المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

العقائد الاسلامية
عدد المواضيع في هذا القسم 4880 موضوعاً
التوحيد
العدل
النبوة
الامامة
المعاد
فرق و أديان
شبهات و ردود
أسئلة وأجوبة عقائدية
الحوار العقائدي

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
تـشكيـل اتـجاهات المـستـهلك والعوامـل المؤثـرة عليـها
2024-11-27
النـماذج النـظريـة لاتـجاهـات المـستـهلـك
2024-11-27
{اصبروا وصابروا ورابطوا }
2024-11-27
الله لا يضيع اجر عامل
2024-11-27
ذكر الله
2024-11-27
الاختبار في ذبل الأموال والأنفس
2024-11-27



الكلام في إمكان البعثة  
  
1031   11:41 مساءاً   التاريخ: 2-08-2015
المؤلف : العلامة الشيخ سديد الدين الحمصيّ الرازيّ
الكتاب أو المصدر : المنقذ من التقليد والمرشد الى التوحيد المسمى بالتعليق العراقي
الجزء والصفحة : ج1 - ص372- 401
القسم : العقائد الاسلامية / النبوة / اثبات النبوة /

 البعثة ممكنة متصوّرة بأحد وجهين.

إمّا بأن يخلق اللّه تعالى كلاما في محلّ يتضمّن أنّ اللّه يبعث الشخص الذي يرسله إلى الخلق ويأمره بأن يؤدّي إليهم ما يوجبه إليه ويقرن إلى ذلك الكلام علما معجزا يدلّ على صدقه كما فعل بموسى- عليه السلام- في ابتداء أمره على ما حكاه تعالى في قوله‏ {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} [القصص: 30، 31].

وإمّا بأن يظهر كتابة تتضمّن هذا المعنى بحيث يراها ذلك الرسول ويشاهدها ويقرن إليها علما معجزا يدلّ على صدق ما تضمنته. وهذا على ما ثبت في حقّ جبرئيل عليه السلام أنه كان ينظر في اللوح المحفوظ ويشاهد ما يظهر عليه من الكتابة ويفهم معناها ثمّ كان يؤدّي ما فهم منها إلى الرسول.

وكلّ هذا ممكن مقدور له تعالى لا استحالة فيه، وأمّا صدق الملك فانّما يعلمه الرسول بالعلم المعجز الذي يظهر على الملك، وأحدنا إنما يعلم صدق الرسول بالمعجز أيضا. وذلك لأنّه لا طريق إلى معرفة صدق الرسل، إلّا المعجز او ما يستند إلى المعجز.

فإن قيل: ما حقيقة المعجز؟ ولم قلتم: إنّه يدلّ على صدق من ظهر عليه؟

و لم قلتم: إنّه لا طريق إلى معرفة صدق الرسل إلّا المعجز أو ما يستند إليه؟

وما الذي تعنون بما يستند إلى المعجز؟

قلنا: أمّا المعجز فهو في أصل الوضع عبارة عمّا يعجز الغير، كالمقدر فانّه عبارة عمّن يجعل الغير قادرا، وأمّا في العرف فهو الخارق للعادة الذي يظهر من جهة اللّه تعالى الدال على صدق من ظهر عليه. وله شروط منها: أن يكون خارقا لعادة المكلّفين الذين من ظهر عليه بين ظهرانيهم.

ومنها: أن يتعذّر على المكلّفين الإتيان بجنسه، أو وقوعه على الوجه الذي وقع عليه ومنها: أن يختصّ بمن ظهر عليه على وجه التصديق لدعواه الصريح الظاهر أو ما يجرى مجراه كان يظهر معجز على نبيّ استقرّت نبوّته من دون تجديد دعوى منه، لأنّ ظهور أمره ودعواه الأولى بين الخلق يجري مجرى الدعوى المجدّدة وكذلك تميّز شخص من الناس بالعفّة والصلاح وصدق القول وحسن الطريقة وظهور ذلك في الناس حتى عرف به يجرى مجرى ادّعائه ذلك بالقول فيجوز ظهور المعجز عليه عندنا وإذا ظهر عليه كان تصديقا لما يجري مجرى الدعوى ... وإنما قلنا إنّه يدلّ على صدق من ظهر عليه لأنّه يجرى مجرى التصديق بالقول. بيان ذلك أنّه لا فرق في الشاهد بين أن يقول الملك لمن ادّعى عليه الرسالة: صدقت وبين أن يفعل ما التمسه منه ذلك المدّعي كان ذلك الذي التمسه منه مما لم يجر به عادة الملك، كأن يقول للملك إن كنت صادقا فيما ادّعيته عليك فناولني خاتمك مع ما قد علمنا أنّه لم تجر عادة الملك بأن يعطي خاتمه كلّ أحد فإذا ناوله خاتمه كان ذلك تصديقا له، جاريا مجرى قوله صدقت.

وإنّما قلنا: لا طريق إلى معرفة صدق الرسل إلّا المعجز او ما يستند إليه ، لأنّ الأدلّة على ضربين عقليّ وسمعيّ أمّا العقليات فخالية عن الأدلة على صدق‏ المعجز الغير، وأمّا السمعيّات من الكتاب والسنّة والإجماع على قول من يذهب إلى أنّ كون الإجماع حجة ممّا يعلم سمعا فمبنيّة على صدق الرسل.

فما لم يعلم صدق الرسول لم يعلم كون هذه الأشياء أدلّة، فكيف يستدلّ بها، وببعضها على صدق الرسول.

وإنما عنينا بما يستند إلى المعجز نصّ نبيّ على نبيّ إذ لو نصّ نبيّ على نبيّ، لدلّ على صدقه ويجرى مجرى المعجز الظاهر عليه، ولكن ذلك النصّ يستند إلى المعجز من حيث انّ النبي الأوّل لا بدّ له من معجز.

واعلم أنّ ما قلناه- من أنه لا طريق إلى معرفة صدق الرسل عليهم السلام إلّا المعجز أو ما يستند إليه- لا يطرد على قاعدتنا في الإجماع ووجه كونه حجّة، لأنّ الإجماع عندنا إنّما يكون حجة لدخول المعصوم في جملة المجمعين، ولدخول قوله فيما بين أقوالهم، وهذه الجملة إنّما نعلم عقلا فلو أجمع أهل عصر على كون شخص معيّن نبيّا لعلم بذلك كونه نبيّا ولا يكون ذلك معجزا ولا مستندا إليه.

فإن قيل: كيف تقول ذلك وتعيين الامام إنّما يعلم بالنصّ المستند إلى المعجز أو المعجز نفسه؟ فما يعلم بالإجماع على طريقتكم هذه يكون معلوما أيضا بالمعجز أو ما يستند إليه، فكيف تقول إنّ انحصار الطريق إلى معرفة الرسل في المعجز وما يستند إليه لا يستقيم على طريقتنا.

قلنا: العلم بكون الاجماع حجّة لا يفتقر إلى العلم بتعيين الإمام بل العلم بوجود إمام معصوم على الجملة يكفي في هذا الباب، فإذا علمنا أنّ في العصر معصوما على الجملة، علمنا بذلك أنّ اجماع أهل ذلك العصر حجة فلو أجمعوا بعد ما علمنا ذلك على كون شخص نبيّا لعلمنا بإجماعهم كون ذلك الشخص نبيّا، ولا يكون ذلك معجزا ولا مستندا إلى معجز.

الّا أنّ من الممكن أن يقال: والإمام المعصوم الذي علمتموه على الجملة بماذا علم نبوّة ذلك الشخص حتى قال بنبوّته؟ فإن قلتم بقول إمام آخر، عرفه هو أيضا على الجملة، قلنا: الإمام الأول بما ذا عرف نبوّته؟ فلا بدّ من أن يقال عرفها إما بمعجزة ظهرت عليه أو بنصّ من يستند منه إلى معجزة.

والجواب عنه أن نقول: الأمر وان كان على ما ذكرناه إلّا أنّ المستند بالإجماع الذي علم أنّ فيما بينهم معصوما على الجملة لا يحتاج في استدلاله ذلك إلى أن يعتبر أنّ المعصوم بما ذا علم نبوّته بخلاف من يستدلّ بنصّ نبيّ آخر على صدق النبيّ الثاني لأنّه إن لم يعتبر ظهور المعجز على النبيّ الأوّل لم يعلم بقوله وبنصّه نبوّة النبيّ الثاني، فصحّ ما قلته من أنّ المستدلّ بالإجماع على صدق النبيّ لا يستند استدلاله إلى معجز.

وقد قال بعض الفلاسفة: إنّ الطريق الموصل إلى الثقة واليقين بكون النبيّ نبيّا إنّما هو أن يعرف مطابقة شرعه للمصلحة دون المعجز، لأنّ المعجز لا يوصل إلى اليقين بنبوّة النبيّ لتجويز أن يكون سحرا وشيئا توصّل إليه بحيلة.

قالوا: لأنّ من ادّعى صنعة من الصنائع فطريق معرفة صدقه أن يأتي بها على وجهها، الا ترى أن رجلين لو ادّعيا حفظ القرآن ثمّ قرأه أحدهما والآخر لم يقرأه ولكن أحيا ميّتا دلالة على حفظ القرآن لكان علمنا بصدق من قرأه أقوى منه بصدق من أحيا الميّت.

فيقال لهم: إنما نعلم أن من قرأ القرآن ظاهرا صادق في دعواه حفظ القرآن ونثق بقوله، لأنا نعلم القرآن، وقد تقدّم علمنا به، فبذلك نعلم أنه صادق في دعواه الا ترى أنّ من لم يتعلّم القرآن ولم يسمعه لا يعلم بقراءته تلك أنّه صادق، فبأيّ طريق نعلم مطابقة الشرع للمصلحة؟ أبا لعقل نعلم أم بقول الرسول؟

إن قالوا بالعقل قلنا: لو كان مطابقة الشرع لمصلحتنا معلومة بالعقل، لاستغنينا عن بعثة النبيّ.

وإن قالوا بقول الرسول قلنا وعلى قاعدتكم هذه إنّما نعلم صدق الرسول بمطابقة شرعه لمصلحتنا فإذا قلتم إنما نعلم كون شرعه مطابقا لمصلحتنا بقوله كان ذلك إيقافا لكلّ واحد منهما على صاحبه واستدلالا بالشيء على نفسه.

فإن قالوا: إنّما نعلمها مصالح بأن نستعملها فنجدها مؤثرة في رياضة النفس والزهد في الدنيا.

قلنا: فهذا تعلمونه بعد استعمالها. فما دليلكم على وجوب استعمالها؟ وبم تنكرون قبل استعمالها أن تكون مفاسد قبيحة؟

وبعد، فكلّ من اعتقد في شي‏ء انّه عبادة وتديّن به، فانّه إذا استعمله واشتغل به، وجد لنفسه تميّزا ممّن لا يشتغل به، حقّا كان ذلك أو باطلا.

يبيّن ذلك أن رهابنة النصارى وعبدة الأصنام يدّعون فيما يعتقدونه عبادة أن لاستعماله من الأثر في النفس بالرياضة والزهد في الدنيا والرذائل مثل ما تدّعونه أنتم. ونجدهم مروّضين زاهدين في الدنيا ويكفّون عن الملاذّ من المآكل والمشارب والمناكح والملابس، ومع هذا لم يدلّ ذلك على صحّة ديانتهم وكون ما يستعملونه من عباداتهم مصالح، فتحقّق أنّه لا بدّ من تقديم العلم بحقيقة الدين والشرع وكون العبادة مصلحة ثمّ الاشتغال بها .

ثمّ يقال لهم: إذا جوّزتم كون المعجزات سحرا يريكم المدّعي للنبوّة أنّها معجزات وليست كذلك، فما أنكرتم فيما يأتي به من الشرع والعبادة ويستعمله ويدّعي كونها مصلحة أنّه لا يكون مصلحة ولكنّه بسحره يخيّل إليكم ويوهمكم كونه مصلحة ولا يكون كذلك.

فأمّا ما قالوه قدحا في المعجز، ودلالته من تجويز كونه سحرا وشيئا توصّل بحيلة، فباطل بما ذكرناه في شروط المعجزات ...

فإن قيل: لم اعتبرتم كون المعجز خارقا للعادة؟ ولم تعدّيتم أوّلا بعادة المكلّفين؟ وثانيا بعادة المكلّفين الذين من ظهر عليه المعجز بين ظهرانيّهم؟ ولم قلتم إنّه يجب أن يتعذّر على العباد الإتيان بجنسه؟ أو بوقوعه على الوجه الذي وقع عليه؟ ولم اعتبرتم اختصاصه بالمدّعي؟ ولم قلتم: إنّ ما كان كذلك كان جاريا مجرى التصديق بالقول؟ وهلا جاز أن يفعله اللّه تعالى لغرض آخر من مصلحة أو غيرها؟

قلنا: إنّما اعتبرنا كون المعجز خارقا للعادة، لأنّ المعتاد لا يجري مجرى التصديق بالقول. بيان ذلك أنّ الملك لو فعل عند دعوى المدّعى عليه الرسالة ما جرت عادته به كأن يستند على سريره أو يحرّك يده أو يتنفس، فانّ شيئا من ذلك لم يكن تصديقا للمدّعي لما كان ذلك معتادا له. ولكنه لو ناوله خاتمه أو فعل فعلا آخر لم تجر عادته به، لكان ذلك تصديقا للمدّعي لما كان ذلك غير معتاد له؛ كذلك في مسألتنا ما يكون خارقا للعادة من جهته تعالى يكون جاريا مجرى التصديق بالقول، وما لم يخرق العادة لم يجر مجراه، ولهذا لا يمكن الاستدلال بطلوع الشمس من مشرقها على صدق المدّعي كما يمكن بطلوعها من مغربها أن لو طلعت وإنّما قيدناه بعادة المكلّفين، لأنّ عند زوال التكليف وظهور أشراط القيامة، يفعل اللّه تعالى ما يخرق العادة فيه ولا يكون ذلك جاريا مجرى التصديق، كانفطار السماء، وانتثار الكواكب وتسيير الجبال وتكوير الشمس وما أشبهها، على ما ذكره جلّ وعلا في قوله: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} [الانفطار: 1، 2]. الآيات، وفي قوله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1].

وإنّما قيدناه ثانيا بعادة المكلّفين الذين من ظهر عليه بين ظهرانيّهم، لأنّه لا يجب في المعجز أن يكون خارقا لعادة سائر البلاد. ألا ترى أن الرسول عليه السلام لو جعل دلالة نبوّته سقوط الثلج بأرض تهامة في الصيف الصائف، لصحّ ذلك ولكان دلالة على نبوّته وإن لم يكن خارقا لعادة سائر البلاد والبقاع، إذ لا شكّ في أنّه لا يكون خارقا لعادة أهل جبال دنباوند. وإنّما اعتبرنا أن يتعذّر على العباد الاتيان بجنسه، كإحياء الموتى أو وقوعه على الوجه الذي وقع عليه كطفر البحر ونقل الجبل، ليعلم بذلك انّه من فعله تعالى، فيستدلّ به على صدق المدّعي. وذلك لأنّه لو لم يكن كذلك لما أمكننا أن نعلم انّه من فعل اللّه تعالى، ولو أمكننا أن نعلم فيما لا يكون كذلك أنّه من فعل اللّه تعالى، لأمكننا الاستدلال به على صدق المدّعي بعد أن يكون خارقا للعادة.

وإنّما اعتبرنا كونه مختصا بالمدّعي على وجه التصديق لدعواه، لأنّه لو لم يكن كذلك كأن يقدّم على الدعوى بزمان، أو يكون نقيض ما التمسه المدّعي، كأن يلتمس المدّعي من اللّه تعالى إحياء الموتى فيميت اللّه عزّ وجلّ سائر الأحياء، لم يدلّ على صدق المدّعي وإن كان خارقا للعادة.

وأمّا ما ذكره السائل أخيرا، فالجواب عنه أن نقول: المعجز يجري مجرى التصديق بالقول ... فلا يجوز أن يفعله تعالى لا للتصديق بل لغرض آخر، ولا يمتنع أن يكون فيه غرض آخر، ولكن لا بدّ من كونه تابعا لهذا الغرض، كما لا يجوز أن يقول له تعالى صدقت ولا يعني به تصديقه. بيان ذلك أنّ الملك في الشاهد لو فعل ما التمسه المدّعي عليه الرسالة ممّا لم تجر عادته به، ثمّ قال عقيبه: ما قصدت بما فعلت تصديقه، لعدّ سفيها وعابثا معميّا في فعله، كما لو قال له: صدقت، ثمّ قال بعده: ما أردت به تصديقه.

فإن قيل: كيف تقولون إنّ المعجز يجري مجرى التصديق بالقول، والقول لا يفيد إلّا بتقديم المواضعة عليه ولا مواضعة في الفعل، فكيف يكون جاريا مجرى التصديق بالقول؟ ثمّ أحدنا يضطرّ إلى قصد الملك في الشاهد، فيعلم ضرورة أنّ الملك صدّق المدّعي عليه الرسالة بما فعل، ولا يجوز الاضطرار إلى قصده للّه تعالى في دار التكليف. ثمّ إذا رجعتم إلى الشاهد في هذا الباب، فلا فرق في الشاهد بين أن يفعل الملك ما التمسه المدّعي ممّا وصفتموه وبين أن يقول المدّعي عليه الرسالة إن كنت كاذبا فازمني بما في يدك من السلاح أو اقتلني أو امنعني. فانّه إذا قال ذلك، والملك لا يفعل شيئا من ذلك، كان ذلك تصديقا له، فقولوا في حقّه تعالى مثله، حتّى لو جاء متنبّئ فقال: اللّهم إن كنت كاذبا فامطر عليّ حجارة من السماء أو ائتني بعذاب أليم. يقول هذا، واللّه تعالى لا يفعل شيئا من ذلك، لكان ذلك تصديقا له، والمعلوم خلاف ذلك.

قلنا: أمّا ما ذكره السائل أوّلا، فالجواب عنه أنّ المعجز وإن لم يكن فيه مواضعة إلّا أنّ فيه ما يجري مجرى المواضعة، وهو التماس المدّعي من فعل اللّه تعالى خارق عادة عقيب دعواه بيانه ما ذكرناه في الشاهد : وهو أنّ المدّعي على الملك الرسالة إذا التمس منه فعلا خارقا لعادته عقيب دعواه، كان ذلك جاريا مجرى المواضعة في ذلك الفعل على انّه للتصديق.

وأمّا ما ذكره ثانيا، فالجواب عنه أن نقول: أرأيت لو لم يضطرّ أحدنا إلى قصد الملك، أليس كان يمكنه أن يستدلّ بالفعل الذي وصفناه‏ على صدق المدّعي وكان يعلم أنّه فعله للتصديق...

وأمّا ما ذكره أخيرا، فالجواب عنه أن نقول: امتناع الملك من قتل المدّعي عليه الرسالة ورميه بالسلاح ومنعه من القول، إنّما يكون تصديقا له من حيث أنّه خارق لعادته، فيكون داخلا فيما ذكرناه. وذلك لأنّ الملوك في الشاهد عادتهم جارية بإهلاك المفتري المتقوّل عليهم، سيما إذا كان بمرئى ومسمع، منهم، فإذا التمس المدّعي من الملك شيئا ممّا وصفناه ولم يفعل الملك به ذلك كان ذلك تصديقا له، لأنّه خارق لعادته، وليس كذلك في حقّه تعالى لأنّه حليم لا يعجل بالعقوبة ولم تجر عادته بتعجيل عقوبة المفتري المتقوّل عليه، بل عادته جارية بالإغضاء عن المسيئين والعفو عن المذنبين. فإذا التمس المتنبّي من اللّه تعالى العذاب ولم يفعل به، كان بمنزلة الامور المعتادة، فلا يكون تصديقا له.

فإن قيل: لم اقتصرتم في حدّ المعجز على ما يكون من فعله تعالى؟ وهلّا زدتم فيه: «أو يكون جاريا مجرى فعله جلّ وعزّ»، على ما أعتبره الشيوخ؟ فانّهم اعتبروا ذلك وبيّنوه بأن قالوا: لو كان طفر البحر ونقل الجبال والكلام الخارق للعادة بفصاحته من فعل مدّعي النبوّة لدلّ على صدقه، كدلالته لو كان من قبله تعالى.

قلنا: الخارق للعادة ينبغي أن يكون من قبل اللّه تعالى الذي ثبت حكمته وأنّه لا يصدّق الكذّاب، حتى يدلّ على صدق المدّعي. فأمّا ما يكون من قبل المدّعي فانّه لا يدلّ على صدقه، إذ تصديق المدّعي نفسه لا يكون دليل صدقه، وكذا ما يكون من قبل غيره ممّن يجوز عليه تصديق الكذّاب لا يدلّ على صدقه.

أمّا ما أشار إليه السائل من طفر المدّعي البحر ونقله الجبال‏ وإتيانه بالكلام الخارق للعادة بفصاحته، فالدالّ في تلك الصورة على صدق المدّعي إنّما هو تخصيص اللّه تعالى إيّاه بالقدر التي تمكّن بها من طفر البحر ونقل الجبل، وتخصيصه تعالى له بالعلوم التي تمكّن بها من مثل تلك الفصاحة وتلك القدر والعلوم من قبل اللّه تعالى سبحانه، فسلم ما ذكرناه في خدّ المعجز من الطعن.

فإن قيل: تلك القدر والعلوم بأعيانها أو ما هو من قبلها وجنسها كانت مخلوقة من قبل في ذلك المدّعي، فلا تكون واقعة عقيب دعواه، فلا يكون تصديقا له.

قلنا: ليس الامر على ما قدره‏ السائل، بل لا بدّ في تلك القدر والعلوم ان تكون واقعة عقيب دعواه، لأنّها خارقة للعادة، ولا يجوز أن يخرق اللّه تعالى العادة في زمان التكليف لا للتصديق. وذلك لأنه لو فعل ذلك لا للتصديق لقدح في دلالة التصديق، ويجب عليه تعالى في حكمته حراسة دلالة التصديق.

فإن قيل: قد أدخلتم في المعجزات ما يدخل جنسه تحت مقدور العباد إذا تعذّر عليهم الإتيان بمثله في المقدار والوجه الذي اختصّ به كطفر البحر ونقل الجبال والكلام الخارق للعادة بفصاحته، فلم لا يجوز فيما يجري هذا المجرى أن يكون من فعل بعض الملائكة أو بعض الجنّ. ولا يمكن الاعتصام من ذلك بأن يقال: وجود الملائكة والجنّ إنّما يعلم سمعا وذلك لأنّ وجود القبيلين وإن علم سمعا، فتجويز وجودهما في العقل، وكذا في العقل جواز أن يكون اللّه تعالى قد أجرى العادة فيهم، بخلق القدر الزائدة والعلوم الزائدة لهم، وإن يتأتى منهم بسبب ذلك ما لا يتأتى منّا، فإذا كان كذلك فكيف يمكن الاستدلال بما يدخل جنسه تحت مقدور العباد على صدق المدّعي؟

قلنا: قد أجيب عن ذلك بأجوبة، منها: إن قيل: إنّ هذا يكون استفسادا ويجب على القديم تعالى أن يمنع من الاستفساد، إلّا أنّ هذا الجواب ليس بصحيح. وذلك لأنّ الذي يجب على القديم تعالى هو أن لا يفعل الاستفساد، فأمّا أن يمنع من الاستفساد جبرا فلا، ولهذا لم يمنع كثيرا من المنحرفين والمشعبذين وأصحاب الشبهات، كماني والحلّاج وزردشت، من إيراد الشبهات التي ضلّ بها خلق كثير.

فإذا قيل: دعاء هؤلاء المبطلين ليس بمفسدة من حيث انّ القديم تعالى علم من حال من ضلّ بدعائهم أنّه كان يضلّ مع فقد دعائهم.

أمكن أن يقال مثل ذلك فيما يفعله الجنّي بأن يقال: بم تنكرون على من يقول كذلك علم تعالى أنّ كلّ من يضلّ بفعل الجنّي من طفر البحر ونقل الجبل أنّه كان يضلّ، وإن لم يفعل الجنّي ما فعل.

وكذلك إن قيل: إنّ دعاء هؤلاء المبطلين ليس بمفسدة، بل هو معدود في باب التمكين من حيث أنّ المكلّفين كانوا معترضين‏ لثواب زائد مع دعائهم على ما كانوا معرضين له مع فقد دعائهم فلا يكون مفسدة من حيث انّ المفسدة هي ما يقع عنده الفساد، ولولاه لما وقع ولا يكون تمكينا ولا له حظّ في التمكين.

أمكن أن يقال مثل ذلك فيما يفعله الجنّيّ حذو النعل بالنعل.

وقد قيل في الجواب عن ذلك: إنّ ما لا يدخل جنسه تحت مقدور العباد إنما كان معجزا دالا على صدق المدّعي لكونه خارقا للعادة من حيث انّه لو كان معتادا لم يدلّ على صدق المدّعي، ومهما كان خارقا للعادة قائم فيما يدخل جنسه تحت مقدور العباد. فيجب أن يكون معجزا دالا على صدق المدّعي، لكونه خارقا للعادة. وكونه خارقا للعادة قائم فيما يدخل جنسه تحت مقدور العباد، فيجب أن يكون معجزا دالا على صدق المدّعي من فعل أي فاعل كان إلّا أنّ هذا الجواب ليس بصحيح وذلك لأنّ كونه خارقا للعادة لا يكفي في هذا الباب، حتّى يعلم أنّه من فعل من لا يجوز عليه تصديق الكذّاب، وإلّا لم يدلّ على صدق المدّعي.

وقد قيل في الجواب عن ذلك: إنّ هذا لو قدح في كون ما يدخل جنسه تحت مقدور العباد معجزا لقدح أيضا في كون ما لا يدخل جنسه تحت مقدور العباد معجزا وذلك لأنّ سؤال الجنّ يرد عليهما جميعا، بأن يقال: جوّزوا أن يكون اللّه تعالى أجرى العادة فيما بين الجنّ بأنّهم مهما قربوا جسما من الميّت أحياه اللّه تعالى، ومهما قرّبوا جسما آخر من الأكمه والأبرص أبرأهما اللّه تعالى، ومهما قرّبوا جسما آخر مخصوصا من العصا صارت حيّة كما أنّه تعالى أجرى العادة فيما بيننا بأنّ حجر المغناطيس مهما قرب من الحديد انجذب إليه بجذبه تعالى الحديد نحو المغناطيس. فعلى هذا يجب أن لا نثق بشي‏ء من المعجزات وأن لا يمكننا الاستدلال بشي‏ء من الأشياء على صدق الأنبياء، سواء دخل جنسه تحت مقدور العباد أو لم يدخل.

ويمكن الاعتراض على هذا الجواب بأن يقال: هب أنّ اللّه تعالى أجرى العادة فيما بين الجنّ بأنّهم مهما قربوا جسما مخصوصا من الميّت أحياه. وكذا القول في أشباهه مما ذكره السائل وعدّه. إلّا أنّا إنّما نجوّز ذلك بحيث لا نطّلع نحن عليه ولا نشاهده، لأنّا لم نر قطّ شيئا من ذلك. فإذا فعل تعالى شيئا من ذلك بحضرتنا وبحيث نطّلع نحن عليه، كان ذلك خارقا لعادتنا ولم يكن جاريا على مقتضى عادة الجنّ أيضا، فيكون جاريا مجرى تصديق الكذّاب إن كان المدّعي كاذبا واللّه تعالى لا يصدّق الكذّاب فنعلم بظهور مثل ذلك على المدّعي صدقه وليس كذلك نقل الجبل وطفر البحر وإلقاء الكلام الخارق للعادة بفصاحته، لأنّ نفس هذه الأشياء تكون خارقة للعادة فإذا جوّزنا أن يكون من فعل الجنّ والجنّي يجوز عليه تصديق الكذّاب لم يمكن الاستدلال بشي‏ء من ذلك على صدق المدّعي. فتبيّن بما ذكرناه أن سؤال الجنّ يقدح فيما يدخل جنسه تحت مقدور العباد ولا يقدح فيما لا يدخل جنسه تحت مقدور العباد.

فإن قيل: مضمون ما ذكرتموه في هذا الاعتراض أنّ اللّه تعالى لا يحيي‏ الميّت عند تقريب الجنّي الجسم المخصوص منه إذا كان المدّعي كاذبا، فكيف تقولون ذلك؟ ولو لم يحيي اللّه الميّت عند تقريب الجنّي الجسم المخصوص منه لكان ذلك خارقا لعادة الجنّ على ما فرضناه، ومن الجائز، أن يدّعي مدّع فيما بينهم النبوة ويجعل دلالة صدقه على أن لا يحيي اللّه تعالى الميّت عند تقريب ذلك الجسم منه فيكون ذلك تصديقا للكذّاب الجنّي، وإن أحياه كان تصديقا للكذّاب الإنسيّ، فيصير الأمر في طرفي نقيض، أعني إن أحياه كان تصديقا للكذّاب الانسيّ، وإن لم يحيه كان تصديقا للكذّاب الجنّي، فلا يمكن التفصّي من لزوم هذا إلا بأن يقال إنّ هذا يكون استفسادا ويجب عليه تعالى أن يمنع من الاستفساد، وإذا لم يمكن التفصي من لزوم ما ذكره السائل إلّا بهذا، فاقنعوا بمثله في الجواب في أصل المسألة وقولوا إنّه تعالى يمنع الجنّي من نقل الجبل وما أشبهه عند دعوى الكاذب.

قلنا: قد سبق ما هو جواب عن هذه الزيادة عند التأمّل. وذلك لأنّا إنّما جوّزنا أن يكون اللّه تعالى أجرى العادة فيما بين الجنّ بإحياء الميّت عند تقريب ذلك الجسم منه، بحيث لا نطّلع عليه، فأمّا إذا كان بحضرتنا فلم تجر عادتهم به، لأنّا لم نر ذلك قط، فإذا كان كذلك فيجب على اللّه تعالى أن لا يحيي الميّت إن كان المدّعي كاذبا، وذلك لا يكون خرقا لعادة الجن.

وقد قيل في الجواب عن ذلك: إنّ نقل الجبل لا يجوز أن يكون من فعل الجنّي ولا من فعل الملك، لأنّ القادر بالقدرة يحتاج في مثل ذلك الفعل إلى قدر كثيرة، والقدرة الكثيرة تحتاج إلى بنى كثيرة. ومن كان كثير البنى عظيم الأجزاء لا بدّ أن يكون كثيفا، وإذا كان كثيفا شاهدنا فإذا رأينا المدّعي للنبوّة نقل الجبل بحيث لا نشاهد جسما كثيفا يعينه على ذلك، علمنا أنّه ليس من فعل غيره من القادرين بالقدرة لا جنّي ولا ملك، فيمكننا الاستدلال به على صدقه.

وقد اعترض هذا الجواب بأن قيل: القدر الكثيرة إنّما تحتاج إلى زيادة صلابة، واللطافة لا تمنع من الصلابة وذلك لأنّ اللطيف ربما كان صلبا، ألا ترى أن الريح قد تتصلّب بحيث تقلع الأشجار من أصولها والجدران من أساسها، ومع ذلك لا تخرج من كونها لطيفة.

والجواب الصحيح عن ذلك بأن يقال: ما لم يثبت بالمعجز الذي لا يدخل جنسه أو وقوعه على الوجه المخصوص تحت مقدور العباد صدق مدّع لا يمكننا الاستدلال بما يدخل جنسه تحت مقدور العباد وطريق ذلك أنّه إذا ثبت بما لا يدخل جنسه أو وقوعه على الوجه المخصوص تحت مقدور العباد صدق مدّع وأخبر ذلك الصادق أنّ أحوال القادرين بالقدر متساوية متقاربة في مقادير ما يقدرون عليه وأنّ ما لا يقدر عليه البشر من طفر البحر ونقل الجبل لا يقدر عليه الجنّ ولا الملك، ثمّ بعد ذلك جاء مدّعي وجعل دلالة صدقه ما يدخل جنسه تحت مقدور العباد، أمكن الاستدلال به.

فإن قيل: ما تقولون في الأبنية التي بنيت ولم يؤت بمثلها كالهرمين وإيوان كسرى ومنارة الاسكندرية والمرآة التي نصب عليها، فانّه يقال كان يظهر فيها الجيش الذي يخرج من قسطنطنية، والمرآة الحرّاقة التي نصبت فانّها كانت تحرق ما يكون منها على مائة فرسخ، والقمر الذي أطلعه المقنّع، وما تقولون في الطلسمات؟ أ تقولون بأنّ هذه الأشياء معجزات أم لا؟

قلنا: أمّا الأبنية التي ذكرت فليست هي معجزات. وإنّما لم يؤت بمثلها، لأنّ مثلها يحتاج إلى إنفاق أموال كثيرة، وملوك زماننا لا تسمح نفوسهم إنفاق مثل تلك الأموال وغير ممتنع أن تكون تلك الأبنية إنّما تمت بمدّة طويلة وبمرور الأيّام وتصرّم الأعمار، وملوك زماننا لا يرغبون في أن يبتدءوا ببناء لا يتمّ في زمانهم وإنما يتمّ لمن يجي‏ء بعدهم فلهذا لا يتفق في زماننا هذا مثل تلك الأبنية. وهذا هو الجواب عمّا ذكر في منارة الاسكندريّة. ويقال إنّ عضد الدولة عمل في فند فنّا خسرو ما لعلّه أعجب من منارة الاسكندرية.

وأمّا المرآة التي ذكر أنّها كانت منصوبة عليها فمن الخرافات التي تحكي العجائز بها في الليل.

وأمّا الحراقّة المشار إليها في السؤال، فانّها إن صحّت فلا شكّ في أنّها كانت معمولة بضرب من الهندسة، فمن علم أو تعلّم مثل تلك الهندسة أمكنه أن يعمل مثلها. وذلك لأنّ تلك الحرّاقة لا يمتنع أن تكون كبيرة عظيمة الكبر مقعّرة شديدة التقعير وكان يجتمع فيها من الشعاع ما إذا انعكس عنها أحرق ما كان منها على بعد فمن علم ذلك المقدار وتلك الهندسة أمكن أن ينصب مثل تلك الحراقة.

وأمّا ما أطلعه المقنّع ممّا كان يشبّه القمر، فانّه ليس أيضا أمرا خارقا للعادة وإنّما هو إخراج عين من العيون التي تنبع في الجبال في ذلك الموضع متى كانت الشمس في برج الثور أو الجوزاء سامتت تلك العين وانعكس منها الشعاع إلى الجوّ، وفي الجوّ هناك أبخرة كثيرة متراكمة متكاثفة فيؤكّد الشعاع المنعكس من العين فيها فيتراءى إلى الناس هيئة القمر، ولهذا لمّا طمّت تلك العين فسد ما عمله المقنّع، فكلّ من اطّلع على ذلك وراقب الوقت واتعب الفكر وأنفق المال فيه، أمكنه أن يعمل مثل ما عمله المقنّع. غير أن الناس يرغبون عن إنفاق الأموال وإتعاب الفكر فيما يجري هذا المجرى، سيّما وإن ثمّ لهم ذلك الأمر نسبوا إلى الشعبذة.

وأمّا الطلسمات‏ فهي عند المحققين من المتكلّمين معجزات باقيات للأنبياء الماضين، ولهذا لمّا ختمت النبوّة بنبيّنا محمد صلى اللّه عليه وآله، لم يظهر طلسم متجدّد.

فإن قيل: قد جدّدتم المعجز بالخارق للعادة مع ما ضممتم وأضفتم إليه، فما العادة وما الخارق للعادة؟

قلنا: لفظ العادة مشتقّ من العود، فإنّما يطلق على ما يفعله الفاعل ويستمرّ عليه بالعود إلى مثله. كما يقال: عادة زيد الخروج من داره بكرة إذا استمرّ ذلك منه، ولا يقال: عادته ذلك، لو اتفق ذلك منه مرّة أو مرّتين. هذا هو حقيقة العادة. ولا حاجة إلى أن يقال هو إحداث أمر عند أمر آخر بحيث لا يحدث من دون ذلك الأمر مع صحّة حدوث ذلك الأمر من غير حدوثه على ما اعتبره أبو رشيد في حدوده. ومثله نزول المطر عند تراكم السحاب، فانّه إنّما ينزل المطر عند ظهور السحاب، وقد يتراكم السحاب ولا ينزل المطر.

وإنّما قلت لا حاجة إلى اعتبار ما اعتبره من حيث انّه كما يقال في ما هذا سبيله انّه عادة وإن اللّه تعالى أجرى العادة به، كذلك يقال فيما لا يكون كذلك الا ترى أنّ المسلمين يقولون: إنّ طلوع الشمس من المشرق وغروبها في المغرب بالعادة وإنّ اللّه تعالى أجرى العادة بذلك. وكذا يقال: عادته تعالى الإكرام والإنعام والإحسان إلى الخلق وليس شي‏ء من ذلك حدوث شي‏ء عند شي‏ء. وفي الشاهد: كما يقول: عادة زيد أن يضيف عمروا كلّما دخل داره، كذا يقال: عادته الجلوس في المسجد والصلاة فيه، وليس هذا شيئا يفعله عند شي‏ء آخر.

وكما يطلق لفظ العادة فيما ذكرناه فكذلك إذا استمرّ وقوع فعل على وجه مخصوص من الفاعل وأن لا يفعله على وجه آخر، يقال في نفي فعله على الوجه الآخر: إنّه عادته، كما يقال: عادة فلان جارية بأن لا يصلّي الفرض في البيت، وكما يقال: عادته تعالى جارية بأن لا ينزل المطر من دون ظهور السحاب وأن لا يخلق الانسان من غير ذكر وانثى فيطلق لفظ العادة على هذا النفي، لمشاركته لذلك الإثبات في الاستمرار.

و إنما اعتبرنا استمرار وقوع الفعل على وجه مخصوص من الفاعل في تسمية نفي وقوعه على وجه آخر عادة، من حيث انّه لو لم يفعل ذلك الفعل على وجه من الوجوه أصلا والبتة لم يسمّ ذلك النفي عادة. ألا ترى أنّه لا يقال في نفي خلقه تعالى‏ العالم في تقدير الأوقات التي لا يخلقه فيه عادة...

وعلى هذا لا يقال في ابتداء خلق العالم: إنّه خرق عادة، وكذا لا يقال في ابتداء خلق آدم عليه السلام لا من ذكر وانثى بل من طين: إنّه خرق عادة، لمّا لم يكن قبل ذلك عادة جارية، لا راجعة إلى الإثبات ولا راجعة إلى النفي.

إذا تقرّر هذا فخرق العادة الراجعة إلى الإثبات هو بأن لا يفعل أصلا ما جرت عادته بفعله، كأن يجري الوطيء بين الذكور والإناث من أهل بلدة كبيرة، مثل بغداد، فلا تحبل امرأة منهم ولا يخلق تعالى ولدا أصلا والبتة من دون مرض وآفة، وكأن لا يخلق في العرب العلوم بالفصاحة التي جرت عادته تعالى بخلقها فيهم بعد التحدّي على ما يذهب إليه أصحاب الصرفة.

وخرق العادة الراجعة إلى النفي هو بأن يفعل الفعل على الوجه الذي جرت عادته بأنّه لا يفعله على ذلك الوجه، كأن يخلق ولدا ابتداء لا من ذكر وانثى، وينزل مطرا من دون سحاب، ويقلب الفصاحيّة، وكأكثر المعجزات للأنبياء عليهم السلام.

فإن قيل: قد ذكرتم أنّ ابتداء خلق آدم عليه السلام لا من ذكر وانثى، بل من حمأ مسنون لم يكن خرق عادة، لأنّه لم يتقدّم خلقه عادة في خلق الإنسان جارية حتّى يجعل خلقه عليه السلام تعالى كذلك خارقا لتلك العادة، فما تقولون في خلق نسله بعد ذلك من ماء مهين؟ هل يكون خرق عادة؟

قلنا: لا نقول ذلك، لأنّه لم يخلق تبارك وتعالى من غير ذكر وانثى إلّا آدم وحوّاء، وإذا كان كذلك لم يكن ثمّ عادة جارية مستمرة حتّى يقال فيما خالفه إنّه خرق لتلك العادة. ولو أنّه تعالى خلق مدّة ناسا لا من ذكر وانثى، ثمّ خلق بعد ذلك الناس من النطفة، لكان ذلك خرقا للعادة.

فإن قيل: هل يجوز فيما هو خارق عادة أن يستمر؟، فيصير عادة بعد أن‏ كان ناقضا للعادة.

قيل: لا يجوز ذلك. وقد اختلف أبو هاشم وأبو عيد اللّه فيما انخرقت العادة فيه إذا صارت عادة مستمرّة أنّه هل يقدح في كون الفعل الأوّل دلالة؟ فقال أبو هاشم: إنّ ما كان خرقا للعادة لو صارت عادة لخرج الأوّل من كونه دلالة وقال أبو عبد اللّه: إنّ ذلك لا يخرج الأوّل من كونه دلالة ولكن كثرته واستمراره حتّى يصير عادة بعد كونه خارقا للعادة ينفّر عن النظر فيه. والصحيح ما قاله أبو عبد اللّه، لأنّ استمرار ذلك لا يخرج الاوّل من أن يكون ناقضا للعادة، فيبقى دلالة إذا حصل فيه الشروط التي معها يدلّ.

فإنّ قيل: ألستم قد جوّزتم في المعجزات أن تكون باقية؟ وجوّز بعضكم في المغناطيس أن يكون معجزا لنبيّ، قد بقى على ما كان عليه من قبل، وكذلك قلتم في الطلسمات إنّها معجزات باقية للأنبياء عليهم السلام فما الفرق بين ذلك وبين ما أنكرتموه؟ حتّى قال أبو هاشم: إنّ استمرار ذلك يخرج الأوّل من كونه دالّا، وقال أبو عبد اللّه: لا يخرجه من كونه دالا ولكنّه ينفّر عن النظر فيه؟

قلنا: المعجز إذا كان باقيا كالطلسمات، لا شكّ في انّه لا يشبه ما أنكرناه من صيرورة ما كان خارقا للعادة معتادا. وإذا كان حادثا، وكان حادثه كباقيه، كما نجوّزه في حجر المغناطيس، وكما نقوله في القرآن، فانّه أيضا يفارق ما منعنا منه، إذ استمرار إحياء الميت لو استمرّ حتّى يصير عادة بعد أن كان خارق عادة ليس شيئا باقيا ولا هو في حكم الباقي. وكذا القول في قلب العصا حيّة وفلق البحر وإبراء الأكمه والأبرص لو استمرّ وصار معتادا، إذ لو استمرّ شي‏ء من ذلك وصار معتادا لم يكن ذلك شيئا باقيا ولا في حكم الباقي. ولا بدّ من أن ينفّر عن النظر فيما حصل أوّلا عند دعوى المدّعي ففارق ذلك ما جوّزناه في بقاء المعجزات، لأنّ جميع ذلك لا يخرج من أن يكون إمّا باقيا أو يكون في حكم الباقي وإن كان حادثا.

 




مقام الهي وليس مقاماً بشرياً، اي من صنع البشر، هي كالنبوة في هذه الحقيقة ولا تختلف عنها، الا ان هنالك فوارق دقيقة، وفق هذا المفهوم لا يحق للبشر ان ينتخبوا ويعينوا لهم اماماً للمقام الديني، وهذا المصطلح يعرف عند المسلمين وهم فيه على طوائف تختصر بطائفتين: طائفة عموم المسلمين التي تقول بالإمامة بانها فرع من فروع الديني والناس تختار الامام الذي يقودها، وطائفة تقول نقيض ذلك فترى الحق واضح وصريح من خلال ادلة الاسلام وهي تختلف اشد الاختلاف في مفهوم الامامة عن بقية الطوائف الاخرى، فالشيعة الامامية يعتقدون بان الامامة منصب الهي مستدلين بقوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) وبهذا الدليل تثبت ان الامامة مقام الهي وليس من شأن البشر تحديدها، وفي السنة الشريفة احاديث متواترة ومستفيضة في هذا الشأن، فقد روى المسلمون جميعاً احاديث تؤكد على حصر الامامة بأشخاص محددين ، وقد عين النبي الاكرم(صلى الله عليه واله) خليفته قد قبل فاخرج احمد في مسنده عن البراء بن عازب قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا بغدير خم فنودي فينا الصلاة جامعة وكسح لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرتين فصلى الظهر وأخذ بيد علي رضى الله تعالى عنه فقال ألستم تعلمون اني أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا بلى قال ألستم تعلمون انى أولى بكل مؤمن من نفسه قالوا بلى قال فأخذ بيد علي فقال من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه قال فلقيه عمر بعد ذلك فقال له هنيئا يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة


مصطلح اسلامي مفاده ان الله تعالى لا يظلم أحداً، فهو من كتب على نفسه ذلك وليس استحقاق البشر ان يعاملهم كذلك، ولم تختلف الفرق الدينية بهذه النظرة الاولية وهذا المعنى فهو صريح القران والآيات الكريمة، ( فلا يظن بمسلم ان ينسب لله عز وجل ظلم العباد، ولو وسوست له نفسه بذلك لأمرين:
1ـ تأكيد الكتاب المجيد والسنة الشريفة على تنزيه الله سبحانه عن الظلم في آيات كثيرة واحاديث مستفيضة.
2ـ ما ارتكز في العقول وجبلت عليه النفوس من كمال الله عز وجل المطلق وحكمته واستغنائه عن الظلم وكونه منزهاً عنه وعن كل رذيلة).
وانما وقع الخلاف بين المسلمين بمسألتين خطرتين، يصل النقاش حولها الى الوقوع في مسألة العدل الالهي ، حتى تكون من اعقد المسائل الاسلامية، والنقاش حول هذين المسألتين أمر مشكل وعويص، الاولى مسالة التحسين والتقبيح العقليين والثانية الجبر والاختيار، والتي من خلالهما يقع القائل بهما بنحو الالتزام بنفي العدالة الالهية، وقد صرح الكتاب المجيد بان الله تعالى لا يظلم الانسان ابداً، كما في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا * فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا).

مصطلح عقائدي، تجده واضحاً في المؤلفات الكلامية التي تختص بدراسة العقائد الاسلامية، ويعني الاعتقاد باليوم الاخر المسمى بيوم الحساب ويوم القيامة، كما نص بذلك القران الحكيم، وتفصيلاً هو الاعتقاد بان هنالك حياة أخرى يعيشها الانسان هي امتداد لحياة الانسان المطلقة، وليست اياماً خاصة يموت الانسان وينتهي كل شيء، وتعدّت الآيات في ذكر المعاد ويوم القيامة الالف اية، ما يعني ان هذه العقيدة في غاية الاهمية لما لها الاثر الواضح في حياة الانسان، وجاء ذكر المعاد بعناوين مختلفة كلها تشير بوضوح الى حقيقته منها: قوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) ،وهنالك آيات كثيرة اعطت ليوم القيامة اسماء أخرى كيوم القيامة ويوم البعث ويوم النشور ويوم الحساب ، وكل هذه الاشياء جزء من الاعتقاد وليس كل الاعتقاد فالمعاد اسم يشمل كل هذه الاسماء وكذلك الجنة والنار ايضاً، فالإيمان بالآخرة ضرورة لا يُترك الاعتقاد بها مجملاً، فهي الحقيقة التي تبعث في النفوس الخوف من الله تعالى، والتي تعتبر عاملاً مهماً من عوامل التربية الاصلاحية التي تقوي الجانب السلوكي والانضباطي لدى الانسان المؤمن.