أقرأ أيضاً
التاريخ: 2-9-2020
5783
التاريخ: 3-9-2020
6482
التاريخ: 3-9-2020
3581
التاريخ: 3-9-2020
2356
|
قال تعالى : {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُو السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت : 56 - 63] .
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :
بيّن سبحانه أنه لا عذر لعباده في ترك طاعته فقال {يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة} يبعد أقطارها فاهربوا من أرض يمنعكم أهلها من الإيمان والإخلاص في عبادتي وقال أبوعبد الله (عليه السلام) معناه إذا عصي الله في أرض أنت فيها فاخرج منها إلى غيرها وقيل معناه إن أرض الجنة واسعة عن الجبائي وأكثر المفسرين على القول الأول {فإياي فاعبدون} أي اعبدوني خالصا ولا تطيعوا أحدا من خلقي في معصيتي وإياي منصوب بفعل مضمر يفسره ما بعده وقد مر بيانه وقيل إن دخول الفاء للجزاء والتقدير إن ضاق بكم موضع فاعبدوني ولا تعبدوا غيري إن أرضي واسعة أمر سبحانه المؤمنين إذا كانوا في بلد لا يلتئم فيه لهم أمر دينهم أن ينتقلوا عنه إلى غيره .
ثم خوفهم بالموت ليهون عليهم الهجرة فقال {كل نفس ذائقة الموت} أي كل نفس أحياها الله بحياة خلقها فيه ذائقة مرارة الموت بأي أرض كان فلا تقيموا بدار الشرك خوفا من الموت {ثم إلينا ترجعون} بعد الموت فنجازيكم بأعمالكم ثم ذكر سبحانه ثواب من هاجر فقال {والذين آمنوا وعملوا الصالحات} يعني المهاجرين {لنبوئنهم} أي لننزلنهم {من الجنة غرفا} أي علالي عاليات {تجري من تحتها الأنهار} قال ابن عباس لنسكننهم غرف الدر والزبرجد والياقوت ولننزلنهم قصور الجنة {خالدين فيها} يبقون فيها ببقاء الله {نعم أجر العاملين} لله تلك الغرف ثم وصفهم فقال {الذين صبروا} على دينهم فلم يتركوه لشدة نالتهم وأذى لحقهم وصبروا على مشاق الطاعات {وعلى ربهم يتوكلون} في مهمات أمورهم ومهاجرة دورهم .
ثم قال {وكأين من دابة لا تحمل رزقها} أي وكم من دابة لا يكون رزقها مدخرا معدا عن الحسن وقيل معناه لا تطيق حمل رزقها لضعفها وتأكل بأفواهها عن مجاهد وقيل إن الحيوان أجمع من البهائم والطيور وغيرهما مما يدب على وجه الأرض لا تدخر القوت لغدها إلا ابن آدم والنملة والفأرة بل تأكل منه قدر كفايتها فقط عن ابن عباس {الله يرزقها وإياكم} أي يرزق تلك الدابة الضعيفة التي لا تقدر على حمل رزقها ويرزقكم أيضا فلا تتركوا الهجرة بهذا السبب وعن عطا عن ابن عمر قال خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) حتى دخل بعض حيطان الأنصار فجعل يلتقط من التمر ويأكل فقال يا ابن عمر ما لك لا تأكل فقلت لا أشتهيه يا رسول الله قال لكني أشتهيه وهذه صبح رابعة منذ لم أذق طعاما ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت مع قوم يخبئون رزق سنتهم لضعف اليقين فو الله ما برحنا حتى نزلت هذه الآية {وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم} أي السميع لأقوالكم عند مفارقة أوطانكم العليم بأحوالكم لا يخفى عليه شيء من سركم وإعلانكم .
ثم عجب سبحانه ورسوله والمؤمنون من إيمان المشركين بالباطل مع اعترافهم بأن الله هو الخالق الفاعل فقال {ولئن سألتهم} أي إن سألت يا محمد هؤلاء المشركين {من خلق السماوات والأرض} أي من أنشأهما وأخرجهما من العدم إلى الوجود {وسخر الشمس والقمر} أي من ذللهما وسيرهما في دورانهما على طريقة واحدة لا تختلف {ليقولن} في جواب ذلك {الله} الفاعل لذلك لأنهم كانوا يقولون بحدوث العالم والنشأة الأولى {فأنى يؤفكون} أي فكيف يصرفون عن عبادته إلى عبادة حجر لا ينفع ولا يضر .
{الله يبسط الرزق} أي يوسعه {لمن يشاء من عباده ويقدر له} أي ويضيق ذلك على قدر ما تقتضيه المصلحة وإنما خص بذكر الرزق على الهجرة لئلا يخلفهم عنها خوف العيلة {إن الله بكل شيء عليم} يعلم مصالح عباده فيرزقهم بحسبها {ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن} في الجواب عن ذلك {الله قل} يا محمد عند ذلك {الحمد لله} على كمال قدرته وتمام نعمته وعلى ما وفقنا للاعتراف بتوحيده والإخلاص في عبادته ثم قال {بل أكثرهم لا يعقلون} توحيد ربهم مع إقرارهم بأنه خالق الأشياء ومنزل المطر من السماء لأنهم لا يتدبرون وعن الطريق المفضي إلى الحق يعدلون فكأنهم لا يعقلون .
______________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج8 ، ص37-40 .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ . اتفق الفقهاء على أن المسلم لا يجوز له أن يقيم في بلد إذا تعذر عليه أن يقيم فيه الواجبات الدينية كالصلاة ونحوها حتى ولوكان هذا البلد وطنه ، وان عليه ان يهاجر منه إلى غيره حيث يستطيع ذلك . وتكلمنا عن هذا الموضوع مفصلا عند تفسير الآية 97 من سورة النساء ج 2 ص 419 فقرة (الفقهاء ووجوب الهجرة) .
{كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ} . بعد ان أوجب سبحانه الهجرة من البلد المذكور قال : ومن خاف أن يموت في هجرته فان الموت لا ينجو منه مقيم ولا ظاعن ، وبعد الموت يبعث ويسأل عما ترك من الواجبات ، وفعل من المحرمات ، ومنها الإقامة في بلد يضطر فيه إلى ترك العبادات وشرب المسكرات .
{والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها} . من يخرج من بيته مهاجرا إلى اللَّه عوّضه تعالى خيرا منه غرفا وأشجارا وأنهارا في دار السلام والمقام {نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} ، وأي أجر أعظم من الجنة ؟ ولأنها عظيمة كان ثمنها غاليا وعظيما ، وهوان يرفض مبتغيها الاستسلام لأعداء اللَّه ، والخوف إلا من اللَّه ، وان يخلص للَّه وحده ، ويصبر من أجل ذلك على الخطوب والأحداث أيا كان نوعها .
الرزق والثقة بالمخلوق دون الخالق :
{وكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وإِيَّاكُمْ وهُو السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
ان كثيرا من الناس يؤمنون - نظريا - باللَّه ، وان أرزاق الخلائق بيده وحده ، وان خزائنه لا نفاد لها ولا نهاية ، وانه كريم لا يخيب من توكل عليه ، ووثق به ، يؤمن بهذا نظريا ، ولكنه يكفر باللَّه - عمليا - ويثق بالمخلوق دون الخالق ، ويتقرب إليه بما فيه ذهاب دينه وضميره طامعا بما في يده من جاه ومال ، ويبتعد عن اللَّه يائسا منه ومن جوده وخزائنه . . وهذه الآية تقريع وتهديد لهذا المؤمن الكافر .
ان اللَّه سبحانه هو خالق الكون بما فيه ، وأسباب الرزق بشتى أنواعها تنتهي إليه ، وهي مهيأة لكل طالب وراغب إذا سعى لها سعيها ، وان تعذر منها سبب تهيأ للراغب ما هو خير وأجدى من حيث لا يحتسب بشهادة الحس والعيان ، بل إن كثيرا من الكائنات الحية لا تعمل للرزق ولا تحمله ، ومع هذا يأتيها رغدا عند حاجتها إليه . . وفي هذا عظة للخائنين العملاء ، ولكل من باع دينه للشيطان ، واتخذ من معصية اللَّه ذريعة للرزق ولقمة العيش ، وحاشا للَّه أن ينهى عن شيء ويحصر سبب الرزق فيه ، كيف ودينه دين الحياة ! قال الإمام علي (عليه السلام) :
(ان الذي أمرتم به أوسع من الذي نهيتم عنه ، وما أحل لكم أكثر مما حرم عليكم ، فذروا ما قلّ لما كثر ، وما ضاق لما اتسع - وقال - ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخلقان من خلق اللَّه ، وانهما لا يقربان من أجل ، ولا ينقصان من رزق) .
وأوضحنا فيما تقدم الفرق بين الايمان الحق والايمان الموهوم ، وان الايمان الصادق هو الذي يثبت في القلب ، ويتمثل في الخوف من اللَّه والاهتمام بطاعته ومرضاته قولا وعملا ، أما الايمان الموهوم فلا قرار له في القلب ، وانما هو لعق على اللسان ، ويعرض على الوهم والخيال تماما كما تعرض الأطياف والأحلام ، وأصدق شاهد على هذا الايمان المزيف ان يؤمن صاحبه باللَّه - قولا – وهو يرجو المخلوق ويخافه - عملا - من دون الخالق .
{ولَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ والأَرْضَ وسَخَّرَ الشَّمْسَ والْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} .
ضمير سألتهم يعود إلى المترفين العتاة الذين عاندوا رسالة محمد (صلى الله عليه واله وسلم) .
وتسأل : إذا اعترفوا صراحة بأن اللَّه هو خالق الكون فأين سبب الخلاف والتضاد بينهم وبين الأنبياء ؟
الجواب : انهم يعترفون باللَّه على أساس انه تعالى قد خصهم بالمال والسلطان ، وانه اختار لغيرهم الفقر والعبودية ، وان من أنكر هذا فهو في ضلال مبين ، هذا هو اعترافهم باللَّه ، وليس من شك ان من كفر باللَّه وآمن بأن له ما للناس ، وعليه ما عليهم أفضل عند اللَّه من هذا الظالم الآثم ، أما الدليل على أنهم يعترفون باللَّه على هذا الأساس فقوله تعالى : {وإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَو يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} - 47 يس . {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} تصرفون عن الحق بافترائكم ان اللَّه خصكم بالمال والسلطان دون الناس أجمعين .
{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ويَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهً بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
تقدم مثله في الآية 26 من سورة الرعد ج 4 ص 401 فقرة (الإنسان والرزق) {ولَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} . إن سئلوا عن خالق الكون أجابوا معترفين باللَّه ، على شرطهم ، وإن سئلوا عن الذي نزل الماء وأحيا به الأرض ، وهو السبب المباشر لما في أيديهم من رزق وثراء ، أجابوا أيضا معترفين بأنه اللَّه وحده . . وقد ناقضوا بهذا الاعتراف أنفسهم بأنفسهم ، لأن أسباب الرزق إذا كانت من صنع اللَّه لا من صنعهم فكيف تكون لهم وحدهم من دون الناس أجمعين ؟ ان اللَّه للجميع ، فكذلك خيراته وبركاته {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} الذي أظهر الحق حتى على ألسنة أعدائه المفترين {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} انهم كاذبون مفترون يناقضون أنفسهم بأنفسهم .
________________
1- تفسير الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص 122-125 .
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :
لما استفرغ الكلام في توبيخ من ارتد عن دينه من المؤمنين خوف الفتنة عطف الكلام على بقية المؤمنين ممن استضعفه المشركون بمكة وكانوا يهددونهم بالفتنة والعذاب فأمرهم أن يصبروا ويتوكلوا على ربهم وأن يهاجروا منها إن أشكل عليهم أمر الدين وإقامة فرائضه ، وأن لا يخافوا أمر الرزق فإن الرزق على الله سبحانه وهو يرزقهم إن ارتحلوا وهاجروا كما كان يرزقهم في مقامهم .
قوله تعالى : {يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون} توجيه للخطاب إلى المؤمنين الذين وقعوا في أرض الكفر لا يقدرون على التظاهر بالدين الحق والاستنان بسنته ويدل على ذلك ذيل الآية .
وقوله : {إن أرضي واسعة} الذي يظهر من السياق أن المراد بالأرض هذه الأرض التي نعيش عليها وإضافتها إلى ضمير التكلم للإشارة إلى أن جميع الأرض لا فرق عنده في أن يعبد في أي قطعة منها كانت ، ووسعة الأرض كناية عن أنه إن امتنع في ناحية من نواحيها أخذ الدين الحق والعمل به فهناك نواح غيرها لا يمتنع فيها ذلك فعبادته تعالى وحده ليست بممتنعة على أي حال .
وقوله : {فإياي فاعبدون} الفاء الأولى للتفريع على سعة الأرض أي إذا كان كذلك فاعبدوني وحدي والفاء الثانية فاء الجزاء للشرط المحذوف المدلول عليه بالكلام والظاهر أن تقديم {إياي} لإفادة الحصر فيكون قصر قلب والمعنى : لا تعبدوا غيري بل اعبدوني ، وقوله : {فاعبدون} قائم مقام الجزاء .
ومحصل المعنى : أن أرضي واسعة إن امتنع عليكم عبادتي في ناحية منها تسعكم لعبادتي أخرى منها فإذا كان كذلك فاعبدوني وحدي ولا تعبدوا غيري فإن لم يمكنكم عبادتي في قطعة منها فهاجروا إلى غيرها واعبدوني وحدي فيها .
قوله تعالى : {كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون} الآية تأكيد للأمر السابق في قوله : {فإياي فاعبدون} وكالتوطئة لقوله الآتي : {الذين صبروا} إلخ .
وقوله : {كل نفس ذائقة الموت} من الاستعارة بالكناية والمراد أن كل نفس ستموت لا محالة ، والالتفات في قوله : {ثم إلينا ترجعون} من سياق التكلم وحده إلى سياق التكلم مع الغير للدلالة على العظمة .
ومحصل المعنى : أن الحياة الدنيا ليست إلا أياما قلائل والموت وراءه ثم الرجوع إلينا للحساب فلا يصدنكم زينة الحياة الدنيا - وهي زينة فانية - عن التهيؤ للقاء الله بالإيمان والعمل ففيه السعادة الباقية وفي الحرمان منه هلاك مؤبد مخلد .
قوله تعالى : {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا} إلخ ، بيان لأجر الإيمان والعمل الصالح بعد الموت والرجوع إلى الله وفيه حث وترغيب للمؤمنين على الصبر في الله والتوكل على الله ، والتبوئة الإنزال على وجه الإقامة ، والغرف جمع غرفة وهي في الدار ، العلية العالية .
وقد بين تعالى أولا ثواب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم سماهم عاملين إذ قال : {نعم أجر العاملين} ثم فسر العاملين بقوله : {الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون} فعاد بذلك الصبر والتوكل سمة خاصة للمؤمنين فدل بذلك كله أن المؤمن إنما يرضى عن إيمانه إذا صبر في الله وتوكل عليه ، فعلى المؤمن أن يصبر في الله على كل أذى وجفوة ما يجد إلى العيشة الدينية سبيلا فإذا تعذرت عليه إقامة مراسم الدين في أرضه فليخرج وليهاجر إلى أرض غيرها وليصبر على ما يصيبه من التعب والعناء في الله .
قوله تعالى : {الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون} وصف للعالمين ، والصبر أعم من الصبر عند المصيبة والصبر على الطاعة والصبر على المعصية ، وإن كان المورد مورد الصبر عند المصيبة فهو المناسب لحال المؤمنين بمكة المأمورين بالهجرة .
قوله تعالى : {وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم} كأين للتكثير ، وحمل الرزق هو ادخاره كما يفعله الإنسان والنمل والفأر والنحل من سائر الحيوان .
وفي الآية تطييب لنفس المؤمنين وتقوية لقلوبهم أنهم لو هاجروا في الله أتاهم رزقهم أينما كانوا ولا يموتون جوعا فرازقهم ربهم دون أوطانهم ، يقول : وكثير من الدواب لا رزق مدخر لها يرزقها الله ويرزقكم معاشر الآدميين الذين يدخرون الأرزاق وهو السميع العليم .
وفي تذييل الآية بالاسمين الكريمين السميع العليم إشارة إلى الحجة على مضمونها وهو أن الإنسان وسائر الدواب محتاجون إلى الرزق يسألون الله ذلك بلسان حاجتهم إليه والله سبحانه سميع للدعاء عليم بحوائج خلقه ومقتضى الاسمين الكريمين أن يرزقهم .
وقوله تعالى : {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } [العنكبوت : 61 - 63]
الآيات تصرف الخطاب عن المؤمنين إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في المعنى خطاب عام يشمل الجميع وإن كان في اللفظ خاصا به (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن الحجج المذكورة فيها مما يناله الجميع .
والآيات تذكر مناقضات في آراء المشركين فيما ألقي في الفصل السابق على المؤمنين فآمنوا به فإنهم يعترفون أن خالق السماوات والأرض ومدبر الشمس والقمر - وعليهما مدار الأرزاق – هو الله وأن منزل الماء من السماء ومحيي الأرض بعد موتها هو الله سبحانه ثم يدعون غيره ليرزقهم وهم يعبدونه تعالى إذا ركبوا البحر ثم إذا أنجاهم عبدوا غيره ويقيمون في حرم آمن وهو نعمة لهم فيؤمنون بالباطل ويجحدون الحق ويكفرون بنعمة الله .
وما ختمت به السورة من قوله : {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} يلائم ما في مفتتح السورة {أ حسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون - إلى أن قال - ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه} إلخ .
قوله تعالى : {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون} .
خلق السماوات والأرض من الإيجاد وتسخير الشمس والقمر - وذلك بتحويل حالاتهما بالطلوع والغروب والقرب والبعد من الأرض - من التدبير الذي يتفرع عليه كينونة أرزاق الإنسان وسائر الحيوان وهذا الخلق والتدبير لا ينفك أحدهما عن الآخر فمن اعترف بأحدهما فليعترف بالآخر .
وإذا كان الله هو الخالق وبيده تدبير السماوات ويتبعه تدبير الأرض وكينونة الأرزاق كان هو الذي يجب أن يدعى للرزق وسائر التدبير فمن العجب حينئذ أن يصرف عنه الإنسان إلى غيره ممن لا يملك شيئا وهو قوله : {فأنى يؤفكون} أي فإذا كان الخلق وتدبير الشمس والقمر إليه تعالى فكيف يصرف هؤلاء إلى دعوة غيره من الأصنام وعبادته .
قوله تعالى : { اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } في الآية تصريح بما تلوح إليه الآية السابقة ، والقدر التضييق ويقابله البسط والمراد به لازم معناه وهو التوسعة ، ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله : {إن الله بكل شيء عليم} للدلالة على تعليل الحكم ، والمعنى : وهو بكل شيء عليم لأنه الله .
والمعنى : الله يوسع الرزق على من يشاء من عباده ويضيقه على من يشاء - ولا يشاء إلا على طبق المصلحة - لأنه بكل شيء عليم لأنه الله الذي هو الذات المستجمع لجميع صفات الكمال .
قوله تعالى : {ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها} - إلى قوله - لا يعقلون} المراد بإحياء الأرض بعد موتها إنبات النبات في الربيع .
وقوله : {قل الحمد لله} أي احمد الله على تمام الحجة عليهم باعترافهم بأن الله هو المدبر لأمر خلقه فلزمهم أن يعبدوه دون غيره من الأصنام وأرباب الأصنام .
وقوله : {بل أكثرهم لا يعقلون} أي لا يتدبرون الآيات ولا يحكمون العقول حتى يعرفوا الله ويميزوا الحق من الباطل فهم لا يعقلون حق التعقل .
___________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج16 ، ص117-121 .
تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :
لابدّ من الهجرة :
حيث أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن مواقف المشركين المختلفة من الإسلام والمسلمين ، ففي الآيات محل البحث يقع الكلام عن حال المسلمين ومسؤولياتهم قبال المشاكل المختلفة ، أي مشاكل أذى الكفار وضغوطهم وقلّة عدد المسلمين وما إلى ذلك ، فتقول الآية الأولى : {يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإيّاي فاعبدون} .
وبديهي أنّ هذا ليس قانوناً خاصاً بمؤمني أهل مكّة ، ولا يحدد سبب النّزول مفهوم الآية الواسع المنسجم مع الآيات الأُخرى . . . فعلى هذا لو سلب الإنسان حريته في أي عصر أو زمان ومكان بشكل كامل ، فإنّ بقاءه هناك لا يجلب عليه إلاّ الذل «والخسران والضرر» والإبتعاد عن أداء المناسك الإلهية ، فوظيفة الإنسان المسلم عندئذ الهجرة إلى منطقة «حرّة» يستطيع أن يؤدي فيها وظائفه الإسلامية بحرية تامّة أو حرية نسبية .
وبتعبير آخر : إنّ الهدف من خلق الإنسان أن يكون عبداً لله ، عبودية هي في الواقع سبب للحرية والكرامة والإنتصار في جميع الجهات . . . وجملة {فإيّاي فاعبدون} إشارة إلى هذا المعنى ، كما ورد هذا التعبير في الآية (56) من سورة الذاريات {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات : 56] .
فمتى ما أصبح هذا الهدف الأساسي والنهائي مستحيلا ، فلا سبيل عندئذ إلاّ الهجرة ، فأرض الله واسعة ، وينبغي أن يهاجر الفرد نحو منطقة أُخرى ، ولا يكون أسيراً لمفاهيم «القبلية والقومية والوطنية والبيت والأهل» في مثل هذه الموارد ، ولا يذل الإنسان نفسه من أجلها ، فإنّ احترام هذه الأُمور هو فيما لوكان الهدف الأصلي قائماً غير مخاطر به ، أمّا إذا أصبح الهدف الأصلي «عبادة الله» مخاطراً به فلا سبيل إلاّ الهجرة!
وفي مثل هذه الموارد يقول الإمام أمير المؤمنين علي(عليه السلام) : «ليس بلد بأحق بك من بلدك ، خير البلاد ما حملك» (2) .
صحيح أنّ حب الوطن والعلاقة بمسقط الرأس جزء من طبيعة كل إنسان ، ولكن قد يتفق أن تحدث في حياة الإنسان مسائل أهم من تلك ا لأُمور ، فتجعلها تحت شعاعها وتكون أولى منها .
وفي مجال موقف الإسلام ونظرته من مسألة الهجرة والرّوايات الواردة في هذا الصدد ، كان لنا بحث مفصل في ذيل الآية (100) من سورة النساء .
والتعبير بـ(يا عبادي ) هو أكثر التعابير رأفة وحبّاً للناس من قبل خالقهم . وتاج للفخر أعلى حتى من مقام الرسالة والخلافة ، كما نذكر ذلك في التشهد حيث نقدم العبودية على الرسالة دائماً «أشهد أن محمّداً عبده ورسوله» .
من الطريف أنّه حين خلق الله آدم لقبه بـ «خليفة الله» ، وهو فخر لآدم ، إلاّ أن الشيطان لم ييأس من التسويل والوسوسة له ، فكان ما كان ، ولكن حين بوأه مقام العبودية أذعن الشيطان له ويئس من إغوائه وقال : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } [ص : 82 ، 83] .
والله سبحانه ضمن هذا الأمر فقال : {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [الحجر : 42] ويتّضح ممّا ذكرناه ـ بصورة جيدة ـ أنّ المراد بالعباد ليس جميع الناس ـ في الآية محل البحث ـ بل هم المؤمنون منهم فحسب ، وجملة (الذين آمنوا ) جاءت للتأكيد والتوضيح(3) .
وحيث أنّ البعض بقوا في ديار الشرك ، ولم يرغبوا بالهجرة بذريعة أنّهم يخشون الخروج من ديارهم ويخافون أن يحدق بهم الموت بسبب الأعداء أو الجوع أو العوامل الأُخرى التي تهددهم . . . إضافة إلى فراق الأحبّة والمتعلقين والأبناء والأصدقاء ، فإنّ القرآن يردّهم بجواب جامع قائلا : {كل نفس ذائقة الموت ثمّ إلينا ترجعون} .
فهذه الدنيا ليست بدار بقاء لأي أحد ، فبعض يمضي عاجلا ، وبعض يتأخر ، ولابدّ أن يذهبوا جميعاً ، وعلى كل حال ففراق الأحبة والأبناء والأقارب لابدّ أن يقع ويتحقق ، فعلام يبقى الإنسان في ديار الشرك من أجل المسائل العابرة . . وأن يحمل عبء الذل والأسر على كاهله ، أكلّ ذلك من أجل أن يبقى بضعة أيّام أو أكثر؟!
ثمّ بعد هذا كلّه ينبغي أن تخافوا أن يدرككم الموت في ديار الكفر والشرك قبل أن تبلغوا دار الاسلام ، فما أشد ألم مثل هذا الموت وما أتعسه!
ثمّ لا تظنوا أن الموت نهاية كل شيء ، فالموت بداية لحياة الإنسان الأصلية ، لأنّكم جميعاً (إلينا ترجعون ) . . إلى الله العظيم ، وإلى نعمه التي لاحدّ لها ولا انتهاء لأمدها .
والآية التالية تبيّن جانباً من هذه النعم فتقول : {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنّة غرفاً تجري من تحتها الأنهار} (4) .
فهم في قصور تحيط بها أشجار الجنّة من كلّ جانب ، الأنهار المختلفة التي لكلّ منها طعمه ولونه ، طبقاً لآيات القرآن الاُخر ، وهي ما بين الأشجار وتحت تلك القصور جارية أبداً . . (لاحظوا أن «غرف» جمع غرفة ، ومعناها البناء المرتفع المشرف على أطرافه) .
والامتياز الآخر لغرف الجنّة أنّها ليست كغرف الدنيا وقصورها ومنازلها التي ما أن يضع الإنسان فيها قدمه حتى يسمع نداء «الرحيل» ، فغرف الجنّة دائمة {خالدين فيها} .
ويضيف القرآن معقباً في ختام الآية {نعم أجر العاملين} .
وبموازنة بسيطة بين ما ذكر آنفاً في شأن الكفّار والمذنبين في الآيات السابقة ، وما ورد في هذه الآية ، تتّضح عظمة ثواب المؤمنين .
فالكفّار غارقون في نار جهنّم من قرنهم إلى قدمهم ، ويقال لهم على سبيل التوبيخ {ذوقوا ما كنتم تعملون} .
أمّا المؤمنون فهم مقيمون في نعيم الجنّة وتحيط بهم رحمة الله من كلّ جانب ، وبدلا من كلمات التوبيخ يُكلمون بكلام طيب ملؤه المحبّة واللطف الإلهي الكريم ، أجل يقال لهم : {نعم أجر العالمين} .
وبديهي أنّ المراد بالعاملين هنا مع قرائن الجمل السابقة ، هم الذين يعملون الصالحات المقرونة بإيمانهم ، وإن كانت كلمة العاملين مطلقة .
وفي حديث عن نبيّ الإسلام العظيم (صلى الله عليه وآله) يصف الجنّة فيقول : «إنّ في الجنّة لغرفاً يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها» فنهض بعض أصحابه فقال : يا رسول الله(صلى الله عليه وآله) لمن هذه الغرف؟ فقال (صلى الله عليه وآله) : «هي لمن أطاب الكلام ، وأطعم الطعام ، وصلى لله بالليل والناس نيام» (5) .
والآية التالية تصف أهمّ ما يتحلّى به المؤمنون العاملون فتقول : (الذين صبروا وعلى ربّهم يتوكلون ) .
إذ يبتعدون عن الزوجة والأولاد والأهل والبيت والأحباب والأصدقاء وكل شيء عزيز عليهم ، لكنّهم يصبرون برغم الفراق يذوقون مرارة الغربة والتهجير عن أوطانهم ويصبرون ، وتتلقى أنفسهم العذاب والأذى من أعدائهم من أجل حفظ إيمانهم ، ويواجهون الصعاب في جهادهم الأكبر «جهادهم مع النفس» وجهادهم اعداءهم بشدّة ، ويتحملون أنواع المشاكل فيصبرون!
أجل ، هذا الصبر وهذه الإستقامة هما رمز انتصارهم وعامل فخرهم الكبير ، وبدونه لا يتحقق عمل إيجابي في الحياة .
ثمّ بعد هذا كلّه ، فهم لا يعتمدون على أموالهم ولا على أصدقائهم ، بل يعتمدون على الله ويتوكلون على ذاته المقدسة ، وإذ ابتغى ألف عدو هلاكهم تمثلوا قائلين : «امتحانك رحمة فلا أكترث بالأعداء» .
وإذ أمعنا النظر وفكّرنا جيداً رأينا أن الصبر والتوكل هما أساس جميع الفضائل الإنسانية ، فالصبر هو عامل الإستقامة أمام العوائق والمشاكل ، والتوكل هو الهدف والباعث على الحركة في هذا الطريق المديد الملتوي .
وفي الحقيقة ينبغي الإستمداد من هاتين الفضيلتين (الصبر والتوكل) للأعمال الصالحة ، إذ بدونهما لا يمكن أن تؤدى الأعمال الصالحة بالمقياس الواسع (6) .
وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ جواب لأولئك الذين كان لسان حالهم أو لسان مقالهم يقول إذا خرجنا عن ديارنا وأهلينا ، فمن سيطعمنا ويرزقنا؟ يخاطبهم القرآن أن لا تحزنوا على الرزق ولا تحملوا ثقل الذلة والأسر ، فالرازق هو الله ، لا لكم فحسب بل {وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم} .
قليل من الدواب والحيوانات والحشرات ـ وكذلك الإنسان ـ يأتي برزقه من الصحراء والشجر إلى وكره ومسكنه كالنحل ـ التي تنتج العسل ـ والنمل ، وغالباً ما تكون الحيوانات بمثابة «طائر اليوم» أي كل يوم عليها أن تمضي لرزقها وتبحث عنه من جديد . وهكذا فإنّ ملايين الملايين من الحيوانات التي من حولنا ، في النقاط القريبة والبعيدة ، وفي الصحاري وأعماق البحار وأعالي الجبال والأماكن الأخرى ، فإنّها كلّها تقتات من مائدة الله السرمدية .
وأنت أيّها الإنسان أقوى من تلك الحيوانات وأذكى في جلب الرزق ، فلم كلّ هذا الخوف من انقطاع الرزق ؟!
ولم الركون إلى حياة الذل والإستكانة والفجور ؟!
ولم تظل سادراً تحت وطأة الظلم والقهر والهوان والذل ؟! اخرج أنت أيضاً من داخل هذه الدائرة المظلمة ، واجلس على مائدة خالقك الواسعة ولا تفكر بالرزق! .
فأنت يوم كنت جنيناً محبوساً في بطن أُمّك ، ولا تصل إليك أية يد حتى من أبيك وأُمك الرؤوم ، لم ينسك الله الذي خلقك ، وهيأ ما كنت تحتاج إليه لك بكل دقّة ، فكيف وأنت اليوم كائن قوي ورشيد ؟!
وحيث أن إيصال الرزق للمحتاجين هو فرع علمه تعالى بحاجاتهم ، فالقرآن يؤكّد في نهاية الآية قائلا : {وهو السميع العليم} .
يسمع كلامكم كلّه ، ويعرف لسان حالكم ، ولسان حال جميع الدواب ، وهو خبير بحاجات الجميع ، ولا يخفى على علمه الذي لا حد له شيءٌ أبداً .
وقوله تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } [العنكبوت : 61 - 63]
الاقرار بالتوحيد في الباطن والشرك في الظاهر :
كان الحديث في الآيات السابقة موجّهاً إلى المشركين الذين أدركوا حقانية الإسلام ، إلاّ أنّهم لم يكونوا مستعدين للإيمان والهجرة ، خوفاً من انقطاع الرزق عليهم .
أمّا في هذه الآيات ، فالحديث موجه للنّبي (صلى الله عليه وآله) ، وفي الواقع لجميع المؤمنين ، وهو يبيّن دلائل التوحيد عن طرق «الخلقة» ، و «الربوبيّة» ، و«الفطرة» ، أي عن ثلاث طرائق متفاوتة ، ويريهم أن مصيرهم وعاقبة أمرهم بيد الله الذي يجدون آثاره في الآفاق وفي أنفسهم ، لابأيدي الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا تنفع .
فتبدأ الآية الأُولى من هذه الآيات محل البحث ـ مشيرةً إلى خلق السماوات والأرض وتستعين باعتقاداتهم الباطنية . . . فتقول : {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله} !
لأنّ من المسلم به أنّه لا عبدة الأصنام ولا غيرهم ولا أي أحد آخر يقول : إنّ خالق السماوات والأرض ومسخر الشمس والقمر حفنة من الأحجار والخشب المصنوعة بيد الإنسان .
وبتعبير آخر : لا يشك في «توحيد الخالق» حتى عبدة الأصنام حيث كانوا مشركين في عبادة الخالق ، وكانوا يقولون : إنّما نعبد أوثاناً ليقربونا إلى الله زلفى ، فهم الوسطاء بيننا وبين الله ، كما نقرأ في الآية (18) من سورة يونس { وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس : 18] . . فنحن غير جديرين أن نرتبط بالله مباشرةً ، بل ينبغي أن نرتبط به عن طريق الأصنام {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر : 3] .
وهم غافلون عن أنّه لا تفصل بين الخالق والمخلوق أية فاصلة ، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد ، زد على ذلك : إذا كان الانسان ـ الذي هو بمثابة الدرّة اليتيمة في تاج الموجودات ـ لا يستطيع أن يرتبط بالله مباشرةً ، فأي شيء يكون واسطة الإنسان إلى الله ؟!
وعلى كلّ حال ، فإنّ الآية بعد ذكر هذا الدليل الواضح تتساءل : {فأنّى يؤفكون} أي مع هذا المال كيف يعرضون عن عبادة خالقهم ويستبدلونها بعبادة مجموعة من الاحجار والاخشاب ؟!
كلمة «يؤفكون» مشتقّة من «إفك» على زنة «فكر» ومعناها إعادة الشيء من صورته الواقعية والحقيقية ، وبهذه المناسبة تطلق الكلمة على الكذب وعلى الرياح المخالفة «للإتجاه» أيضاً .
والتعبير بـ «يؤفكون» بصيغة المجهول إشارة إلى أنّهم لا قدرة لهم على التصميم ، فكأنّهم منجذبون إلى عبادة الأوثان دون إرادة .
والمراد من تسخير الشمس والقمر النظم التي أقرها الله تعالى ، وجعل الشمس والقمر في دائرة هذه النظم في خدمة الإنسان ، ومنافعه .
ثمّ يضيف القرآن تأكيداً لهذا المعنى ، وهو أن الله خالق الخلق ورازقهم ، فيقول : {الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له} . . . فمفتاح الرزق بيده لا بيد الناس ولا بيد الأصنام .
وما ورد بيانه في الآيات السابقة من أنّ المؤمنين حقّاً هم وحدهم يتوكلون عليه ، فلأجل هذا المعنى ، وهو أن شيء بيده وبأمره ، فعلام يخشون من إظهار الإيمان ، ويرون حياتهم في خطر من جهة الأعداء .
وإذا كانوا يتصورون أنّ الله قادر ، إلاّ أنّه غير مطّلع على حالهم ، فهذا خطأ كبير لـ{أنّ الله بكل شيء عليم} .
ترى هل يمكن لخالق مدبر يصل فيضهُ لحظة بعد أُخرى لموجوداته ، وفي الوقت ذاته يكون جاهلا بحالها؟ .
وفي المرحلة الثّانية يقع الكلام عن «التوحيد الربوبي» ونزول مصدر الأرزاق من قبله عليهم ، فيقول : {ولئن سألتهم من نزّل من ا لسماء ماءً فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله} .
فهذا هوما يعتقده عبدة الأصنام في الباطن ، ولا يتأبون من الاعتراف على ألسنتهم! فهم يعرفون أن الخالق هو الله ، وأنّه ربّ العالم ومدبره .
ثمّ يضيف القرآن مخاطباً نبيّه (قل الحمد لله ) . فالحمد والثناء لمن أنعم جميع النعم ، إذ لمّا كان الماء الذي هو مصدر الحياة لجميع الحيوانات من رزق الله فيكون واضحاً أن الأرزاق جميعها صادرة من قبله أيضاً .
قل الحمد لله «واشكره» ، لأنّهم يعترفون بهذه الحقائق .
وقل الحمد لله ، فمنطقنا قوي متين حيٌّ إلى درجة لا يستطيع أي أحد ابطاله أو تفنيده . وحيث أنّ أقوال المشركين من جهة ، وأعمالهم وأفعالهم وكلماتهم من جهة أُخرى ، يناقض بعضها بعضاً ، فإنّ الآية تختتم بإضافة الجملة التالية {بل أكثرهم لا يعقلون} .
وإلاّ فكيف يمكن للإنسان العاقل أن يتناقض في كلماته ، فتارةً يرى أن الخالق والرازق والمدبّر للعالم هو الله ، وتارة يسجد للأوثان التي لا تأثير لها بالنسبة لعواقب الناس ! . فمن جهة يعتقدون بتوحيد الخالق والرب ، ومن جهة أُخرى يظهرون الشرك في العبادة .
ومن الطريف أنّ الآية لا تقول : «أكثرهم لا عقل لهم» بل تقول : {لا يعقلون} ومعناها أنّهم لديهم العقول ، إلاّ أنّهم لا يستوعبون ولا يتعقلون !
______________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج10 ، ص93-101 .
2 ـ الكلمات القصار ، رقم 442 .
3 ـ جملة «فإياي فاعبدون» عطف على جزاء جملة الشرط المحذوف والتقدير «إن ضاقت بكم الأرض فهاجروا منها إلى غيرها وإيّاي فاعبدون» .
4 ـ «لنبوئنهم» من مادة «تبوئة» على زنة «تذكرة» معناها إعطاء السكنى للإقامة والبقاء الدائم .
5 ـ تفسير القرطبي ذيل الآيات محل البحث ، ج 7 ، ص 5075 .
6 ـ تحدثنا عن حقيقة التوكل وحكمته وفلسفته بإسهاب في ذيل الآية (12) سورة إبراهيم ، وعن حقيقة الصبر لدى تفسير الآية (12) من سورة إبراهيم والآية (24) من سورة الرعد والآية (26) من سورة الأعراف .
|
|
مخاطر عدم علاج ارتفاع ضغط الدم
|
|
|
|
|
اختراق جديد في علاج سرطان البروستات العدواني
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|