أقرأ أيضاً
التاريخ: 10-10-2014
1781
التاريخ: 2023-12-17
1127
التاريخ: 27-04-2015
2517
التاريخ: 10-10-2014
3152
|
لا شك في أن الذي يحتم البحث في هذا الموضوع لمعرفة ما بين علم التأويل والراسخين في العلم من اتصال ، هو أن الطباطبائي ، قدّم رؤية جديدة في مجال التفسير والتأويل معاً ، إذ أنه أخرج التأويل من كونه خاصاً بالمتشابه من الآيات ، ليكون للقرآن كله ، كما قال الله تعالى : ﴿ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ . . . ﴾ ، والآيات كما يقول الطباطبائي ، تضيف التأويل إلى مجموع الكتاب (1) .
فهذه الآية تشير إلى المحكم والمتشابه ، وعلم التأويل ، والرسوخ في العلم ، وهي التي ارتكز إليها الطباطبائي لتقديم رؤيته في موضوع التأويل ، خالصاً منها إلى التأكيد على النتائج الآتية .
أولاً : إن مقتضى ما اختاره الطباطبائي من منهج لتفسير القرآن بالقرآن ، أن تكون له نتائج متمايزة ، سواء أقلنا أنه غلّب الرؤية العقلية والعرفانية في تفسيره ، أم حافظ على الطريقة التقليدية في التفسير ، فهو من دون أدنى شك لم يخرج عن المألوف فيما اختاره من قواعد منهجية وعقلية في تفسيره ، وإن كان تميّز في كونه أعطى لظهور النص بعده لكون القرآن يُفسّر بعضه بعضاً ، ويصدّق بعضاً بعضاً ، هذا فضلاً عن كونه تبياناً لكل شيء ، وهو كونه كذلك ، فلا بد أن يكون مبيناً لنفسه . . . الخ .
ثانياً : لقد خلص الطباطبائي إلى نتيجة في تفسيره مثيرة للجدل فعلاً ، إذ هو أخرج التأويل من كونه خاصاً بالمتشابه ليكون للقرآن كله ، كما ذكرنا سابقاً ، وهذا ما عبر عنه بقوله : «إن كون الآية ذات تأويل ترجع إليه غير كونها متشابهة ترجع إلى آية محكمة» (2) .
ثالثاً : يرى الطباطبائي أن التأويل ليس من المفاهيم التي هي مداليل للألفاظ ، بل هو من الأمور الخارجية العينية ، واتصاف الآيات بكونها ذات تأويل من قبيل الوصف بحال المتعلق . وأما إطلاق التأويل وإرادة المعنى المخالف لظاهر اللفظ ، فاستعمال مولد نشأ بعد نزول القرآن لا دليل أصلاً على كونه هو المراد من قوله تعالى : ﴿ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ . . . ﴾ ، كما لا دليل على أكثر المعاني المذكورة للتأويل (3) .
هذه هي خلاصة الموقف الذي انتهى إليه الطباطبائي في بحوثه عن التأويل في تفسير الميزان ، ولعله موقف متميز لجهة ما انطوى عليه من تقدم في الرؤية في مجال فهم النص القرآني ، إذ كان المعهود في التفريق عند العلماء بين التفسير والتأويل ، هو أن الأول توضيح ما لجانب اللفظ من إبهام ، والثاني ما فيه من مثار الريب وقد استعمل بشكل ثانوي فيما لم يكن ظاهراً بذاته ، وإنما يتوصل إليه بدليل خارج ، وهو ما عبر عنه بالبطن ، كما يعبّر عن تفسيره الأولي بالظهر ، فيقال : تفسير كل آية ظهرها ، وتأويلها بطنها ، والتأويل بهذا المعنى الأخير عام لجميع أي القرآن . . . (4) .
إن التأويل ، سواء أكان بمعنى توجيه المتشابه ، أم بمعنى ثانوي ، كما عبّر «معرفة» في تلخيص التمهيد (5) ، المعبّر عنه بالبطن ، هو من قبيل المعنى والمفهوم الخافي عن ظاهر الكلام ، وبحاجة إلى دلالة صريحة من خارج ذات اللفظ ، وهذا ما قال فيه الطباطبائي أنه مولد نشأ بعد نزول القرآن ، وحينما يكون الأمر متعلق بكون الآيات ذات تأويل من قبيل الوصف بحال المتعلق ، فهذا أمر يمكن فهمه من السياق القرآني ، وليس مما ذكر في معنى التأويل ، ولا دليل عنده على كون المراد من قوله تعالى : ﴿ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ﴾ ، هو ما ذكر من معاني التأويل المطلقة ، التي تولدت بعد نزول القرآن ، وهذا الرأي للطباطبائي ، كما نعلم ، ولّد رداً عنيفاً من بعض العلماء والمفسرين عليه لكونه يأخذ بالتأويل إلى مصاف الرؤية العقلية والفلسفية ، ويمكن ملاحظة هذا الإعتراض فيما ذهب إليه «معرفة» ، في كتابه التلخيص . . .
ولعلنا لا نخطىء القول أيضاً ، بأن رؤية الطباطبائي وموقفه من التأويل ناشئة من كون ما استقر في الأذهان ، هو أن التأويل إنما يكون في المتشابه القرآني ، وليس هذا هو المعنى الحقيقي للتأويل فيما لو أردنا الوقوف عند ظواهر الآيات القرآنية ، وخاصة ظاهر الآية المتقدمة ، يقول الطباطبائي «ظاهر الكلام رجوع الضمير إلى ما تشابه ، لقربه كما هو الظاهر أيضاً في قوله تعالى : ﴿ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾ ، وقد عرفت أن ذلك لا يستلزم كون التأويل مقصوراً على الآيات المتشابهة ، ومن الممكن أيضاً رجوع الضمير إلى الكتاب ، كالضمير في قوله تعالى : ﴿ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ﴾ (6) .
فالطباطبائي يرى أن التأويل هو لجميع القرآن ، للمحكم والمتشابه ، فما معنى أن يستقر رأي العلماء والمفسرين عند توجيه المتشابه ، وإرادة المعنى المخالف لظاهر اللفظ في الوقت الذي يمكن فيه تفسير القرآن وفقاً لجميع آياته باعتبار أنه يفسّر بعضه بعضاً ، ومبين لنفسه . . .؟
إن إرجاع المتشابه إلى المحكم في القرآن شيء ، وتأويل القرآن شيء آخر ، وهنا يكمن الالتباس الحقيقي ، الذي يثير الجدل ويجعل من تأويل الطباطبائي موقفاً فريداً في بابه ، وغريباً في مؤداه ، ذلك أن التفسير للقرآن بالقرآن لا يحتاج إلى تأويل من خارج ظواهر الألفاظ ، باعتباره أمراً خارجياً عينياً ، وليس من المفاهيم التي هي مداليل للألفاظ (7) .
انطلاقاً مما تقدم ، نرى أن الطباطبائي في تفسيره لآية آل عمران : ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ﴾ ، يرى أن ظاهر الحصر في الآية يفيد أن العلم بالتأويل مقصور على الله تعالى . وأما الراسخون في العلم ، فظاهر الكلام أن الواو للاستئناف بمعنى كونه طرفاً للترديد ، الذي يدل عليه صدر الآية : ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ﴾ ، ويخلص الطباطبائي إلى القول بأن الناس في الأخذ بالكتاب ، قسمان : فمنهم من يتبع ما تشابه منه ، ومنهم من يقول إذا تشابه عليه شيء منه : آمنا به كل من عند ربنا ، وإنما اختلفا لاختلافهم من جهة زيغ القلب ورسوخ العلم (8) .
إذاً ، التأويل مقصور على الله تعالى ، وهذه الآية كما نعلم كانت ولا تزال مثار جدل عند المفسرين ، وستبقى كذلك طالما هناك مَن يفسّر القرآن ويتدبر فيه ، رغم كون الآية محكمة ، إذ لو كانت متشابهة عادت جميع آيات القرآن متشابهة وفسد التقسيم الذي يدل عليه قوله تعالى : ﴿ مِنْهُ آيَاتٌ ﴾ (9) . وإذا كانت هذه المسألة في التفسير والتأويل قد أخذت هذا المنحى بين أن تكون عطفاً للتشريك ، أو استئنافاً للكلام ، فقد يكون من المناسب جداً أن نلاحظ المسألة في سياق آخر تستطيع من خلاله كشف حقيقة العلاقة بين التأويل والرسوخ في العلم ، على اعتبار أن الله وحده هو العالم بالتأويل ، وإذا كان هناك من قول للراسخين في العلم ، فهو إنما يكون منهم من حيث هم راسخون في العلم ، ويعرفون أن المحكم والمتشابه من عند الله تعالى ، ويؤمنون به ، ويقولون آمنا به كل من عند ربنا ، ما يعني أن المفسرين غالباً ما كانوا يحدثون المشكلة ، وينصرفون عن الظواهر القرآنية ، تارة بالبحوث اللغوية ، وطوراً بالأنماط السياقية ، إلى غير ذلك مما تطالعنا به كتب المفسرين ، وقد بين الطباطبائي أن الأمر يمكن التدبر فيه وفاقاً لمنهج تفسير القرآن بالقرآن ، بحيث يقال مثلاً : إن الله يعلم الغيب ، كما قال الله تعالى : ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ﴾ [الجن : 26-27] . فالظاهر من الآية أنها تحصر الغيب بالله تعالى ، ومثلما ورد الاستثناء في آية الغيب ورد في آية التأويل ، فلا منافاة في ذلك كما يرى الطباطبائي (10) .
فلماذا هذا الاضطراب في التفسير والتأويل ، طالما أن القرآن كاشف عن حقيقة هذا الأمر بدلالة الظاهر؟
إن الإضطراب ناشئ من كون المطلوب في البحث والتفسير هو التأويل ، لما اعتقدوه من آيات متشابهة تحتاج إلى تأويل وتوجيه دون المحكم ، وهذا ما حسمه الطباطبائي بقوله : «إن المتشابه إنما هو متشابه من حيث تشابه مراده ومدلوله ، وليس المراد بالتأويل المعنى المراد من المتشابه حتى يكون المتشابه متميزاً عن المحكم بأن له تأويلاً ، بل المراد بالتأويل في الآية أمر يعم جميع الآيات القرآنية من محكمها ومتشابهها كما مر بيانه ، على أنه ليس في القرآن آية أريد فيها ما يخالف ظاهرها ، وما يوهم ذلك من الآيات إنما أريد بها معانٍ تعطيها لها آيات أخر محكمة ، والقرآن يفسر بعضه بعضاً . . .» (11) .
هنا تبدو لنا عبقرية المفسّر فيما يذهب إليه من بيان في معنى التأويل والرسوخ في العلم . بأن القرآن يفسّر بعضه بعضاً . وإذا كانت الآية فيما هي عليه من ظهور تحصر التأويل بالله تعالى ، فذلك لا يمنع من أن يكون الراسخون في العلم كذلك ، طالما أن ظهور آيات أخرى تفسر ذلك وتعطيه بعده الحقيقي في القرآن ، إذ لا منافاة بين أن تدل هذه الآية على شأن من شؤون الراسخين في العلم ، وهو الوقوف عند الشبهة والإيمان ، مقابل الزائغين قلباً ، وبين أن تدل آيات أخر على أنهم أو بعضاً منهم عالمون بحقيقة القرآن وتأويل آياته . . . (12) .
وعلى فرض أن الآية ، أو العطف في الآية يُفيد التشريك كما رأى «معرفة» وغيره فيما رد به على الطباطبائي متهماً إياه بالذوق الأدبي والمسحة العرفانية ، لكونه وافق الإمام الرازي على أن العلم بالله تعالى مقصور عليه تعالى ، فليس من تسويغ اطلاقاً لذلك ، طالما هو انطلق في رده من سؤال ، هل يستطيع أحد أن يقف عند تأويل المتشابهات ، بل وعلى تأويل آي القرآن كله ؟ وقد أجاب على سؤاله من فوره ، أنه لا شك في أن القرآن كما هو مشتمل على آيات محكمات ، مشتمل على آيات متشابهات . . . (13) .
وهنا تكمن الإشكالية الكبرى التي نرى الخطأ فيما افترضه المعترض ، حيث أن الطباطبائي يرى ذلك ، ولكنه لا يرى في رد المتشابه إلى المحكم تأويلاً حتى يؤخذ عليه ذلك ، فهذا من التفسير وليس من التأويل . ثم إنه ما معنى هذا التعصب للعطف والتشريك في ظل هذا الاحتدام التاريخي في تفسير هذه الآية ، وخاصة فيما لو علم المعترض أن الشريف الرضي قد عرض لجميع الوجوه والآراء بشأنها ، وهو أول مَن عرض للرأي بخصوص مَن قال بالتشريك ، شارحاً لقول يزيد بن المفرغ الحميري :
فالريح تبكي شجوها والبرق يلمع في غمامه» (14) .
وإذا كان ذلك سائغاً ، كما يقول الشريف الرضي ، في اللغة ، وجب حمله على موافقة دلالة الآية ، في وجوب رد المتشابه إلى المحكم ، فيعلم الراسخون في العلم تأويله إذا استدلوا بالمحكم على معناه . . . فما هو جديد المفسّر «معرفة» إذن ؟؟
وكما نلاحظ أن المرتكز فيما عرض له الشريف الرضي هو رد المتشابه إلى المحكم ، وكأن أحداً يناقش في ذلك ؟
فأصل المناقشة هو التأويل وما إذا كان الراسخون في العلم يعلمون تأويله ، أم أن التأويل محصور بالله تعالى؟
هناك مَن توجّه بالنقد الشديد واللاذع لمنهج الطباطبائي ورؤيته فيما عرض له ، سواء في فهمه للتأويل ، أم في مَن له حق التأويل ، على اعتبار أن المفسر «معرفة» ، قال : «لا يعدو كونه ـ أي التأويل ـ مسحة عرفانية غير مستندة ، ومن ثم هي غريبة شذّت عنه . . .» (15) . ولعله أخطأ في تعبيره ، لأن منهج الطباطبائي ، كما فهمنا هو أن التأويل محصور بالله تعالى ، هذا ما يقضي به ظاهر الآية الشريفة : ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ . . . ﴾ ، وهذا ما سهى عنه المعترض «معرفة» (16) . والحق يقال : إن الطباطبائي أسس لرؤيته بإحكام انطلاقاً من إيمانه بأن القرآن أُحكمت آياته ثم فصلّت من لدن حكيم خبير ، فهي حيث أحكمت ما كان بإمكان أحد أن ينالها بفهم ، ولكن بعد أن فصلّت ويسّرت بلسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، كما قال الله تعالى : ﴿ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً ﴾ [مريم : 97] ، ووفقاً لهذه الآية ، وغيرها من الآيات ، كما يرى الطباطبائي ، فإن القرآن الكريم يصدر من ناحية تعجز أفهام الناس عن الوصول إليها ، فلا يدركها إلاّ مَن كان من المخلصين وعباده المقربين ، وأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خير مصداق لذلك . . . وما يذكره القرآن بكلمة «تأويل» لم يكن مدلولاً للفظ بل حقائق وواقعيات أعلى شأناً من فهم عامة الناس ، وهي الأساس للمسائل الإعتقادية والأحكام العملية للقرآن . . . (17) .
هذا هو ما يراه الطباطبائي ، ولعل كثيرين التبس عليهم هذا التأويل الذي لا يعلمه إلاّ الله تعالى ، ومن ارتضى له التأويل ، لأن حق التأويل لا يعلمه إلاّ الله تعالى ، وعليه ، فإنّه يمكن فهم نظرية الطباطبائي في التأويل في ضوء منهجه ، بحيث يمكن القول : إن التأويل للقرآن إنما يكون حيثُ أحكم القرآن ، أما حيث فصل ونزَّل فله التفسير ، لكونه كتاباً مبيناً وهدىً للعالمين ، وتبياناً لكل شيء ، وإذا كان للقرآن هذا المعنى وهذا النزول ، فلا بد أن يكون مبيناً لنفسه ، ولهذا ، نرى أن الروايات عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) تتحدث عن تفسير وتصديق القرآن لبعضه البعض ، عن أن ظاهره أنيق وباطنه عميق ، ولعل البعض يريد أن يسمي البطن للقرآن تأويلاً ، كما سُمي ظهره تنزيلاً ، لقول المعصوم (عليه السلام) : «ظهره تنزيله وبطنه تأويله» ، وهذا ما اعتبره بعض المعترضين على نظرية الطباطبائي بالتأويل الثانوي ، مقابل اعتباره توجيه المتشابه تأويلاً أساسياً . . . وهذا ما لا يرى فيه الطباطبائي تأويلاً ، وإنما هو جري وانطباق . أما التفسير ، فهو الذي جاءت به الروايات وأحكمته الآيات ، كما قال الله تعالى : ﴿ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً ﴾ في عالم النزول ، كما قال الله تعالى : ﴿ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ في عالم الإحكام والاتقان . هذا من جهة .
أما من جهة أُخرى ، فليس لأحد من الباحثين في علوم القرآن أن يتوجه بالنقد لمنهج الطباطبائي ، لكونه قال بالوقف وحصر التأويل بالله تعالى بناءً على الظاهر من اللفظ ، وذلك نظراً لما هو معهود من تباين في الآراء والقراءات ، هذا فضلاً عن وجود آراء تفسيرية تقبل بالقراءتين ، كما بين الشريف الرضي في حقائق التأويل (18) . . ومن هنا ، فقد تصح قراءة الوقف . . ومعظم هذه القراءات والتفسيرات تدور حول مرتكز أن هناك متشابهاً ينبغي رده إلى المحكم ، ويحتاج إلى تأويل وهذا ما رفضه الطباطبائي من منطلق منهجه في التفسير بأن القرآن يفسّر بعضه بعضاً ولا يؤول بعضه بعضاً ، على اعتبار أن الله تعالى يريد لكتابه أن يكون معقولاً ، كما قال الله تعالى : ﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ . وهذا ما عبر عنه الطباطبائي بقوله : « . . . لو لم يكن هذا القرآن مفهوماً لدى العامة ، فإن مثل هذه الآيات لا اعتبار لها . . .» (19) .
وهكذا ، فإن ما فهمه البعض عن الطباطبائي أنه يقول بالحيثية المكانية للقرآن في اللوح المحفوظ ، أو في أم الكتاب ، فقد ذهب مذهباً شططاً فيما اعتبره مسحة عرفانية ، أو لوحةً مادية أو معنوية (20) . فالطباطبائي لم يتوهم المكان في تفسير قوله تعالى : ﴿ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾ . إن فهم كلام الطباطبائي على هذا النحو ، هو تبسيط إن لم يكن تسفيهاً للرأي ، ولعل مَن ذهب إلى هذا الفهم صادر في قوله عن موقف سلبي اتجاه نظرية الطباطبائي ، سواء في التأويل ، أم في علم الراسخين في العلم ، في حين كان المطلوب من هؤلاء أن يتعمّقوا جيداً في موقف الطباطبائي ، ليكونوا أكثر إنصافاً ، ويدركوا أن التأويل عند الطباطبائي ليس ذاك الذي يعني توجيه الكلام ، أو مداليل الألفاظ ، وإنما هو أعمق من ذلك بكثير ، ولا يعلمه إلا الله تعالى ، وهو الذي عناه تعالى بقوله : ﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ . . . ﴾ فالقرآن بعد أن تنزّل نجوماً ، وصار معقولاً ، وتيسّر بلسان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم) جعله الله تعالى نوراً يُفسّر بعضه بعضاً ، فقوله تعالى : ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ . . . ﴾ ، فهم إنما يكونون كذلك فيما لو ابتغوا خلاف ما أمر الله تعالى به . أما إذا لم يبتغوا تأويله ، وعادوا بالمتشابه إلى المحكم ، فلا يكون ذلك منهم تأويلاً . . .
غاية القول : إن ما يراه الطباطبائي ، هو ما سبق لكثير من المفسرين أن رأوه وتوقفوا عنده في تفسير هذه الآية ، فمنهم مَن قال بالعطف ، ومنهم مَن قال بالوقف ، ويبقى الفرق بين المفسرين والطباطبائي ، هو أن هذا الأخير توقف ملياً عند الظواهر ، وفسّر القرآن بالقرآن ، وحصر التأويل بعلم الله تعالى إلاّ مَن ارتضى من رسول ، أو إمام أن يطلعه سواء على التأويل ، أم على الغيب ، وقد بين الطباطبائي أنه يفهم من ظواهر الكتاب ما جعل للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) من مرجعية علمية للمعارف الإسلامية ، وهذه الظواهر للآيات قد جعلت أقوال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المرحلة الثانية بعد القرآن مباشرة وتعتبر حجة كالآيات القرآنية ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل : 44] .
وانطلاقاً من ذلك ، فقد رأى الطباطبائي أن أهل البيت (عليهم السلام) هم الراسخون في العلم ، ولكن لا من خلال ظاهر آية : ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ﴾ ، بل من ظواهر قرآنية أخرى ، وهذا ما يقتضيه منهجه في تفسير القرآن بالقرآن ، الذي يفسّر بعضه بعضاً . أما التأويل ، فهو لا يختص بالآيات المتشابهة ، بل هو لجميع القرآن للمحكم والمتشابه معاً ، وهو حقيقة ـ أي التأويل ـ محصورة بالله تعالى ، كما أنه لا ينبغي الخلط بين معنى المتشابه وتأويل الآيات ، وهو في ما يذهب إليه يدعو الباحث إلى التأمل فيما روي عن المعصوم ، عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهم السلام) : «أن رجلاً قال لأمير المؤمنين (عليه السلام) هل تصف لنا ربنا نزداد له حباً ومعرفة ؟ فغضب وخطب الناس . . . قال واعلم يا عبد الله : أن الراسخين في العلم الذين أغناهم الله عن الاقتحام في السدد المضروبة دون الغيوب ، فلزموا الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب ، فقالوا : آمنا به كل من عند ربنا» .
يقول الطباطبائي : «قوله (عليه السلام) واعلم يا عبد الله أن الراسخين في العلم ، ظاهراً في أنه أخذ الواو في قوله تعالى : ﴿ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ﴾ للاستئناف دون العطف ، كما استظهرناه من الآية ، ومقتضى ذلك الظهور لا يساعد على كون الراسخين في العلم عالمين بتأويله ، لا أنه يساعد على عدم إمكان علمهم به . . . وقوله (عليه السلام) فلزموا الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره ، ولم يقل بجملة ما جهلوا تأويله فافهم» (21) .
________________________________
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|