أقرأ أيضاً
التاريخ: 29-8-2020
4687
التاريخ: 28-8-2020
8802
التاريخ: 31-8-2020
5816
التاريخ: 25-8-2020
23649
|
قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَو كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَو جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُولِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [الكهف: 107 - 110]
لما تقدم ذكر حال الكافرين عقبه سبحانه بذكر حال المؤمنين فقال { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا } أي: صدقوا الله ورسوله { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ } أي: كان في حكم الله وعلمه لهم بساتين الفردوس وهو أطيب موضع في الجنة وأوسطها وأفضلها وأرفعها عن قتادة وقيل هو الجنة الملتفة الأشجار عن قتادة وقيل هو البستان الذي فيه الأعناب عن كعب وروى عبادة بن الصامت عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض الفردوس.
أعلاها درجة منها تفجر أنهار الجنة الأربعة فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس { نُزُلًا } أي: منزلا ومأوى وقيل ذات نزول { خالدين فيها } أي: دائمين فيها { لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا } أي: لا يطلبون عن تلك الجنات تحولا إلى موضع آخر لطيبتها وحصول مرادهم فيها ثم أمر سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال { قل } يا محمد لجميع المكلفين { لَوكَانَ الْبَحْرُ} وهو اسم الجنس أي لوكان البحر بمائه { مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي } أي: مدادا ليكتب به ما يقدر الله عليه من الكلام والحكم وقيل أراد بالكلمات ما يقدر سبحانه على أن يخلقه من الأشياء ويأمر به كما قال في عيسى (عليه السلام) وكلمته ألقاها إلى مريم وقيل أراد بالكلمات ما وعد لأهل الثواب وأوعد لأهل العقاب عن أبي مسلم { لَنَفِدَ الْبَحْرُ} أي: لفني ماء البحر { قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} وقيل: أن كلماته المراد بها مقدوراته وحكمته وعجائبه وقوله { وَلَوجِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } أي: ولو جئنا بمثل البحر مددا له أي: عونا وزيادة لما نفد ذلك وقيل أراد بكلمات ربي معاني كلمات ربي وفوائدها وهي القرآن وسائر كتبه ولم يرد بذلك أعيان الكلمات لأنه قد فرغ من كتابتها فيكون تقدير قل لو كان البحر مدادا لكتابة معاني كلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كتابة معاني كلمات ربي فحذف لأن المعنى مفهوم والمداد هو الجائي والآتي شيئا بعد شيء قال ابن الأنباري : سمي المداد مدادا لإمداده الكاتب ويقال للزيت الذي يوقد به السراج مدادا وروى عكرمة عن ابن عباس قال : لما نزل قوله وما أوتيتم من العلم إلا قليلا قالت اليهود أوتينا علما كثيرا أوتينا التوراة وفيها علم كثير فأنزل الله هذه الآية ولذلك قال الحسن : أراد بالكلمات العلم فإنه لا يدرك ولا يحصى ونظيره ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام الآية.
ثم قال { قل } يا محمد { إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ } قال ابن عباس : علم الله نبيه التواضع لئلا يزهي على خلقه فأمره أن يقر على نفسه بأنه آدمي كغيره إلا أنه أكرم بالوحي وهو قوله { يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } لا شريك له أي لا فضل لي عليكم إلا بالدين والنبوة ولا علم لي إلا ما علمنيه الله تعالى { فَمَنْ كَانَ يَرْجُولِقَاءَ رَبِّهِ } أي: فمن كان يطمع في لقاء ثواب ربه ويأمله ويقر بالبعث إليه والوقوف بين يديه وقيل معناه فمن كان يخشى لقاء عقاب ربه وقيل إن الرجاء يشتمل على كلا المعنيين الخوف والأمل وأنشد في ذلك قول الشاعر :
فلا كل ما ترجومن الخير كائن ولا كل ما ترجومن الشر واقع
{ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا } أي: خالصا لله تعالى يتقرب به إليه { ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } غيره من ملك أوبشر أوحجر أوشجر عن الحسن وقيل معناه لا يرائي في عبادته أحدا عن سعيد بن جبير وقال مجاهد : جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال إني أتصدق وأصل الرحم ولا أصنع ذلك إلا لله فيذكر ذلك مني وأحمد عليه فيسرني ذلك وأعجب به فسكت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ولم يقل شيئا فنزلت الآية قال عطاء : عن ابن عباس إن الله تعالى قال { وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } ولم يقل ولا يشرك به لأنه أراد العمل الذي يعمل لله ويحب أن يحمد عليه قال ولذلك يستحب للرجل أن يدفع صدقته إلى غيره ليقسمها كيلا يعظمه من يصله بها وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال قال الله عز وجل ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء فه وللذي أشرك ) أورده مسلم في الصحيح وروي عن عبادة بن الصامت وشداد بن أوس قالا سمعنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول من صلى صلاة يرائي بها فقد أشرك ومن صام صوما يرائي به فقد أشرك ثم قرأ هذه الآية وروي أن أبا الحسن الرضا (عليه السلام) دخل يوما على المأمون فرآه يتوضأ للصلاة والغلام يصب على يده الماء فقال لا تشرك بعبادة ربك أحدا فصرف المأمون الغلام وتولى إتمام وضوئه بنفسه وقيل إن هذه الآية آخر آية نزلت من القرآن وروى الشيخ أبوجعفر بن بابويه بإسناده عن عيسى بن عبد الله عن أبيه عن جده عن علي (عليه السلام) قال ما من عبد يقرأ { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ } إلى آخره إلا كان له نورا في مضجعه إلى بيت الله الحرام فإن كان من أهل البيت الحرام كان له نورا إلى بيت المقدس وقال أبوعبد الله (عليه السلام) ما من أحد يقرأ آخر الكهف عند النوم إلا يتيقظ في الساعة التي يريدها .
______________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج6،ص394-396.
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً } . بعد أن توعد سبحانه الكافرين بجهنم وعد المؤمنين بالجنة ، والفردوس من المنازل العليا في الجنة ، قال الرسول الأعظم ( صلى الله عليه واله وسلم ) : إذا سألتم اللَّه فاسألوه الفردوس{ خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً }. والحول التحول ، والمعنى ان اللَّه سبحانه يجزي المؤمنين الصالحين بما لا يرضون عنه بديلا ، فهو كاف واف بجميع ما يبتغون ، وتومئ الآية إلى أنه لا طمع في الآخرة ، وإلا فإن الطامع لا يقنعه شيء .
{ قُلْ لَوكانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي ولَو جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً } . البحر اسم جنس يشمل كل البحار ، والمداد الحبر ، ونفد انقطع وفني ، والمراد بقبل أن ينفد ان كلماته تعالى لا تنفد إطلاقا ، وجئنا بمثله مددا أي زدنا عليه ما يماثله في الكثرة ، والمعنى لوفرض ان البحار بكاملها حبر يكتب به كلمات اللَّه لأنتهي الحبر ، وبقيت كلماته إلى ما لا نهاية ، وفي معنى الآية قوله تعالى : « ولَوأَنَّ ما فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ والْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ » - 27 لقمان .
وليس المراد بكلمات اللَّه هنا الألفاظ المؤلفة من الحروف الهجائية ، ولا الأمر الفعلي الذي هو عبارة عن قوله كن فيكون ، لأن هذا الأمر واحد لا تعدد فيه :
« وما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ » - 50 القمر ، وإنما المراد بكلماته هنا القدرة على إيجاد الكائنات متى شاء ، سواء أقال لها كوني بالفعل ، أم يقول في المستقبل القريب أوالبعيد ، وهذه القدرة لا آخر لها ولا نهاية ، أما البحار والأشجار ومثلها معها فهي متناهية ، وكل متناه إلى نفاد .
وبكلام آخر ان كل شيء موجود أوسيوجد - ما عدا اللَّه – فهو بائد ومنقطع ، أما قدرته تعالى على إيجاد الأشياء فهي باقية ببقائه . . ونوضح الفكرة بهذا المثال :
رجل يعرف أصول الزراعة ، فمعرفته بهذه الأصول تلازم ذاته ، ولا تفارقها ، أما زرعه وغرسه فيفنى ويزول ، وقدرة اللَّه سبحانه لا تشح ولا تنضب لأنها أزلية أبدية ، أما خلقه فحادث ، ولكل حادث بداية ، ولكل بداية نهاية .
{ قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ } لا أمتاز عنكم بشيء إلا أنه { يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ } قال ابن عباس : « علَّم اللَّه نبيه التواضع بهذه الآية ، فأمره ان يقر على نفسه بأنه آدمي كغيره سوى ان اللَّه أكرمه بالوحي » ونعطف نحن على قول ابن عباس : ولئلا يقول المسلمون في محمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) ما قاله النصارى في عيسى ( عليه السلام ) .
{ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ } وحسابه وثوابه وعقابه { فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً ولا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً } . وكل من عمل لغير اللَّه فقد أشرك بعبادته ، سواء أقال بتعدد الآلهة ، أم لم يقل ، والفرق ان القول شرك علني ، والرياء شرك خفي ، وفي الحديث : « من صلى رياء فقد أشرك ، ومن صام رياء فقد أشرك » وعلى هذه الصلاة ، وهذا الصيام فقس ما سواهما .
_______________
1- تفسير الكاشف، ج 5، محمد جواد مغنية، ص 166-167.
قوله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} الفردوس يذكر ويؤنث قيل: هي البستان بالرومية، وقيل: الكرم بالنبطية وأصله فرداسا، وقيل: جنة الأعناب بالسريانية، وقيل الجنة بالحبشية، وقيل: عربية وهي الجنة الملتفة بالأشجار والغالب عليه الكرم.
وقد استفاد بعضهم من عده جنات الفردوس نزلا وقد عد سابقا جهنم للكافرين نزلا أن وراء الجنة والنار من الثواب والعقاب ما لم يوصف بوصف وربما أيده أمثال قوله تعالى:{ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ}: ق: 35 وقوله:{ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}: الم السجدة: 17، وقوله:{ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ}.
قوله تعالى:{ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} البغي الطلب، والحول التحول، والباقي ظاهر.
الآية بيان مستقل لسعة كلمات الله تعالى وعدم قبولها النفاد، وليس من البعيد أن تكون نازلة وحدها لا في ضمن آيات السورة لكنها لو كانت نازلة في ضمن آياتها كانت مرتبطة بجميع ما بحثت عنه السورة.
وذلك أن السورة أشارت في أولها إلى أن هناك حقائق إلهية وذكرت أولا في تسلية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حزنه من إعراضهم عن الذكر أن عامتهم في رقدة عن التنبه لها وسيستيقظون عن نومتهم، وأورد في ذلك قصة أصحاب الكهف ثم ذكر بأمور أورد في ذيلها قصة موسى والخضر حيث شاهد موسى عنه أعمالا ذات تأويل لم يتنبه لتأويلها وأغفله ظاهرها عن باطنها حتى بينها له الخضر فسكن عند ذلك قلقه ثم أورد قصة ذي القرنين والسد الذي ضربه بأمر من الله في وجه المفسدين من يأجوج ومأجوج فحجزهم عن ورود ما وراءه والإفساد فيه.
فهذه - كما ترى - أمور تحتها حقائق وأسرار وبالحقيقة كلمات تكشف عن مقاصد إلهية وبيانات تنبىء عن خبايا يدعوالذكر الحكيم الناس إليها، والآية - والله أعلم - تنبىء أن هذه الأمور وهي كلماته تعالى المنبئة عن مقاصده لا تنفد والآية في وقوعها بعد استيفاء السورة ما استوفتها من البيان بوجه مثل قول القائل وقد طال حديثه: ليس لهذا الحديث منتهى فلنكتف بما أوردناه.
قوله تعالى:{ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} إلى آخر الآية، الكلمة تطلق على الجملة كما تطلق على المفرد ومنه قوله تعالى:{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ}: الآية آل عمران: 64 وقد استعملت كثيرا في القرآن الكريم فيما قاله الله وحكم به كقوله:{ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا}: الأعراف: 137، وقوله:{ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}: يونس: 33، وقوله:{ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ }: يونس: 19 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة جدا.
ومن المعلوم أنه تعالى لا يتكلم بشق الفم وإنما قوله فعله وما يفيضه من وجود كما قال:{ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}: النحل: 40 وإنما تسمى كلمة لكونها آية دالة عليه تعالى ومن هنا سمي المسيح كلمة في قوله:{ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ}: النساء: 171.
ومن هنا يظهر أنه ما من عين يوجد أوواقعة تقع إلا وهي من حيث كونها آية دالة عليه كلمة منه إلا أنها خصت في عرف القرآن بما دلالته ظاهرة لا خفاء فيها ولا بطلان ولا تغير كما قال:{والحق أقول}: ص: 84 وقال:{ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ}: ق: 29 وذلك كالمسيح (عليه السلام) وموارد القضاء المحتوم.
ومن هنا يظهر أن حمل الكلمات في الآية على معلوماته أو مقدوراته تعالى أومواعده لأهل الثواب والعقاب إلى غير ذلك مما ذكره المفسرون غير سديد.
فقوله:{ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} أي فرقمت الكلمات وأثبتت من حيث دلالتها بذاك البحر المأخوذ مدادا لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي.
وقوله:{ وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} أي ولو أمددناه ببحر آخر لنفد أيضا قبل أن تنفد كلمات ربي.
وذكر بعضهم: أن المراد بمثله جنس المثل لا مثل واحد، وذلك لأن المثل كلما أضيف إلى الأصل لم يخرج عن التناهي، وكلماته يعني معلوماته غير متناهية والمتناهي لا يضبط غير المتناهي انتهى ملخصا.
وما ذكره حق لكن لا لحديث التناهي واللاتناهي وإن كانت الكلمات غير متناهية بل لأن الحقائق المدلول عليها والكلمات من حيث دلالتها غالبة على المقادير كيف؟ وكل ذرة من ذرات البحر وإن فرض ما فرض لا تفي بثبت دلالة نفسها في مدى وجودها على ما تدل عليه من جماله وجلاله تعالى فكيف إذا أضيف إليها غيرها؟.
وفي تكرار{البحر} في الآية بلفظه وكذا{ربي} وضع الظاهر موضع المضمر والنكتة فيه التثبيت والتأكيد وكذا في تخصيص الرب بالذكر وإضافته إلى ضمير المتكلم مع ما فيه من تشريف المضاف إليه.
الآية خاتمة السورة وتلخص غرض البيان فيها وقد جمعت أصول الدين الثلاثة وهي التوحيد والنبوة والمعاد فالتوحيد ما في قوله:{ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} والنبوة ما في قوله{ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} وقوله:{فليعمل عملا صالحا} إلخ والمعاد ما في قوله{ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ}.
قوله تعالى:{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} القصر الأول قصره (صلى الله عليه وآله وسلم) في البشرية المماثلة لبشرية الناس لا يزيد عليهم بشيء ولا يدعيه لنفسه قبال ما كانوا يزعمون أنه إذا ادعى النبوة فقد ادعى كينونة إلهية وقدرة غيبية ولذا كانوا يقترحون عليه بما لا يعلمه إلا الله ولا يقدر عليه إلا الله لكنه (صلى الله عليه وآله وسلم) نفى ذلك كله بأمر الله عن نفسه ولم يثبت لنفسه إلا أنه يوحى إليه.
والقصر الثاني قصر الإله الذي هو إلههم في إله واحد وهو التوحيد الناطق بأن إله الكل إله واحد.
وقوله:{ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ } إلخ مشتمل على إجمال الدعوة الدينية وهو العمل الصالح لوجه الله وحده لا شريك له وقد فرعه على رجاء لقاء الرب تعالى وهو الرجوع إليه إذ لولا الحساب والجزاء لم يكن للأخذ بالدين والتلبس بالاعتقاد والعمل موجب يدعو إليه كما قال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ }: ص: 26.
وقد رتب على الاعتقاد بالمعاد العمل الصالح وعدم الإشراك بعبادة الرب لأن الاعتقاد بالوحدانية مع الإشراك في العمل متناقضان لا يجتمعان فالإله تعالى لو كان واحدا فهو واحد في جميع صفاته ومنها المعبودية لا شريك له فيها.
وقد رتب الأخذ بالدين على رجاء المعاد دون القطع به لأن احتماله كاف في وجوب التحذر منه لوجوب دفع الضرر المحتمل، وربما قيل: إن المراد باللقاء لقاء الكرامة وهو مرجو لا مقطوع به.
وقد فرع رجاء لقاء الله على قوله:{إنما إلهكم إله واحد} لأن رجوع العباد إلى الله سبحانه من تمام معنى الألوهية فله تعالى كل كمال مطلوب وكل وصف جميل ومنها فعل الحق والحكم بالعدل وهما يقتضيان رجوع عباده إليه والقضاء بينهم قال تعالى:{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ }: ص: 28.
_____________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج13،ص323-328.
والآن بعد أن عرفنا علامات الكفار والأخسرين أعمالا، وبعد أن انكشفت عاقبة أعمالهم، تتوجه الآيات إِلى المؤمنين فتبيِّن عاقبتهم، وبمقايسة بين الاثنين نستطيع تشخيص كل طرف بشكل كامل. تقول الآية: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا}.
«الفردوس» بقول كبار المفسّرين (البستان) الذي يشتمل على كل النعم والمواهب اللازمة، وبذلك فالفردوس هو أفضل وأكمل البساتين في الجنّة.
وبما أنَّ كمال النعم بدوامها وأن لا تطالها يد الزوال، لذا فإِنَّ الآية تقول بلا فصل: {خالدين فيها}.
وبالرغم مِن أنَّ طبع الإِنسان قائم على التغيُّر والتنوّع، إِلاَّ أنَّ سكان الجنّة لا يطلبون تغيير مكانهم أو حالهم أبداً: { لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا}. ذلك لأنّهم يجدون كل ما يطلبون حتى التنوع والتكامل كما سيأتي شرح ذلك.
الذين يأملون لقاء الله:
الآيات أعلاه في نفس الوقت الذي تبحث بحثاً مستقلا، إِلاَّ أنّها متصلة مع بحوث هذه السورة، حيثُ أنَّ كل قصة مِن القصص الثلاث الواردة في السورة، تكشف الستار عن مواضيع جديدة وعجيبة، وكأنّما القرآن يريد أن يقول في هذه الآيات: إِنَّ الإِطلاع على قصّة أصحاب الكهف، وموسى والخضر، وذي القرنين، يعتبر لا شيء إِزاء علم الله غير المحدود، لأنَّ علمهُ سبحانه وتعالى ومعرفتهُ تشمل كافة الكائنات وعالم الوجود في الماضي والحاضر والمستقبل.
القرآن الكريم يخاطب الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في أوّل آية نبحثها بقوله: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}.
«مداد» تعني الحبر، أو أي مادة ملونة تساعد في الكتابة، وهي في الأصل مأخوذة مِن «مدَّ» بمعنى السحب، حيث تتوضح خطوط الكتابة بسحب القلم(2).
(كلمات) جمع كلمة، وهي في الأصل تعني الألفاظ التي يتمّ التحدّث بها، أو بعبارة أُخرى: الكلمة لفظ يدل على المعنى، وبما أنَّ كل موجود مِن موجودات هذا العالم هو دليل على علم وقدرة الخالق، لذا فإِنَّهُ يطلق في بعض الأحيان على كل موجود اسم (كلمة الله) ويختص هذا التعبير أكثر بالموجودات المهمّة العظيمة.،
فبالنسبة للمسيح عيسى(عليه السلام) يقول القرآن الكريم: { إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ}( النساء، 171).
وفي الآية التي نبحثها فإِنَّ (كلمة) قد استخدمت بهذا المعنى، أي إِشارة إِلى موجودات عالم الوجود التي تدل كل واحدة فيه على الصفات المختلفة لله تبارك وتعالى.
وفي الحقيقة إِن القرآن يُلفت أنظارنا في هذه الآية إِلى هذه الحقيقة وهي: لا تظنّوا أنَّ عالم الوجود محدود بما تشاهدونه أو تعلمونه أو تحسّونه، بل هو على قدر مِن السعة والعظمة بحيث لو أنَّ البحار تتحول إِلى حبر، وتكتب صفاته وخصائصه، فإِنّها ـ أي البحار ـ ستجف قبل أن تحصي موجودات عالم الوجود.
ومِن الضروري الإِلتفات هنا إِلى أنَّ كلمة البحر يراد بها الجنس وكذلك كلمة (مثل) في قوله: { وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} فإنّه يراد بها الجنس أيضاً، وهذه إِشارة إِلى أنّنا مهما أضفنا مِن أمثال هذه البحار إِليها فإِنَّ الكلمات الإِلهية لا تنتهي ولا تنفد.
ولهذا السبب فليس ثمّة تعارض بين هذه الآية وما ورد في سورة لقمان حيث قوله تعالى في الآية (27): { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ}. يعني أنَّ هذه الأقلام ستتكسر والمحابر ستجف حتى آخر قطرة، ومع ذلك فإِنّ أسرار المخلوقات وحقائق عالم الوجود لا تنتهي.
وينبغي الإِنتباه هنا إِلى أنَّ الآية أعلاه في الوقت الذي تُجسِّد فيه سعة عالم الوجود اللامتناهية في الماضي والحاضر والمستقبل، فإِنّها تُوَضِّح ـ أيضاً ـ العلم المطلق وغير المحدود للخالق جلَّ وعلا، لأنّنا نعلم أنَّ الله سبحانه وتعالى يحيط علمه بما كان موجوداً في عالم الوجود، وبما سيكون موجوداً. وفي الوقت الذي يعتبر فيه علم الله تعالى «علماً حضورياً» فإِنّه لا يفترق عن وجود هذه الموجودات. (فدقق في ذلك).
إِذن نستطيع أن نقول: لو أنَّ جميع المحيطات وبحار الأرض تحولت إِلى حبر ومداد، ولو أنَّ كافة الأشجار تحولت إِلى أقلام، فإِنَّ ذلك كُلّه لا يستطيع الإِحاطة بما موجود في عالم الخالق جلَّ وعلا.
توضيح لمفهوم اللانهاية:
يقوم القرآن الكريم بتجسيد العدد اللانهائي ويقرب معنى العلم المطلق غير المحدود لله تعالى، ويقرب سعة عالم الوجود العظيم إِلى أفكارنا. وقد استخدم القرآن في ذلك توضيحاً بليغاً للغاية، وذكر أرقاماً حيَّة وذات روح.
تُرى هل هناك أعداد حيَّة وأُخرى ميتة؟
نعم، ففي الرياضيات إِذا وُضعت الأصفار إِلى يمين العدد الصحيح فهي لا تعبِّر في الواقع سوى عن أعداد ميتة لا تستطيع أن تجسِّد عظمة شيء معين.
الأشخاص الذين يهتمون بالقضايا الرياضية والحسابية يعرفون أنَّ العدد الواحد (كرقم واحد مثلا) لو وضع أمامهُ مِن الجهة اليمنى أصفاراً بطول كيلومتر واحد، فسيكون عدد عظيم جدّاً ومحيِّر ولا يمكن تصوّر عظمته، ولكن لمن؟ للاشخاص الرياضيين لا عامّة الناس الذين لا يستطيعون تصور العظمة في هذا الرقم.
العدد الحي هو العدد الذي تنشغل أفكارنا به، ويجسِّد الحقائق كما هي ويملك روحاً ولساناً وعظمة.
والقرآن الكريم بدلا مِن أن يقول: إِنَّ مخلوقات عالم الوجود تتجاوز في كثرتها الرقم الذي تقع على يمينه مئات الكيلومترات مِن الأصفار، يقول: إِذا تحولت جميع الأشجار إِلى أقلام، وكل البحار إِلى مواد وحبر، فإِنَّ الأقلام ستتكسر ومياه البحار ستنتهي، ولا تنتهي أسرار ورموز وحقائق عالم الوجود، هذه الأسرار التي يحيط بها جميعاً علم الله تعالى.
فكروا جيداً وتأملوا المقدار الذي يستطيع أن يكتبهُ القلم، ثمّ ما هو عدد الأقلام التي يمكن صناعتها مِن غصن واحد صغير من شجرة معينة؟
ومعلوم أن باستطاعتنا صناعة آلاف بل حتى ملايين الأقلام مِن شجرة كبيرة عظيمة، ولنا أن نتصوّر الكمية من الاقلام التي يمكن صنعها مِن أشجار الأرض جميعاً وغاباتها!
من الجهة الثّانية لنا أن نتصوّر عدد الكلمات التي يمكن كتابتها مِن قطرة حبر واحدة، ثمّ علينا أن نتصوَّر ما نستطيع كتابته مِن حوض واحد، فبحيرة واحدة، فبحر واحد، فمحيط، ومِن ثمّ جميع بحار الأرض ومحيطاتها!
إِنَّ الحصيلة ـ بلا شك ـ ستكون رقماً عجيباً وخيالياً!!
وتتوضح عظمة المثال القرآني إِذا عرفنا أنَّ رقم (سبع) ليسَ للتحديد، بل هو إِشارة للكثرة، ومعنى هذا الكلام أنّنا لو أضفنا لهذا العدد أضعافه مِن البحار، فإِنَّ كلمات الله لا تنفد.
والآن لِنتصور الحيوية والروح الدافقة في هذا العدد، والشاهد الحي الذي يبغث اليقظة في روح الإِنسان، ويشغل فكره ويجعلهُ يفكِّر في آفاق اللانهاية!
إِنَّ العدد الذي يتضمنه المثال القرآني يحس بعظمته الجميع سواء كانوا رياضيين أو أميين.
نعم، إِنَّ علم الله تعالى هو أعلى وأوسع مِن هذا العدد.
علم غير محدود ولا مُتناهي.
علم يشمل كل الوجود، سابقاً وحاضراً ومستقبلا، وهو يضم في طياته كل الأسرار والحقائق!
الآية الثّانية في البحث والتي هي آخر آية في سورة الكهف، عبارة عن مجموعة مِن الأسس والأصول للإِعتقادات الدينية، التي تتركز في التوحيد والمعاد ورسالة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم). والآية في مضمونها إِشارة إِلى نفس المضمون الذي ورد في بداية السورة المباركة. ففي البداية تحدَّثت السورة عن الله والوحي والجزاء والقيامة، والآية الأخيرة هي خلاصة لمجموع ما ورد في السورة، التي اشتملت في قسم مهم منها على الأصول الثلاثة الآنفة باعتبارها محاور للسورة.
ولأنَّ قضية النبوة قد اقترنت مع أشكال مِن الغلو والمبالغة على طول التأريخ، لذا فإِنَّ الآية تقول: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ}.
وهذا التعبير القرآني نسف جميع الإِمتيازات المقرونة بالشرك التي تُخرج الإنبياء مِن صفة البشرية إِلى صفة الألوهية.
ثمّ تشير الآية إِلى قضية التوحيد مِن بين جميع القضايا الأُخرى في والوحي الالهي حيث تقول: { أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}.
أمّا لماذا تمت الإِشارة إِلى هذه القضية؟ فذلك لأنَّ التوحيد هو خلاصة جميع المعتقدات، وغاية كل البرامج الفردية والإِجتماعية التي تجلب السعادة للإِنسان.
وفي مكان آخر، أشرنا إِلى أنَّ التوحيد ليسَ أصلا مِن أصول الدين وحسب، وإِنّما هو خلاصة لجميع أصول وفروع الإِسلام.
لو أردنا ـ على سبيل المثال ـ أن نشبِّه التعليمات الإِسلامية مِن الأصول والفروع على أنّها قطع مِن الجواهر، عندها نستطيع أن نقول: إِنَّ التوحيد هو السلك والخيط الذي يربط جميع هذه القطع إِلى بعضها البعض ليتشكَّل مِن المجموع قلادة جميلة وثمينة.
وإِذا أردنا أن نشبِّه التعليمات الإِسلامية أصولا وفروعاً بأعضاء الجسم، فإِنَّ التوحيد سيكون روح الإِنسان التي تهب الحياة لكافة الأعضاء.
وقد أثبتنا في بحوثنا حول المعاد والنبوة أنَّ هذين الأصلَيْن لا ينفصلان عن التوحيد. يعني: عندما نعرف الخالق بجميع صفاته، فإِنّنا نعلم أنَّ مثل هذا الخالق يجب أن يرسل الأنبياء، وتقتضي حكمته وعدالته أن توجد محكمة عادلة وأن يكون هناك بعثاً.
والمسائل الإِجتماعية، وكل المجتمع الإِنساني وما يرتبط به، ينبغي أن يكون فيه شعاع مِن التوحيد حتى يتوحد وينتظم ويستقر.
لهذا السبب نقرأ في الأحاديث القدسية إِن: «كلمة لا اله إلاّ الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي».
وكل منّا قد سمع أيضاً أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال في بداية الإِسلام: (قولوا لا إِله إِلاَّ الله تفلحوا).
الجملة الثّالثة في الآية الكريمة تشير إِلى قضية البعث وتربطها بالتوحيد بواسطة (فاء التفريع) حيث تقول: { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا}.
بالرغم مِن أن لقاء الله بمعنى المشاهدة الباطنية ورؤية الذات المقدسة بعين البصيرة هو أمرٌ ممكن في هذه الدنيا بالنسبة للمؤمنين الحقيقيين، إِلاَّ أنَّ هذه القضية تكتسب جانباً عاماً يوم القيامة بسبب مشاهدة الآثار الكبيرة والواضحة والصريحة للخالق تبارك وتعالى. لذا فإِنَّ القرآن استخدام هذا التعبير في خصوص يوم القيامة.
مِن جانب آخر، فإِنَّ الإِنسان الذي ينتظر أمراً معيناً، ويأمل شيئاً ما، فمن الطبيعي أن يُهيء نفسهُ ويعدّها لإِستقبال ذلك الأمر. أمّا الشخص الذي يدّعي ولا يستعد، وينتظر ولا يعمل، فهو في الواقع مدع كاذب لا غير.
لهذا السبب فإِنَّ الآية أعلاه تقول: {فليعمل عملا صالحاً} وردت بصيغة الأمر; الأمر الذي يلازمه الرجاء والأمل بانتظار لقاء الله.
وفي آخر جملة ثمّة توضيح للعمل الصالح في جملة قصيرة، هي قوله تعالى: { وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}.
بعبارة أُخرى: لا يكون العمل صالحاً ما لم تتجلى فيه حقيقة الإِخلاص.
فالهدف الإِلهي يعطي لعمل الإِنسان عمقاً ونورانية خاصّة، ويوجهه الوجهة الصحيحة، وعندما نفقد الإِخلاص يكون العمل ذا جنبة ظاهرية حيث يشير إِلى المنافع الخاصّة، ويفقد عمقه وأصالته ووجهتهُ الصحيحة.
في الحقيقة إِنَّ العمل الصالح الذي ينبع مِن أهداف إلهية، ويمتزج بالإِخلاص ويتفاعل معه، هو الذي يكون جوازاً للقاء الله تبارك وتعالى.
وقد أشرنا سابقاً إِلى أنَّ العمل الصالح لهُ مفهوم واسع للغاية، وهو يشمل أي برنامج مفيد وبنّاء، فردي واجتماعي، وفي أي قضية مِن قضايا الحياة.
الإِخلاص أو روح العمل الصالح:
أعطت الرّوايات الإِسلامية مكانةً خاصّة لقضية «النية»، والإِسلام في العادة يقر بقبول الأعمال بملاحظة النية والهدف مِن العمل.
الحديث المشهور عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «لا عمل إِلاَّ بنية» بيانٌ واضح لهذه الحقيقة.
وبعد (النية) هناك (الإِخلاص)، فلو اقترن العمل بالإِخلاص فسيكون عملا ثميناً للغاية، وبدون الإِخلاص هو لا قيمة له. والإِخلاص هو أن تكون الدوافع الإِنسانية خالية مِن أي نوع مِن أنواع الشوائب، ويمكن أن نسمّي الإِخلاص بـ «توحيد النية» يعني التفكير بالله وبرضاه في جميع الأُمور والحالات.
والطريف في الأمر هنا هو ما ورد في سبب نزول هذه الآية مِن أنَّ رجلا جاء إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إِنّي أتصدق وأصل الرحم، ولا أصنع ذلك إِلاَّ لله، فيذكر ذلك مِنّي، وأحمد عليه فيسرّني ذلك، وأعجب بهِ. فسكت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم يقل شيئاً، فنزلت الآية: {... فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}(3).
إِنَّ المقصود مِن هذه الرّواية ليسَ الفرح أو السرور اللاإِرادي، بل هي الحالة التي يكون فيها الفرح والسرور هدفاً لعمل الإِنسان، أو الحالة التي تؤدي إِلى عدم خلوص النية.
فالعمل الخالص يعتبر مهماً في الإِسلام إِلى الحد الذي يقول فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «مَن أخلص لله أربعين يوماً فجّر الله ينابيع الحكمة مِن قلبه على لسانه»(4).
_____________
1- تفسير الامثل،ناصر مكارم الشيرازي،ج7،ص596-609.
2- نقل الفخر الرازي في معنى (مداد) إِضافة إِلى ما ذكر معنىٌ آخر، وهو «الزيت» الذي يوضع في المصباح ويكون سبباً للنور، والإِثنان يرجعان إِلى معنى واحد.
3- مجمع البيان في تفسير الآية. وكذلك تفسير القرطبي.
4- سفينة البحار، ج 1، ص 408.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|