أقرأ أيضاً
التاريخ: 17-8-2020
6643
التاريخ: 22-8-2020
4820
التاريخ: 17-8-2020
6836
التاريخ: 21-8-2020
4546
|
قال تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَو كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 40 - 44]
{ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا} هذا خطاب لمن جعل الملائكة بنات الله تعالى ومعناه أ خلصكم الله سبحانه بالبنين وخصكم بهم واتخذ لنفسه الإناث وجعل البنات مشتركة بينكم وبينه واختصكم بالأرفع وجعل لنفسه الأدون تقول أصفيت فلانا بالشيء إذا آثرته به { إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} أي: كبيرا في الإثم واستحقاق العقوبة حيث أضفتم إلى الله سبحانه ما لم ترضوا لأنفسكم به وجعلتم الملائكة وهم أعلى خلق الله وأشرفهم أدون خلق الله وهم الإناث .
ثم احتج سبحانه على الذين تقدم ذكرهم فقال: { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} أي: كررنا الدلائل وفصلنا المعاني والأمثال وغير ذلك مما يوجب الاعتبار به { في هذا القرآن ليذكروا } أي: ليتفكروا فيها فيعلموا الحق وحذف ذكر الدلائل والعبر لدلالة الكلام عليه وعلم السامع به { وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا} أي: وما يزداد هؤلاء الكفار عند تصريف الأمثال والدلائل لهم إلا تباعدا عن الاعتبار ونفورا عن الحق وأضاف النفور إلى القرآن لأنهم ازدادوا النفور عند نزوله كقوله { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا}.
فإن قيل: إذا كان المعلوم أنهم يزدادون النفور عند إنزال القرآن فما المعنى في إنزاله وما وجه الحكمة فيه قيل الحكمة فيه إلزام الحجة وقطع المعذرة في إظهار الدلائل التي تحسن التكليف وأنه يصلح عند إنزاله جماعة ما كانوا يصلحون عند عدم إنزاله ولو لم ينزل لكان هؤلاء الذين ينفرون عن الإيمان يفسدون بفساد أعظم من هذا النفور فالحكمة اقتضت إنزاله لهذه المعاني وإنما ازدادوا نفورا عند مشاهدة الآيات والدلائل لاعتقادهم أنها شبه وحيل وقلة تفكرهم فيها .
{قل} يا محمد لهؤلاء المشركين: { لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} هم أوتقولون أنتم على القراءتين { إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} أي: لطلبوا طريقا يقربهم إلى مالك العرش والتمسوا الزلفة عنده لعلمهم بعلوه عليهم وعظمته عن مجاهد وقتادة وقال أكثر المفسرين: معناه لطلبوا سبيلا إلى معازة مالك العرش ومغالبته ومنازعته فإن المشتركين في الإلهية يكونان متساويين في صفات الذات ويطلب أحدهما مغالبة صاحبه ليصفوله الملك وفي هذا إشارة إلى دليل التمانع ثم نزه سبحانه نفسه من أن يكون له شريك في الإلهية فقال { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ} أي: عن قولهم { علوا كبيرا } وإنما لم يقل تعاليا كبيرا لأنه وضع مصدر مكان مصدر نحوه قوله تبتل إليه تبتيلا ومعنى تعالى أن صفاته في أعلى المراتب ولا مساوي له فيها لأنه قادر لا أحد أقدر منه وعالم لا أحد أعلم منه وخص العرش بإضافته إليه تعظيما للعرش ويجوز أن يريد بالعرش الملك.
{ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} معنى التسبيح هاهنا: الدلالة على توحيد الله وعدله وأنه لا شريك له في الإلهية وجرى ذلك مجرى التسبيح باللفظ وربما يكون التسبيح من طريق الدلالة أقوى لأنه يؤدي إلى العلم { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } أي: ليس شيء من الموجودات إلا ويسبح بحمد الله تعالى من جهة خلقته إذ كل موجود سوى القديم حادث يدعوإلى تعظيمه لحاجته إلى صانع غير مصنوع صنعه أوصنع من صنعه فهو يدعو إلى تثبيت قديم غني بنفسه عن كل شيء سواه ولا يجوز عليه ما يجوز على المحدثات وقيل: إن معناه وما من شيء من الأحياء إلا يسبح بحمده عن الحسن وقيل: أن كل شيء على العموم من الوحوش والطيور والجمادات يسبح الله تعالى حتى صرير الباب وخرير الماء عن إبراهيم وجماعة { وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} أي: لا تعلمون تسبيح هذه الأشياء حيث لم تنظروا فيها فتعلموا كيف دلالتها على توحيده { إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا} يمهلكم ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفركم { غفورا } لكم إذا تبتم وأنبتم إليه .
_______________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج6،ص252-255.
{ أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ واتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً } . يعتبر القرآن حجة لا تقبل الجدل في كل ما قاله وسجله عن العصر الجاهلي ، وتسجل هذه الآية على المشركين بأنهم كانوا يعتقدون ان للَّه بناتا من نوع الملائكة . . وأيضا كانوا يعتقدون بأن الذكر أفضل من الأنثى بدليل قوله تعالى : « وإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وهُو كَظِيمٌ » - 57 النحل ومع هذا نسبوا الأفضل لأنفسهم ، والأدنى إليه تعالى . . فوبخهم سبحانه على هذا الجهل وقال : { إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً } لأنه تعالى لا شريك له ولا شبيه ، ولوكان له ولد لكان ولده وارثا له وشبيها به ، ولو كان له والد لكان والده شريكا له في العز ، بل أعز لأنه علة وجوده .
وغير بعيد عن منطق الجاهليين أن يكون السر الذي دعاهم إلى أن ينسبوا الإناث إلى اللَّه والذكور إلى أنفسهم - ان اللَّه تعالى لا يخاف الفقر لكثرة العيال ، ولا العار من وجود الإناث .
{ ولَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً } . أقام سبحانه الدلائل والبينات على وجوده ووحدانيته ، وأوضحها بضرب الأمثال ، وأساليب متنوعة ليتفهموها ويدركوها ، ولكنهم استمسكوا بالأوهام والتقاليد ، وازدادوا بعدا وعنادا . قال الرازي « وانما أكثر اللَّه سبحانه من ذكر الدلائل في القرآن لأنه تعالى أراد من المشركين فهمها والايمان بها ، وهذا يدل على أنه تعالى يفعل أفعاله لأغراض حكيمة ، ويدل على أنه تعالى أراد الايمان من الكل ، سواء آمنوا أم كفروا » .
وهذا القول من الرازي يناقض ما صرح به مرارا من أن أفعال اللَّه لا تعلل بالأغراض ، وأنه سبحانه أراد الكفر من الكافر ، كما هو مذهب الأشاعرة . .
ولكن أبى اللَّه ألا ان ينصر الحق ويظهره ، حتى على لسان جاحديه من حيث لا يشعرون .
{ قُلْ لَو كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً } .
ذكر أهل التفاسير لهذه الآية معنيين : الأول انه إذا فرض ان مع اللَّه آلهة فلا تعدوأن تكون هذه الآلهة كوكبا أوإنسانا أوجمادا أوأي شيء آخر ، وهذه كلها مخلوقات للَّه تعبده وتتقرب إليه ، فعليكم أيها المشركون ، وهذه هي حال معبودكم ، ان تعبدوا اللَّه أنتم كما يعبده من تدعونه من دون اللَّه .
المعنى الثاني أوالتفسير الثاني ، وهو الأرجح ، انه لوكان فيهما آلهة غير اللَّه لطلبت هذه الآلهة طريقا إلى النزاع والشجار مع اللَّه ليصفولها الملك . . وما من شك ان نزاع الرؤساء يؤدي إلى الفوضى والفساد ، كما قال تعالى : « لَو كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا » - 22 الأنبياء » . وتكلمنا عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية 48 من سورة النساء ج 2 ص 344 { سُبْحانَهُ وتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً } نزه عز وجل نفسه عن قول الظالمين والمشركين من أن له شركاء وأولادا .
كل شيء يسبح بحمده :
{ تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ والأَرْضُ ومَنْ فِيهِنَّ وإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } .
أجل ، كل شيء يسبح بحمد اللَّه تعالى ، ما في ذلك ريب ، وتسبيح الشيء يختلف باختلاف صفاته وخصائصه ، فالعاقل يسبح اللَّه بلسان المقال ، وغيره يسبحه بلسان الحال ، وبكلام آخر يسبحه بدلالة وجوده وصورته وأحكامه على وجود المصور الحكيم ، تماما كما يدل الرسم الجميل على وجود الرسام ومهارته ، ولسان الحال أقوى وأبلغ في الدلالة من لسان المقال ، لأن هذا يحتاج إلى دليل ، أما الحال فهي بذاتها دليل يؤدي حتما إلى العلم واليقين ، وتقدم الكلام عن ذلك عند تفسير الآية 14 من سورة الرعد .
{ ولكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً } لا يفقه الملحدون والمشركون تسبيحهم للانصراف عن اللَّه وعظمته في خلقه ، أولقصر النظر عن ادراك ما في الكون من عجائب وأسرار ، قال ابن عربي في الجزء الرابع من الفتوحات المكية ما تلخيصه وتوضيحه : ان للَّه آيات متنوعة ، منها ما يدرك بالعقل ، ومنها ما يدرك بالسمع ، ومنها ما يدرك بالبصر ، وعلى الإنسان أن يستعمل هذه الأدوات لمعرفة آيات اللَّه التي ذكرها في كتابه ، ومتى علم وآمن بها وعمل بموجبها كان من أهل القرآن ، وأهل اللَّه وخاصته . . ثم قال ابن عربي :
خذ الوجود كله على أنه كتاب ناطق بالحق عن الحق . . وهذا كقول أحد العارفين : ان للَّه كتابين : أحدهما ينطق بلسان المقال ، وهو القرآن ، والآخر ينطق بلسان الحال ، وهو الكون .
______________
1- التفسير الكاشف، ج 5، محمد جواد مغنية، ص 46-48.
في الآيات تعقيب مسألة التوحيد وتوبيخ المشركين على اتخاذهم الآلهة ونسبة الملائكة الكرام إلى الأنوثية، وأنهم لا يتذكرون بما يلقي إليهم القرآن من حجج الوحدانية، ولا يفقهون الآيات بل يستهزءون بالرسول وبما يلقى إليهم من أمر البعث ويسيئون القول في أمر الله وغير ذلك.
قوله تعالى:{ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} الإصفاء الإخلاص قال في المجمع،: تقول: أصفيت فلانا بالشيء إذا آثرته به. انتهى.
خطاب لمن يقول منهم: إن الملائكة بنات الله أوبعضهم بنات الله والاستفهام للإنكار، ولعله بدل البنات من الإناث لكونهم يعدون الأنوثة من صفات الخسة.
والمعنى إذا كان سبحانه ربكم لا رب غيره وهو الذي يتولى أمر كل شيء فهل تقولون إنه آثركم بكرامة لم يتكرم به هو نفسه وهو أنه خصكم بالبنين ولم يتخذ لنفسه من الولد إلا الإناث وهم الملائكة الكرام الذين تزعمون أنهم إناث إنكم لتقولون قولا عظيما من حيث استتباعه التبعة السيئة.
قوله تعالى:{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا} قال في المفردات،: الصرف رد الشيء من حالة إلى حالة أوإبداله بغيره.
قال: والتصريف كالصرف إلا في التكثير، وأكثر ما يقال في صرف الشيء من حالة إلى حالة ومن أمر إلى أمر، وتصريف الرياح هو صرفها من حال إلى حال قال تعالى:{وصرفنا الآيات}{ وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ} ومنه تصريف الكلام وتصريف الدراهم. انتهى.
وقال: النفر الانزعاج من الشيء وإلى الشيء كالفزع إلى الشيء وعن الشيء يقال: نفر عن الشيء نفورا قال تعالى:{ما زادهم إلا نفورا}{ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا} انتهى.
فقوله:{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا} معناه بشهادة السياق: وأقسم لقد رددنا الكلام معهم في أمر التوحيد ونفي الشريك من وجه إلى وجه وحولناه من لحن إلى لحن في هذا القرآن فأوردناه بمختلف العبارات وبيناه بأقسام البيانات ليتذكروا ويتبين لهم الحق.
وقوله:{ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا} أي ما يزيدهم التصريف إلا انزعاجا كلما استؤنف جيء ببيان جديد أورثهم نفرة جديدة.
وفي الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة تنبيها على أنهم غير صالحين للخطاب والتكليم بعد ما كان حالهم هذا الحال.
قال في المجمع،: فإن قيل: إذا كان المعلوم أنهم يزدادون النفور عند إنزال القرآن فما المعنى في إنزاله؟ وما وجه الحكمة فيه؟ قيل: الحكمة فيه إلزام الحجة وقطع المعذرة في إظهار الدلائل التي تحسن التكليف، وإنه يصلح عند إنزاله جماعة ما كانوا يصلحون عند عدم إنزاله، ولولم ينزل لكان هؤلاء الذين ينفرون عن الإيمان يفسدون بفساد أعظم من هذا النفور فالحكمة اقتضت إنزاله لهذه المعاني، وإنما ازدادوا نفورا عند مشاهدة الآيات والدلائل لاعتقادهم أنها شبه وحيل وقلة تفكرهم فيها. انتهى.
وقوله: إنه لولم ينزل لكانوا يفسدون بفساد أعظم من النفور لا يخلومن شيء فإن ازدياد النفور يبلغ بهم إلى الجحود ومعاندة الحق والصد عنه ولا فساد أعظم منه في باب الدعوة.
لكن ينبغي أن يعلم أن الكفر والجحود والنفور عن الحق والعناد معه كما كانت تضر أصحابها ويوردهم مورد الهلاك فهي تنفع أرباب الإيمان والرضا بالحق والتسليم له إذ لولم يتحقق لهذه الخصال الحسنة والصفات الجميلة مقابلات لم تتحقق لها كينونة فافهم ذلك.
فمن الواجب في الحكمة أن تتم الحجة ثم تزيد في تمامها حتى يظهر من الشقي كل ما في وسعه من الشقاء، ويتخذ السعداء بمختلف مساعيهم من الدرجات ما يحاذي دركات الأشقياء وقد قال تعالى:{ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}: الآية: 20 من السورة.
قوله تعالى:{ قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} أعرض عن مخاطبتهم فصرف الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمره أن يكلمهم في أمر التوحيد ونفي الشريك.
والذي يقولون به أن هناك آلهة دون الله يتولون جهات التدبير في العالم على اختلاف مراتبهم والواحد منهم رب لما يدبره كإله السماء وإله الأرض وإله الحرب وإله قريش.
وإذ كانوا شركاء من جهة التدبير لكل واحد منهم الملك على حسب ربوبيته والملك من توابع الخلق الذي يختص به سبحانه حتى على معتقدهم (29 كان الملك مما يقبل في نفسه أن يقوم به غيره تعالى وحب الملك والسلطنة ضروري لكل موجود كانوا بالضرورة طالبين أن ينازعوه في ملكه وينتزعوه من يده حتى ينفرد الواحد منهم بالملك والسلطنة، ويتعين بالعزة والهيمنة تعالى الله عن ذلك.
فملخص الحجة أنه لو كان معه آلهة كما يقولون وكان يمكن أن ينال غيره تعالى شيئا من ملكه الذي هو من لوازم ذاته الفياضة لكل شيء وحب الملك والسلطنة مغروز في كل موجود بالضرورة لطلب أولئك الآلهة أن ينالوا ملكه فيعزلوه عن عرشه ويزدادوا ملكا على ملك لحبهم ذلك ضرورة لكن لا سبيل لأحد إليه تعالى عن ذلك.
فقوله:{ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} أي طلبوا سبيلا إليه ليغلبوه على ما له من الملك، والتعبير عنه تعالى بذي العرش وهو من الصفات الخاصة بالملك للدلالة على أن ابتغاءهم السبيل إليه إنما هو لكونه ذا العرش وهو ابتغاء سبيل إلى عرشه ليستقروا عليه.
ومن هنا يظهر أن قول بعضهم إن الحجة في الآية هي في معنى الحجة التي في قوله تعالى:{ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} الآية: الأنبياء: 22 في غير محله.
وذلك أن الحجتين مختلفتان في مقدماتهما فالحجة التي في الآية التي نحن فيها تسلك إلى نفي الشريك من جهة ابتغاء الآلهة السبيل إلى ذي العرش وطلبهم الغلبة عليه بانتزاع الملك منه، والتي في آية الأنبياء تسلك من جهة أن اختلاف الآلهة في ذواتهم يؤدي إلى اختلافهم في التدبير وذلك يؤدي إلى فساد النظام فالحق أن الحجة التي فيما نحن فيه غير الحجة التي في آية الأنبياء، والتي تقرب من حجة آية الأنبياء ما في قوله:{ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ}: المؤمنون: 91.
وكذا ما نقل عن بعض قدماء المفسرين: أن المراد من ابتغائهم سبيلا إلى ذي العرش طلبهم التقرب والزلفى منه لعلوه عليهم، وتقريب الحجة أنه لو كان معه آلهة كما يقولون لطلبوا التقرب منه تعالى والزلفى لديه لعلمهم بعلوه وعظمته، والذي كان حاله هذا الحال لا يكون إلها فليسوا بآلهة.
في غير محله لشهادة السياق على خلافه كوصفه تعالى بذي العرش وقوله بعد:{ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ} إلخ فإنه ظاهر في أن لما قدروه من ثبوت الآلهة المستلزم لابتغائهم سبيلا إلى الله محذورا عظيما لا تحتمله ساحة العظمة والكبرياء مثل كون ملكه في معرض ابتغاء سبيل إليه وتهاجم غيره عليه وكونه لا يأبى بحسب طبعه أن يبتز وينتقل إلى من دونه.
قوله تعالى:{ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} التعالي هو العلو البالغ ولهذا وصف المفعول المطلق أعني{علوا} بقوله:{كبيرا} فالكلام في معنى تعالى تعاليا: والآية تنزيه له تعالى عما يقولونه من ثبوت الآلهة وكون ملكه وربوبيته مما يمكن أن يناله غيره.
قوله تعالى:{ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} إلخ الآية وما قبلها وإن كانت واقعة موقع التعظيم كقوله:{وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه} لكنها تفيد بوجه في الحجة المتقدمة فإنها بمنزلة المقدمة المتممة لقوله:{ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} إلخ فإن الحجة بالحقيقة قياس استثنائي والذي بمنزلة الاستثناء هو ما في الآية من تسبيح الأشياء له سبحانه كأنه قيل: لو كان معه آلهة لكان ملكه في معرض المنازعة والمهاجمة لكن الملك من السماوات والأرض ومن فيهن ينزهه عن ذلك ويشهد أن لا شريك له في الملك فإنها لم تبتدىء إلا منه ولا تنتهي إلا إليه ولا تقوم إلا به ولا تخضع سجدا إلا له فلا يتلبس بالملك ولا يصلح له إلا هو فلا رب غيره.
ومن الممكن أن تكون الآيتان أعني قوله:{ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ} إلخ جميعا في معنى الاستثناء والتقدير لو كان معه آلهة لطلبوا مغالبته وعزله من ملكه لكنه سبحانه ينزه ذاته عن ذلك بذاته الفياضة التي يقوم به كل شيء وتلزمه الربوبية من غير أن يفارقه أو ينتقل إلى غيره، وكذلك ملكه وهوعالم السماوات والأرض ومن فيهن ينزهنه سبحانه بذواتها المسبحة له حيث إنها قائمة الذات به لوانقطعت أوحجبت عنه طرفة عين فنت وانعدمت فليس معه آلهة ولا أن ملكه وربوبيته مما يمكن أن يبتغيه غيره فتأمل فيه.
وكيف كان فقوله:{ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} يثبت لأجزاء العالم المشهود التسبيح وأنها تسبح الله وتنزهه عما يقولون من الشريك وينسبون إليه.
والتسبيح تنزيه قولي كلامي وحقيقة الكلام الكشف عما في الضمير بنوع من الإشارة إليه والدلالة عليه غير أن الإنسان لما لم يجد إلى إرادة كل ما يريد الإشارة إليه من طريق التكوين طريقا التجأ إلى استعمال الألفاظ وهي الأصوات الموضوعة للمعاني، ودل بها على ما في ضميره، وجرت على ذلك سنة التفهيم والتفهم، وربما استعان على بعض مقاصده بالإشارة بيده أورأسه أوغيرهما، وربما استعان على ذلك بكتابة أونصب علامة.
وبالجملة فالذي يكشف به عن معنى مقصود قول وكلام وقيام الشيء بهذا الكشف قول منه وتكليم وإن لم يكن بصوت مقروع ولفظ موضوع، ومن الدليل عليه ما ينسبه القرآن إليه تعالى من الكلام والقول والأمر والوحي ونحو ذلك مما فيه معنى الكشف عن المقاصد وليس من قبيل القول والكلام المعهود عندنا معشر المتلسنين باللغات وقد سماه الله سبحانه قولا وكلاما.
وعند هذه الموجودات المشهودة من السماء والأرض ومن فيهما ما يكشف كشفا صريحا عن وحدانية ربها في ربوبيته وينزهه تعالى عن كل نقص وشين فهي تسبح الله سبحانه.
وذلك أنها ليست لها في أنفسها إلا محض الحاجة وصرف الفاقة إليه في ذاتها وصفاتها وأحوالها. والحاجة أقوى كاشف عما إليه الحاجة لا يستقل المحتاج دونه ولا ينفك عنه فكل من هذه الموجودات يكشف بحاجته في وجوده ونقصه في ذاته عن موجده الغني في وجوده التام الكامل في ذاته وبارتباطه بسائر الموجودات التي يستعين بها على تكميل وجوده ورفع نقائصه في ذاته أن موجده هو ربه المتصرف في كل شيء المدبر لأمره.
ثم النظام العام الجاري في الأشياء الجامع لشتاتها الرابط بينها يكشف عن وحدة موجدها، وأنه الذي إليه بوحدته يرجع الأشياء وبه بوحدته ترتفع الحوائج والنقائص فلا يخلومن دونه من الحاجة، ولا يتعرى ما سواه من النقيصة وهو الرب لا رب غيره والغني الذي لا فقر عنده والكمال الذي لا نقص فيه.
فكل واحد من هذه الموجودات يكشف بحاجته ونقصه عن تنزه ربه عن الحاجة وبراءته من النقص حتى أن الجاهل المثبت لربه شركاء من دونه أوالناسب إليه شيئا من النقص والشين تعالى وتقدس يثبت بذلك تنزهه من الشريك وينسب بذلك إليه البراءة من النقص فإن المعنى الذي تصور في ضمير هذا الإنسان واللفظ الذي يلفظه لسانه وجميع ما استخدمه في تأدية هذا المقصود كل ذلك أمور موجودة تكشف بحاجتها الوجودية عن رب واحد لا شريك له ولا نقص فيه.
فمثل هذا الإنسان الجاحد في كون جحوده اعترافا مثل ما لو ادعى إنسان أن لا إنسان متكلما في الدنيا وشهد على ذلك قولا فإن شهادته أقوى حجة على خلاف ما ادعاه وشهد عليه وكلما تكررت الشهادة على هذا النمط وكثر الشهود تأكدت الحجة من طريق الشهادة على خلافها.
فإن قلت: مجرد الكشف عن التنزه لا يسمى تسبيحا حتى يقارن القصد والقصد مما يتوقف على الحياة وأغلب هذه الموجودات عادمة للحياة كالأرض والسماء وأنواع الجمادات فلا مخلص من حمل التسبيح على المجاز فتسبيحها دلالتها بحسب وجودها على تنزه ربها.
قلت: كلامه تعالى مشعر بأن العلم سار في الموجودات مع سريان الخلقة فلكل منها حظ من العلم على مقدار حظه من الوجود، وليس لازم ذلك أن يتساوى الجميع من حيث العلم أويتحد من حيث جنسه ونوعه أويكون عند كل ما عند الإنسان من ذلك أوأن يفقه الإنسان بما عندها من العلم قال تعالى حكاية عن أعضاء الإنسان:{ قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ }: فصلت: 21 وقال { فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] والآيات في هذا المعنى كثيرة، وسيوافيك كلام مستقل في ذلك إن شاء الله تعالى.
وإذا كان كذلك فما من موجود مخلوق إلا وهو يشعر بنفسه بعض الشعور وهو يريد بوجوده إظهار نفسه المحتاجة الناقصة التي يحيط بها غنى ربه وكماله لا رب غيره فهو يسبح ربه وينزهه عن الشريك وعن كل نقص ينسب إليه.
وبذلك يظهر أن لا وجه لحمل التسبيح في الآية على مطلق الدلالة مجازا فالمجاز لا يصار إليه إلا مع امتناع الحمل على الحقيقة، ونظيره قول بعضهم: إن تسبيح بعض هذه الموجودات قالي حقيقي كتسبيح الملائكة والمؤمنين من الإنسان وتسبيح بعضها حالي مجازي كدلالة الجمادات بوجودها عليه تعالى ولفظ التسبيح مستعمل في الآية على سبيل عموم المجاز، وقد عرفت ضعفه آنفا.
والحق أن التسبيح في الجميع حقيقي قالي غير أن كونه قاليا لا يستلزم أن يكون بألفاظ موضوعة وأصوات مقروعة كما تقدمت الإشارة إليه وقد تقدم في آخر الجزء الثاني من الكتاب كلام في الكلام نافع في المقام.
فقوله تعالى:{ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} يثبت لها تسبيحا حقيقيا وهو تكلمها بوجودها وما له من الارتباط بسائر الموجودات الكائنة وبيانها تنزه ربها عما ينسب إليه المشركون من الشركاء وجهات النقص.
وقوله:{ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} تعميم التسبيح لكل شيء وقد كانت الجملة السابقة عدت السماوات السبع والأرض ومن فيهن، وتزيد عليها بذكر الحمد مع التسبيح فتفيد أن كل شيء كما يسبحه تعالى كذلك يحمده بالثناء عليه بجميل صفاته وأفعاله.
وذلك أنه كما أن عند كل من هذه الأشياء شيئا من الحاجة والنقص عائدا إلى نفسه كذلك عنده من جميل صنعه ونعمته تعالى شيء راجع إليه تعالى موهوب من لدنه، وكما أن إظهار هذه الأشياء لنفسها في الوجود إظهار لحاجتها ونقصها وكشف عن تنزه ربها عن الحاجة والنقص، وهو تسبيحها كذلك إبرازها لنفسها إبراز لما عندها من جميل فعل ربها الذي وراءه جميل صفاته تعالى فهو حمدها فليس الحمد إلا الثناء على الجميل الاختياري فهي تحمد ربها كما تسبحه وهو قوله:{ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}.
وبلفظ آخر إذا لوحظ الأشياء من جهة كشفها عما عند ربها بإبرازها ما عندها من الحاجة والنقص مع ما لها من الشعور بذلك كان ذلك تسبيحا منها، وإذا لو حظت من جهة كشفها ما لربها بإظهارها ما عندها من نعمة الوجود وسائر جهات الكمال فهو حمد منها لربها وإذا لوحظ كشفها ما عند الله سبحانه من صفة جمال أو جلال مع قطع النظر عن علمها وشعورها بما تكشف عنه كان ذلك دلالة منها عليه تعالى وهي آياته.
وهذا نعم الشاهد على أن المراد بالتسبيح في الآية ليس مجرد دلالتها عليه تعالى بنفي الشريك وجهات النقص فإن الخطاب في قوله:{ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} إما للمشركين وإما للناس أعم من المؤمن والمشرك وهم على أي حال يفقهون دلالة الأشياء على صانعها مع أن الآية تنفي عنهم الفقه.
ولا يصغى إلى قول من قال: إن الخطاب للمشركين وهم لعدم تدبرهم فيها وقلة انتفاعهم بها كان فهمهم بمنزلة العدم، ولا إلى دعوى من يدعي أنهم لعدم فهمهم بعض المراد من التسبيح جعلوا ممن لا يفقه الجميع تغليبا.
وذلك لأن تنزيل الفهم منزلة العدم أوجعل البعض كالجميع لا يلائم مقام الاحتجاج وهو سبحانه يخاطبهم في سابق الآية بالحجة على التنزيه على أن هذا النوع من المسامحة بالتغليب ونحوه لا يحتمله كلامه تعالى.
وأما ما وقع في قوله بعد هذه الآية:{وإذا قرأت القرآن} إلى آخر الآيات من نفي الفقه عن المشركين فليس يؤيد ما ذكروه فإن الآيات تنفي عنهم فقه القرآن وهوغير نفي فقه دلالة الأشياء على تنزهه تعالى إذ بها تتم الحجة عليهم.
فالحق أن التسبيح الذي تثبته الآية لكل شيء هو التسبيح بمعناه الحقيقي وقد تكرر في كلامه تعالى إثباته للسماوات والأرض ومن فيهن وما فيهن وفيها موارد لا تحتمل إلا الحقيقة كقوله تعالى:{ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ }: الأنبياء: 79، وقوله:{ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ}: ص: 18، ويقرب منه قوله:{ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ}: سبأ: 10 فلا معنى لحملها على التسبيح بلسان الحال.
وقد استفاضت الروايات من طرق الشيعة وأهل السنة أن للأشياء تسبيحا ومنها روايات تسبيح الحصى في كف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيوافيك بعضها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.
وقوله:{ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} أي يمهل فلا يعاجل بالعقوبة ويغفر من تاب ورجع إليه، وفي الوصفين دلالة على تنزهه تعالى عن كل نقص فإن لازم الحلم أن لا يخاف الفوت، ولازم المغفرة أن لا يتضرر بالمغفرة ولا بإفاضة الرحمة فملكه وربوبيته لا يقبل نقصا ولا زوالا.
وقد قيل في وجه هذا التذييل إنه إشارة إلى أن الإنسان في قصوره عن فهم هذا التسبيح الذي لا يزال كل شيء مشتغلا به حتى نفسه بجميع أركان وجوده بأبلغ بيان، مخطىء من حقه أن يؤاخذ به لكن الله سبحانه بحلمه ومغفرته لا يعاجله ويعفوعن ذلك إن شاء.
وهو وجه حسن ولازمه أن يكون الإنسان في وسعه أن يفقه هذا التسبيح من نفسه ومن غيره، ولعلنا نوفق لبيانه إن شاء الله في موضع يليق به.
___________________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج13،ص84-91.
2- كما نقل أنهم كانوا يقولون في التلبية، لبيك لاشريك لك إلا شريكا هولك نملكه وما ملك والكتب البرهمنية والبوذية مملوءة ان الملك كله لله سبحانه.
هذه آية- من الآيات التي نبحثها- تشير إلى واحدة من الأفكار الخرافية للمشركين، إذ الكثير منهم كان يعتقد بأنّ الملائكة هم بنات اللّه، في حين أنّهم كانوا يعتبرون البنت عارا و شنارا، و ولادتها في بيت يؤدي إلى سوء الحظ. القرآن يساير هذا المنطق فيقول لهم: {أَ فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَ اتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً}.
إنّ البنات- بدون شك- كالبنين، هم عطايا الإله و مواهبه، ولا يوجد أي تفاوت بينهم في القيمة الإنسانية. و عادة لا يمكن الحفاظ على الأصل البشري من دونهما معا، لذلك فإن تحقير البنات تعتبر عادة جاهلية كانت تعيشها تلك المجتمعات، كما أشرنا إلى ذلك سابقا (2). ولكن هدف القرآن هو مقابلهم بمنطقهم فيقول لهم: كيف تنسبون لربّكم ما تحسبوه عارا لكم؟! بعد ذلك يقول القرآن بأسلوب قاطع: {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً} إذ هذا الكلام لا يتلاءم مع أي منطق و يعتبر ضعيفا من عدّة جهات، هي:
1- إنّ الإعتقاد بوجود ابن للّه يعتبر إهانة عظيمة لمحضره المقدّس، لأنّه سبحانه وتعالى ليس بجسم، و ليست فيه الصفات الجسمانية، ولا يحتاج في بقائه إلى النسل. لذا فالاعتقاد بهذا الأمر يدل على عدم المعرفة بالصفات الإلهية.
2- كيف تعتقدون بأنّ أولاد اللّه كلّهم بنات، في حين أنّكم ترون البنات أدنى مكانة واحتراما من الأولاد؟ هذا الإعتقاد السفيه يعتبر إهانة أخرى ألى مقام اللّه تبارك وتعالى.
3- هذا الإعتقاد يعتبر إهانة لمقام ملائكة اللّه الذين يعتبرون من المقربين للعرش، فأنتم تصابون بالرعب بمجرّد سماع كلمة «بنت»، في حين تعتبرون هؤلاء المقربين من العرش إناثا؟!
من الالتفات إلى هذه الأمور يتّضح أنّ هذا الكلام يعتبر انحرافا عظيما و كبيرا .. إنّه كبير من حيث الانحراف عن الحقائق و كبير من حيث استحقاق صاحبه العقاب العظيم، و هو أيضا كبير قياسا لأعراف أهل الجاهلية و عاداتهم، هذه العادات التي كانت تقوم على أساس تحقير البنات.
أمّا لما ذا يعتبر مشركو العرب الملائكة إناثا؟ و لما ذا كان عرب الجاهلية يئدون البنات أحياء و يفزعون من مجرّد ذكرهن؟ .. ثمّ دور الإسلام في إعادة بناء موقع المرأة داخل مجتمعهم، كل هذه الأمور بحثناها مفصلا أثناء الحديث عن الآيات (57- 59) من سورة النحل. و ننصح هنا بالعودة لها مجددا.
كيف يفرّون من الحق؟
كان الحديث في الآيات السابقة يتعلّق بقضيتي التوحيد والشرك، لذا فإنَّ هَذهِ الآيات تتابع هذا الموضوع بوضوح وَقاطعية أكبر. ففي البداية تتحدث عن لجاجة بعض المشركين وعنادهم في قبال أدلة التوحيد فتقول: { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا}.
«صرَّف» مُشتقّة مِن «تصريف» وَهي تعني التغيير والتحويل، وَكونها على وزن «تفعيل» يؤكّد معنى الكثرة. وَلأنَّ القرآن يستخدم تعابير متنوعة وَفنوناً كلامية مُختلفة مِن أجل تنبيه المشركين، إذ يستخدم الإِستدلال العقلي المنطقي والفطري أو التهديد والترغيب، لذا فإنَّ كلمة «صرَّفنا» تناسب هذا التنوّع في هَذا المقام.
القرآن الكريم يريد أن يقول: إنّنا سلكنا مُختلف الطرق، وَفتحنا مُختلف الأبواب مِن أجل أن ننير قلوب هؤلاء العميان بضياء التوحيد، ولكن مجموعة مِن هَؤلاء وصل بهم التعصب والعناد واللجاجة إلى درجة أنَّ كل هَذِهِ الوسائل لم تؤثر في جذبهم إلى الحقيقة، بل إنّها زادت في ابتعادهم ونفورهم.
وَهُنا قد يطرح هَذا السؤال: إِذاً ما الفائدة مِن ذكر كلّ ذلك، إذا كانت النتائج. معكوسة؟
إِنَّ جواب هَذا السؤال واضح، إِذ أنَّ القرآن لم ينزل لفرد أو لمجموعة خاصّة، وَلكنَّه للمجتمع كافّة، وَطبيعي أن جميع الناس ليسوا على منوال المعاندين، إذ هُناك الكثير ممن يتبع طريق الحق إذا استبانت له أدلته مِن هَذا النوع مِن الأدلّة القرآنية، بالرغم من أنّها تؤدي بمجموعة أُخرى مِن فاقدي بصيرة القلب إِلى المزيد مِن العناد.
إضافة إِلى أنَّ وجود هؤلاء المعاندين مفيد للمجموعة الأُخرى التي تقبل الحق وتَنصاع إليه، إذ يستبيّن من ينصاع للحق طريقة مِن خلال النظر إِلى سلوك المعاندين إذ أنّ تقابل الظّلمة والنّور يوضح قيمة النور أكثر (الأشياء تعرفُ بأضدادها) كما أن تعلم الأخلاق والآداب يمكن أن يتمّ ـ أحياناً ـ بتوسط عديمي الأدب والخلق.
وهَذا في الواقع درسٌ مفيد في القضايا التربوية والتبليغية، إذ يُمكن أن نستفيد مِن هَذِهِ الآية ضرورة سلوك طرق مُختلفة وَوسائل مُتعدَّدة لتحقيق الأهداف التربوية المنشودة، حيث أنَّ الإِقتصار على طريق واحد يُخالف التنوع الكبير في أذواق الناس وَمؤهلاتهم، وَبالتالي يُجافي الطريق الصحيح الذي ينبغي أن يُتَّبع.
دَليل التمانع:
الآية التي بعدها تشير إِلى واحد من أدلة التوحيد والذي يعرف بين العلماء والفلاسفة بعنوان «دليل التمانع» إذ الآية تقول للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): قل لهم: { قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا}.
وَبالرغم مِن أنَّ جملة { إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} تفيد أنّهم لابدّ أن يجدوا طريقاً يؤدي بهم إِلى صاحب العرش، وَلكن طبيعة الكلام توضح بأنَّ الهدف هو العثور على سبيل للإنتصار عليه (على ذي العرش) خاصّة وأنَّ كلمة (ذي العرش) التي استخدمت بدلا مِن «الله» تُشير إِلى هَذا الموضوع وَتؤكّده. إذ تعني أنّهم أرادوا أن يكونوا مالكي العرش وحكومة عالم الوجود، لذلك فإنّهم سيحاولون منازلة ذي العرش.
وَمِن الطبيعي هُنا أنَّ كل صاحب قدرة يسعى لمدّ قدرته وتكميلها، لذا فإنَّ وجود عدّة آلهة يؤدي إِلى التنازع والتمانع فيما بينهم حول الحكم والسلطة في عالم الوجود.(3)
هُنا قد يقال: إن مِن الممكن تصوّر وجود عِدَّة آلهة يحكمون العالم من خلال التعاون والتنسيق فيما بينهم، لذلك فليس ثمّة مِن سبب للتنازع بينهم؟!
في الإجابة على هذا السؤال نقول: بصرف النظر عن أنَّ كل موجود يسعى نحو توسيع قدرته بشكل طبيعي، وَبصرف النظر أيضاً عن الآلهة التي يعتقد بها المشركون تحمل العديد من الصفات البشرية، والتي تعتبر أوضحها جميعاً هي الرغبة في السيطرة والحكم وتوسيع نطاق القدرة... بغض النظر عن كلِّ ذلك نقول: إِنَّ اللازمة الضرورية لِتعدُّد الوجود هي الإختلاف، وَحيثُ لا يوجد اختلاف بين وجودين اطلاقاً، فلا معنى لوجود التعدُّد!! (دَقق جيداً).
وَنظير هَذا البحث وَرد في الآية (22) من سورة الأنبياء حيث قوله تعالى { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا }. وَمَنعاً للإِلتباس ينبغي أن نقول: هناك اختلاف بين الدليلين بالرغم مِن التشابه بينهما:
الأوّل يدلّ على فساد العالم ونَظام الوجود بسبب تعدُّد الآلهة.
أمّا الثّاني فيتحدّث ـ بغض النظر عن النظم في عالم الوجود ـ عن حالة التنازع والتمانع التي سوف تقوم بين الآلهة المتعدّدة. (سوف نبحث هَذِهِ الأُمور مُفصلا أثناء تفسير الآية (22) مِن سورة الأنبياء).
وَبما أنَّ كلام المشركين وعباراتهم توحي بأنّهم نزلوا في أدراكهم لله عزَّوجل إِلى مستوى أن يكون طرفاً للنزاع، لذا فإِنَّ الآية تقول بعد ذلك مُباشرة: { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا}.
في الواقع إِنَّ هَذا التعبير القرآني القصير، يوضح ـ مِن خلال أربعة تعابير ـ علو الكبرياء الإِلهية ونزاهتها عن مِثل هَذِهِ التخيلات، إذ تقول:
1 ـ استخدام كلمة (سبحانه) بمعنى التنزيه للذات الإِلهية.
2 ـ ثمّ تعبير { وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ}.
3 ـ ثمّ استخدام (علواً) وَهي مفعول مطلق يفيد التأكيد.
4 ـ أخيراً، جاءت كلمة (كبيراً) للتأكيد مجدداً على معاني التنزيه والعلو.
وَبعد ذلك فإنَّ جملة (عمّا يقولون) لها معنى واسع حيثُ أنّها تنفي كل أشكال التهم الباطلة ولوازمها.
ثمّ لأجل إثبات عظمة الخالق وَأنَّه مُنزَّه عن خيالات واعتقادات وأوهام المشركين، تتحدث الآية التالية عن تسبيح كائنات الوجود لذاته المقدسة إذ تقول: { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ}. ثمّ تتطرق الآية إِلى أنَّ التسبيح لا يقتصر على ما هو موجود في السماوات والأرض، وإنّما ليسَ هُناك موجود إِلاّ ويسبِّح وَيحمد الله، وَلكن لا تدركون تسبيحهم: { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}. وَمَعَ ذلك: { إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}. أي لا يُؤاخذكم وَلا يعاقبكم بسبب كفركم وَشرككم مُباشرة، وَلكن يمهلكم بالقدر الكافي، وَيفتح لكم أبواب التوبة ويَتركها مفتوحة لإتمام الحجة.
بتعبير آخر: إنّكم تملكون القدرة على إدراك تسبيح ذرات الوجود والكائنات جميعاً لله القادر المتعال، وتَدركون وجوده عزَّوجلّ، وَلكنّكم مَع ذلك تقصّرون، والله سبحانُه وَتعالى لا يُؤاخذكم مُباشرة على هذا التقصير، وَلا يجازيكم به فوراً وَلكن يعطيكم الفرصة الكافية لمعرفة التوحيد وَترك الشرك.
________________
1- تفسير الامثل ،ناصر مكارم الشيرازي ،ج7،ص299-304.
2- انظر تفسير الأيتين 58-59 من سورة النحل في هذا التفسير .
3- ـ بعض المفسّرين قال: إنّ هَذا الجزء مِن الآية يعني أنَّ هناك آلهة أُخرى تحاول أن تقرب نفسها إِلى الله. وَهَذا يعني أنَّ هَذِهِ الآلهة (الأصنام وَغيرها) الوهمية عِندما لا تستطيع أن تقرِّب نفسها لله فكيف تستطيع أن تقربكم أنتم؟ وَلكن سياق هَذِهِ الآية والآية التي بعدها لا يتواءمان مَع هَذا التّفسير.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|