أقرأ أيضاً
التاريخ: 28-7-2020
3039
التاريخ: 1-8-2020
3738
التاريخ: 30-7-2020
21448
التاريخ: 30-7-2020
3239
|
قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } [الحجر: 61 - 72]
أخبر سبحانه أن الملائكة لما خرجوا من عند إبراهيم (عليه السلام) أتوا لوطا (عليه السلام) يبشرونه بهلاك قومه فقال:{ فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ } وإنما قال لهم لوط ذلك لأنهم جاءوه على صفة المرد على هيئة وجمال لم ير مثلهم قط فأنكر شأنهم وهيأتهم وقيل: إنه أراد إني أنكركم فعرفوني أنفسكم ليطمئن قلبي{ قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ } أي: بالعذاب الذي كانوا يشكون فيه إذا خوفتهم به { وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ } أي: بالعذاب المستيقن به { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } فيما أخبرناك به وقيل: معناه وأتيناك بأمر الله تعالى ولا شك أن أمره سبحانه حق .
{ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ } ومعناه سر بأهلك بعد ما يمضي أكثر الليل ويبقى قطعة منه { واتبع أدبارهم } أي: اقتف أثرهم وكن وراءهم لتكون عينا عليهم فلا يتخلف أحد منهم{ ولا يلتفت منكم أحد } أي: لا يلتفت أحد منكم إلى ما خلف وراءه في المدينة وهذا كما يقول القائل امض لشأنك ولا تعرج على شيء وقيل لا ينظر أحد منكم وراءه لئلا يروا العذاب فيفزعوا ولا يحتمل قلبهم ذلك عن الحسن وأبي مسلم{ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } أي: اذهبوا إلى الموضع الذي أمركم الله بالذهاب إليه وهو الشام عن السدي{ وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ } أي: أعلمنا لوطا وأخبرناه وأوحينا إليه ما ننزل به من العذاب{ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ } يعني أن آخر من يبقى منهم يهلك وقت الصبح وهو قوله{ مصبحين } أي: داخلين في وقت الصبح والمراد أنهم مستأصلون بالعذاب وقت الصباح على وجه لا يبقى منهم أثر ولا نسل ولا عقب{ وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ } يبشر بعضهم بعضا بنزول من هو في صورة الأضياف بلوط وإنما فرحوا طمعا في أن ينالوا الفجور منهم{ قال} لوط لهم{إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون} فيهم والفضيحة إلزام العار والشنار بالإنسان ومعناه لا تلزموني فيهم عارا بقصدكم إياهم بالسوء{واتقوا الله} باجتناب معاصيه{ ولا تخزون} في ضيفي والخزي الانقماع بالعيب الذي يستحيي منه.
{ قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} معناه أ ولم ننهك أن تجير أحدا أوتضيف أحدا قال: الجبائي وهذا القول إنما كان من لوط لقومه قبل أن يعلم إنهم ملائكة بعثوا لإهلاك قومه وإنما ذكر مؤخرا وهو في المعنى مقدم كما ذكر في غير هذه السورة{ قال } لوط لهم وأشار إلى بناته لصلبه{ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي} فتزوجوهن إن كان لكم رغبة في التزويج عن ابن عباس والحسن وقتادة وقوله{ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } كناية عن النكاح إن كنتم متزوجين قيل: وإنما قال ذلك للرؤساء الذين يكفون الاتباع وقد كان يجوز تزويج المؤمنة من الكافر يومئذ وقد كان ذلك أيضا جائزا في صدر شريعتنا ثم حرم عن الحسن والجبائي وقيل: إنهن كن بنات قومه عرضهن عليهم بالتزويج والاستغناء بهن عن الذكران والأول أوضح{ لعمرك } أي: وحياتك يا محمد ومدة بقائك حيا وقال المبرد: هودعاء ومعناه أسأل الله عمرك قال ابن عباس: ما خلق الله عز وجل ولا ذرأ ولا برأ نفسا أكرم عليه من محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) وما سمعت الله أقسم بحياة أحد إلا بحياته فقال: لعمرك{ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} ومعناه: إنهم لفي غفلتهم يتحيرون ويترددون فلا يبصرون طريق الرشد .
_______________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج6،ص123-125.
يكرر اللَّه سبحانه قصص الأنبياء وما حدث ممن عاندهم وقاوم رسالتهم ، يكرر
ذلك لنتعظ ونعتبر كيف كان عاقبة المكذبين بالحق ، وكل ما جاء في هذه الآيات التي نحن بصددها قد سبق ذكره مفصلا في سورة هود ، وكذا جاء في المقطع السابق المتعلق بإبراهيم ( عليه السلام ) ، ومن أجل هذا نختصر في تفسير هذه الآيات كما اختصرنا في تفسير الآيات السابقة .
{ فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ } . خرج الملائكة من عند إبراهيم وتوجهوا إلى لوط ، فلما دخلوا عليه ظنهم ضيوفا ، فضاق بهم ذرعا خوفا عليهم من قومه الفجرة { قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ }. لا أعرفكم ولا أعرف ما ذا تريدون . .
وكيف دخلتم هذا البلد ، وأهله مشهورون بما يفعلون ؟ .
{ قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ وأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وإِنَّا لَصادِقُونَ } . كشف الملائكة للوط عن حقيقتهم ، وعن المهمة التي جاؤوا من أجلها ، وهي إهلاك قوم لوط ، فقد كانوا يأتون الرجال شهوة من دون النساء ، وكان نبيهم لوط يحذرهم وينذرهم بعذاب من السماء ، فيشكون ويسخرون . . فقال الملائكة للوط :
لقد جئناك بالعذاب الذي حذرتهم منه ، وكذبوك فيه ، وانه واقع لا محالة { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ واتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ ولا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } . بعد ان أخبروه بوقوع العذاب أمروه أن ينجو بنفسه وأهله ، وذلك بأن يسير بهم قبل الصبح على أن يكون هو في مؤخرتهم يرعاهم ويتفقدهم ، ولا يدع أحدا يلتفت إلى الوراء لئلا يرى العذاب فيجزع ويفزع . { وقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ } . أوحى اللَّه إلى لوط بأنه سيستأصل الكافرين وقت الصباح عن آخرهم ، ولا يبقى منهم عينا ولا أثرا .
{ وجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ } . قصد الفسقة الفجرة أضياف لوط فرحين يبشر بعضهم بعضا بهذه الغنيمة الباردة ، واسودت الدنيا في وجه لوط ، حيث لم يكن قد عرف حقيقة أضيافه بعد ، فخاطب قومه برفق { قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ واتَّقُوا اللَّهً ولا تُخْزُونِ } . خوّفهم من اللَّه ، ولا شيء أهون عليهم منه ، واستنجد بمروءتهم ان يفضحوه ويخزوه في ضيفه ، وهم أبعد الخلق عن المروءة والإنسانية .
{ قالُوا أَولَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ } . أرأيت إلى هذه الصلافة والوقاحة ؟ . أصبحوا
هم الأبرياء الأتقياء ، ولوط هو المذنب المجرم . . ولما ذا ؟ . لأنهم نهوه عن معاشرة الناس واستقبال الضيوف فلم ينته ! . . ألم ننهك ؟ . . وهذا المنطق اللوطي هو منطق كل معتد أثيم لا يقيم وزنا الا لرغبته ومنفعته . فالفيتناميون دعاة حرب وسفاكو دماء عند الأمريكيين لأنهم يرفضون أن تتحكم بهم الولايات المتحدة كما تشاء ، والعرب وحوش مفترسون عند الولايات المتحدة وانكلترا لأنهم يقولون : فلسطين للفلسطينيين لا للصهاينة ، ودول الاستعمار تردد شعارات السلام والحرية في نفس الوقت الذي تضرب فيه الشعوب المستضعفة بالمدافع وقنابل النابالم .
{ قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ } . عبّر عن نساء قومه ببناته لأن رسول الأمة كالأب لجميع أفرادها ذكورا وإناثا . وقد عرض لوط على قومه أن يتركوا الذكور ، ويتزوجوا الإناث حلالا طيبا . ولكن نفوسهم لا تطيب الا بالحرام ، ولا تميل الا إلى الخبائث والآثام . { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } . قال كثير من المفسرين : ان الخطاب في لعمرك من اللَّه إلى محمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) . وقال آخرون : انه من الملائكة للوط ، وربما كان هذا أقرب لظاهر السياق . ومهما يكن فإن المعنى ان قوم لوط يتردون في الهوى والضلالة ، ولا يؤوبون إلى الرشد والهداية مهما جد الهادي ونصح المرشد .
_________________
1- التفسير الكاشف، ج 4، محمد جواد مغنية، ص 483-485.
قوله تعالى:{ فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ } إنما قال لهم لوط (عليه السلام) ذلك لكونهم ظاهرين بصور غلمان مرد حسان وكان يشقه ما يراه منهم وشأن قومه شأنهم من الفحشاء كما تقدم في سورة هود والمعنى ظاهر.
قوله تعالى:{ قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } الامتراء من المرية وهو الشك، والمراد بما كانوا فيه يمترون العذاب الذي كان ينذرهم به لوط وهم يشكون فيه، والمراد بإتيانهم بالحق إتيانهم بقضاء حق في أمر القوم لا معدل عنه كما وقع في موضع آخر من قولهم:{ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ }: هود: 76، وقيل: المراد{وأتيناك بالعذاب الذي لا شك فيه} وما ذكرناه هو الوجه.
وفي آيات القصة تقديم وتأخير لا بمعنى اختلال ترتيبها بحسب النزول عند التأليف بوضع ما هو مؤخر في موضع المقدم وبالعكس بل بمعنى ذكره تعالى بعض أجزاء القصة في غير محله الذي يقتضيه الترتيب الطبعي وتعينه له سنة الاقتصاص لنكتة توجب ذلك.
وترتيب القصة بحسب أجزائها على ما ذكرها الله سبحانه في سورة هود وغيرها والاعتبار يساعد ذلك مقتضاه أن يكون قوله:{فلما جاء آل لوط} إلى تمام آيتين قبل سائر الآيات.
ثم قوله:{ وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ } إلى تمام ست آيات.
ثم قوله:{قالوا بل جئناك} إلى تمام أربع آيات.
ثم قوله:{ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ } إلى آخر الآيات.
وحقيقة هذا التقديم والتأخير أن للقصة فصولا أربعة وقد أخذ الفصل الثالث منها فوضع بين الأول والثاني أعني أن قوله:{وجاء أهل المدينة} إلى آخره أخر في الذكر ليتصل آخره وهو قوله:{ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } بأول الفصل الأخير:{ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ } وذلك ليتمثل به الغرض في الاستشهاد بالقصة وينجلي أوضح الانجلاء وهو نزول عذاب هائل كعذابهم في حال سكرة منهم وأمن منه لا يخطر ببالهم شيء من ذلك وذلك أبلغ في الدهشة وأوقع في الحسرة يزيد في العذاب ألما على ألم.
ونظير هذا في التلويح بهذه النكتة ما في آخر قصة أصحاب الحجر الآتية من اتصال قوله:{ وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ } بقوله:{ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ } كل ذلك ليجلي معنى قوله تعالى في صدر المقال:{ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ } فافهم ذلك.
قوله تعالى:{ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} إلى آخر الآية، الإسراء هو السير بالليل، فقوله:{بقطع من الليل} يؤكده وقطع الليل شطر مقطوع منه، والمراد باتباعه أدبارهم هو أن يسير وراءهم فلا يترك أحدا يتخلف عن السير ويحملهم على السير الحثيث كما يشعر به قوله:{ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ}.
والمعنى: وإذ جئناك بعذاب غير مردود وأمر من الله ماض يجب عليك أن تسير بأهلك ليلا وتأخذ أنت وراءهم لئلا يتخلفوا عن السير ولا يساهلوا فيه ولا يلتفت أحد منكم إلى ورائه وامضوا حيث تؤمرون، وفيه دلالة على أنه كانت أمامهم هداية إلهية تهديهم وقائد يقودهم.
قوله تعالى:{ وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} القضاء مضمن معنى الوحي ولذا عدي بإلى - كما قيل - والمراد بالأمر أمر العذاب كما يفسره قوله:{ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} والإشارة إليه بلفظة{ذلك} للدلالة على عظم خطره وهول أمره.
والمعنى: وقضينا أمرنا العظيم في عذابهم موحيا ذلك إلى لوط وهوأن دابر هؤلاء وأثرهم الذي من شأنه أن يبقى بعدهم من نسل وبناء وعمل مقطوع حال كونهم مصبحين أوالتقدير أوحينا إليه قاضيا، إلخ.
قوله تعالى:{ وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ- إلى قوله - إن كنتم فاعلين} يدل نسبة المجيء إلى أهل المدينة على كونهم جماعة عظيمة يصح عدهم أهل المدينة لكثرتهم.
فالمعنى{وجاء} إلى لوط{أهل المدينة} جمع كثير منهم يريدون أضيافه وهم{يستبشرون} لولعهم بالفحشاء وخاصة بالداخلين في بلادهم من خارج فاستقبلهم لوط مدافعا عن أضيافه{ قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ} بالعمل الشنيع بهم{ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا } قالوا المهاجمون من أهل المدينة: أ لم نقطع عذرك في إيوائهم{ أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} أن تؤويهم وتشفع فيهم وتدافع عنهم فلما يئس لوط (عليه السلام) منهم عرض عليهم بناته أن ينصرفوا عن أضيافه بنكاحهن - كما تقدم بيانه في سورة هود -{ قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ}.
قوله تعالى:{ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ- إلى قوله - من سجيل} قال في المفردات: العمارة ضد الخراب.
قال: والعمر اسم لمدة عمارة البدن بالحياة فهودون البقاء فإذا قيل: طال عمره فمعناه عمارة بدنه بروحه، وإذا قيل: بقاؤه فليس يقتضي ذلك فإن البقاء ضد الفناء، ولفضل البقاء على العمر وصف الله به وقلما وصف بالعمر قال: والعمر - بالضم - والعمر - بالفتح - واحد لكن خص القسم بالعمر - بالفتح - دون العمر - بالضم - نحو{ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ}، انتهى.
والخطاب في{لعمرك} للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهوقسم ببقائه وقول بعضهم: إنه خطاب من الملائكة للوط (عليه السلام) وقسم بعمره لا دليل عليه من سياق الآيات.
والعمه هو التردد على حيرة والسجيل حجارة العذاب وقد تقدم تفصيل القول في معناه في تفسير سورة هود.
______________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج12،ص149-151.
عاقبة مذنبي قوم لوط:
طالعتنا الآيات السابقة بقصة اللقاء بين ملائكة العذاب هؤلاء وبين إِبراهيم(عليه السلام)، وهذه الآيات تكمل لنا سير أحدث القصّة فتبتدأ من خروجهم من عند إِبراهيم حتى لقائهم بلوط(عليه السلام).
فنقرأ أوّلاً { فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ}.
فالتفت إِليهم لوط { قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ}.
يقول المفسّرون: قال لهم ذلك لما كانوا عليه من جمال الصورة ريعان الشباب، وهو يعلم ما كان متفشياً بين قومه من الإِنحراف الجنسي.. فمن جهة، هم ضيوفه ومقدمهم مبارك ولابد من إِكرامهم واحترامهم، ولكنّ المحيط الذي يعيشه لوط (عليه السلام) مريض وملوث.
ولهذا ورد تعبير «سيء بهم» في الآيات المتعرضة لقصة قوم لوط في سورة هود، أيْ إِنّ هذا الموضوع كان صعباً على نبيّ اللّه وقد اغتم لقدومهم لتوقعه يوماً عصيباً!
ولكنّ الملائكة لم يتركوه وهذه الهواجس طويلا حتى سارعوا الى القول: { قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ}، أيْ إِنّنا جئنا بالعذاب الذي واعدتهم به كثيراً، وذلك لأنّهم لم يعتنوا ولم يصدقوا بما ذكرته لهم.
ثمّ أكّدوا له قائلين: { وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ}، أي العذاب الحتمي الجزاء الحاسم لقومك الضالين.
ثمّ أضافوا لزيادة التأكيد: { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}.
فهؤلاء القوم قد قطعوا كل جسور العودة ولم يبق في شأنهم محلا للشفاعة والمناقشة، كي لا يفكر لوط في التشفع لهم وليعلم أنّهم لا يستحقونها أبداً.
ثمّ قالت الملائكة للوط: أخرج وأهلك من المدينة ليلا حين ينام القوم أو ينشغلوا بشرابهم وشهواتهم، لأجل نجاة الثلة المؤمنة من قومه (وهم أهله ما عدا زوجته).
{ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} وكن خلفهم كي لا يتخلف أحد منهم ولتكون محافظاً ورقيباً لهم { وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ } وعلى أن يكون نظركم إِلى الأمام { وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ}، أي إِلى أرض الشام، أو أيِّ مكان آخر يكون فيه الناس مطهرين من هذه الآثام.
ثمّ ينتقل مجرى الحديث حين يقول تعالى:{ وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ}، أي سوف لا يبقى منهم أحد عند الصباح.
ومن الملفت للنظر، أن القرآن قد ترك القصّة عند هذا الحد وعاد إِلى بدايتها ليعرض ما ترك القول فيه ـ لسبب سنشير إِليه فيما بعد ـ فيقول: { وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ} أي إنّهم قد ظنوا بحصول لقمة جديدة سائغة عن طريق ضيوف لوط!
إِنّ تعبير {أهل المدينة} ليوحي إِلى أن الذين تحركوا صوب منزل لوط(عليه السلام)كانوا جمعاً كبيراً، وهو ما يوضح بجلاء تلك الوقاحة والقبح والجسارة التي كانوا عليها، وخصوصاً قوله {يستبشرون} التي تحكي عمق تلوثهم بذلك الدرك السافل، مع أنّ مثل هذا الفعل القبيح ربّما لا يشاهد حتى بين الحيوانات، وإِذا ما ابتلي به إِنسان (والعياذ باللّه) فإِنّه سوف يحاول كتمه وإِخفاءه، حيث أن الإِتيان به مدعاة للتحقير والإِزدراء من قبل الآخرين.. أمّا قوم لوط، فكانوا مستبشرين بذلك الصيد الجديد وكل يهنيء الآخر على ما سيصيبه من نصيب!!
وحينما سمع لوط أصواتهم وضجيجهم أغتم غمّاً شديداً لأجل ضيوفه، لأنّه ما كان يدري أنّهم ملائكة العذاب الى ذلك الوقت ولهذا { قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ}.
أي.. إِن كنتم لا تؤمنون باللّه ولا تصدقون بالنّبي ولا تعتقدون بثواب وعقاب، فراعوا حق الضيافة التي هي من السنن المتعارف عليها عند كل المجتمعات سواء كانت مؤمنة أم كافرة، أيِّ بشر أنتم؟ لا تفهمون أبسط المسائل الإِنسانية، فإِنْ لم يكن لكم دين فكونوا أحراراً في دنياكم!
ثمّ أضاف قائلا: { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ }(2) أمام ضيفي.
ولكنّهم من الوقاحة والإِصرار على الإِنحراف بحيث صاروا لا يشعرون بالخجل من أنفسهم، بل راحوا يحاججون لوطاً ويحاسبونه، وكأنّه ارتكب جرماً في استضافته لهؤلاء القوم { قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ}، باستضافتهم! فلماذا خالفت أمرنا؟!
وكان قوم لوط من البخل بحيث أنّهم لا يحبون الضيافة، وكانت مدينتهم على طريق القوافل، ويبررون فعلهم القبيح ببعض الواردين لأجل أن لاينزل عندهم أحد من القوافل المارة، وتعارفوا على ذلك حتى أصبح عندهم عادة.
وكما يبدو أنّ لوطاً كان حينما يسمع بأحد الغرباء يدخل المدينة يسرع لاستضافته خوفاً عليه من عمل قومه الخبيث، ولما علم أهل المدينة بذلك جاؤوا إِليه غاضبين ونهوه عن أن يستضيف أحداً مستقبلا.
عليه، فكلمة «العالمين» في الآية أعلاه ـ ما يبدو ـ إِشارة إِلى عابري السبيل، ومن هم ليسوا من أهل تلك المدينة.
وعندما رآهم لوط على تلك الحال من الوقاحة والجسارة، أتاهم من طريق آخر لعلهم يستفيقون من غفلتهم وسكر انحرافهم، فقال لهم: إِن كنتم تريدون إِشباع غرائزكم فلماذا تسلكون سبيل الإِنحراف ولا تسلكون الطريق الصحيح (الزواج) { قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ}.
ممّا لا شك فيه أنّ بنات لوط لا يكفين لذلك العدد الهائل من المتحجرين حول داره، ولكن لوطاً الذي كان يهدف إِلى إِلقاء الحجّة عليهم أراد أن يقول لهم: انني مستعد الى هذه الدرجة للتضحية من أجل الضيف، وكذلك لأجل إِنقاذكم من الفساد ونجاتهم من الإِنحراف.
وذهب البعض إِلى أنّ المقصود من {هؤلاء بناتي} كل بنات المدينة، باعتباره أباً روحياً للجميع. (إِلاّ أنّ التّفسير الأوّل أقرب إلى معنى الآية).
وليس نجافِ أنّ لوطاً ما كان ليزوج بناته من أُولئك المشركين الضالين، ولكنّه أراد أن يقول لهم: تعالوا آمنوا لأزوجكم بناتي.
لكنّ الويل، كل الويل من سكرات الشهوة، الإِنحراف الغرور والعناد.. التي مسحت عنهم كل قيم الأخلاق الإِنسانية وأفرغتهم من العواطف البشرية، والتي بها يحسون بالخجل والحياء أمام منطق لوط (عليه السلام)، أو أن يتركوا بيت لوط وينسحبوا عن موقفهم، ولكنّ أنّى لهم ذلك، والأكثرية بسبب عدم تأثرهم بحديث لوط استمروا في غيهم وأرادوا أن يمدوا أيديهم إِلى الضيوف.
وهنا يخاطب اللّه تعالى نبيّه قائلا: { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}.
وقرأنا في سورة هود ـ فيما يتعلق بهذه القصّة ـ أنّ ملائكة العذاب قد كشفوا عن أمرهم وقالوا للوط: لا تخف إنّهم لن يصلوا إِليك.
وفي الآية السابعة والثلاثين من سورة القمر نقرأ { وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ }.
وفي بعض الرّوايات: إِنّ أحد هؤلاء الضيوف أخذ قبضة من تراب فرماها في وجوه القوم فأصبحوا لا يبصرون جميعاً.
_____________
1- تفسير الامثل، ناصر مكارم الشيرازي،ج6،ص635-638.
2 ـ نرى في هذه الآيات أن لوطاً يطلب من قومه أن لا يفضحوه تارة وألاّ يخزوه تارة أُخرى، الفضيحة لغة بمعنى: إِنكشاف شيء، وظهور العيب أيضاً (وأراد لوط أنّه يفهمهم بأن عملكم القبيح هذا سيخجلني أمام ضيوفي ويعرفوا مدى خباثة أهل مدينتي).
أمّا الخزي: فهو بمعنى الإِبعاد وكذلك بمعنى الخجل (وأراد لوط أن يقول لهم: لا تخجلوني أمام ضيوفي وتباعدوا بيني وبينهم).
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|