أقرأ أيضاً
التاريخ: 15-9-2020
12052
التاريخ: 18-9-2020
3218
التاريخ: 15-9-2020
5539
التاريخ: 15-9-2020
3745
|
قال تعالى: { وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } [الحج: 42 - 51]
عزى سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم عن تكذيبهم إياه، وخوف مكذبيه بذكر من كذبوا أنبياءهم فأهلكوا فقال. {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ} يا محمد { فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ} كل أمة من هؤلاء الأمم فقد كذبت نبيها. ثم قال: {وكذب موسى} ولم يقل وقوم موسى، لأن قومه بنو إسرائيل، وكانوا آمنوا به. وإنما كذبه فرعون وقومه {فأمليت للكافرين} أي: أخرت عقوبتهم وأمهلتهم، يقال: أملى الله لفلان في العمر إذا أخر عنه أجله {ثم أخذتهم} أي: بالعذاب {فكيف كان نكير} استفهام معناه التقرير أي: فكيف أنكرت عليهم ما فعلوا من التكذيب، فأبدلتهم بالنعمة نقمة، وبالحياة هلاكا. قال الزجاج: المعنى ثم أخذتهم فأنكرت أبلغ إنكار.
ثم ذكر سبحانه كيف عذب المكذبين، فقال: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} أي: وكم من قرى أهلكناها وأخذناها. والاختيار التاء، وذلك لقوله: {فأمليت}.
{وَهِيَ ظَالِمَةٌ} أي: وأهلها ظالمون بالتكذيب والكفر. {فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} أي: خالية من أهلها، ساقطة على سقوفها. {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} عطف على قوله {من قرية} أي: وكم من بئر بار أهلها، وغار ماؤها، وتعطلت من دلائها، فلا مستقي منها، ولا وارد لها. {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} أي: وكم من قصر رفيع مجصص، تداعى الخراب بهلاك أهله، فلم يبق فيه داع ولا مجيب. وأصحاب الآبار ملوك البدو.
وأصحاب القصور ملوك الحضر.
ثم حث سبحانه على الاعتبار بحال من مضى من القرون المكذبة لرسلهم فقال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} أي: أو لم يسر قومك يا محمد في أرض اليمن والشام، عن ابن عباس. {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} أي: يعلمون بها ما يرون من العبر. والمعنى: فيعقلون بقلوبهم ما نزل بمن كذب قبلهم {أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} أخبار الأمم المكذبة {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} الهاء في أنها ضمير القصة والجملة بعدها تفسيرها. قال الزجاج:
وقوله {التي في الصدور} من التوكيد الذي يورده العرب في الكلام، كقوله: {عشرة كاملة}، وقوله: {يقولون بأفواههم}، وقوله: {يطير بجناحيه}. وقيل:
إنه إنما ذكر ذلك لئلا يتوهم إلى غير معنى القلب نحو قلب النخلة، فيكون أنفى للبس بتجوز الاشتراك، وكذلك قوله: {يقولون بأفواههم} لأن القول قد يكون بغير الفم. والمعنى: إن الأبصار وإن كانت عمياء، فلا تكون في الحقيقة كذلك، إذا كان أصحابها عارفين بالحق، وإنما يكون العمى عمى القلب الذي يقع معه الجحود بوحدانية الله.
وفي تفسير أهل البيت عليهم السلام في قوله {وبئر معطلة}: أن المعنى وكم من عالم لا يرجع إليه، ولا ينتفع بعلمه. وقال الضحاك: هذه البئر كانت بحضرموت في بلدة يقال لها (حاضور) نزل بها أربعة آلاف ممن آمن بصالح، ومعهم صالح. فلما حضروا مات صالح، فسمي المكان (حضرموت). ثم إنهم كثروا فكفروا وعبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم نبيا يقال له حنظلة، فقتلوه في السوق، فأهلكهم الله فماتوا عن آخرهم، وعطلت بئرهم، وخرب قصر ملكهم.
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ} يا محمد {بالعذاب} أن ينزل بهم ويستبطنونه {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} أي: في إنزال العذاب بهم. قال ابن عباس. يعني يوم بدر {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} اختلف في معناه على وجوه أحدها: إن يوما من أيام الآخرة، يكون كألف سنة من أيام الدنيا، عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وابن زيد. وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنه أراد: أن يوما من الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض، كألف سنة، ويدل عليه ما روي أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم خمسمائة عام. ويكون المعنى على هذا: أنهم يستعجلون العذاب، وأن يوما من أيام عذابهم في الآخرة كألف سنة وثانيها: إن المعنى وإن يوما عند ربك، وألف سنة في قدرته، واحد، فلا فرق بين وقوع ما يستعجلون به من العذاب، وبين تأخره في القدرة. إلا أنه سبحانه تفضل بالإمهال إذ لا يفوته شئ، عن الزجاج، وهو معنى قول ابن عباس في رواية عطا.
وثالثها: إن يوما واحدا كألف سنة في مقدار العذاب لشدته وعظمته، كمقدار عذاب ألف سنة من أيام الدنيا على الحقيقة، وكذلك نعيم الجنة، لأنه يكون في مقدار يوم من أيام الجنة من النعيم والسرور، مثل ما يكون في ألف سنة من أيام الدنيا، لو بقي منعم فيها، ثم الكافر يستعجل ذلك العذاب لجهله، عن الجبائي.
وهذا كما يقال في المثل: (أيام السرور قصار، وأيام الهموم طوال). وقال الشاعر:
يطول اليوم لا ألقاك فيه، * وحول نلتقي فيه قصير
وقال:
تطاولن أيام معن بنا، * فيوم كشهرين إذ يستهل
وقال جرير: (ويوم كأبهام الحبارى لهوته) (2). ثم أعلم سبحانه أنه أخذ قوما بعد الإملاء والإمهال فقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} مستحقة لتعجيل العقاب. {ثم أخذتها} أي: أهلكتها {وإلي المصير} لكل أحد. ثم خاطب نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: {قل} لهم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي: مخوف عن معاصي الله، مبين لكم ما يجب عليكم فعله، وما يجب عليكم تجنبه. {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} من الله لمعاصيهم {ورزق كريم} يعني نعيم الجنة، فإنه أكرم نعيم في أكرم دار.
{وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا} أي: بذلوا الجهد في إبطال آياتنا، وبالغوا في ذلك. وأصل السعي: الإسراع في المشي. {معاجزين} أي: مغالبين، عن ابن عباس. والمعاجزة: محاولة عجز المغالب. وقيل: مقدرين أنهم يسبقوننا.
والمعاجزة. المسابقة. وقيل: ظانين أن يعجزوا الله أي: يفوتوه، ولن يعجزوه، عن قتادة. وهذا مثل ما تقدم. ومن قرأ {معجزين} فمعناه: مثبطين لمن أراد اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن مجاهد. وقيل: قاصدين تعجيز رسولنا. وقيل: ناسبين من تبعه إلى العجز. {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} أي: الملازمون للجحيم أي: النار
______________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج7،ص158-162.
2- الحبارى: طائر أكبر من الدجاج الأهلي، وأطول عنقا منه، وهو على شكل الإوزة، برأسه وبطنه غبرة. وفي المثل: (أقصر من إبهام الحبارى).
{وإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وعادٌ وثَمُودُ وقَوْمُ إِبْراهِيمَ وقَوْمُ لُوطٍ وأَصْحابُ مَدْيَنَ وكُذِّبَ مُوسى}. كذبت قريش محمدا ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، وأخرجته من دياره ، فقال سبحانه لنبيه الكريم مسليا ومعزيا : لا بدع فيما لاقيت من قومك فكل نبي عانى من قومه مثل ما عانيت . . ثم ذكر له عددا من الأنبياء على سبيل المثال دون الحصر ، منهم هود وقومه عاد ، وصالح وقومه ثمود ، أما أصحاب مدين فهم قوم شعيب . وتقدم نظيره في سورة الأنعام الآية 34 ج 3 ص 182 {فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ}. المراد بالنكير هنا العذاب ، والمعنى ان اللَّه سبحانه أخر عذاب الكافرين إلى أجله ، حتى إذا حان أخذهم به أخذ عزيز مقتدر ، وتومئ الآية إلى أن على العاقل ان لا يتعجل الشيء قبل أوانه .
{فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وهِيَ ظالِمَةٌ}. بعد ان قال سبحانه ، انه يمهل الكافرين إلى أجل مسمى أشار إلى إهلاك القرى الظالم أهلها ، وهي كثيرة كما تشعر كلمة كأين . وتقدم مثله في الآية 3 من سورة الأعراف ج 3 ص 301 {فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها} تقدم في الآية 259 من سورة البقرة ج 1 ص 405 والآية 42 من سورة الكهف {وبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وقَصْرٍ مَشِيدٍ}. البئر المعطلة هي العامرة بالماء ولكن لا يستقي منها أحد ، وقصر مشيد أي فخم ، وهذا ترك أيضا من غير أهل ، والقصد ان ديار الظالمين أصبحت مقفرة موحشة بعد ما كانت مأهولة تعج بالمقيمين والزائرين .
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها}.
ضمير يسيروا يعود إلى الذين كذبوا محمدا ( صلى الله عليه واله وسلم ) أي ألم يتعظ هؤلاء بمصارع المكذبين ؟ وينظروا كيف أصبحت ديارهم خالية وأملاكهم معطلة ؟ وتقدم مثله في سورة آل عمران الآية 137 ج 2 ص 159 والآية 36 من سورة النحل ج 4 ص 512 {فَإِنَّها لا تَعْمَى الأَبْصارُ ولكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}. وأية
جدوى من السمع والبصر إذا عميت البصيرة ؟ فان الأذن والعين وسيلة وأداة ، والعقل هو الأصل .
{ويَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ}. الخطاب لمحمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، وواو الجماعة لمشركي قريش ، وكان النبي يتوعدهم بالعذاب ان أصروا على الشرك ، وكانوا يقولون له ما قاله الأولون لكل نبي حين ينهاهم عن الشرك ، ويتوعدهم عليه : ائتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين {ولَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ}. فالتعجيل أو التأجيل ليس بالشيء المهم ما دام الوفاء بالوعد كائنا لا محالة . . وتجدر الإشارة إلى أن الوعد من اللَّه بالثواب على الطاعة هو حق للعبد المطيع لا يمكن الخلف فيه ، أما وعيده تعالى بالعقاب على المعصية فحق للَّه على العبد العاصي ان شاء عفا ، وان شاء عاقب إلا إذا سبق منه القول : انه لن يعفو كما في الآية التي نحن بصددها حيث نفى الخلف فيما وعد به من عذاب قريش لموقفها من رسول الرحمة .
{وإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}. يقول سبحانه للمشركين : علام تستعجلون عذاب الآخرة ، ويوم واحد منه أشد عليكم من عذاب ألف سنة من سني الدنيا ، وبالاختصار فان ألف سنة كناية عن هول اليوم الآخر {وكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وإِلَيَّ الْمَصِيرُ}. تقدم مثله في الآية 45 من هذه السورة ، وفي هذا المقطع بالذات ، وأعاد سبحانه لتأكيد الانذار والتخويف {قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ}. هذه هي مهمة الأنبياء : التبليغ عن اللَّه وإنذار من أعرض وتولى ، وتكرر هذا المعنى بأساليب شتى .
{فَالَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ورِزْقٌ كَرِيمٌ}المعنى واضح وتقدم في العديد من الآيات ، منها الآية 25 من سورة البقرة {والَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ }. سعوا أي اجتهدوا ، والمعاجز المغالب .
والمعنى ان المشركين دائموا الإقامة في النار ملازمون لها إلى ما لا نهاية لأنهم عاندوا الرسول ، وبذلوا الجهود لإعجازه عن تبليغ رسالات ربه وصد الناس عنها .
_______________
1- التفسير الكاشف، ج 5، محمد جواد مغنية، ص 337- 338.
قوله تعالى:{ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ - إلى قوله - فكيف كان نكير} فيه تعزية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تكذيب قومه له ليس ببدع فقد كذبت أمم قبلهم لأنبيائهم.
وإنذار وتخويف للمكذبين بالإشارة إلى ما انتهى إليه تكذيب من قبلهم من الأمم وهو الهلاك بعذاب من الله تعالى.
وقد عد من تلك الأمم قوم نوح وعادا وهم قوم هود وثمود وهم قوم صالح وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وهم قوم شعيب، وذكر تكذيب موسى.
قيل: ولم يقل: وقوم موسى لأن قومه بنو إسرائيل وكانوا آمنوا به، وإنما كذبه فرعون وقومه.
وقوله:{ فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} الإملاء الإمهال وتأخير الأجل، والنكير الإنكار، والمعنى فأمهلت الكافرين - الذين كذبوا رسلهم من هذه الأمم - ثم أخذتهم وهو كناية عن العقاب فكيف كان إنكاري لهم في تكذيبهم وكفرهم؟ وهو كناية عن بلوغ الإنكار وشدة الأخذ.
قوله تعالى:{ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} قرية خاوية على عروشها أي ساقطة جدرانها على سقوفها فهي خربة، والبئر المعطلة الخالية من الواردين والمستقين وشاد القصر أي جصصه والشيد بالكسر الجص.
وقوله:{فكأين من قرية أهلكناها} ظاهر السياق أنه بيان لقوله في الآية السابقة:{فكيف كان نكير} وقوله:{وبئر معطلة وقصر مشيد} عطف على قرية.
والمعنى: فكم من قرية أهلكنا أهلها حال كونهم ظالمين فهي خربة ساقطة جدرانها على سقوفها، وكم من بئر معطلة باد النازلون عليها فلا وارد لها ولا مستقي منها، وكم من قصر مجصص هلك سكانها لا يرى لهم أشباح ولا يسمع منهم حسيس، وأصحاب الآبار أهل البدووأصحاب القصور أهل الحضر.
قوله تعالى:{ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} إلخ، حث وتحضيض على الاعتبار بهذه القرى الهالكة والآثار المعطلة والقصور المشيدة التي تركتها تلك الأمم البائدة بالسير في الأرض فإن السير فيها ربما بعث الإنسان إلى أن يتفكر في نفسه في سبب هلاكهم ويستحضر الحجج في ذلك فيتذكر أن الذي وقع بهم إنما وقع لشركهم بالله وإعراضهم عن آياته واستكبارهم على الحق بتكذيب الرسل فيكون له قلب يعقل به ويردعه عن الشرك والكفر هذا إن وسعه أن يستقل بالتفكير.
وإن لم يسعه ذلك بعثه الاعتبار إلى أن يصغي إلى قول المشفق الناصح الذي لا يريد به إلا الخير وعظة الواعظ الذي يميز له ما ينفعه مما يضره ولا عظة ككتاب الله ولا ناصح كرسوله فيكون له أذن يسمع بها ما يهتدي به إلى سعادته.
ومن هنا يظهر وجه الترديد في الآية بين القلب والأذن من غير تعرض للبصر وذلك لأن الترديد في الحقيقة بين الاستقلال في التعقل وتمييز الخير من الشر والنافع من الضار وبين الاتباع لمن يجوز اتباعه وهذان شأن القلب والأذن.
ثم لما كان المعنيان جميعا - التعقل والسمع - في الحقيقة من شأن القلب أي النفس المدركة فهو الذي يبعث الإنسان إلى متابعة ما يعقله أو سمعه من ناصح مشفق عد إدراك القلب لذلك رؤية له ومشاهدة منه، ولذلك عد من لا يعقل ولا يسمع أعمى القلب ثم بولغ فيه بأن حقيقة العمى هي عمى القلب دون عمى العين لأن الذي يعمى بصره يمكنه أن يتدارك بعض منافعه الفائتة بعصا يتخذها أو بهاد يأخذه بيده وأما القلب فلا بدل له يتسلى به، وهو قوله تعالى:{ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
وجعل الصدر ظرفا للقلب من المجاز في النسبة، وفي الكلام مجاز آخر ثان من هذا القبيل وهو نسبة العقل إلى القلب وهو للنفس، وقد تقدم التنبيه عليه مرارا.
قوله تعالى:{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} كان القوم يكذبون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أخبرهم أن الله سبحانه وعده أن يعذبهم إن لم يؤمنوا به فكانوا يستعجلونه بالعذاب استهزاء به وتعجيزا له قائلين: متى هذا الوعد؟ فرد الله عليهم بقوله:{ولن يخلف الله وعده} فإن كان المراد بالعذاب عذاب مشركي مكة فالذي وعدهم من العذاب هو ما ذاقوه يوم بدر وإن كان المراد به ما يقضى به بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين أمته بعذاب موعود لم ينزل بعد وقد أخبر الله عنه في قوله:{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ:} يونس: 47 إلى آخر الآيات.
وقوله:{ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} حكم بتساوي اليوم الواحد والألف سنة عند الله سبحانه فلا يستقل هذا ولا يستكثر ذلك حتى يتأثر من قصر اليوم الواحد وطول الألف سنة فليس يخاف الفوت حتى يعجل لهم العذاب بل هو حليم ذو أناة يمهلهم حتى يستكملوا دركات شقائهم ثم يأخذهم فيما قدر لهم من أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، ولذا عقب الكلام بقوله في الآية التالية:{ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ}.
وقوله:{ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ } رد لاستعجالهم بالعذاب بأن الله يستوي عنده قليل الزمان وكثيره، كما أن قوله:{ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ } تسلية وتأييد للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ورد لتكذيبهم له فيما أخبرهم به من وعد الله وتعجيزهم له واستهزائهم به.
وقيل: معنى قوله:{ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ } إن يوما من أيام الآخرة التي سيعذبون فيها يعدل ألف سنة من أيام الدنيا التي يعدونها.
وقيل: المراد أن يوما لهم وهم معذبون عند ربهم يعدل في الشدة ألف سنة يعذبون فيها من الدنيا.
والمعنيان لا يلائمان صدر الآية ولا الآية التالية كما هو ظاهر.
قوله تعالى:{ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} الآية - كما مر - متممة لقوله:{ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ } بمنزلة الشاهد على صدق المدعى، والمعنى: قليل الزمان وكثيره عند ربك سواء وقد أملى لكثير من القرى الظالمة وأمهلها ثم أخذها بعد مهل.
وقوله:{وإلي المصير} بيان لوجه عدم تعجيله العذاب لأنه لما كان مصير كل شيء إليه فلا يخاف الفوت حتى يأخذ الظالمين بعجل.
وقد ظهر بما مر أن الآية ليست تكرارا لقوله سابقا:{فكأين من قرية} إلخ، فلكل من الآيتين مفادها.
وفي الآية التفات من الغيبة إلى التكلم وحده لأن الكلام فيها في صفة من صفاته تعالى وهو الحلم والمطلوب بيان أن الله سبحانه هو خصمهم بنفسه إذ خاصموا نبيه.
قوله تعالى:{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ- إلى قوله - أصحاب الجحيم} أمر بإعلام الرسالة بالإنذار وبيان ما للإيمان به والعمل الصالح من الأجر الجميل وهو المغفرة بالإيمان والرزق الكريم وهو الجنة بما فيها من النعيم، بالعمل الصالح، وما للكفر والجحود من التبعة السيئة وهي صحابة الجحيم من غير مفارقة.
وقوله:{ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} السعي الإسراع في المشي وهو كناية عن بذل الجهد في أمر آيات الله لإبطالها وإطفاء نورها بمعاجزة، الله والتعبير بلفظ المتكلم مع الغير رجوع في الحقيقة إلى السياق السابق بعد إيفاء الالتفات في الآية السابقة أعني قوله:{أمليت لها} إلخ.
_____________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج14،ص316-318.
بئر معطّلة وقصر مشيد!
لقد صدر أمر الجهاد للمسلمين بعد أن ذاقوا ـ كما ذكرت الآيات السابقة ـ مرارة المحنة التي فرضها عليهم أعداء الإسلام الذين آذوهم وطردوهم من منازلهم لا لذنب إرتكبوه، بل لتوحيدهم الله سبحانه وتعالى.
وقد طمأنت الآيات ـ موضع البحث ـ الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين وخفّفت عنهم من جهة، وبيّنت لهم أنّ العاقبة السيّئة تنتظر الكفرة من جهة أُخرى، فقالت:{ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ}.
أي إذا كذّبك هؤلاء القوم فلا تبتئس ولا تحزن، فالأقوام السابقة قد كذّبت رسلها أيضاً، وأضافت:{ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ}.
وكذلك كذّب أهالي مدينة «مدين» نبيّهم «شعيب»، وكذّب فرعون وقومه نبيّهم «موسى»{وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى}.
وإنّ هذه المعارضة والتكذيب لن تؤثّر في روحك الطاهرة ونفسك المطمئنة، مثلما لم تؤثّر في أنبياء كبار قبلك ولم تعق مسيرتهم التوحيديّة ودعوتهم إلى الحقّ والعدل قطّ.
إلاّ أنّ هؤلاء الكفرة الأغبياء يتصوّرون إمكانية مواصلة هذه الأساليب المخزية.{ فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} أجل، أمهل الله الكافرين ليؤدّوا إمتحانهم وليتمّ الحجّة عليهم فأغرقهم بنعمته، ثمّ حاسبهم حساباً عسيراً.{ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}(2) ورأيت كيف أنكرت عليهم أعمالهم، وبيّنت لهم أعمالهم القبيحة، لقد سلبت منهم نعمتي وجعلتهم على أسوأ حال ... سلبتهم سعادتهم الدنيوية وعوّضتهم بالموت.
آخر الآية موضع البحث يبيّن الله تعالى كيفيّة عقاب الكفّار بجملة موجزة ذات دلالة واسعة{فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} وأضافت الآية أنّ سقف بيوتها قد باتت أسفل البناء:{ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا}.
أي إنّ الواقعة كانت شديدة حتّى أنّ السقوف إنهارت أوّلا ثمّ الجدران على السقوف{وبئر معطّلة} فما أكثر الآبار الرويّة بمياهها العذبة، ولكنّها غارت في الأرض بعد هلاك أصحابها فأصبحت معطّلة لا نفع فيها.
{وَقَصْرٍ مَشِيدٍ}(3) أجل ما أكثر القصور المشيدة التي إرتفعت شاهقة وزُينت، إلاّ أنّها أضحت خرائب بعد أن هلك أصحابها، والنتيجة إنّهم تركوا مساكنهم وقصورهم المجلّلة، وأهملوا مياههم وعيونهم التي كانت مصدر حياتهم وعمران أراضيهم وذهبوا. وكذلك الآبار الغنيّة بالماء أصبحت معطّلة لا ماء فيها.
السير في الأرض والعبرة:
تحدّثت الآيات السابقة عن الأقوام الظالمة التي عاقبها الله على ما إقترفت أيديهم فدمّر أحياءهم، وأكّدت الآية الأُولى هذه القضيّة فقالت:{ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا}.
أجل، تحدّثنا عن خرائب قصور الظلمة، ومنازل الجبابرة المهدّمة، وعبدة الدنيا، فلكلّ واحد منها ألف لسان يحكي لنا بسكونه المسيطر عليه ما حدث في زواياه من ظلم وفسق وجور، ويحدّثنا عن ألف حادثة وحادثة.
إنّ هذه الخرائب كتب ناطقة تتحدّث عن ماضي هؤلاء الأقوام، ونتائج أعمالهم وسلوكهم في الحياة، وعن أعمالهم المشؤومة، وأخيراً عن العقاب الذي صبّه الله عليهم!
إنّ آثار قصور الجبابرة تبعث في روح الإنسان التفكّر والإتّعاظ، حيث يعوّضنا أحياناً عن مطالعة كتاب ضخم، ومع أنّ أصل التاريخ يعيد نفسه، فانّ هذه الآثار تجسّد للإنسان مستقبله أمام عينيه. أجل، إنّ دراسة آثار القدماء تجعل آذاننا صاغية وأنظارنا ثاقبة. ولهذا السبب يحثّ القرآن المجيد ـ في كثير من آياته ـ المؤمنين على السياحة، سياحةً إلهيّةً أخلاقيةً فيها عبرة لأنفسنا وعظة نحصّلها من دراسة إيوان المدائن وقصور الفراعنة. فمرّة نمرّ عبر دجلة إلى المدائن، وقد نسكب الدمع بغزارة دجلة على أرض المدائن، لنسمع نصائح جديدة من شقوق خرائب القصور التي كان عمّارُها الملوك الجبابرة، ولنأخذ منها الدروس والعبر(4).
ولإيضاح حقيقة هذا الكلام بشكل أفضل قال القرآن المجيد:{ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
إنّ الذين يفقدون بصرهم لا يفقدون بصيرتهم، بل تراهم أحياناً أكثر وعياً من الآخرين. أمّا العمي فهم الذين تعمى قلوبهم، فلا يدركون الحقيقة أبداً! لهذا يقول الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): «شرّ العمى، عمى القلب! وأعمى العمى عمى القلب»(5).
ونطالح حديثاً للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتاب غوالي اللآلي «إذا أراد الله بعبد خيراً فتح عين قلبه فيشاهد بها ما كان غائباً عنه»(6).
وهنا يثار سؤال: كيف يقال أنّ القلوب التي في الصدور تدرك الحقائق، في وقت نعلم فيه أنّ القلب مضخّة للدم ليس إلاّ؟!
وقد أجبنا عن هذا في تفسير الآية السابقة من سورة البقرة، وخلاصته أنّ أحد معاني القلب هو العقل، ومن معاني الصدر ذات الإنسان.
إضافةً إلى أنّ القلب مظهر العواطف، وكلّما تأثّرت العواطف والإدراكات الروحيّة في الإنسان، فإنّ أوّل أثرها ينعكس على القلب فتزداد نبضاته ويسرع الدم في جريانه، ويمنح الجسم نشاطاً وحيوية جديدة، فتنسب الظواهر الروحية إلى القلب، لأنّه أوّل من يتأثّر بها في جسم الإنسان.{فتأمّلوا جيداً}.
وممّا يلفت النظر أنّ الآية المذكورة أعلاه نسبت سبل إدراك الإنسان إلى القلب (العقل) والاُذنين، إشارةً إلى أنّه لا سبيل ثالث لإدراك الأشياء والحقائق. فإمّا أن يتفاعل مع الحدث في أعماق روحه ويسعى لتحليل المسائل بنفسه فيصل إلى النتيجة المتوخّاة، وإمّا أن يسمع النصيحة من المشفقين الهداة وأنبياء الله وأهل الحقّ، أو يصل إلى الحقائق عن طريق هذين السبيلين(7).
وترسم الآية الثّانية ـ موضع البحث ـ صورة أُخرى لجهل الأغبياء وعديمي الإيمان فتقول:{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} فردّ عليهم ألاّ تعجلوا{وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ}. و «العجول» هو من يخشى فوات الفرصة من يده، وإنتهاء إمكاناتها.
أمّا الله القادر على كلّ شيء منذ الأزل، فلا حاجة له بالعجلة، فهو قادر دوماً على الوفاء بما عد، فلا فرق عنده بين الساعة واليوم والسنة:{ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}.
وسواء أكان حقّاً أم باطلا تكرارهم القول: لماذا لم ينزل الله علينا البلاء. فليعلموا أنّ العذاب يترقّبهم وسينزل عليهم قريباً. فإن أمهلهم الله، فإنّ ذلك ليعيدوا النظر في أعمالهم، وسيغلق باب التوبة بعد نزول العذاب ولا سبيل للنجاة حينذاك.
وهناك تفاسير أُخرى لعبارة{وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} غير ما ذكرنا (وهو تساوي اليوم الواحد والألف سنة بالنسبة إلى قدرته تعالى) منها: قد يلزم ألف عام لإنجازك عملا ما، والله تعالى ينجزه في يوم أو بعض يوم، لهذا فإنّ عقابه لا يحتاج إلى مقدّمات كثيرة.
وتفسير آخر يقول: إنّ يوماً من أيّام الآخرة كألف عام في الدنيا، وإنّ جزاء ربّك وعقابه يزداد بهذه النسبة، لهذا نقرأ في الحديث التالي: «إنّ الفقراء يدخلون الجنّة قبل الأغنياء بنصف يوم، خمسمائة عام»(8).
وفي آخر آية نجد تأكيداً على ما سبق أن ذكرته الآيات الآنفة الذكر من إنذار الكفّار المعاندين بأنّه ما أكثر القرى والبلاد التي أمهلناها ولم ننزل العذاب عليها ليفيقوا من غفلتهم، ولمّا لم يفيقوا وينتبهوا أمهلناهم مرّة أُخرى ليغرقوا في النعيم والرفاهية، وفجأةً نزل عليهم العذاب:{ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا}.
إنّ اُولئك الأقوام كانوا مثلكم يشكّون من تأخّر العذاب عليهم، ويسخرون من وعيد الأنبياء، ولا يرونه إلاّ باطلا، إلاّ أنّهم ابتلوا بالعذاب أخيراً ولم ينفعهم صراخهم أبداً{وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} أجل كلّ الاُمور تعود إلى الله، وتبقى جميع الثروات فيكون الله وارثها.
الرزق الكريم:
تحدّثت الآيات السابقة عن تعجيل الكفر والعذاب الإلهي، وإنّ ذلك ليس من شأن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنّما يرتبط بمشيئة الله تعالى، فأوّل آية من الآيات أعلاه تقول:{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ}.
يخاطب سبحانه وتعالى الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) فيأمره أن ينذر الناس بعذاب الله إن تخلّفوا عن طاعته.
وممّا لا شكّ فيه أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نذير بشير، وتأكيد الآية هنا لصفة النذير جاء لملاءمة ذلك مع المخاطبين الكفّار المعاندين الذين يستهزئون بعقاب الله.
وترسم الآيتان التاليتان صورةً للبشرى وأُخرى للإنذار، لأنّ رحمة الله واسعة، فتقدّم على عقاب الله. تتحدّث أوّلا عن البشرى{فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} يتطهّرون بماء المغفرة الإلهيّة أوّلا، فتطمئن ضمائرهم، ثمّ تشملهم نعم الله ورحمته.
عبارة «رزق كريم» (مع ملاحظة أنّ كلمة «كريم» تطلق على أي موجود شريف وثمين) ذات مفهوم واسع يضمّ جميع الأنعم المادية والمعنوية.
أجل، إنّ الله الكريم يمنّ على عباده المؤمنين الصالحين بأنواع من الرزق الكريم في تلك المنازل الكريمة، يقول الراغب الاصفهاني في مفرداته: لا يقال الكرم إلاّ في المحاسن، كمن ينفق مالا في تجهيز جيش في سبيل الله، أو تحمّل حمالة ترقىء دماء قوم. فعلى هذا لا يطلق الكرم على الإحسان الجزئي.
وفسّر البعض الرزق الكريم بالرزق الدائم الذي لا عيب ولا نقص فيه.
وقال آخرون: إنّه الرزق الذي يليق بالمؤمنين الصالحين، ولا يخفى أنّ المراد من ذلك شامل ويضمّ جميع هذه المعاني. وأضافت الآية السابقة { وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} أي إنّ الذين حاولوا تخريب الآيات الإلهيّة ومحوها، وكانوا يعتقدون بأنّ لهم القدرة على مغالبة إرادة الله المطلقة، فهم أصحاب الجحيم(9).
«جحيم» من مادّة «جحم» بمعنى شدّة توقّد النّار، وتقال كذلك لشدّة الغضب، فعلى هذا تطلق كلمة (الجحيم) على المكان المشتعل بالنيران، وهي هنا تشير إلى نار الآخرة.
______________
1- تفسير الامثل ،ناصر مكارم الشيرازي،ج8،ص421-428.
1 ـ النكير تعني الإنكار وهنا تعني فرض العقاب.
2 ـ «المشيد» مشتقّة من «شيد» على وزن «عيد» ذات معنيين: أوّلهما الإرتفاع، والثّاني الجصّ، فتعني لفظة «قصر مشيد» القصر المرتفع.
والمعنى الثّاني القصر الذي بني على اُسس ثابتة قويّة ليصان من حوادث الزمان، وبما أنّ معظم منازل ذلك العصر تبنى من اللبن، فإنّ المنزل الذي يبنى بالجصّ يكون أقوى من هذه البيوت ويكون متميّزاً عنها.
4ـ شرحنا في تفسير الآية (137) من سورة آل عمران بإسهاب دراسة تاريخ القدماء عن طريق السياحة والسير في الأرض.
5ـ نور الثقلين، المجلّد الثّالث، ص508.
6ـ المصدر السابق، ص509.
7ـ تفسير الميزان، المجلّد الرّابع عشر، صفحة 426.
8ـ مجمع البيان،ج7، في تفسير هذه الآية.
9ـ «سعوا» مشتقّة من «السعي» وتعني في الأساس الهرولة، وهنا المحاولة في تخريب الآيات الإلهية ومحوها. أمّا «المعاجزون» فمتشقّة من «العجز» وتعني هنا الذي يحاول الغلبة على قدرة الله غير المحدودة.
وتصوّر بعض المفسّرين أنّ هذا الإحتمال لا يمكنه أن يكون لأي أحد يريد تعجيز الله وقهر إرادته، وعلى هذا فإنّ كلمة «المعاجزين» نسبوها إلى النّبي والمؤمنين. في الوقت الذي إستخدم هذا التعبير في آيات قرآنية أُخرى لله، سورة الجن الآيات (12) والتوبة الآية (2 و3) وتعني عمل شخص يتظاهر بقدرته ليس إلاّ.
|
|
كل ما تود معرفته عن أهم فيتامين لسلامة الدماغ والأعصاب
|
|
|
|
|
ماذا سيحصل للأرض إذا تغير شكل نواتها؟
|
|
|
|
|
بالتعاون مع العتبة العباسية مهرجان الشهادة الرابع عشر يشهد انعقاد مؤتمر العشائر في واسط
|
|
|