أقرأ أيضاً
التاريخ: 2-9-2020
7207
التاريخ: 3-9-2020
3284
التاريخ: 3-9-2020
5028
التاريخ: 4-9-2020
5855
|
قال تعالى: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } [مريم: 51 - 58]
ذكر سبحانه حديث موسى (عليه السلام) فقال { واذكر } يا محمد { في الكتاب } الذي هو القرآن { مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا} أخلص العبادة لله تعالى وأخلص نفسه لأداء الرسالة وبفتح اللام يكون معناه أخلصه الله بالنبوة واختاره للرسالة { وكان رسولا } إلى فرعون وقومه { نبيا } رفيع الشأن عالي القدر { وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} الطور جبل بالشام ناداه الله تعالى من جانبه اليمين وهي يمين موسى وقيل من جانب اليمين من الطور يريد حيث أقبل من مدين ورأى النار في الشجرة وهو قوله { يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} { وقربناه نجيا } أي: مناجيا كليما قال ابن عباس : قربه الله وكلمه ومعنى هذا التقريب أنه أسمعه كلامه وقيل قربه حتى سمع صرير القلم الذي كتبت به التوراة وقيل قربناه أي ورفعنا منزلته وأعلينا محله حتى صار محله منا في الكرامة والمنزلة محل من قربه مولاه في مجلس كرامته فهو تقريب كرامة واصطفاء لا تقريب مسافة وإدناء إذ هو سبحانه لا يوصف بالحلول في مكان فيقرب من بعد أو يبعد من قرب أو يكون أحد أقرب إليه من غيره.
{ وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} أي: أنعمنا عليه بأخيه هارون حيث قال واجعل لي وزيرا من أهلي هارون وجعلناه نبيا أشركناه في أمره وشددنا به أزره { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ} الذي هو القرآن { إسماعيل } بن إبراهيم أيضا { إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} إذا وعد بشيء وفى به ولم يخلف { وكان } مع ذلك { رَسُولًا نَبِيًّا} إلى جرهم وقد مضى معناه قال ابن عباس أنه واعد رجلا أن ينتظره في مكان ونسي الرجل فانتظره سنة حتى أتاه الرجل وذلك مروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) وقيل أقام ينتظره ثلاثة أيام عن مقاتل وقيل أن إسماعيل بن إبراهيم (عليهماالسلام) مات قبل أبيه إبراهيم (عليه السلام) وإن هذا هو إسماعيل بن حزقيل بعثه الله إلى قومه فسلخوا جلدة وجهه وفروة رأسه فخيره الله فيما شاء من عذابهم فاستعفاه ورضي بثوابه وفوض أمرهم إلى الله تعالى في عفوه وعقابه ورواه أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) ثم قال في آخره أتاه ملك من ربه يقرئه السلام ويقول قد رأيت ما صنع بك وقد أمرني بطاعتك فمرني بما شئت فقال يكون لي بالحسين (عليه السلام) أسوة.
{ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ} أي: قومه وعترته وعشيرته وقيل أمته عن الحسن { بالصلاة والزكاة } وقيل أنه كان يأمر أهله بصلاة الليل وصدقة النهار { وكان } مع ذلك { عند ربه مرضيا } قد رضي أعماله لأنها كلها طاعات لم تكن فيها قبائح وقيل مرضيا معناه صالحا زكيا رضيا فحصل له عنده المنزلة العظيمة .
ثم ذكر سبحانه حديث إدريس فقال { واذكر } يا محمد { في الكتاب } الذي هو القرآن { إدريس } وهو جد أب نوح (عليه السلام) واسمه في التوراة أخنوخ وقيل أنه سمي إدريس لكثرة درسه الكتب وهو أول من خط بالقلم وكان خياطا وأول من خاط الثياب وقيل إن الله تعالى علمه النجوم والحساب وعلم الهيأة وكان ذلك معجزة له { إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} مر معناه { وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} أي: عاليا رفيعا وقيل إنه رفع إلى السماء الرابعة عن أنس وأبي سعيد الخدري وكعب ومجاهد وقيل إلى السماء السادسة عن ابن عباس والضحاك قال مجاهد : رفع إدريس (عليه السلام) كما رفع عيسى (عليه السلام) وهو حي لم يمت وقال آخرون أنه قبض روحه بين السماء الرابعة والخامسة وروي ذلك عن أبي جعفر وقيل إن معناه ورفعنا محله ومرتبته بالرسالة كقوله تعالى { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} ولم يرد به رفعة المكان عن الحسن والجبائي وأبي مسلم.
ولما فصل سبحانه ذكر النبيين ووصف كلا منهم بصفة تخصه جمعهم في المدح والثناء فقال { أولئك } تقدم ذكرهم { الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} بالنبوة وقيل بالثواب وبسائر النعم الدينية والدنيوية { مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ} إنما فرق سبحانه ذكر نسبهم مع أن كلهم كانوا من ذرية آدم (عليه السلام) لتبيان مراتبهم في شرف النسب فكان لإدريس شرف القرب لآدم لأنه جد نوح (عليه السلام) وكان إبراهيم من ذرية من حمل مع نوح لأنه من ولد سام بن نوح وكان إسماعيل وإسحاق ويعقوب من ذرية إبراهيم لما تباعدوا من آدم حصل لهم شرف إبراهيم وكان موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى ومن ذرية إسرائيل.
{ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا} قيل: إنه تم الكلام عند قوله { إسرائيل } ثم ابتدأ فقال { وممن هدينا واجتبينا } من الأمم قوم { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} فحذف لدلالة الكلام عليه عن أبي مسلم وروي عن علي بن الحسين (عليهماالسلام) أنه قال نحن عنينا بها وقيل بل المراد به الأنبياء الذين تقدم ذكرهم من ذرية آدم وممن هديناهم واجتبيناهم أي هديناهم إلى الحق فاهتدوا واخترناهم من بين الخلق ثم وصفهم فقال { إذا تتلى عليهم } أي: تقرأ عليهم { آيات الرحمن } وهو القرآن عن ابن عباس { خروا سجدا } أي: ساجدين لله { وبكيا } أي: باكين متضرعين إليه بين الله سبحانه أنهم مع جلالة قدرهم كانوا يبكون عند ذكر آيات الله وهؤلاء العصاة ساهون لاهون مع إحاطة السيئات بهم.
_______________
1- تفسير مجمع البيان،الطبرسي،ج6،ص428-431.
{ واذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وكانَ رَسُولاً نَبِيًّا }. المراد بالكتاب
القرآن ، ومخلصا بفتح اللام معناه ان اللَّه قد أخلصه من كل ما يشين ، واصطفاه لنفسه ، ومعناه بكسر اللام ان أقوال موسى وأفعاله كلها خالصة لوجه اللَّه ، ومعنى الرسول والنبي واحد ، والاختلاف انما هو بالنظر والاعتبار ، فمن حيث إنه يحمل رسالة اللَّه يقال له رسول ، ومن حيث إنه ينبئ بها الذين أرسل إليهم يقال نبي ، وقيل : ان الرسول يتلقى الوحي ويبلغ ، والنبي يتلقى ولا يبلغ .
ولا جدوى من هذا البحث .
{ ونادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وقَرَّبْناهُ نَجِيًّا } . الطور هو الجبل الذي كلم اللَّه موسى عليه ، والمراد بالأيمن يمين موسى لأن الجبل لا يمين له ولا شمال ، والمراد بقربناه نجيا قرب المكانة لا قرب المكان ، والمعنى ان اللَّه شرف موسى بالنبوة والرسالة ، وكلمه بلا واسطة رسول ، بل كان الكلام يأتيه من جهة يمينه ، كما تقول : سمعت صوتا من خلفي أو يميني { ووَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا } . يشير سبحانه بهذا إلى قضية سابقة ، وهي ان اللَّه سبحانه حين أمر موسى بالذهاب إلى فرعون قال له موسى فيما قال : « واجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي » - 30 طه فاستجاب له المولى و « قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى » .
الوفاء :
{ واذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وكانَ رَسُولاً نَبِيًّا وكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ والزَّكاةِ وكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا } المعنى واضح لا يحتاج إلى تفسير ، ومن المفيد أن نتكلم عن الوفاء لمناسبة قوله تعالى : كان صادق الوعد .
لقد أثنى سبحانه على إسماعيل بأنه إذا وعد بشيء أنجز وعده ، وذكر المفسرون ان إسماعيل وعد صاحبا له أن ينتظره في مكان ، فتأخر الرجل ، وانتظر إسماعيل ثلاثة أيام أو أكثر . . وسواء أصحت هذه الرواية ، أم لم تصح فإنها ترمز إلى أن على الإنسان أن يبذل غاية ما يستطيع للوفاء بوعده ، وان من يتهرب من الوفاء فلا ينبغي أن يؤتمن على شيء ، بل لنا ان نصفه بالكذب والغدر ، حتى ولو كان في الوفاء خسارة مادية ، لأن الخسران في الدين أعظم ، فقد جاءت الرواية ان الوفاء بالعهد من علامات أهل الدين ، وان الدين المعاملة ، وقد اشتهر ان من لا وفاء له لا دين له . . وقرأت كلمة في الوفاء اقتطف منها ما يلي :
« ان من يحمل الظروف تبعة الخلف بالوعد فإنما يحاول أن يهرب من اتهام نفسه ، فيتهم الظروف . . والوفاء كلمة جميلة الوقع في الاذن ، وجميلة الوقع في الحياة ، وأعني بالوفاء ، الوفاء للأهل والأصدقاء ، والعمل والمبدأ والوطن ، وأخيرا للانسانية جمعاء . . والوفاء يجعلك تحب الحياة ، والغدر يجعلك تكره الحياة ومعنى الوفاء للأهل والأصدقاء ان تعمل من أجلهم دون مقابل ، والوفاء للوطن حيث يحتاج إلى التضحية والفداء » .
{ واذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا } . أثنى عليه سبحانه بالصدق والنبوة . { ورَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا } . المراد بالمكان هنا المكانة والمنزلة . وقيل :
إنّ اللَّه رفعه إلى السماء الرابعة ، وقال آخرون : بل السادسة رجما بالغيب . وفي التفاسير أيضا ان إدريس هو جد لأبي نوح ، وانه أول من خاط الثياب ، وخط بالقلم ، ونظر في النجوم ، وتعلم الحساب . . ولا ندري من أين استقى المفسرون هذه المعلومات . . وللأديب الشهير توفيق الحكيم المصري مسرحية ، أسماها إزيس ، وقال : ان إزيس هذه هي زوجة أوزريس الذي نكل به الملك طيفون . .
ويقال : ان أوزريس هذا هو إدريس الذي أشار إليه القرآن . وكل هذه الأقوال حدس وخيال .
{ أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ ومِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ ومِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وإِسْرائِيلَ ومِمَّنْ هَدَيْنا واجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وبُكِيًّا } . قال الرازي والطبرسي : المراد بالنبيين من ذرية آدم إدريس لأنه أسبق الجميع ، وأقرب إلى آدم من نوح ، والمراد بذرية من حمل مع نوح إبراهيم لأنه من ولد سام ، والمراد بذرية إبراهيم اسحق وإسماعيل ويعقوب ، وإسرائيل هو يعقوب ، ومن ذريته موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى من جهة الأم ، وكل هؤلاء وغيرهم ممن هداهم اللَّه واصطفاهم للنبوة يتضرعون للَّه خاشعين خوفا من غضبه وعذابه ، مع أنهم يخلصون للَّه وبأمره يعملون . فبالأولى أن يستشعر الخوف منه تعالى ويتوب إليه من تجرأ على معصيته .
_______________
1- التفسير الكاشف، ج 5، محمد جواد مغنية، ص 186-189.
ذكر جمع آخرين من الأنبياء و شيء من موهبة الرحمة التي خصهم الله بها، وهم موسى وهارون وإسماعيل وإدريس (عليهما السلام).
قوله تعالى:{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} قد تقدم معنى المخلص بفتح اللام وأنه الذي أخلصه الله لنفسه فلا نصيب لغيره تعالى فيه لا في نفسه ولا في عمله، وهو أعلى مقامات العبودية.
وتقدم أيضا الفرق بين الرسول والنبي.
قوله تعالى:{ وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} الأيمن : صفة لجانب أي الجانب الأيمن من الطور، وفي المجمع،: النجي بمعنى المناجي كالجليس والضجيع.
وظاهر أن تقريبه (عليه السلام) كان تقريبا معنويا وإن كانت هذه الموهبة الإلهية في مكان وهو الطور ففيه كان التكليم، ومثاله من الحس أن ينادي السيد العزيز عبده الذليل فيقربه من مجلسه حتى يجعله نجيا يناجيه ففيه نيل ما لا سبيل لغيره إليه.
قوله تعالى:{ وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} إشارة إلى إجابة ما دعا به موسى عند ما أوحى إليه لأول مرة في الطور إذ قال:{ وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي}: طه: 32.
قوله تعالى:{واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد} إلى آخر الآيتين.
اختلفوا في{إسماعيل} هذا فقال الجمهور هو إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن، وإنما ذكر وحده ولم يذكر مع إسحاق ويعقوب اعتناء بشأنه، وقيل: هو غيره، وهو إسماعيل بن حزقيل من أنبياء بني إسرائيل، ولو كان هو ابن إبراهيم لذكر مع إسحاق ويعقوب.
ويضعف ما وجه به قول الجمهور: أنه استقل بالذكر اعتناء بشأنه، أنه لو كان كذلك لكان الأنسب ذكره بعد إبراهيم وقبل موسى (عليه السلام) لا بعد موسى.
قوله تعالى:{ كَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} المراد بأهله خاصته من عترته وعشيرته وقومه كما هو ظاهر اللفظ، وقيل: المراد بأهله أمته وهو قول بلا دليل.
والمراد بكونه عند ربه مرضيا كون نفسه مرضية دون عمله كما ربما فسره به بعضهم فإن إطلاق اللفظ لا يلائم تقييد الرضا بالعمل.
قوله تعالى:{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} إلى آخر الآيتين.
قالوا: إن إدريس النبي كان اسمه أخنوخ وهو من أجداد نوح (عليه السلام) على ما ذكر في سفر التكوين من التوراة، وإنما اشتهر بإدريس لكثرة اشتغاله بالدرس.
وقوله:{ وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} من الممكن أن يستفاد من سياق القصص المسرودة في السورة وهي تعد مواهب النبوة والولاية وهي مقامات إلهية معنوية أن المراد بالمكان العلي الذي رفع إليه درجة من درجات القرب إذ لا مزية في الارتفاع المادي والصعود إلى أقاصي الجوالبعيدة أينما كان.
وقيل: إن المراد بذلك - كما ورد به الحديث - أن الله رفعه إلى بعض السماوات وقبضه هناك، وفيه إراءة آية خارقة وقدرة إلهية بالغة وكفى بها مزية.
قد تقدم في الكلام على غرض السورة أن الذي يستفاد من سياقها بيان أن عبادته تعالى - وهو دين التوحيد - هو دين أهل السعادة والرشد من الأنبياء والأولياء، وأن التخلف عن سبيلهم بإضاعة الصلاة واتباع الشهوات اتباع سبيل الغي إلا من تاب وآمن وعمل صالحا.
فالآيات وخاصة الثلاث الأول منها تتضمن حاق غرض السورة وقد أوردته في صورة الاستنباط من القصص المسرودة فيما تقدم من الآيات، وهذا مما تمتاز به هذه السورة من سائر سور القرآن الطوال فإنما يشار في سائر السور إلى أغراضها بالتلويح في مفتتح السورة ومختتمها ببراعة الاستهلال وحسن الختام لا في وسطها.
قوله تعالى:{ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} إلخ، الإشارة بقوله:{أولئك} إلى المذكورين قبل الآية في السورة وهم زكريا ويحيى ومريم وعيسى وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون وإسماعيل وإدريس (عليهما السلام).
وقد تقدمت الإشارة إليه من سياق آيات السورة وأن القصص الموردة فيها أمثلة، وأن هذه الآية واللتين بعدها نتيجة مستخرجة منها، ولازم ذلك أن يكون قوله:{أولئك} مشيرا إلى أصحاب القصص بأعيانهم مبتدأ، وقوله:{ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} صفة له، وقوله:{إذا تتلى عليهم} إلخ، خبرا له فهذا هو الذي يهدي إليه التدبر في السياق.
ولو أخذ قوله:{ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} خبرا لقوله:{أولئك} فقوله:{إذا تتلى عليهم} إلخ، خبر له بعد خبر لكنه لا يلائم غرض السورة تلك الملاءمة.
وقد أخبر الله سبحانه أنه أنعم عليهم وأطلق القول فيهم ففيه دلالة على أنهم قد غشيتهم النعمة الإلهية من غير نقمة وهذا هو معنى السعادة فليست السعادة إلا النعمة من غير نقمة فهؤلاء أهل السعادة والفلاح بتمام معنى الكلمة وقد أخبر تعالى عنهم أنهم أصحاب الصراط المستقيم المصون سالكه عن الغضب والضلال إذ قال:{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}: الحمد: 7، وهم في أمن واهتداء لقوله:{ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}: الأنعام: 82، فأصحاب الصراط المستقيم المصونون عن الغضب والضلال ولم يلبسوا إيمانهم بظلم في أمن من كل خطر يهدد الإنسان تهديدا فهم سعداء في سلوكهم سبيل الحياة التي سلكوها والسبيل التي سلكوها، هي سبيل السعادة.
وقوله:{من النبيين} من فيه للتبعيض وعديله قوله الآتي:{وممن هدينا واجتبينا} على ما سيأتي توضيحه.
وقد جوز المفسرون كون{من} بيانية وأنت خبير بأن ذلك لا يلائم كون{أولئك} مشيرا إلى المذكورين من قبل، لأن النبيين أعم، اللهم إلا أن يكون إشارة إليهم بما هم أمثلة لأهل السعادة ويكون المعنى أولئك المذكورون وأمثالهم الذين أنعم الله عليهم هم النبيون ومن هدينا واجتبينا.
وقوله:{من ذرية آدم} في معنى الصفة للنبيين ومن فيه للتبعيض أي من النبيين الذين هم بعض ذرية آدم، وليس بيانا للنبيين لاختلال المعنى بذلك.
وقوله:{وممن حملنا مع نوح} معطوف على قوله:{من ذرية آدم} والمراد بهم المحمولون في سفينة نوح (عليه السلام) وذريتهم وقد بارك الله عليهم، وهم من ذرية نوح لقوله تعالى:{ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ}: الصافات: 77.
وقوله:{ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل} معطوف كسابقه على قوله:{من النبيين}.
وقد قسم الله تعالى الذين أنعم عليهم من النبيين على هذه الطوائف الأربع أعني ذرية آدم ومن حمله مع نوح وذرية إبراهيم وذرية إسرائيل وقد كان ذكر كل سابق يغني عن ذكر لاحقه لكون ذرية إسرائيل من ذرية إبراهيم والجميع ممن حمل مع نوح والجميع من ذرية آدم (عليه السلام).
ولعل الوجه فيه الإشارة إلى نزول نعمة السعادة وبركة النبوة على نوع الإنسان كرة بعد كرة فقد ذكر ذلك في القرآن الكريم في أربعة مواطن لطوائف أربع: أحدها لعامة بني آدم حيث قال:{ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}: البقرة: 39.
والثاني ما في قوله تعالى:{ قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}: هود: 48، والثالث ما في قوله تعالى:{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}: الحديد: 26، والرابع ما في قوله تعالى:{ وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}: الجاثية: 16.
فهذه مواعد أربع بتخصيص نوع الإنسان بنعمة النبوة وموهبة السعادة، وقد أشير إليها في الآية المبحوث عنها بقوله:{ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ} ، وقد ذكر في القصص السابقة من كل من الذراري الأربع كإدريس من ذرية آدم، وإبراهيم من ذرية من حمل مع نوح، وإسحاق ويعقوب من ذرية إبراهيم، وزكريا ويحيى وعيسى وموسى وهارون وإسماعيل - على ما استظهرنا - من ذرية إسرائيل.
وقوله:{وممن هدينا واجتبينا} معطوف على قوله:{من النبيين} وهؤلاء غير النبيين من الذين أنعم الله عليهم فإن هذه النعمة غير خاصة بالنبيين ولا منحصرة فيهم بدليل قوله تعالى:{ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}: النساء: 69 وقد ذكر الله سبحانه بين من قص قصته مريم (عليها السلام) معتنيا بها إذ قال:{واذكر في الكتاب مريم} وليست من النبيين فالمراد بقوله:{وممن هدينا واجتبينا} غير النبيين من الصديقين والشهداء والصالحين لا محالة، وكانت مريم من الصديقين لقوله تعالى:{ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ}: المائدة: 75.
ومما تقدم من مقتضى السياق يظهر فساد قول من جعل{ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا} معطوفا على قوله:{من النبيين} مع أخذ من للبيان، وأورد عليه بعضهم أيضا بأن ظاهر العطف المغايرة فيحتاج إلى أن يقال: المراد ممن جمعنا له بين النبوة والهداية والاجتباء للكرامة وهو خلاف الظاهر.
وفيه منع كون ظاهر العطف المغايرة مصداقا وإنما هو المغايرة في الجملة ولو بحسب الوصف والبيان.
ونظيره قول من قال بكونه معطوفا على قوله:{من ذرية آدم} ومن للتبعيض وقد اتضح وجه فساده مما قدمناه.
ونظيره قول من قال: إن قوله:{وممن هدينا} استئناف من غير عطف فقد تم الكلام عند قوله:{إسرائيل} ثم ابتدأ فقال: وممن هدينا واجتبينا من الأمم قوم إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا فحذف المبتدأ لدلالة الكلام عليه، والوجه منسوب إلى أبي مسلم المفسر.
وفيه أنه تقدير من غير دليل.
على أن في ذلك إفساد غرض على ما يشهد به السياق إذ الغرض منها بيان طريقة أولئك العباد المنعم عليهم وأنهم كانوا خاضعين لله خاشعين له وأن أخلافهم أعرضوا عن طريقتهم وأضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وهذا لا يتأتى إلا بكون قوله:{إذا تتلى عليهم} إلخ خبرا لقوله:{ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} وأخذ قوله:{وممن هدينا} إلى آخر الآية استئنافا مقطوعا عما قبله إفساد للغرض المذكور من رأس.
وقوله:{ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} السجد جمع ساجد والبكي على فعول جمع باكي والجملة خبر للذين في صدر الآية ويحتمل أن يكون الخرور سجدا وبكيا كناية عن كمال الخضوع والخشوع فإن السجدة ممثل لكمال الخضوع والبكاء لكمال الخشوع والأنسب على هذا أن يكون المراد بالآيات وتلاوتها ذكر مطلق ما يحكي شأنا من شئونه تعالى.
وأما قول القائل إن المراد بتلاوة الآيات قراءة الكتب السماوية مطلقا أوخصوص ما يشتمل على عذاب الكفار والمجرمين، أو أن المراد بالسجود الصلاة أو سجدة التلاوة أو أن المراد بالبكاء البكاء عند استماع الآيات أو تلاوتها فكما ترى.
فمعنى الآية - والله أعلم - أولئك المنعم عليهم الذين بعضهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وبعضهم من أهل الهداية والاجتباء خاضعون للرحمن خاشعون إذا ذكر عندهم وتليت آياته عليهم.
ولم يقل: كانوا إذا تتلى عليهم{إلخ} لأن العناية في المقام متعلقه ببيان حال النوع من غير نظر إلى ماضي الزمان ومستقبله بل بتقسيمه إلى سلف صالح وخلف طالح وثالث تاب وآمن وعمل صالحا وهو ظاهر.
________________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج14،ص51-63.
موسى النّبي المخلص:
في هذه الآيات الثلاث إِشارة قصيرة إِلى موسى(عليه السلام) ـ وهو من ذرية إبراهيم(عليه السلام) وموهبة من مواهب ذلك الرجل العظيم ـ حيث سار على خطاه.
وتوجه الآية الخطاب إِلى الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) وتقول: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى} ثمّ تذكر خمس مواهب وصفات من المواهب التي أعطيت لهذا النّبي الكبير:
1 ـ إِنّه وصل في طاعته وعبوديته لله إِلى حد { إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا} ولا ريب أن الذي يصل إِلى هذه المرتبة سيكون مصوناً من خطر الإِنحراف والتلوث، لأنّ الشيطان رغم كل إصراره على إضلال عباد الله، يعترف هو نفسه بعدم قدرته على إضلال المخلصين: { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}(سورة ص:82).
2 ـ { وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} فحقيقة الرسالة أن تُلقى مهمّة على عاتق شخص، وهو مسؤول عن أدائها وإِبلاغها، وهذا المقام كان لجميع الأنبياء المأمورين بالدعوة.
إِن ذكر كونه «نبيّاً» هنا إِشارة إِلى علو مقام ورفعة شأن هذا النّبي العظيم، لأنّ هذه اللفظة في الأصل مأخوذة من (النَّبْوَة) على وزن (نغمة) وتعني رفعة المقام وعلوه. ولها ـ طبعاً ـ أصل آخر من (نبأ) بمعنى الخبر، لأنّ النّبي يتلقى الخبر الإلهي، ويخبر به الآخرين، إِلاّ أن المعنى الأوّل هو الأنسب هنا.
3 ـ وأشارت الآية التالية إِلى بداية رسالة موسى، فقالت: { وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} ففي تلك الليلة المظلمة الموحشة، حيث قطع موسى صحارى مدين متوجهاً إِلى مصر، أخذ زوجته الطلق وألم الولادة، وكان البرد شديداً، فكان يبحث عن شعلة نار، وفجأة سطع نور من بعيد، وسمع نداء يبلغه رسالة الله، وكان هذا أعظم وسام وألذ لحظة في حياته.
4 ـ إِضافة إِلى ذلك {وقربناه نجياً}(2) فإنّ النداء كان موهبة، والتكلم موهبة أُخرى.
5 ـ وأخيراً { وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} ليكون معينه ونصيره.
إِسماعيل نبي صادق الوعد:
بعد ذكر إِبراهيم(عليه السلام) وتضحيته، وبعد الإِشارة القصيرة إِلى حياة موسى(عليه السلام)المتسامية، يأتي الحديث عن إِسماعيل، أكبر ولد إِبراهيم، ويكمل ذكر إِبراهيم بذكر ولده إِسماعيل، وبرامجه ببرامج ولده، ويبيّن القرآن الكريم خمس صفات من صفاته البارزة التي يمكن أن تكون قدوة للجميع.
ويبدأ الكلام بخطاب الآية الشريفة للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فتقول: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا}.
لقد عدّت هاتان الآيتان كونه صادق الوعد، نبيّاً عالي المرتبة، أمرهُ بالصلاة والإِرتباط بالخالق، وأمرهُ بالزكاة وتحكيم الروابط والعلاقات بخلق الله، وأخيراً
القيام بالأعمال التي تجلب رضى الله سبحانه من صفات هذا النّبي العظيم.
وتؤكّد الآيتان على الوفاء بالعهد، والإِهتمام بتربية العائلة، وتشيران إِلى الأهمية الخاصّة لهذين التكليفين، اللذين ذكر أحدهما قبل النّبوة، والأخر بعدها مباشرة.
إِنّ الإِنسان ـ في الواقع ـ ما لم يكن صادقاً، فمن المستحيل أن يصل إِلى مقام الرسالة السامي، لأنّ أوّل شرط لهذه الرتبة أن يبلغ الوحي الإِلهي إِلى العباد بدون زيادة أو نقصان، ولذلك فحتى الأفراد المعدودون الذين ينكرون عصمة الأنبياء في بعض الأحوال، فإِنّهم اعترفوا وأقروا بأنّ مسألة صدق النّبي شرط أساسي، الصدق في الأخبار، وفي الوعود، وفي كل شيء.
ونقرأ في رواية عن الإِمام الصادق(عليه السلام): «إِنّما سمّي إِسماعيل صادق الوعد، لأنّه وعد رجلا في مكان فانتطره في ذلك المكان سنة، فسمّاه الله عزَّوجل صادق الوعد. ثمّ قال: إِنّ الرجل أتاه بعد ذلك فقال له إِسماعيل: ما زلت منتظراً لك»(3).
من البديهي أنّه ليس المراد أنّ إِسماعيل قد ترك عمله وأُمور حياته، بل المراد أنّه في الوقت الذي كان يمارس أعماله كان يراقب مجيء الشخص المذكور. وقد بحثنا في مجال الوفاء بالعهد بصورة مفصلة في ذيل أوّل آية من سورة المائدة.
ومن جهة أُخرى فإِنّ المرحلة الأُولى لتبليغ الرسالة هي الشروع من عائلة المبلغ الذين هم أقرب الناس إِليه، ولهذا فإنّ نبي الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) بدأ دعوته أيضاً بزوجته الغالية خديجة(عليها السلام)، وابن عمّه علي(عليه السلام)، ثمّ وحسب أمر { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}(الشعراء،214) توجه إِلى أقربائه.
وفي الآية (132) من سورة طه نقرأ أيضاً: { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا }.
النقطة الأُخرى التي تستحق الذكر هنا، أن وصف إِسماعيل بكونه مرضياً، إِشارة في الواقع إِلى هذه الحقيقة، وهي أنّه قد حاز رضى الله في كل أعماله، ولا توجد نعمة أجلّ من أن يرضى المعبود والمولى والخالق عنه، ولهذا تقول الآية (119) من سورة المائدة بعد أن بينت نعمة الجنة الخالدة لعباد الله المخلصين: (رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم)(4).
هؤلاء أنبياء الله، ولكن ...
في آخر قسم من تذكيرات هذه السورة، جاء الحديث عن «إِدريس» النّبي، فقالت الآية أوّلا: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} و«الصديق» ـ كما قلنا سابقاً ـ هو الشخص الصادق جدّاً، والمصدق بآيات الله سبحانه، والمذعن للحق والحقيقة.
ثمّ تشير الآية إِلى مقامه العالي وتقول: { وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا}. وهناك بحث بين المفسّرين في أن المراد هل هو عظمة مقام إِدريس المعنوية، أم الإِرتفاع المكاني بين المفسّرين في أنّ المراد هل هو عظمة مقام إِدريس المعنوية، أم الإِرتفاع المكاني الحسي؟ فالبعض اعتبر ذلك ـ كما ذهبنا إِليه ـ إِشارة إِلى المقامات المعنوية والدرجات الروحية لهذا النّبي الكبير، والبعض الآخر يعتقد أن الله سبحانه قد رفع إِدريس كالمسيح إِلى السماء، واعتبروا التعبير بـ (مكان عليّ) إِشارة إِلى هذا.
إِلاّ أنّ إِطلاق كلمة المكان على المقامات المعنوية أمر متداول وطبيعي، فنحن نرى في الآية (77) من سورة يوسف أنّ يوسف قد قال لإِخوته العاصين: {أنتم شرّ مكاناً}.
وعلى كل حال، فإنّ إِدريس واحد من أنبياء الله المكرمين، وسيأتي شرح حاله في البحوث القادمة إِن شاء الله تعالى.
ثمّ تبيّن الآية التالية بصورة جماعية عن كل الإِمتيازات والخصائص التي مرت في الآيات السابقة حول الأنبياء العظام وصفاتهم وحالاتهم والمواهب التي أعطاهم الله إِياها، فتقول: { أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ}.
ومع أن كل هؤلاء الأنيباء كانوا من ذرية آدم، غير أنّهم لقربهم من أحد الأنبياء الكبار فقد سُمّوا بذرية إِبراهيم وإِسرائيل، وعلى هذا فإنّ المراد من ذرية آدم في هذه الآية هو إِدريس، حيث كان ـ حسب المشهور ـ جدّ النّبي نوح، والمراد من الذرية هم الذين ركبوا مع نوح في السفينة، لأنّ إِبراهيم كان من أولاد سام بن نوح.
والمراد من ذرية إِبراهيم إِسحاق وإسماعيل ويعقوب، والمراد من ذرية إِسرائيل: موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى، والذين أشير في الآيات السابقة إِلى حالاتهم وكثير من صفاتهم البارزة المعروفة.
ثمّ تكمل الآية هذا البحث بذكر الأتباع الحقيقيين لهؤلاء الأنبياء، فتقول: { وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}(5).
لقد اعتبر بعض المفسّرين جملة { وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا... } بياناً آخر لنفس هؤلاء الأنبياء الذين أشير إِليهم في بداية هذه الآية. إِلاّ أنّ ما قلنا أعلاه يبدو أنّه أقرب للصواب(6). والشاهد على هذا الكلام الحديث المروي عن الإِمام زين العابدين علي بن الحسين(عليه السلام)، إِذ قال أثناء تلاوة هذه الآية: «نحن عُنينا بها»(7).
وليسَ المراد من هذه الجملة هو الحصر مطلقاً، بل هي مصداق واضح لمتبعي وأولياء الأنبياء الواقعيين، وقد مرت بنا نماذج من مصاديق هذا البحث في التّفسير الأمثل هذا. إلاّ أنّ عدم الإِلتفات إِلى هذه الحقيقة سبب أن يقع بعض المفسّرين ـ كالآلوسي في روح المعاني ـ في خطأ حيث طعن في هذا الحديث، وعدّه دليلا على كون أحاديث الشيعة غير معتبرة! وهذه هي نتيجة عدم الإِحاطة بالمفهوم الواقعي للروايات الواردة في تفسير الآيات.
وممّا يستحق الإِنتباه أن الحديث في الآيات السابقة كان عن مريم، في حين أنّها لم تكن من الإنبياء، بل كانت داخلة في جملة (ممن هدينا) وتعتبر من مصاديقها، ولها في كل زمان ومكان مصداق أو مصاديق، ومن هنا نرى أن الآية (69) من سورة النساء لم تحصر المشمولين بنعم الله بالأنبياء، بل أضافت إِليهم الصديقين والشهداء: (فأُولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النّبيين والصديقين والشهداء) وكذلك عبرت الآية (75) من سورة المائدة عن مريم أم عيسى بالصديقة، فقالت: (وأمه صديقة).
______________
1- تفسير الامثل،ناصر مكارم الشيرازي،ج8،ص60-67.
2- «النجي» بمعنى المناجي، أي الشخص الذي يهمس في أذن الآخر، وهنا ينادي الله موسى من بعيد، ولما اقترب ناجاه. ومن المعلوم أن الله سبحانه ليسَ له لسان ولا مكان، بل يوجد الأمواج الصوتية في الفضاء، ويتكلم مع عبد كموسى.
3- أصول الكافي، ج 2، ص 86.
4- كان لنا بحث أكثر تفصيلا حول هذا الموضوع ذيل الآية (119) من سورة المائدة من هذا التّفسير.
5- سجد جمع ساجد، وبكي جمع باك.
6- لأنّها إِذا كانت إشارة للأنبياء السابقين، فإِنّها لا تناسب الفعل المضارع (تتلى) الذي يتعلق بالمستقبل، إِلاّ أن نقدر جملة (كانوا) وأمثالها، وهي خلاف الظاهر أيضاً.
7- مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|