مرسل قوي ... إلى أن قال : « فالعجب من الحاكم كيف صحّحه »؟!
أقول : إذا كان في ذلك ما يبعث على العجب ، فماذا يقول الذهبيّ في موافقة شرّاح البخاريّ ـ كابن حجر في « فتح الباري » ، والقسطلاني في « إرشاد الساري » ، والعيني في « عمدة القاري » ـ للحاكم في تصحيحه؟
وأعجب العجب أنّ الذهبيّ نفسه روى هذا الحديث في سير أعلام النبلاء ، ولم يعقّب عليه بشيء! (58).
وثالثاً : فيه من التهافت الظاهر ما ينبغي الالتفات إليه ، وذلك في قول سويد : خطب علي ابنة أبي جهل إلى عمّها الحارث بن هشام ، وقوله : فاستشار علي النبيّ صلى الله عليه وآله ... ، فأيّ معنى لاستشارة النبيّ صلى الله عليه وآله بعد الخطبة؟ ولو كان العكس لصحّ ذلك منه.
ومع ذلك كلّه فبقية الحديث من قوله : فاستشار النبيّ صلى الله عليه وآله ... إلى آخره ، هي أساس ما نسج حوله الرواة ، كالمسور وأضرابه ، وهي في نفس الوقت تنفي وقوع الخطبة من علي ، كما تنفي خطبة النبيّ صلى الله عليه وآله في الناس على المنبر معلناً غضبه ... ، فيكون الحديث بكلّ بساطة خاطرة خطرت لعلي ، فاستشار النبيّ صلى الله عليه وآله مستأذناً ، وقال : « أتأمرني بذلك » ، فقال : « لا ... » ، فقال علي : « لا آتي شيئاً تكرهه ».
وبهذا المعنى ردّ ابن عباس على عمر في محاورة جرت بينهما في حديث الخلافة ، أشار فيها إلى هذا المعنى ، والمحاورة طويلة جاء فيها : « قال عمر لابن عباس : إنّ صاحبكم هذا ـ يعني علي بن أبي طالب ـ إن ولي زهد ، ولكنّي أخشى عجب نفسه أن يذهب به.
قال ابن عباس : يا أمير المؤمنين إنّ صاحبنا من قد علمت والله غير ما نقول ، إنّه ما غيّر ولا بدّل ، ولا أسخط رسول الله صلى الله عليه وآله أيّام صحبته له.
فقال : ولا في بنت أبي جهل ، وهو يريد أن يخطبها على فاطمة؟
قلت : قال الله تعالى في معصية آدم عليه السلام ، ولم نجد له عزماً ، وصاحبنا لم يعزم على اسخاط رسول الله صلى الله عليه وآله ، ولكن الخواطر التي لا يقدر أحد على دفعها عن نفسه ، وربما كانت من الفقيه في دين الله ، العالم العامل بأمر الله ....
فقال : يا بن عباس من ظن أنّه يرد بحوركم فيغوص فيها حتّى يبلغ قعرها فقد ظنّ عجزاً » (59).
هذه المحاورة رواها الزبير بن بكار في كتابه الموفّقيات ، كما نصّ على ذلك السيوطي في « الدرّ المنثور » ، ولكنّها لا توجد في المطبوع من الموفّقيات أخيراً ، بتحقيق الدكتور سامي مكّي العاني ، فهي ممّا يستدرك عليه ممّا فاته استدراكه ، فيما ذكر في آخر النسخة المطبوعة.
ومع ذلك ، فقد روى الهيثميّ في « مجمع الزوائد » نقلاً عن الطبراني في معاجمه الثلاثة ، والبزّار باختصار أيضاً ، وفيه عبيد الله بن تمام وهو ضعيف (60).
كما أخرجه العقيلي في الضعفاء (61) ، وقال ابن حجر : ضعّفه الدار قطني وأبو حاتم وأبو زرعة وغيرهم ... ، وقال أبو حاتم : ليس بالقوي ، روى أحاديث منكرة ... ، وقال الساجي : كذّاب يحدث بمناكير ... ، وذكره ابن الجارود والعقيلي ، وأورد له عن خالد عن عكرمة عن ابن عباس : أنّ عليّاً خطب بنت أبي جهل ، فبعث إليه النبيّ صلى الله عليه وآله : « إن كنت متزوّجاً فرد علينا بنتنا » (62).
أقول : فحديث يرويه عبيد الله بن تمام الذي مرّ حاله ، وينتهي سنده إلى عكرمة الخارجي الكذّاب ، الذي حبسه علي بن عبد الله بن عباس على باب الكنيف ، لأنّه كان يكذب على أبيه ، وحديث كذبه شائع ذائع حتّى إنّ ابن عمر حذّر غلامه أن يكذب عليه ، كما كذّب عكرمة على ابن عباس ، وقد أكذبه آخرون ، مضافاً إلى أنّه كان خارجياً يبغض الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، فهل يمكن أن نصدّق أنّ ابن عباس روى ذلك؟
وثمّة حديث آخر وهو موضوع ، لأنّه أشدّ تعفّناً ممّا سبق ، حيث رووا عن علي نفسه إقراره بموجدة النبيّ صلى الله عليه وآله منه لذلك ، واستشفاعه بأبي بكر ، إلى غير ذلك ، ممّا يستبطن كذبه في سياق ما رواه المتّقي الهندي عن الحارث عن علي ، قال : « لمّا خطبت بنت أبي جهل بن هشام ، وجد النبيّ صلى الله عليه وآله موجدة ، فرأيت في وجهه ، فخرجت إلى أبي بكر فأخذت بيده ، فأدخلته على رسول الله صلى الله عليه وآله ، فلمّا رأى النبيّ صلى الله عليه وآله أبا بكر مقبلاً ، تهلّل وجهر النبيّ صلى الله عليه وآله فرحاً ، فقلت : يا رسول الله رأيت في وجهك ما أكره ، فلمّا نظرت إلى أبي بكر تهلّل وجهك إليه فرحاً »!
فقال النبيّ صلى الله عليه وآله : « ما يمنعني أن تهلّل وجهي إلى أبي بكر فرحاً ، وأبو بكر أوّل الناس إسلاماً ، وأقدمهم إيماناً ، وأطولهم سمتاً ، وأكثرهم مناقب ، رفيقي في الهجرة إلى المدينة ، وأنيسي في وحشة الغار ، ومن بعد ذلك ضجيعي في قبري ، كيف لا يتهلّل وجهي إلى أبي بكر فرحاً »؟ (63).
ولا تعليق لنا على ذلك إلاّ تنبيه القارئ على مدى العبث في التاريخ ، والمغالاة في صياغة الشخصية المحبوبة عند النبيّ صلى الله عليه وآله ، والنزعة الخفية في التفضيل ، وأنّ أبا بكر هو الأنموذج الأمثل للصحابة.
ألا ... كيف فاتهم أن يضيفوا إلى هذه الحبكة المفتعلة جملة ، وهو خليفتي من بعدي ، لتتمّ لهم الحجّة ، ولكنّهم فيما يبدو رأوا سقوط أبي بكر في حمأة الحيرة المملة التي عاناها حين سأله الأعرابي ، وقال له : أنت خليفة رسول الله؟ فقال : لا.
فقال : فما أنت؟ قال : أنا الخالفة بعده ، فلم يذكروا له ذلك مادام أبو بكر قال عن نفسه هو الخالفة ، والخالفة كما قال ابن الأثير : « الذي لا غناء ولا خير فيه » ، وإنّما قال ذلك تواضعاً.
وطبيعي أن يقول ذلك أبو بكر ، فهو أعرف بنفسه من غيره ، ولأنّه يعلم ذلك من نفسه ، كما أنّه من الطبيعي أن يقول ذلك ابن الأثير ، ويقوله جميع البكريين معه ، الذين هم أكثر بكرية من أبي بكر على مقولة : ملكيّون أكثر من الملك.
ولكن ما يصنع ابن الأثير وأضرابه ، وتفسير قوله تعالى : {فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} [التوبة: 83] ، والمفسّرون قالوا : « فلان خالفة أهل بيته إذا كان فاسداً فيهم ، من خلوف فم الصائم ، فعلى هذا يكون المعنى فاقعدوا مع الفاسدين » (64).
ومهما يكن مراد أبي بكر في قوله : أنا الخالفة ، فإن البكرية لم يجعلوه في حديثهم السابق خليفة النبيّ صلى الله عليه وآله ، ولكن هلّم الخطب في جعلهم له أوّل الناس إسلاماً ، وأقدمهم إيماناً ، وهذا عين ما قاله رسول الله لابنته فاطمة عليها السلام : « أو ما ترضين أنّي زوّجتك أقدم أُمّتي سلماً ، وأكثرهم علماً ، وأعظمهم حلماً » (65).
وتلكم عائشة ابنة أبي بكر تقول في خطبتها بعد الجمل : « وأبي رابع أربعة من المسلمين » (66).
أمّا سعد بن أبي وقّاص ـ أحد العشرة المبشّرة ـ فيقول لابنه محمّد ، وقد سأله : « أكان أبو بكر أوّلكم إسلاماً؟ فقال : لا ، ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين , ولكن كان أفضلنا إسلاماً » (67).
وأخيراً : كيف يصدّق عاقل بما رواه البكريون آنفا عن علي عليه السلام من موجدة النبيّ صلى الله عليه وآله ، مع أنّه القائل في خطبة له يصف مقامه عند رسول الله صلى الله عليه وآله : « وما وجد لي كذبة في قول ، ولا خطلة في فعل » (68).
أليست خطبته بنت أبي جهل خطلة في فعل؟ كيف يصدّق ذلك مسلم؟ حاشا لله.
بقيت بعض الأحاديث تلتقي في مؤدّاها مع حديث المسور ، من غضب فاطمة عليهاالسلام بسبب الغيرة أيضاً ، ولكن لم تكن المرأة التي اشتاقت نفس علي إليها هي ابنة أبي جهل ، وإنّما هي حرّة وأمة :
1 ـ أمّا الحرّة فهي أسماء بنت عميس ، وحديثها أخرجه الطبراني (69) ، وعنه الهيثميّ في « مجمع الزوائد » حيث قال : « رواه الطبراني في الكبير والأوسط ، في إسناده من لم أعرفه » (70).
إذاً لا يهمّنا بيان حال إسناده ، فلننظر إلى متنه.
قالت أسماء : خطبني علي ، فبلغ ذلك فاطمة ، فأتت النبيّ صلى الله عليه وآله فقالت : « إنّ أسماء متزوّجة عليّاً »! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : « ما كان لها أن تؤذي الله ورسوله ».
فنقول : إنّ أسماء كانت أوّلاً عند جعفر بن أبي طالب عليه السلام ، فلمّا كانت غزاة مؤتة سنة ثمان من الهجرة ـ في جمادى الأُولى أو الآخرة ـ قتل فيها جعفر ، فتزوّجها أبو بكر بعد قتل جعفر ، وبعد يوم حنين ، فإنّ غزوة حنين كانت في شوال سنة ثمان من الهجرة ، والرسول صلى الله عليه وآله خرج إليها لست خلون من شوال ، وانتهى إلى حنين في عاشره (71).
فيكون بين الوقعتين أربعة أشهر وأيّام ، هي بمقدار عدّة المرأة المتوفّى عنها زوجها ، ويعني ذلك أنّ أبا بكر تزوّج أسماء عند خروجها من العدّة ، وعلى هذا دلّ ما ذكره ابن كثير في سيرته قال : « ورثت أسماء بنت عميس زوجها ـ جعفراً ـ بقصيدة تقول فيها :
فآليت لا تنفك نفسي حزينة عليك ولا ينفك جلدي أغـــــبـرا
فلله عيناً من رأى مثله فتى أكر وأحمى في الهياج وأصبرا .
تنشب أن انقضت عدّتها ، فخطبها أبو بكر ... فتزوّجها ، فأولم ، وجاء الناس للوليمة ، فكان فيهم علي بن أبي طالب ، فلمّا ذهب الناس استأذن علي أبا بكر في أن يكلّم أسماء من وراء الستر فأذن له ، فلمّا اقترب من الستر نفحه ريح طيبها ، فقال لها علي ـ على وجه البسط ـ : من القائلة في شعرها :
فآليت لا تنفك نفسي حزينة عليك ولا ينفك جلدي أغبـرا.
قالت : دعنا منك يا أبا الحسن ، فإنّك أمرؤ فيك دعابة » (72).
على أنّ هناك ما يحمل على الشكّ بصحّة ما رواه ابن كثير ، فقد نسب البيت المذكور إلى عاتكة بنت زيد ، قالته في رثاء زوجها عبد الله بن أبي بكر ، حيث كان يحبّها ، فجعل لها بعض أراضيه على أن لا تتزوّج بعده ، فتزوّجها عمر بن الخطّاب ، فأرسلت إليها عائشة أن ردّي علينا أرضنا ، وكانت عاتكة قد قالت حين مات عبد الله بن أبي بكر :
آليت لا تنفك نفسي حزينة عليك ولا ينفك جلدي أغبـرا .
قال : فتزوّجها عمر بن الخطّاب ، فقالت عائشة :
آليت لا تنفك عيني قريرة عليك ولا ينفك جلدي أصفرا (73) .
وهذا الجواب منها ينفي خطبة علي لها ، لأنّ خطبته لها لو كانت لابدّ أن تكون قبل خطبة أبي بكر ، لأنّ أبا بكر مات عنها سنة 13 من الهجرة ، يعني بعد موت فاطمة بثلاث سنين ، فلابدّ أن يفترض أنّ خطبة علي لها كانت قبل خطبة أبي بكر لها ، فكان عليها أن تجيبه بعد عتابه لها على تناسيها رثاءها لأخيه جعفر : أنت أولى منّي بالعتاب ، ألم تسبق إليّ بالخطبة ، ولأشارت إلى ما نسب إليها من زعم أنّ علياً خطبها ، وقول فاطمة عليها السلام لأبيها ، وقول أبيها صلى الله عليه وآله : « ما كان لها أن تؤذي الله ورسوله ... ».
لا أن يكون جوابها : دعنا منك يا أبا الحسن ، فإنّك أمرؤ فيك دعابة.
2 ـ وأمّا الأمة ، فهي جارية أعطاها له أبو بكر ، وحديثها أخرجه عبد الرزاق عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي جعفر قال : أعطى أبو بكر علياً جارية ، فدخلت أُمّ أيمن على فاطمة ، فرأت فيها شيئاً كرهته ، فقالت : ما لك؟ فلم تخبرها ، فقالت : ما لك؟ فو الله ما كان أبوك يكتمني شيئاً ، فقالت : « جارية أعطوها أبا حسن ».
فخرجت أُمّ أيمن فنادت على باب البيت الذي فيه علي بأعلى صوتها : أما رسول الله صلى الله عليه وآله يحفظ في أهله؟ فقال : « ما هذا الصوت »؟ فقالوا : أُمّ أيمن تقول : أما رسول الله صلى الله عليه وآله يحفظ في أهله ، فقال علي : « وما ذاك »؟ قالت : جارية بعث بها إليك ، فقال علي : « الجارية لفاطمة » (74).
فهذا الحديث يرويه ابن عيينة ، وهو ممّن رمي بالاختلاط ، وابن عيينة يرويه عن عمرو بن دينار ، وهذا أيضاً من المجروحين ، كما في كتاب المجروحين لابن حبّان ، حيث قال : « كان ممّن ينفرد بالموضوعات عن الإثبات ، لا يحلّ كتابة حديثه إلاّ على جهة التعجّب.
وسئل ابن معين عنه ، فقال : ليس بشيء (75) ، مضافاً إلى أنّه كان يعرف بقهرمان آل الزبير ، فمن كان كذلك هل يقبل حديثه؟
على أنّ في نفس حديثه ما يدلّ على كذبه ، وذلك أنّ فاطمة عليها السلام التي لم تبق بعد أبيها سوى أيّام أو شهور لم تزد على ستة أشهر ، ثمّ ماتت عليها السلام ، وكان علي عليه السلام معها في محنتها ، ولم يبايع أبا بكر ما دامت فاطمة حية.
وقالوا : لم يحضر جمعة ولا جماعة مع القوم إلى أن ماتت فاطمة عليها السلام ، فانصرفت وجوه الناس عنه ، فبايع هو كما بايع معه العباس وبنوه وجماعة بني هاشم ، وبقية الفئات المعارضة التي اتخذت منه ملجأ يلجؤون إليه ، وسنداً يستندون عليه.
فهل يعقل أنّ أبا بكر يبعث إليه بجارية ، ويقبل ذلك علي عليه السلام منه ، وهو بعد لم يزل ساخطاً لما جرى معه ، ومع فاطمة عليها السلام من بعد النبيّ؟
ولو سلّمنا ذلك ، فهل أنّ علياً نسي ما مرّ له في حياة النبيّ صلى الله عليه وآله من استشارته في أمر ابنة أبي جهل ، وأنّ ذلك يسيء إلى فاطمة ، فقال : « لا أفعل شيئاً تكرهه » ، ثمّ ها هو الآن يقبل الجارية ، ويقيم معها ، حتّى تنكر ذلك عليه أُمّ أيمن!!
ثمّ ما بال علي عليه السلام وبنيه لم يتبيّنوا تلك الكراهية من فاطمة عليها السلام ، وهم يعيشون معها في البيت ، وتبيّنتها أُمّ أيمن التي كانت في بيت غير بيتها؟! دون من كان يزورها من نساء المهاجرين والأنصار ، وحتّى أسماء بنت عميس التي كانت تمرضّها.
كلّ ذلك يوحي باختلاق الحديث ، ولا نستبعده من عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير الذي قال فيه ابن حبّان : « كان ممّن ينفرد بالموضوعات عن الإثبات ، لا يحلّ كتابة حديثه إلاّ على وجه التعجّب ».
وما يدرينا لعلّ عبد الرزاق إنّما كتب حديثه في كتابه المصنّف على ذلك الوجه.
ثمّ أعلم أيها القارئ الكريم : أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله أعطى علياً جارية يقال لها ريطة بنت هلال بن حيان بن عميرة (76).
فلا يخلو إمّا أن يكون ذلك يغيظ فاطمة عليها السلام أو لا يغيظها؟ فإنّ كان يغيظها ، فلم فعله النبيّ صلى الله عليه وآله؟ وإن كان لا يغيظها فما الفرق بين ريطة وغيرها من النساء ، سواء كانت زوجة أو جارية بملك اليمين ، وكلتاهما بحكم الضرائر عند النساء؟
على أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله قد دافع عن الإمام في اصطفائه الجارية حينما بعثه إلى اليمن ، وشكاه بريدة ، كما في البخاريّ بسنده عن بريدة قال : بعث النبيّ صلى الله عليه وآله علياً إلى خالد ليقبض الخمس ، وكنت أبغض علياً ، وقد اغتسل ، فقلت لخالد : ألا ترى إلى هذا؟ فلمّا قدمنا على النبيّ صلى الله عليه وآله ذكرت له ، فقال : « يا بريدة أتبغض علياً »؟ فقلت : نعم ، فقال : « لا تبغضه ، فإنّ له في الخمس أكثر من ذلك » (77).
أقول : فما بال التسرّي لا يغيظ فاطمة عليها السلام إذا بلغها؟ ويغيظها إذا كان تزويجاً؟ ولا يفوتني تنبيه القارئ إلى أنّ الحديث السابق عن البخاريّ رواه غيره بأوسع وأوضح ممّا ذكره (78).
لماذا وضع هذا الحديث؟
لقد مرّ بنا مراراً تذكير القارئ بأنّ الأمويّين عمدوا إلى كثير من فضائل الإمام أمير المؤمنين عليه السلام فجعلوا مثلها للخلفاء الآخرين ، ولا ننس ما ذكره المدائني من كتب معاوية إلى عمّاله ببراءة الذمّة ممّن روى في فضل علي شيئاً.
ثمّ كتابه يأمرهم فيه بوضع الحديث في فضائل الشيخين.
ثمّ كتابه يأمرهم فيه بوضع الحديث في فضائل عثمان.
ولمّا كان عثمان لم يحمد في مصاهرته للنبيّ صلى الله عليه وآله ، وقد أساء صحبة زوجته أُمّ كلثوم ابنة النبيّ صلى الله عليه وآله ، فلمّا ماتت في شعبان سنة تسع من الهجرة ، فغسّلتها أسماء بنت عميس وصفية بنت عبد المطّلب ، وقيل : غسّلها نسوة من الأنصار فيهن أُمّ عطية.
قال ابن كثير : « وهذا ثابت في الصحيحين ، وثبت في الحديث أيضاً أنّه عليه السلام لمّا صلّى عليها وأراد دفنها قال : « لا يدخله أحد قارف الليلة أهله » ، فامتنع زوجها عثمان لذلك ، ودفنها أبو طلحة الأنصاري.
ويحتمل أنّه أراد بهذا الكلام من كان يتولّى ذلك ، ممّن يتبرّع بالحفر والدفن من الصحابة ، كأبي عبيدة وأبي طلحة ومن شابههم ، فقال : لا يدخل قبرها إلاّ من لم يقارف أهله من هؤلاء ، إذ يبعد أنّ عثمان كان عنده غير أُمّ كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وآله هذا بعيد » (79).
أقول : ومن البلية أن نجد بين علماء التبرير من هم عثمانيون أكثر من عثمان ، فهذا ابن كثير يذكر هذا الاحتمال البارد الكاسد ، ويريد أن يغمض عيون الناس ، فلا ينظروا إلى قبح مقارفة عثمان.
ومن جناية ابن كثير على الحديث وخيانته أنّه لم يذكره ، كما ورد في صحيح البخاريّ الذي اعتمده ، وإلى القارئ ما ذكره البخاريّ في صحيحه بسنده إلى أنس بن مالك قال : « شهدنا بنت رسول الله صلى الله عليه وآله ، ورسول الله جالس على القبر ، فرأيت عينيه تدمعان ، فقال : « هل فيكم من أحد لم يقارف الليلة »؟ فقال أبو طلحة ـ زيد ابن سهل الأنصاري ـ : أنا ، قال : « فانزل في قبرها » ، قال : فنزل في قبرها فقبرها ، قال ابن مبارك : قال فليح : أراه يعني الذنب.
قال أبو عبد الله ـ وهو البخاريّ ـ : ليقترفوا : ليكتسبوا » (80).
أقول : ولشرّاح صحيح البخاريّ وغيرهم في هذا الحديث تشريق وتغريب عجيب في تبرئة ساحة عثمان من مغبّة معنى المقارفة ، على أنّ جماعة من أعلام الحفّاظ قد فسّروا المقارفة بالذنب صراحة ، فقد مرّ عن فليح قوله : أراه يعني الذنب.
ومرّ في تعقيب البخاريّ بقوله : ليقترفوا : ليكتسبوا ، إشارة إلى قوله تعالى : {وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 113] ، كما فهمه ابن حجر في فتح الباري (81) ، وإلى قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 120] .
ولعلّ أجرأ من وقفت على كلامه في تفسيره المقارفة تصريحاً لا تلويحاً هو ابن بطال ، قال : « أراد النبيّ صلى الله عليه وآله أن يحرم عثمان النزول في قبرها ، وقد كان أحقّ الناس بذلك ، لأنّه كان بعلها , وفقد منها علقاً لا عوض منه ، لأنّه حين قال عليه السلام : « أيّكم لم يقارف الليلة » سكت عثمان ، ولم يقل : أنا ، لأنّه كان قد قارف ليلة ماتت بعض نسائه ، فلم يشغله الهمّ بالمصيبة وانقطاع صهره من النبيّ صلى الله عليه وآله عن المقارفة ، فحرم بذلك ما كان حقّاً له ، وكان أولى به من أبي طلحة وغيره ، وهذا بيّن في معنى الحديث.
ولعل النبيّ صلى الله عليه وآله قد كان علم بذلك بالوحي ، فلم يقل له شيئاً ، لأنّه فعل فعلاً حلالاً ، غير أنّ المصيبة لم تبلغ منه مبلغاً يشغله ، حتّى حرم ما حرم من ذلك بتعريض غير تصريح».
وهذا الحديث الذي فيه إدانة عثمان حتّى حرم من حقّ الدفن الذي كان هو الأولى به من أبي طلحة ، وعلم المسلمون المشيّعون يومئذ بذلك ، كيف لا يحاول الأمويّون وأنصارهم إذ لم يمكن تضييعه ، فلا أقلّ من تمييعه ولو عن طريق علماء التبرير في مستقبل الزمان ، وقد مرّ بنا كلام ابن كثير البارد الكاسد.
إذاً ، فليجتهد الأمويّون ومن لفّ لفّهم من بقية أعداء الإمام في خلق حدث أكبر يدينون به الإمام ، فكان حديث خطبة ابنة أبي جهل ، وقد مرّ بنا كيف حال رواته ، وكلّهم من زبانية الأمويّين ، وأعداء الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.
ولنختم الكلام بما قاله ابن أبي الحديد ـ المعتزلي أُصولاً والحنفي فروعاً ـ في شرح النهج ، قال : « وعندي أنّ هذا الخبر لو صحّ لم يكن على أمير المؤمنين في غضاضة ولا قدح ، لأنّ الأُمّة مجمعة على أنّه لو نكح ابنة أبي جهل مضافاً إلى نكاح فاطمة عليها السلام لجاز ، لأنّه داخل تحت عموم الآية المبيحة للنساء الأربع ، فابنة أبي جهل المشار إليها كانت مسلمة ، لأنّ هذه القصّة كانت بعد فتح مكّة ، وإسلام أهلها طوعاً وكرهاً ، ورواة الخبر يوافقون على ذلك.
فلم يبق إلاّ أنّه إن كان هذا الخبر صحيحاً ، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله لمّا رأى فاطمة قد غارت ، وأدركها ما يدرك النساء ، عاتبت علياً عليه السلام عتاب الأهل ، كما يستثبت الوالد رأي الولد ، ويستعطفه إلى رضا أهله وصلح زوجته ، ولعلّ الواقع كان بعض هذا الكلام ، فحرّف وزيد فيه.
ولو تأمّلت أحوال النبيّ صلى الله عليه وآله مع زوجاته ، وما كان يجري بينه وبينهن من الغضب تارة ، والصلح تارة أُخرى ، والسخط تارة والرضا أُخرى ، حتّى بلغ الأمر إلى الطلاق مرّة ، وإلى الإيلاء مرّة ، وإلى الهجر مرّة ، والقطيعة مرّة ، وتدبّرت ما ورد في الروايات الصحيحة ممّا كنّ يلقينه عليه السلام به ، ويسمعنه إيّاه ، لعلمت أنّ الذي عاب الحسدة والشائنون علياً عليه السلام به ، بالنسبة إلى تلك الأحوال قطرة من البحر المحيط.
ولو لم يكن إلاّ قصّة مارية ، وما جرى بين رسول الله صلى الله عليه وآله وبين تينك الامرأتين من الأحوال والأقوال ، حتّى أنزل فيهما قرآن يتلى في المحاريب ، ويكتب في الصحائف ، وقيل لهما ما يقال للإسكندر ملك الدنيا ، لو كان حيّاً ، منابذاً لرسول الله صلى الله عليه وآله : {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4].
ثمّ أردف بعد ذلك بالوعيد والتخويف : {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ} [التحريم: 5] الآيات بتمامها ، ثمّ ضرب لهما مثلاً امرأة نوح وامرأة لوط اللتين خانتا بعليهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً ، وتمام الآية معلوم ، فهل ما روي في الخبر من غضب فاطمة على علي عليه السلام وغيرتها من تعريض بني المغيرة له بنكاح عقيلتهم ، إذا قويس إلى هذه الأحوال وغيرها ، ممّا كان يجري إلاّ كنسبة التأفيف إلى حرب البسوس ، ولكن صاحب الهوى والعصبية لا علاج له » (82).
هذا آخر ما أردت بيانه حول نسيج الأفّاكين الذين حاولوا الغضّ من مقام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، وأنّه آذى فاطمة وأساء إليها ، تارة لخطبة ابنة أبي جهل ، وأُخرى بخطبة أسماء بنت عميس ، وثالثة بجارية بعث بها إليه أبو بكر ، ولكن كشفنا عوارهم ، وزدنا أوارهم ، وإن أغضب ذلك أنصارهم ، انتصاراً للحقّ المهضوم ، ودحضاً للباطل المزعوم.
____________________
1 ـ صحيح مسلم 7 / 141 ، سنن ابن ماجة 1 / 644 ، سنن أبي داود 1 / 460 ، المصنّف للصنعانيّ 7 / 302 ، صحيح ابن حبّان 15 / 407.
2 ـ شرح نهج البلاغة 4 / 63.
3 ـ العقد الفريد 1 / 44 ، أضواء على السنّة المحمّدية : 201 و 218 ، شيخ المضيرة أبو هريرة : 80 ، الإصابة 1 / 75 ، شرح نهج البلاغة 4 / 67 و 16 / 165.
4 ـ كنز العمّال 10 / 291 ، أضواء على السنّة المحمّدية : 54 و 201 ، شيخ المضيرة أبو هريرة : 103 ، تاريخ مدينة دمشق 50 / 172 ، سير أعلام النبلاء 2 / 600 ، الإصابة 1 / 69 ، تاريخ المدينة 3 / 800 ، البداية والنهاية 8 / 115.
5 ـ شرح نهج البلاغة 4 / 68.
6 ـ المصدر السابق 4 / 67.
7 ـ الغارات 2 / 659.
8 ـ المصنّف لابن أبي شيبة 7 / 499.
9 ـ مسند أبي يعلى 11 / 307.
10 ـ تاريخ مدينة دمشق 42 / 232.
11 ـ البداية والنهاية 5 / 232.
12 ـ شرح نهج البلاغة 4 / 68.
13 ـ المصدر السابق 4 / 62.
14 ـ المصدر السابق 2 / 167 ، كنز العمّال 11 / 196 و 330 و 340 ، تاريخ الأُمم والملوك 3 / 514 ، الإمامة والسياسة 1 / 92 ، جواهر المطالب 2 / 31 ، سبل الهدى والرشاد 10 / 149 ، ينابيع المودّة 2 / 388.
15 ـ الإمامة والسياسة 1 / 28.
16 ـ شرح نهج البلاغة 4 / 79.
17 ـ جمهرة أنساب العرب : 120.
18 ـ سير أعلام النبلاء 3 / 356 ، تاريخ ابن خلدون 3 / 28.
19 ـ شرح نهج البلاغة 4 / 62 و 20 / 148.
20 ـ المصدر السابق 4 / 79.
21 ـ الجامع الكبير 5 / 360.
22 ـ المستدرك 3 / 159.
23 ـ السيرة النبوية لابن هشام 4 / 930.
24 ـ كنز العمّال 3 / 787 ، تاريخ مدينة دمشق 57 / 159 ، أُسد الغابة 4 / 338.
25 ـ المعارف : 242.
26 ـ سير أعلام النبلاء 3 / 151 ، تاريخ مدينة دمشق 58 / 168.
27 ـ الاستيعاب 3 / 456.
28 ـ شرح نهج البلاغة 1 / 189.
29 ـ الكامل في التاريخ 3 / 71.
30 ـ صحيح البخاريّ 4 / 48.
31 ـ المصدر السابق 4 / 210.
32 ـ المصدر السابق 4 / 213.
33 ـ المصدر السابق 6 / 158.
34 ـ المصدر السابق 6 / 171.
35 ـ موارد الظمآن : 555 ، المستدرك 3 / 150.
36 ـ تاريخ مدينة دمشق 42 / 228.
37 ـ شرح نهج البلاغة 17 / 44 ، إحياء علوم الدين 2 / 206.
38 ـ تاريخ مدينة دمشق 55 / 297.
39 ـ الكامل في التاريخ 4 / 87.
40 ـ المصدر السابق 4 / 113.
41 ـ الإرشاد 2 / 152.
42 ـ مناقب آل أبي طالب 3 / 303.
43 ـ فتح الباري 6 / 149.
44 ـ المصدر السابق 7 / 63.
45 ـ المصدر السابق 7 / 68.
46 ـ المصدر السابق 9 / 269.
47 ـ صحيح البخاريّ 4 / 212.
48 ـ فتح الباري 9 / 268.
49 ـ صحيح البخاريّ 6 / 158.
50 ـ فتح الباري 9 / 332.
51 ـ معرفة الصحابة 1 / 301 ط مكتبة الدار بالمدينة المنورة سنة 1408 هـ.
52 ـ سبل الهدى والرشاد 9 / 126.
53 ـ ذخائر العقبى : 106 ، صحيح مسلم 4 / 164 ، السنن الكبرى للنسائيّ 3 / 297 ، المعجم الكبير 3 / 139.
54 ـ جمهرة أنساب العرب : 145.
55 ـ الإصابة 8 / 253.
56 ـ المستدرك 3 / 158.
57 ـ المصنّف للصنعانيّ 10 / 467.
58 ـ سير أعلام النبلاء 2 / 125.
59 ـ الدرّ المنثور 4 / 309.
60 ـ مجمع الزوائد 9 / 203.
61 ـ الضعفاء الكبير 3 / 118.
62 ـ لسان الميزان 4 / 97.
63 ـ كنز العمّال 12 / 516.
64 ـ الجامع لأحكام القرآن 8 / 218.
65 ـ مسند أحمد 5 / 26 ، مجمع الزوائد 9 / 114 ، المصنّف لابن شيبة 7 / 505 ، الآحاد والمثاني 1 / 142 ، المعجم الكبير 20 / 230 ، شرح نهج البلاغة 13 / 227 ، نظم درر السمطين 188 ، كنز العمّال 11 / 605 ، تاريخ مدينة دمشق 42 / 126 و 70 / 113 ، سبل الهدى والرشاد 11 / 291.
66 ـ كنز العمّال 12 / 499 ، تاريخ مدينة دمشق 30 / 390 ، بلاغات النساء : 6.
67 ـ تاريخ الأُمم والملوك 2 / 60.
68 ـ شرح نهج البلاغة 13 / 197 ، ينابيع المودّة 1 / 208.
69 ـ المعجم الكبير 22 / 405.
70 ـ مجمع الزوائد 9 / 203.
71 ـ السيرة النبوية لابن كثير 3 / 610.
72 ـ المصدر السابق 3 / 478.
73 ـ الطبقات الكبرى 8 / 266.
74 ـ المصنّف للصنعانيّ 7 / 303.
75 ـ كتاب المجروحين 2 / 71.
76 ـ السيرة النبوية لابن كثير 3 / 671.
77 ـ صحيح البخاريّ 5 / 110.
78 ـ فتح الباري 8 / 53.
79 ـ السيرة النبوية لابن كثير 4 / 74.
80 ـ صحيح البخاريّ 2 / 93.
81 ـ فتح الباري 3 / 167.
82 ـ شرح نهج البلاغة 4 / 65.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|